رواية قطة في عرين الأسد للكاتبة منى سلامة الفصل الرابع والعشرون
جلست مريم في حديقة الفيلا في انتظار قدوم سهى. التفتت الى البوابة لترى سيارة أجرى تتوقف أمامها. دققت النظر لترى فتاة تعبر البوابة في طريقها الى الداخل. شعرت بالدهشة ونهضت من مكانها وذهبت في اتجاهها وهي مندهشة تلاقت الفتاتان. وقفت مريم أمام سهى تنظر الى العباءة المحتشمة التي ترتديها. والى الحجاب الطويل الذي ترتديه فوقها وتخفى به شعرها كله. تأملت ملامحها التي ظهرت بريئة بدون أى أصباغ صناعيه. ابتسمت سهى وقالت: - اتصدمتى مش كده؟
ابتسمت مريم واقتربت منها معانقة اياها وقالت: - بصراحة أيوة
ثم ابتعدت خطوة لتنظر اليها مرة أخرى بإمعان قائله: - ايه التغيير ده
قالت سهى مبتسمه: - تعالى نعد وبعدين نتكلم
توجهتا الى الحديقه وجلستا على أحد المقاعد الكبيرة. نظرت مريم الى سهى مبتسمه وهي تقول: - ما شاء الله شكلك حلو أوى يا سهى بجد وشك منور
ابتسمت سهى وقالت: - الحمد لله. كنت عارفه انك هتشجعيني. خفت أتكلم مع حد تانى غيرك يحبطنى ويرجعنى لوره.
قالت مريم: - بس ايه التغيير ده. ايه اللى خلاكى تاخدى الخطوة دى
تنهدت سهى وقالت بحزن: - للأسف ربنا بعتلى رسايل كتير بس مكنتش بفهمها. او كنت بفهمها وبطنشها. لحد ما حصل اللى حصل. كان أدامى ساعتها حلين. إما انى أفوق وأرجع لربنا. وإما انى استمر في الغلط وحياتى تتدمر أكتر ما هى
نظرت الى مريم قائله: - وقررت أفوق
ابتسمت مريم بسعادة وقالت بحماس: - ما شاء الله. ربنا يثبتك يا سهى.
قالت سهى وقد تجمعت العبرات في عينيها: - مريم انا جتلك عشان محتاجه اتكلم معاكى. محتاجه أسمع منك كلام يطمنى
قالت مريم بقلق: - خير يا سهى
قالت سهى والعبرات تتساقط من عينيها: - سامر رفض انه يتجوزنى.
شعرت مريم بالأسى من أجلها فأكملت سهى بألم: - أنا خلاص مش هطلب منه حاجه. أنا هطلب من ربنا بس. مش هطلب تانى أى حاجة من أى انسان. بس يا مريم أنا مش عارفه حياتى هتكون عاملة ازاى. مش عارفه أعمل ايه. انا قررت مردش على سامر أبداً مهما اتصل بيا. بس أنا مش عارفه. انا كده ضعت. ريحيني يا مريم. محتاجه أسمع كلام يريحنى شوية. يحسسنى ان في أمل. يحسسنى ان ربنا معايا. يحسسنى انى مش هضيع. يحسسنى انى هبقى كويسة. ان ربنا ممكن يسامحنى.
شعرت مريم بألم سهى وبمدى معاناتها. فقالت بحنان: - سهى يا حبيبتى المفروض متيأسيش من رحمة ربنا أبداً. كل واحد فينا بيغلط. بس لازم نصلح الغط ده ومنتماداش فيه. وده الى انتى عملتيه دلوقتى. عملتى وقفة مع نفسك وغيرتى الحاجه اللى غلط في لبسك وشكلك وفي تصرفاتك. وبدأتى تقربي من ربنا أكتر وتهتمى ايه بيرضيه وايه بيغضبه. صدقيني يا سهى لو فضلتى كده مستحيل ربنا يضيعك أبداً. طول ما انتى مع ربنا مستحيل تخسري. بس لو ربنا ابتلاكى اعرفى انه بيبتليكي عشان يختبرك. عشان يمتحن صبرك وقوة ايمانك. عشان يمتحن توبتك هل هي فعلاً صادقة ومن قلبك ولا لأ. اعرفى ان ربنا هيرزقك باللى فيه الخير ليكي. انتى شايفه ان جوازك من سامر هو الخير. بس انتى متعرفيش. يمكن جوازك منه شر وربنا بيصرفه عنك. أو ربنا بيمتحنك زى ما قولتلك. المهم دلوقتى انك فعلا تكونى توبتى بجد. وتغيري من نفسك بجد. وتعرفى ان ربنا هو اللى بإيده كل شئ. بإيده قلب سامر. وبإيده قلوب البشر دى كلها. يقدر يقلبهم زى ما هو عايز. اطلبى منه هو. متطلبيش من انسان ضعيف زيك. وخليكي واثقه ان ربنا مش هيضيعك طالما لجأتيله. طالما رجعتيله وسلمتيله أمرك. طالما هترضى باللى كاتبهولك أى ان كان ايه هو. سلمى نفسك ليه. وانتى مش هتخسري. وخليكي واثقه فيه يا سهى. واثقه انه أحن وأرحم من الأم بابنها. خلي عندك حسن ظن في ربنا. ربنا بيقول أنا عند حسن ظن عبدى بي. أحسنى الظن في ربنا. وربنا سبحانه وتعالى هيكون عند حسن ظنك بيه.
