قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الثالث

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الثالث

رواية قربان للكاتبة سارة ح ش الفصل الثالث

يا ليتنا!.
ريم كانت كالعادة تجلس بصمت بجوار مقعد آدم دون حتى ان تسأله عن وجهتهما. قطعه هذه المرة هو قائلاً بتساؤل: ألم تصلكِ رسالتي البارحة؟
اجابت بأختصار واقتضاب: وصلت.
ولما لم تستيقظي مبكراً؟
استغرقت بالنوم.
لهذا السبب الشخص يقوم بضبط المنبه عندما يكون لديه موعد مهم كي لايستغرق بالنوم.
اجابته بنبرة ذات معنى:
اجل، (عندما). ولكني لم اجده موعداً مهماً جداً كي استيقظ من اجله مبكراً.

ضغط على الفرامل فجأة فأنحنى جسدها للأمام وهي تتمسك بالباب كي لايرتطم وجهها بينما جسده الصلب بقي ثابتاً دون ان يتحرك بمقدار سنتمتر واحد!

التفتت اليه بحدة وهي توشك على تبادل اطلاق النيران معه. كانت متوقعة ان يلتفت اليها ويبدأ بالشجار فتحفزت كل خلية بداخلها لهذه المعركة! ولكنه لم يفعل! كان لايزال يركز بصره امامه على الطريق مقتضب الجبين بأستياء وبعينين ناريتين. منظر اخرس فمها فوراً دون ان تقول كلمة واحدة. فهذا اللطيف يتحول بين لحظة واخرى الى انسان جاد ومخيف فوراً. ثواني قليلة تحكم فيها بغضبه وسيطر على انفعالاته كي لاينفجر بوجهها وبوجه اجوبتها المستفزة، فعليها ان تلاحظ انها ليست الوحيدة المجبرة على الزواج فهو ايضاً كذلك!

دعس على البنزين مرة اخرى وانطلق بالسيارة بسرعة فوراً من دون ان يعلق بشيء على كلامها، ولكن رده وصل بطريقة ما من منظره هذا!.
استعدلت بجلستها مجدداً ولم تقل شيئاً اخر هي ايضاً. فغاية استفزازه قد حققتها وليست مضطرة ان تكمل!
دقائق اخرى ووجدت السيارة تقف امام بناية المحكمة فأستنتجت موعدهم من اجل ماذا.

تأفأفت بضيق وهي تنزل من السيارة تتبعه بصمتها المعتاد. اليوم سيصبح زواجهما قانونياً. ستكون زوجة آدم مراد رسمياً وسينقطع اخر امل بفرصة نجاتها من الاعدام...
اوقف سيارته على الجانب الاخر وعبرو الشارع معاً ودخلو نحو المحكمة متجهين فوراً نحو الغرفة المطلوبة. ولكن لسوء الحظ كان هناك عطل مؤقت في الحاسوب الذي سيجدولون فيه معلوماتهم فأضطرو للأنتظار قليلاً خارج الغرفة بينما يتم الامر.

كانت تقف بتململ تضع يديها خلف ظهرها وتستند الى الجدار بجسدها ورأسها وكأنها تود اكمال نومها الذي قطعوه عليها وعلى ما يبدو ان مفعول الدواء لم يزل بشكل كامل بعد مما سبب لها صداع حاد. اما هو فكان يقف على اهبة الاستعداد يرتكز بيديه فوق خاصرته وينظر بين لحظة واخرى نحو ساعته. رمقها كالمعتاد بنظرة سريعة. تلك النظرة التي يمنحها لها كل ثلاث ثواني دون ان يمل وهو يحدق في وجهها، ولكن هذه المرة اعاد بصره يحدق فيها مطولاً بعد تلك النظرة الخاطفة، لمح عينين حزينتين. تحدقان بعمق. تنظران بتألم. وبتمني، تمني المستحيل! تتبع نظرها فوجدها تحدق في شاب وفتاة يقفان امامها وينتظران معهما من اجل تأكيد زواجهما قانونياً. ولكن ليس مثلهما. لاتفصلهما فواصل. ولايقتلهما الواقع. كانا يبدوان في قمة السعادة ويديهما متعانقة ولايملان من الحديث والضحك مع بعضهما لسبب او لدونه فمقدار السعادة التي هما فيها لايحتاجان لسبب كي يبتسما!.