تنهدت سهى في ارتياح وعلامات الراحة على وجهها وهي تستمع الى كلمات مريم التي نزلت عليها برداً تبرد نار قلبها. نظرت اليها وقالت مبتسمه: - بجد أنا بحبك أوى يا مريم. ريحتى قلبي بكلامك ربنا يريح قلبك
ابتسمت مريم وعانقتها قائله: - و انا بحبك أوى يا سهى. وأتمنى أشوفك في أحسن حال
ابتعدت عنها سهى وقالت بلهفه: - ادعيلى يا مريم ادعيلي ان ربنا يهديني ويقبل توبتى.
ابتسمت مريم وقالت: - حاضر يا حبيبتى. هدعيلك من قلبي.
دخل حامد مكتبه وهو يحمل بيده ورقة بدت له في غاية الأهمية مذيلة بأحد الأرقام. اتصل بالرقم المكتوب فرد عليه صاحب الرقم: - ألووو
قال حامد: - ألو. حسن بيه المنفلوطى
قال حسن: - اييوه آنى. ميين بيتكلم
قال حامد وهو يرجع ظهره الى الوراء ويضع ساقاً فوق ساق: - أنا واحد هيقدملك خدمة عمرك
صاح حسن بعصبية: - خدمة اييه؟ وانت ميين؟
قال حامد وعيناه تلمعان خبثاً: - انا مين مش مهم. أما خدمة ايه أقولك. ايه رأيك أوصلك ل مراد خيري الهواري؟
ساد الصمت للحظات قبل أن يقطعه حسن قائلاً: - انت بتعرفه؟
قال حامد: - أيوة أعرفه. أعرفه كويس أوى
قال حسن بشك: - وانت ايه مصلحتك في اكده
قال حامد وقد تبدلت تعبيرات وجهه لتشى بحقد دفين وهو يتلمس أسنانه الصناعية ويتذكر يوم تهجم مراد عليه في المكتب: - عشان عايز أنتقم منه. وعشان عايز أشيله من طريقي تماماً.
قال حسن بحماس: - جولى عايز كام وآنى أدفعهملك فوراً و كاش
قال حامد بإبتسامه خبيثه: - لا مش عايز فلوس. زى ما قولت دى مجرد خدمه. والباقى عليك
قال حسن بلهفه: - جولى ألاجيه فين
قال حامد والشرر يتطاير من عينيه: - هقولك.
كانت مريم تجلس بمفردها في الحديقة بعد رحيل سهى فإقترب منها مراد قائلاً: - مريم ممكن نتكلم شويه
التفتت اليه بسرعة و قالت: - أيوة اتفضل
جلس بجوارها وترك مسافة بينهما. نظرت اليه وقالت بقلق: - خير في حاجة حصلت؟
نظر اليها مراد قائلاً: - انتى كنتى عارفه ان جمال ابن عمى اتجوز صباح عمتك؟
قالت مريم يهدوء: - أيوة عارفه
قال مراد وهو يتفرس فيها: - وعارفه اتجوزوا ليه؟
قالت مريم بحيرة: - يعني ايه اتجوزوا ليه؟
قال مراد مستفهماً: - انتى عرفتى ايه بالظبط؟
قالت بإستغراب: - عرفت انهم اتجوزوا بس. تيته اللى قالتلى واتصلت ب صباح باركتلها. ليه بتسأل السؤال ده
تنهد مراد في أسى ثم قص عليها أن صباح هي من أطلقت النار على جمال وأنها هي من أوقعت بها ليحقق جمال انتقامه. شعرت مريم بالصدمة وقالت بعدم تصديق: - معقول. معقول صباح تعمل فيا كده. ده أنا بنت أخوها
ثم نظرت اليه قائله: - مين قالك الكلام ده.
قال مراد بحنق: - عمى اللى قالى. ومن ساعتها وأنا قرفان أتصل ب جمال
غشت عينيها العبرات وهي تشعر بالألم لتلك الخيانة التي تعرضت لها من أقرب الناس اليها. قال مراد بندم شديد: - أنا آسف يا مريم. ظلمتك أوى وقسيت عليكي أوى. أنا آسف بجد
نظرت اليه مريم والعبرات في عينيها. فأكمل قائلاً بألم: - لو كان في أى حاجة اقدر أعملها عشان أكفر بيها عن كلامى ليكي ومعاملتى ليكي قوليلى وأنا أعملها.
قالت مريم وهي تحاول منع عبراتها من السقوط: - أنا مش زعللنه منك. انت معذور مكنتش تعرف. كان مستحيل ييجي في بالك اللى حصل ده. زى ما هو مستحيل كان ييجى في بالى
ثم قالت بدهشة ممزوجة بالألم: - بس ليه ابن عمك يعمل فيا كده وهو ميعرفنيش؟
تنهد مراد قائلاً: - عمتى الله يرحمها قالتلى انه عمل كده عشان ينتقم. وانه بيصفى حساب قديم
قالت مريم بدهشة: - حساب ايه؟
قال مراد بحيره: - معرفش. صدقيني معرفش. بس أكيد حاجه تخص المشاكل اللى كانت بين العيلتين زمان.
صمتا وكل منهما غارق في تفكيره. رأت مريم حمامة حطت على غصن شجرة وهي تحرك جناحاً واحداً أما الآخر فيبدو أن به خطباً ما. حاولت الطيران فوقعت من على الغصن لتسقط على الأرض. هبت مريم مسرعة اليها و مراد ينظر اليها. رآها تمسك بالحمامة وتحتضنها بين يديها وتقربها منها. وقف مراد وتوجه تجاهها ليجدها تمسح بأصابعها على رأس الحمامة في حنان. رفعت رأسها لتنظر الى مراد قائله بأسى: - جناحها شكله في مشكلة. مش عارفه تطير.
أخذت مريم تمسح عليها بأصابعها و مراد ينظر اليها متأملاً. قالت مريم: - أعمل ايه؟
قال مراد بحيرة: - مش عارفه
قالت مريم وهي تشعر بالأسى لأجلها: - هدخل أشوف أى حاجة عشان أأكلها ممكن تكون جعانه. وبعدين نشوف دكتور بيطري أو نوديها محل عصافير أكيد اللى بيبيع هيكون فاهم
ابتسم مراد ونظر اليها بحنان قائلاً: - شكلك بتحبي الحمام أوى.
قالت مريم وهي تتأمل جناح الحمامه بإهتمام: - لا أنا أول مرة أمسك حمامه. بس صعبت عليا عشان جناحها مكسور ومش قادره تطير.
اختفت ابتسامه مراد ليحل محلها الوجوم. تُرى كيف سيكون رد فعلها ان أخبرها بإعاقته. أستشفق عليه مثلما أشفقت على تلك الحمامة. لا وألف لا. لن يتقبل منها أى شفقه. لن يسمح لها بالشعور بالشفقة من أجله. آخر ما يريده منها هو شفقتها. نظرت اليه مريم وقالت كمن تذكرت شيئاً هاماً: - صحيح كنت عايزة أزور وحدة قريبتى في دار المسنين
أفاق مراد من شروده وسألها: - تقربلك ايه؟
شعرت مريم بالتوتر واحتارت أتخبره أم لا. فقال مراد وهو يتفرس فيها: - أنا سألتك لانك قولتيلى قبل كده انك ملكيش قرايب هنا
تلعثمت مريم وهي تقول: - ليا قريبة واحدة بس
أعاد مراد سؤاله: - تقربلك ايه؟
قاطعهما صوت نرمين التي أقبلت نحوهما تقول: - يلا يا جماعة الأكل جاهز ومستنيينكوا على السفرة.