عاد ببصره اليها مشفق على حالها. فكل فتاة تتمنى ان تعش قصة حب. ان تتزوج بطريقة مثالية. ان تتصرف كما تتصرف هذه الفتاة التي امامهما الان. ولكن ريم حرمت من كل هذا. من فستان ابيض جلست سنين تتخيل كيف سيكون. من زوج عاشت معه قصة حب رائعة قبل ان يرتبطا. من زفاف سيجلس المدعوين لأشهر يتحدثون عن روعته، ولكن في النهاية واقعها قدم لها عكس ماتخيلت تماماً!.

ادارت بصرها اليه فوجدته يحدق فيها بنظرة التأسي والشفقة تلك فقطبت حاجبيها فوراً مدعية التماسك واشاحت وجهها الناحية الاخرى. فأخر ماتحتاج اليه الان هو شفقة احدهم! لاسيما شفقته هو! وقف بجانبها حارصاً على عدم الاقتراب كثيراً وارجع يديه للخلف مثلها مستنداً عليهما على الجدار. وقال بهمس لايسمعه سواها:
لربما، لو اننا تقابلنا في ظروف مختلفة. لربما.
قاطعت حديثه فوراً بنبرة مقتضبة:.

لا، مهما كانت الظروف التي كانت ستجمعنا لما كان سيكون هناك ربما، فأنت حفيد مراد وانا حفيدة ياسين. هذا سبب كافي ليجعلنا نكره بعضنا.
قد لاكون احبك. ولكن كونك حفيدة ياسين ليس سبباً ليجعلني اكرهك، فأنا لن احمل احد خطأ غيره وليس ذنبكِ انك تنتمين لهذه الاسرة. أليس بمقدوركِ ان تفعلي الشيء ذاته معي؟ وانا قد اخبرتك مسبقاً انا لااطالبك بالحب ولكن اريد ان نكون اكثر تفاهم مع بعضنا بدل اسلوب المعارك هذا.

التفت اليه وشاهد مدى الغضب والحقد في عينيها وهي تقول: بالطبع سيكون سهلاً عليك ان لاتكرهني. فأسرتي لم تقتل لك عزيزاً كما فعلت اسرتك لي، أيمكنك ان تظل ثابتاً على رأيك لو اسرتي فعلت بك شيئاً كهذا؟ أكنت ستعطي لنفسك فرصة كي تحبني؟

فجأة وجدت ملامح الهدوء والعطف تنسحب من وجهه ليحتل الاقتضاب والغضب محلها دون ان تفهم سبب هذا التحول المفاجئ فكلامها منطقي ولم تتجاوز عليه بشيء. قطب حاجبيه واشاح وجهه الجهة الاخرى فأعتلت ابتسامة ساخرة زاوية فمها وهي تقول: اراك صمت ايها البطل المتسامح. أكنت ستفعل؟ بالطبع كنت ستقول هذا فالكلام سهلاً جداً. ولكن عندما يموت عزيز لك والقاتل من اسرتي فأني اتحداك ان تنظر بوجهي بعطف او برحمة. بل سأكون اكثر شخص تكرهه في العالم وستود لو انك تقتلني في كل لحظة تراني فيها لأني احمل دماء تلك الاسرة. وهذا هو شعوري بالضبط اتجاهك، لذلك لاتتفاخر لي بتسامحك وانت لم تمر بما مررت به انا!

فجأة وجدته يلتفت اليها بحدة وبعيون جاحظة ويقول بغضب لم يكن له داعي كما كانت ترى: ريم! اغلقي فمكِ لو سمحتي ولنختم هذا النقاش.
رفعت حاجبها بثقة وقالت مبتسمة: بالطبع سنختم هذا النقاش. فلن يعجبك ان تكون المخطئ في النهاية.

اعتلت ابتسامة مستهزئة فمه لم تفهم سببها ايضاً واشاح وجهه بعيداً عنها مرة اخرى، ولكن احياناً للعيون لغة اخرى، ولو انها حدقت في عينيه مطولاً. او انها فقط اكتشفت ذلك الالم الذي يخفيه خلف غضبه، لتغير كل شيء!

مضى وقت كان قصيراً لأحدهما وطويلاً للأخر انهيا فيه اجراءات المحكمة وخرجا. كان عقلها كالعادة في مكان اخر تتبعه بصمت وبعيون تنزلهما ارضاً. تقدمت الخطوة الاولى لتعبر الشارع ولكن فجأة ومن دون ان تدرك ماحصل وجدت يد آدم تلتف حول خصرها وتسحبها للوراء وريح سريعة تمر من امامها يتبعها صوت بوق قوي. لحضات قليلة بين يدي آدم لم تستوعب ماحصل. بوق. رياح. سرعة، انها سيارة كادت ان تدهسها!.

ولكن ليس هذا ماشل حركتها، بل تلك اليدان التي تحوطانها، تلك الضربات القوية التي تستشعرها تحت يديها التي تستكين فوق قفصه الصدري، أهي نبضات قلبه ام طبول حرب؟، انها سريعة وقوية كأنها حوافر خيول تتسابق! لا، بل انها كضربات قلبها! عيناه، انها المرة التي تلاحظ انه يملك عيون فيروزية، عيون بهذا الجمال!.

وفجأة استعادت رشدها بعد ان مرت عليهما عدة ثواني لايفعلان فيها شيء سوى التحديق بعيون بعضهما بصدمة غير مستوعبين مايحصل لهما عندها دفعته من صدره بعنف وصرخت بوجهه بعصبية:
هل فقدت عقلك؟
قطب حاجبيه ببلاهة وقال:
عفواً؟
كيف تسمح لنفسك ان تمسكني؟
فأشار بيده نحو الشارع بغضب وهتف بها بنفس العصبية:
هل انتي مجنونة؟ كادت السيارة ان تدهسك!
اقتربت منه خطوة وهي تكز على اسنانها بكل كره وتجحظ بعينيها قائلة:.

ان تدهسني السيارة ارحم من ان تلمسني انت!
حدق في وجهها بدهشة. او بالاصح ببلاهة، أهي جادة في ماتقوله؟ هل الموت لديها اهون من ان يكون هو منقذها؟
ولكنه حاول قدر الامكان ان يحافظ على تماسك اعصابه امام تصرفاتها المهينة ولسانها السليط فأستدار بصمت واراد عبور الشارع نحو السيارة ولكنها قالت فجأة:
اياك ان تمد يديك القذرتين على مجدداً!.

حسناً، هذه اهانة لايمكنه ان يتحملها فقد تحمل منها مافيه الكفاية! وقف لثواني يدير ظهره اليها يحاول بشتى الطرق ان يهدأ ولكنه فشل! وفجأة استدار لها بحدة وسحبها من يدها بعنف غير مبالياً بأعتراضاتها وهتافاتها او محاولاتها الفاشلة بنزع يدها من بين قبضته القاسية!
عبرا الشارع ووصلا نحو السيارة فدفعها مسنداً ظهرها على باب المقعد الامامي دون ان يفلت يده وقال وهو يكز على اسنانه بغيظ:.

ريم! هذه هي المرة الاولى والاخيرة التي سأتغاضى فيها عن كلامك الوقح معي. لذلك من الافضل لكِ ان لاتستفزيني!
فقالت مستهزئة:
ولماذا؟، هل ستنفصل عني مثلاً؟ ياليتك تفعل هذا!
هزها من يدها بعنف وقال:
اجل. سأنفصل عنكِ، ولكن انفصالي عنكِ هو اخر شيء سترغبين به، أتعلمين لماذا؟
قطبت حاحبيها بأستغراب وهي تحدق به من دون تعليق فأكمل:.

ارتباطي بكِ هو انقاذ لكِ ايتها الغبية! فأنا لم اعشق عينيك الزرقاء لكي اوافق على زواج كهذا بعد ان رفضت نصف الفتيات التي اختارتهم عائلتي لي، ولكن ارتباطي بك كان توسلاً من جدتي بعد ان اشفقنا على حالك انا وهي وقررنا ان يكون انا من يرتبط بكِ.
عن ماذا تتحدث انت؟
أكنتِ تعلمين من قد قرر جدي ان ترتبطي به ايتها الذكية؟ لم يكن انا. ولو عرضو على الامر لم اكن سأوافق ابداً.
ثم اشار نحوها بذقنه مستهزئاً:.