حمدت مريم ربها على قدوم نرمين الذي أنقذها من سؤال مراد. فلم تكن تتوقع أن يسألها هذا السؤال. وهي ليست مستعدة لإخباره الحقيقة بعد. لانها لا تستطيع النبؤ برد فعله ان علم. سبقتهما مريم الى الداخل وهي تحمل الحمامه في يدها. التفتت نرمين لتدخل هي الأخرى فأوقفها مراد قائلاً: - نرمين. فكرتي في الموضوع اللى كلمتك فيه
ارتبكت نرمين واحمرت وجنتاها خجلاً. واسرعت الى الداخل وهي تقول: - ماما هتقولك ردى يا أبيه.
ابتسم مراد وقد توقع موافقتها. التف الجميع حول طاولة الطعام مبتسمين لبعضهما البعض. قالت مريم بحزن: - لقيت حمامه ياعيني جناحها مكسور في الجنينة وقعت من على الشجرة مكنتش عارفه تطير
قالت سارة بتأثر: - يا حرام
قالت ناهد: - وبعدين؟ طارت
قالت مريم: - لا مش عارفه تطير خدتها المطبخ وحطتلها أكل.
قالت نرمين فجأة بحماس: - صحيح ما قولتلكوش. النهاردة وأنا في الجامعة. قالوا ان ادارة الجامعة عاملة دورة في الإسعافات الأولية واشتركت فيها
ابتسمت مريم قائله: - أنا كمان كنت اشتركت في دورة زى دى لما كنت في الكلية
ابتسمت نرمين قائله: - بجد؟
أومأت مريم برأسها وقالت: - أيوة. مفيدة على فكرة وبيدوكى شهادة في نهاية الدورة بعد ما بتحلى الإمتحان.
قالت نرمين بحماس: - عرفت فعلاً ان في امتحان. أكيد هيبقى نظرى بس مش كدة؟
قالت مريم وهي تتناولى طعامها: - لا. عملى ونظرى
قالت نرمين بدهشة: - ازاى يعني عملى؟
قالت مريم شارحه: - الفصل بتاع التنفس الصناعى بيكون عملى
توقف مراد عن تناول طعامه ثم التفت الى مريم قائلاً بحده: - ازاى يعني عملى. انتى امتحنوكى عملى في التنفس الصناعى؟
نظرت اليه مريم لترى نظرة غاضبة في عينيه. تساءلت في نفسها. أهذه غيره؟ ً. أم أنها تتوهم ذلك. قالت بهدوء: - على مانيكان
هدأت حدة نظراته. وأشاح بوجهه يكمل طعامه. التقت نظراته مع نظرات ناهد الجالسه في المقعد المقابل له. فنظرت اليه مبتسمه بخبث شديد. فأشاح بوجهه عنها هي الأخرى. قالت نرمين مستفهمه: - انتى يا مريم فصيلة دمك ايه؟
قالت مريم: -AB.
قالت نرمين بمرح: - ما شاء الله احنا مجمعين في بيتنا كل أنواع فصائل الدم. انا A زى ماما وبابا. و سارة O. و مراد B. وانتى يا مريم AB
سقطت الملعقة من يد مريم في طبقها لتصدر صوتاً عالياً. نظر اليها الجميع فأدارت بعينيها في وجوههم. بدا وكأنها رأت شبحاً أمامها. كان يبدو عليها الصدمة. الرعب. الخوف. الحيرة. سألتها سارة بإهتمام: - انتى كويسة يا مريم؟
حاولت التحدث فخرج صوتها مرتعشاً وقالت: - أيوة بس شبعت. بعد اذنكوا
نهضت مريم وغادرت مسرعة. وأخذ مراد يتابعها حتى اختفت وقد ضاقت عيناه.