فأنتي لاتتناسبين ابداً مع المواصفات التي اريدها.
وجد وجهها يحمر بغضب اكثر. فالفتاة لن تتقبل نقد كهذا حتى لو كان صادراً من شخص لايجذب اهتمامها. اكمل ادم وهو يعصر يدها اكثر دون حتى ان تبدي اياً من ملامح الالم فعقلها كان يستقبل كلامه فقط دون ان يستقبل استغاثة خلاياها العصبية الاخرى:.

كان ابن عمي حمزة، شاب لاتتوفر فيه اياً من الصفات التي تتمناها اي فتاة. بالاضافة الى حماقته والاسوأ لايمتلك اي شهادة. أتظنينه كان سيتحمل عنادك ووقاحتك هذه؟ ولااظن ايضاً ان خدك الناعم الرقيق كان سيتحمل قسوة صفعاته، لذلك ايتها الاميرة الحسناء اياكِ ان تستفزيني مجدداً. لأنك ان كنت تخططين لجعلي افكر بالانفصال عنك فأنتي قد نجحتي بهذا. لذلك توقفي عند هذا الحد بدل ان اتخذ القرار النهائي واخبرهم اني لااريد الارتباط بكِ فيجعلوكِ دية لحمزة...

لم تتكلم، لم تصرخ بوجهه. لم تجحظ بعينيها، بل انه حتى لاحظ ضعف جسدها واسترخائه من تقلصاته وهو يقبض على يدها وشعر ان ثورتها قد هدأت فجأة. ولكن ليس بأقتناع. بل بأنكسار!.
سحبت يدها بهدوء من بين اصابعه وانزلت ابصارها للأسفل من دون ان تنطق بشيء وسارت مبتعدة عن السيارة بخطوات ضعيفة تتبعها هزيمتها وخذلانها!

حدق فيها ببلاهة واستغراب وهي تبتعد ثم سار خلفها فوراً وامسكها من عضدها وادارها اليه. انفرجت شفتاه واقتضب جبينه يكاد يهتف بها بعصبية يسألها اين تظن نفسها ذاهبة، ولكن دموعها الصامتة اخرسته. وعينيها اللامعة سحرته وبددت كل معالم غضبه، لم يقع بغرام عينيها الزرقاء؟ يا له من كاذب بارع!
ابعد يده ببطئ من فوق عضدها ووجد نبرته فجأة تتحول الى الهدوء وهو يقول:
أي. أين تذهبين؟

وجد تلك المحاربة العنيدة تتحول فجأة الى اسيرة مهزومة! وكأنها على وشك الموت ولم تعد ترى لأي شيء قيمة حولها! كانت تضم شفتيها المرتجفتين الى بعضهما كي تمنع صوت بكائها ان يعلو وتنزل كل دمعتين سوية فواحدة لن تكفي لأطفاء نيرانها. قالت بصوت منكسر:
اريد ان ابقى وحدي. أيمكنني ذلك؟
عادت نبرة العطف لتحتل صوته وهو يقول:
وانتي بهذه الحالة؟ مستحيل!
ارتسمت ابتسامة ساخرة ومرتجفة فوق شفتيها وهي تقول:.

اعتذر. لقد نسيت، لايمكنني مخالفة اوامرك.
ثم رفعت كتفيها بضعف وهي تقول:
فبالنهاية انا دية! يا لي من حمقاء! كيف استمر بنسيان شيء مهم كهذا؟
تقدم نحوها خطوة وقال بأشفاق:
أيمكنك ان تدخلي الى السيارة رجاءاً وانا سأخذك الى اي مكان تريديه.
حاضر.
قالتها بنبرة ذات معنى وكأنها تسخر من نفسها وتعاقبها. فواحدة بمثل حالتها لايحق لها ان تقول كلمة غيرها.

لم يعلق بشيء عندما سارت تتجه نحو السيارة فهو لايريدها ان تغير رأيها. اول مااحتل مقعده وجدها تقول وهي تركز بصرها نحو الامام وتستند برأسها على المقعد:
خذني الى المقبرة.
هنا كانت سكينة حادة تطعن قلبه ببطئ شديد. لم يعلم ان القادم هو سيف اكثر حدة سيخترق كامل كيانه وليس جسده فقط...

بقي يرمقها بنظرة قلق بين ثانية واخرى وهو يشاهدها على الوضع ذاته دون ان تتحرك ابداً منذ ان انطلقت السيارة ولولا استمرارية هطول دموعها لشك انها لربما ماتت او فقدت الوعي بعيون تائهة تركز بلا شيء!.

نصف ساعة حتى وصلا نحو وجهتهما، ما ان توقفت السيارة واستشعرت ريم ذلك حتى جالت ببصرها ببطئ حولها كي تتأكد انها في المكان المطلوب. دون ان تنتبه في يومها كيف استطاع ان يوصلها للمكان المطلوب من دون ان ترشده اين يقع بالضبط قبر اخيها؟ فهي لم تكن في لحظتها بحالة تسمح لعقلها ان يفكر بأي شيء!.

رفعت يدها نحو مقبض الباب ونزلت بصمت فتبعها هو بصمت ايضاً. بضع خطوات قطعتها ريم وهو يراقبها من بعيد ثم فجأة وجدها تقف امام قبر معين وتقع على ركبتيها وتسدل يديها بجانبها بضعف وهي تحدق في القبر. وفجأة تحولت من الاميرة الصامتة الى البركان الثائر. رفعت يديها واحاطت بهما رأسها وصرخت صرخة قوية زلزلت كيانه. صرخة كانت تكتمها طوال الطريق ولم تطلقها سوى امام قبر اخيها. وجد نفسه يبكي معها بصمت من دون ان يتحكم بدموعه وبقي يرفع يده بين لحظة واخرى ويمرر اصابعه بغضب من بين خصلات شعره وهو يشاهدها بهذا الحال دون ان يملك شيئاً ليساعدها به، أظنه امر صعب، ان نسمع صرخة عزيز علينا. ان نرى دموعه. ان ندرك همس استغاثاته. ولكن يدينا مقيدة ولانملك مانفعله من اجله. يحترق ويموت امامنا ببطئ دون ان نفعل شيء، نبكي فقط من اجله. ونتألم. ونموت معه، ولكننا لايمكننا انقاذه، شعور لن يفهمه الكثيرون!

صراخها استمر لمدة15 دقيقة او مايزيد ثم فجأة بدأت تتكلم بأنهيار مع قبر اخيها دون حتى ان تتذكر قدوم ادم معها:
انا تعبت، انا اصبحت لعبة اخي، لعبة سخيفة تطيع القوانين. كل واحد يديرني كيفما يشاء. كل واحد يتفضل على بعطفه وشفقته ليتملكني اكثر...

ثم انزلت رأسها مجدداً وهي تبكي بقوة وبضعف في الوقت ذاته، ثبتت يديها بجانب فخذيها كي تسند جسدها المنهك، شعرت بالحرارة ترتفع كلها نحو وجهها وتحقنه بدمائها الحارة لتلهبه وتمتزج دموعها مع حبيبات تعرقها لتشعر بالجحيم يشعل وجهها بنيرانه...

احست بخطوات مترددة تتقدم اليها، جسد يجلس على مقربة منها ينظر اليها متعمد ترك مسافة بينهما، ايام قليلة عرفته فيها ولكن بأمكانها تمييز عطره بسهولة. فهو يفضل عطراً معيناً لايستخدم غيره...
دقائق من الصمت اكتنفت كلاهما كالعادة، انخفضت نبرة بكائها واحتفظت بدموع صامتة فقط. رفعت بصرها نحو شاهد القبر وبقيت تحدق فيه وهو يحدق معها ثم فجأة التفتت اليها عندما سمع صوتها الضعيف يقول بألم:.