صعدت مريم الى غرفة مراد وأغلقت الباب خلفها ووقفت خلفه يعلو صوت تنفسها. كيف. كيف ذلك. من غير الممكن أن تكون فصيلة دم مراد B. هذا غير معقول. من غير المعقول أن يكون أبواه A وهو B هذا مستحيل. بل من رابع المستحيلات. اذن ف ناهد ليست أمه. ليست أم مراد. أخذ عقلها يعمل بسرعة جنونية. من أم مراد اذن؟ هل من المعقول أن خيري والده تزوج من ثلاث نساء. ناهد و زهرة و امرأة أخرى هي أم مراد. أم، .؟! توجهت مسرعة الى الدولاب وأخرجت منه حقيبتها فتحتها بأيدي مرتجفه وأخرجت منها قسيمة زواجها. أخذت تنظر اليها بلهفة حتى توقفت عند نقطة ما. فاتسعت عيناها دهشة ووضعت كفها على فمها تكتم صيحة الدهشة التي خرجت رغماً عنها. انفتح الباب فجأة فالتفتت لتجد مراد خلفها. اقترب منها فأخذت تنظر اليه وعيناها متسعتان على آخرهما وهي تمسك بيدها قسيمة الزواج. نقل مراد بصره من القسيمة اليها وقال: - في ايه يا مريم؟ مالك؟
لم تستطع التحدث. هربت الكلمات منها. اقترب مراد أكثر وأخذ الورقة من يدها ونظر اليها ثم رفع نظره في حيرة قائلاً: - قسيمة جوازنا
قالت مريم بصوت مرتجف وهي تمعن النظر اليه: - انت. انت توأم ماجد؟
نظر اليها يرقب تعبيرات وجهها. فأخذت القسيمة منه بعصبية وأشارت الى تاريخ ميلاده وقالت بعصبيه: - تاريخ ميلادك. نفس تاريخ ميلاده.
ثم أشارت الى اسم الأم وقالت بصوت مرتجف: - واسم الأم واحد. زهرة.
ثم نظرت اليه وقالت بحيرة ودهشة وصدمة: - انت توأمه؟ انت توأمه مش كده؟
كانت تعبيرات مراد هادئة. قال: - أيوة توأمه
شعرت مريم بالصدمة وهي تسمع هذا الإعتراف منه. أخذت تحاول استعاب ما يحدث وما تكتشفه. قالت بحده: - ليه ما قولتليش. ليه خبيت عليا؟
قال مراد بحيره: - أنا مخبتش عليكي. انا كنت فاكرك عارفه.
تمتمت مريم بحده ومازالت عيناه تتسعان من الصدمة: - هعرف منين؟ هعرف منين يعني ان طنط ناهد مش مامتك. وانك توأم ماجد. وان...
صمتت ثم قالت بألم: - وان ماما زهرة تبقى مامتك
نظر اليها مراد متفرساً وقال بدهشة: - ماما زهرة؟
تزايدت سرعة تنفسه وسرعة ضربات قلبه أمسكها من ذراعيها بعنف وهو يقول: - مريم. في ايه قوليلى. ليه بتقولى ماما زهرة. ليه بتقولى ماما؟
نظرت اليه مريم بألم ودموعها تتساقط على وجنتيها وهي تقول: - أنا مش فاهمة حاجة. أنا مبقتش فاهمة حاجة. انت ازاى تسيب مامتك كده. ازاى سايبها كده؟
قال مراد بحده وعيناه تملأهما الحيرة والخوف: - يعني ايه سايبها كدة. ماما متوفيه من زمان
اتسعت عيناها دهشة وهي تصيح قائله: - مين اللى فهمك كده. قالولك أخوك مات. وكمان ان مامتك ماتت؟! ليه كدبوا عليك كده
قال مراد وهو يشعر وكأن الدنيا تدور به: - تقصدى ايه يا مريم.
هتفت مريم بغضب وألم ودموعها تتساقط: - مامتك عايشه في دار مسنين يا مراد
وقع الخبر على رأس مراد كالصاعفة. ظل ينظر الى مريم غير مصدقاً. أخذ صدره يعلو ويهبط بسرعة وكأنه كان يبذل مجهوداً شاقاً. اعاد كلماتها ليستطيع اتيعابها: - ماما عايشة في دار مسنين
قالت ودموعها تبلل وجنتها: - حرام عليهم ليه حرموك منها وحرموها منك.
قال مراد بغضب: - ليه ما قولتليش. من أول ما جيتي هنا وانتى عارفه انى أخوه. ليه ما قولتليش ان ماما عايشه
هتفت بإستنكار: - أيوة عارفه انك أخوه بس معرفش انك توأمه. افتكرت انكوا اخوات بالأب بس. لو كنت أعرف أكيد كنت قولتلك. بس متخيلتش أبداً انكوا تكونوا توأم
صمتت قليلاً ثم قالت بإهتمام: - وطنط ناهد عارفه انك مش ابنها
قال مراد وقد بدأ يفيق من صدمته: - أيوة عارفه طبعاً.
جذبها من ذراعها الى الدولاب وقال بلهفه: - البسى بسرعة. عايز أروحلها حالاً.
خرجا معاً وذهبا الى دار المسنين. قالت له مريم وهي تقف خارج الغرفة: - مراد خليني أدخلها الأول لوحدى. ماما زهرة تعبانه. صدمة موت ماجد كانت كبيرة أوى عليها. وانت نسخة منه. سيبنى أتكلم بس معاها الأول
أومأ مراد برأسه ايجابا وقال بصوت متهدج: - ماشى ادخليلها انتى الأول. بس متتأخريش عليا.
شعرت مريم بلهفته عينينه تعبيرات وجهه لملاقاة أمه. أمه التي حُرم منها سنين طويلة. دخلت مريم الى غرفة زهرة. لتجدها جالسه في فراشها والمرافقة تطعمها بيدها. اقتربت منها مقبلة رأسها ويديها وقالت: - حبيبتى ماما زهرة عاملة ايه دلوقتى
التفتت اليها زهرة مبتسمه وهي تتطلع اليها. جلست مريم أمامها على الفراش واتسعت ابتسامتها قائله: - ما شاء الله حساكى بقيتي أحسن من الأول بكتير.
أومأت زهرة برأسها ايجابا وهي مازالت محتفظة بإبتسامتها. قالت لها مريم وهي تمسح على شعرها في حنان: - ماما في عندى ليكي مفاجأة. مفاجأة مكنتيش تتوقعيها
نظرت اليها زهرة بإستغراب تحاول تخمين المفاجأة. فقالت مريم بحماس وهي ترقب تعبيرات وجهها: - ماجد كان له أخ توأم مش كده؟ مراد.
ظهرت سحابه حزن في عيني زهرة وتوقفت عن الأكل. ثم نظرت الى مريم بدهشة وألم. وعيناها تسألانها كيف عرفت بأمر توأم ماجد، قالت مريم بتأثر وبحنان بالغ: - تحبي تشوفيه. تشوفى مراد ابنك
اتسعت عينا زهرة ونطقت ملامحها باللهفة. وهي تتطلع على مريم. ابتسمت مريم والعبرات في عينيها وهي تقول: - هو معايا بره. أدخلهولك تشوفيه؟
التفتت زهرة بحده الى باب الغرفة المغلق وكأنها تريد اختراقه لتصل الى ابنها. مراد. ثم عادت تنظر الى مريم وعيناها ترجوها أن تفتح هذا الباب الذي يفصلها عن فلذة كبدها. قامت مريم وفتحت باب الغرفة وقالت ل مراد: - تعالى.
شعر مراد بقلبه يخفق بجنون. اقترب من الغرفة شيئاً فشيئاً وتوقف أمام الباب. أخذ ينظر الى تلك المرأة النحيلة التي تتوسط الفراش. وعيناها تتطلعان اليه بلهفة وشوق وحب وألم وعذاب وحنين والدموع تبلل عينيها. أخذ يلهث وهو يتطلع اليها. ويحتويها بعينيه بلهفه مماثلة للهفتها. تساقطت العبرات من عينيها وهي تتطلع اليه وترجوه أن يقترب. اقترب مراد منها وجلس أمامها. وقد بدأت العبرات تعرف طريقها الى عينيه. اخذ كل منهما يتطلع الى وجه الآخر وكأنه يعوض شوق وحرمان السنين الماضية. وقفت مريم تراقبهما والعبرات تغرق وجهها. أطبقت زهرة على شفتيها لتوقف ارتجافتها. وكأنها لم تعد تحتمل بعده عنها قيد انمله لفت يديها حول عنقه وجذبته اليها بلهفه. لفت مراد ذراعيه حولها يضمها الى وقد أغمض عينيه لتتساقط العبرات منهما. تعالت شهقات زهرة وهي تضمه اليها بقوة خشية أن تُحرم منه مرة أخرى. أخذ جسدها النحيل يرتجف بين ذراعيه من شدة البكاء. قبل كتفها و شعرها وقال بصوت متهدج: أبعدت رأسها لتنظر اليه بلهفه وهي تسمعه لأول مرة ينطق بكلمة ماما. ثم تعالت شهقاتها مرة أخرى وهي تحتضن وجهه بكفيها وعيونها تنظر الى كل ملمح من ملامحه بشوق ولهفة. احتضن هو الآخر وجهها بين كفيه وقبل جبينها مرات عدة وقال بصوت مرتجف: - مش مصدق انى شوفتك وانى في حضنك. مش مصدق انك عايشه.