قبل ثلاث سنوات. انا فقدته، وفقدت سبب بقائي في الحياة...
سحبت كمية هواء سريعة لتخرجها بتأوه ودموع وهي تكمل:
رفيق طفولتي. ونصفي الاخر بما تحويه الكلمة من معنى. اخي. وصديقي، وعائلتي. كلها كان هو، كنت منعزلة لااحب الاختلاط بأحد لذلك لم يكن لي احداً مقرباً سواه.
ثم قالت بأبتسامة وكأنها تسخر من نفسها:.

تذمرت كثيراً وقلت ان هذا غير عادل بحقي عندما قرر ان يسافر لمدة سنتين كي يدرس، اخبرتهم انهم سيحطموني بهذا القرار فأيامي ستكون مملة وموحشة من دونه ولن اتحمل السنتين...
ارتفع صوتها مع ارتفاع نحيبها ودموعها:
ياليته ذهب السنتين فحسب. ياليتني لم اتذمر في وقتها. كي لايعاقبني القدر بفراقه الابدي...
التفتت الى آدم الذي بدأت عيونه تلتمع بدموع متألمة لحالها وقالت:.

كان اعز انسان لدي. أتعلم مامعنى اعز انسان؟ كان كل شيء، كل شيء! وانا لم اكن شيء من دونه! ولم املك غيره. كنت اراه هدية القدر لي. وهذه الهدية، هذا الانسان، قد لفظ انفاسه الاخيرة بين يدي!.
ثم رفعت يديها المرتجفتين بهستريا وهي تريهم لأدم واكملت بأنهيار:
لقد تغطى جسدي بدماء عزيزي هذا، رأيته يغلق عينيه للمرة الاخيرة بين يدي!.
ثم صرخت بوجهه:
انا شاهدت اخي كيف يموت، شاهدت رفيق عمري مقتول بين يدي!.

ثم اعادت بصرها نحو القبر وقد غلبت الدموع ادم ولم يعد يملك السيطرة عليها، ولكن هذه المرة لم تكن دموعه المشفقة فقط، بل كانت شيء اخر!.
لفت يديها حول جسدها وكأنها تعانقه كي تلملم اجزائها المرتجفة وقالت وهي تجحظ بعينيها وكأن الذكريات التي كتمتها بداخلها ولم تفصح عليها ألا الان ستدخلها بصدمة جديدة:.

ذهبت معه نحو المستشفى ولم ارضى ان افارقه ألا بعد ان اجبروني على هذا، أعادوني نحو المنزل وكانت تلك هي المرة الاولى التي اشعر فيها بالخوف من دخول منزلنا، خوف من انني سأدخل ولن اراه، لن يستقبلني، احسست بروحي تنسحب ببطئ من جسدي. احسست بقلبي ينسلب بقسوة من بين اضلاعي. احتجت لأي احد يشاركني صراخي. اي احد يضمني اليه كي يشعرني انه بقربي.
ثم حركت رأسها ببطئ يميناً ويساراً تنفي كلامها وهي تقول:.

ولكني لم اجد. كل كان مشغول بمواساة نفسه! صعدت الى غرفتي وملابسي لاتزال مليئة بدمائه. احسست اني سأفقد عقلي، لايمكن ان استوعب الامر. لم اكن قادرة على استيعابه، هزيم من المستحيل ان يكون مات، هو قد وعدني انه لن يدخل بمشاكل مع تلك العائلة كي لايسلبوه مني وهو يعلم اني لن اتحمل ذلك.
فجأة انتفض جسدها من هدوئه ورفعت يديها واحاطت رأسها بقوة وهي تصرخ:
ولكنه لم يلتزم بوعده. هو جعلهم يأخذوه مني...

دخلت بنوبة بكاء جديدة يشاركها فيها ادم بصمت دون ان يقول اي شيء. ثم هدأت نفسها مجدداً وهي تكمل:.