ثم صاح بألم: - يااااه اشتقتلك أوى. كنتى بتيجي في أحلامى كتير. كان نفسي أشوفك وأتكلم معاكى وأرمى نفسى في حضنك. كان نفسي أشوفك أوى يا أمى
ابتسمت زهرة من بين دموعها وحاولت التحدث فلم تستطع. التفت مراد الى مريم يمسح العبرات التي تساقطت على وجهه وقال لها بلهفه: - هي مبتتكلمش؟
قالت مريم من بين دموعها بصوت مرتجف: - لأ. من يوم ما عرفت ان ماجد مريض وهي مبتتكلمش
ثم قالت بحماس: - بس أنا واثقة ان صحتها هتتحسن.
التفتت لتجلس أمام زهرة على الفراش من الجهة الأخرى وقالت لها مبتسمه بحماس: - مش كده يا ماما. مش انتى هتتحسنى بعد ما شوفتى مراد
ابتسمت لها زهرة وأومأت برأسها وجذبتها في حضنها تقبل رأسها. فعلت مريم المثل وقبلت رأسها ويدها قائله: - ربنا يخليكى لينا يا ماما وميحرمناش منك أبداً.
نظر مراد مبتسماً الى العلاقة التي تجمع مريم بأمه. والتفت الإثنتان تنظران اليه مبتسمتان. شعر وهو ينظر اليهما بأنهما أغلى امرأتين في حياته. قام مراد وقال بلهفه: - عايز أقابل مديرة الدار. لازم أنقل ماما عندى في الفيلا مستحيل أسيبها هنا أبداً
ابتسمت زهرة وهي تنظر اليه بتأثر وقد اغرورقت عيناها بالعبرات مرة أخرى.
خرج مراد ليتحدث مع مديرة الدار التي اشترطت وجود مرافقه مع والدته لتلبية طلباتها وعلاجها. عاد مراد الى أمه بلهفه وجلس أمامها قائلاً بإبتسامه واسعة: - أمى حبيبتى. خلاص اتكلمت مع مديرة الدار وهاخدك من هنا النهاردة. بس هروح الأول أرتب مكان اقامتك وأجيب عربية اسعاف تنقلك من هنا. مش هتأخر عليكي. ماشى
ابتسمت زهرة وهي تجذبه لها لتحتضنه مرة أخرى. قبل رأسها والتفت الى مريم قائلاً بحماس: - مريم تعالى معايا.
قالت مريم ل زهرة قبل أن تنهض: - ماما متقلقيش هنرجعلك تانى.
ابتسمت لها زهرة. فغادر الإثنان الغرفة. خرجا من الدار. توقفت مريم تراقب السيارات ليعبرا الطريق الى سيارة مراد التي أوقفها على الجانب الآخر. فجأة شعرت بيده وهي تتلمس الطريق الى يدها. التفتت تنظر اليه بسرعة. رأت في عينيه نظرة حانية. و. نظرة حب. خفق لها قلبها بقوة. شبك أصابعه بين أصابع يدها و احكم قبضته عليها يحتضن كفها في كفه بقوة وكأنه يعدها بأن يظلا متلازمين طيلة العمر. وكأنه يعدها بحياة مشتركة بينهما لا يستطيع أن يفرقهما أحد. ورغماً عنها. بادلته نظرة بنظرة. ووعد بوعد. ابتسم مراد لها وابتسمت له. عبرا الطريق بأيدى متشابكة الى أن أوصلها للسيارة وفتح لها الباب جلست ومازالت أيديهما متشابكة وقف أمامها وكأنه لا يريد ترك يدها. نظر حوله يتفقد ان كان يراهما أحد. ثم انحنى ليطبع قبلة حانيه على كفها. ورمقها بنظرة حانيه قبل أن يترك يدها ويغلق الباب. شعرت مريم بقلبها يقفز فرحاً. جلس بجوارها في السيارة كانت تبتسم لا ارادياً وهي لا تستطيع النظر اليه خجلاً. امتدت يده لتمسك يدها الاخرى. وانطلق بسيارته وهو يشعر بسعادة كبيرة تغمر قلبه.
استقبل الجميع خير وجود زهرة على قيد الحياة بصدمة شديدة. واضطر مراد الى اخبار أختاه بأن مريم كانت خطيبة أخوه التوأم الذي لم يكن يعلم أنه مازال على قيد الحياة. انفرد مراد ب ناهد وسألها قائلاً وهو يمعن النظر اليها: - ماما. انا عارف ان ممكن الموضوع يكون صعب عليكي. بس أنا مستحيل أسيب أمى مرميه في دار مسنين. إما انى أجيبها تعيش معانا هنا. وإما انى أسكنها في مكان تانى.
صمت قليلاً ثم قال: - بس مش هقدر اسيبها عايشة لوحده. وهعيش معاها هناك
كانت ناهد تستمع اليه صامته. اقترب مراد منها وأمسك ذراعيها قائلاً: - انتى أمى. اللى ربتنى وكبرتى وعلمتى لحد ما بقيت راجل. وأفضالك عليا ملهاش حصر. عمرك ما حسستيني انك مش أمى اللى ولدتنى. عمرك ما فرقتى في المعاملة بيني وبين اخواتى البنات. عمرى ما حسيت للحظة انك مراة أب. كنتى فعلاً أمى ومازلتى أمى وهتفضلى أمى على طول.
اغرورقت عينا ناهد بالعبرات وهي تنظر اليه. ثم أجهشت في البكاء فعانقها مراد وقبل رأسها. ثم نظر اليها قائلاً: - اللى هتقولى عليه هعمله. شوفى ايه اللى يريحك وأنا هعمله يا ماما. بس مقدرش أسيب أمى في دار مسنين. مستحيل مبقاش راجل لو عملت كده.
كفكفت ناهد دموعها وقالت وهي تنظر اليه: - لو مكنتش قولت كده مكنتش هتبقى مراد اللى ربيته وكبرته وعلمته لحد ما بقى راجل. دى أمك يا ابنى. ليها حق فيك زى ما أنا ليا حق فيك. هي اللى ولدت وأنا اللى ربيت. ومش ممكن أبداً أحطك في اختيار بيني وبينها
أخذت نفساً عميقاً ثم قالت: - هاتها تعيش معانا هنا. كفاية اللى شافته في حياتها. وانها اتحرمت منك طول السنين دى. من حقها تعيش مع ابنها اللى اتحرمت منه.
عانقها مراد وابتسم بسعادة قائلاً: - ربنا يخليكي ليا يا ماما كنت واثق ان قلبك كبير
ابتسمت ناهد وهي تشعر بالسعادة لسعادة ابنها. فمضى الكثير من الوقت الذي لم ترى فيه مراد سعيداً بهذا الشكل.
بعد منتصف الليل وبعدما نام الجميع وقفت تناجى ربها وتتساقط دموعها على سجادة الصلاة وهي ساجدة. تبكى بحرقة وينتفض جسدهاً ألماً وندماً. أخذت تلهج بالدعاء وبالاستغفار. ترجوه ولا ترجو سواه. وقفت بين يداه الى أن شعرت بالآلام تشتد في قدميها. لكنها كانت آلام لذيذة لأنها في سبيل طاعة. شعرت وكأنها تُغسل من ذنوبها و من آلامها ومن عذابها. شعرت وكأنها تولد من جديد. فتاة أخرى. بقلب آخر. بروح أخرى. بجسد آخر. شعرت بأن اليوم هو يوم ميلادها. وكأنها لم تعش قط. وكأنها لم تحيا قط. وكأنها اليوم فقط. علمت معنى الحياة. أنهت سهى صلاتها وأمسكت مصحفها وظلت تتلو من كتاب الله. كلما قرأت آيات العذاب استعاذت منها وبكت. وكلمها قرأت آيات النعيم استبشرت بها ودعت. أغلقت مصحفها عندما سمعت آذان الفجر يتردد في المسجد القريب. أغمضت عينيها وهي تسمع ذلك النداء الذي كانت تصم آذانها عنه طيلة أعوام طويلة. ها هي الآن تسمعه بقلبها قبل أذنها. وتستشعره بكل حواسها. فتحت عينيها عندما انتهى المؤذن وقفت لتصلى بلهفة وشوق. وأخذ قلبها ينبض بقوة وكأنها على ميعاد يقفز قلبها لهفه له. رفعت كفيها وقالت من أعماق قلبها: - الله أكبر.