شعرت اني سأسقط في هاوية الجنون في يومها، جميعهم كانو يعلمون ماذا كان يعني هزيم بالنسبة لي. ولكن لم يبالو بالقدوم الى غرفتي ولو حتى لكي يتأكدو اني لم انتحر بعد! او فقط من اجل ابعاد تلك الملابس الملطخة بدمائه عن جسدي كي لاتفقدني عقلي وانا احدق بها، خرجت من غرفتي راكضة. وذهبت كي التجأ بين احضان امي لعلها تساعدني ان يستوعب عقلي هذه المصيبة.
ثم التفتت اليه وقالت بضعف:
أتعلم ماذا فعلت امي؟

ابتسمت بتألم واكملت:
دفعتني عنها وهي تبكي. قالت انها ترى هزيم في وجهي وهذا يقتلها، لمدة سنة كاملة لم تنظر في وجهي وتخرج فوراً من المكان الذي ادخل اليه. من اجل ان لاتتألم اكثر وهبت كل ألالم لأبنتها وتخلت عنها تاركة اياها وحيدة في مصيبة كهذه، عندها اصبحت غرفتي هي سجني وملتجأي الى الان بالكاد اخرج منها.
ثم اعادت بصرها مجدداً نحو القبر وهي تكمل:.

وابي، اغرق نفسه بالعمل كي ينسى. واختي شغلت نفسها بأسرتها كي تنسى، ولكني لم اجد ما انسى به. ولم اكن اريد ان انساه، في كل مكان التفتت اليه اراه فيه، كلما تطلعت بوجهي في المرآة رأيت وجهه. كلما تبسمت تذكرته. فلم يكن احد يتسبب لي بالابتسامة غيره، يعش معي في كل لحظة تمر على في اليوم دون ان اراه، أتعلم كم يؤملني هذا؟ اشعر بالاختناق. بالضياع. بالالم، دون ان اجد من يقف بجانبي...

التفتت اليه مرة اخرى وبدأت ملامح الاستياء تعتلي وجهها بعض الشيء وهي تقول:.

تعذبت. ولكني صبرت، تمنيت ان يكون زوجي في المستقبل مختلف عن اسرتي. وسيساعدني لأتقبل هذه الحقيقة، وسيجعلني اتذكر هزيم بأبتسامة وليس بدموع ونحيب صارخ. سيخرجني من ظلامي، سيثبت لي ان الشمس لاتزال تشرق في هذا العالم البارد، ولكن اسرتي سلبت مني هذا الامل ايضاً. وقدموني قربان لرجل تسري في جسده دماء قتلة اخي. شخص لايمكنني ان احبه مهما حصل. لايمكنني ان اطلب مساعدته او ان اتقبلها، شخص سيزيدني يقيناً ان الشمس ليس لها وجود في عالمي، واني سأظل في الظلام الى الابد! وفي النهاية اكتشف انه قد انقذني من شخص اسوأ منه! اخرج من الاسوأ لأحظى بالسيء، ألا يمكن للقدر ان يضع كلمة جيد في قاموس حياتي الممزق؟.

ثم تنهدت بتألم واكملت:
لذلك ارجوك، بعد كل هذا. لاتطلب مني ان اثق بأحد. او اتخلى عن قسوتي، فقسوتي هذه لم اخلقها انا، بل من حولي فعلو...
ثم قامت وحدقت به ببرود وهو يرفع بصره اليها:
هذه هي انا، او جزء مني، لذلك ان اردت ان تتخلى عني لأبن عمك ذاك، فلست ابالي، فالميت لايبالي بالطعن...

تركته وسط ذهوله وصدمته وعادت نحو السيارة بينما هو بقي جالساً في مكانه. نشف دموعه بظاهر يده ثم التفت نحو القبر يحدق به لثواني ثم قال بضعف:
انا اسف، ياليته كان بيدي شيء اخر لأفعله غير الاسف...
أكمل بهمس متألم:
لقد حذرتك ان نهاية الامر لن تكون جيدة. ياليتك استمعت لي، ياليتك لم تفعل مافعلته.
ثم قام وقال بأبتسامة:.

لاتقلق عليها هزيم. اعدك اني سأحافظ عليها مهما تطلب الامر مني. لن اسمح لأحد ان يمس شعرة من ريم، لقد وعدتك بالماضي وها انا اجدد لك وعدي اليوم. وتعلم جيداً اني لاانكث وعداً قطعته مهما كلف الامر!
عاد بعد دقائق معدودة نحو السيارة فلم تبالي بسؤاله عما اخرّه او عما كان يهمسه للقبر.
تحركت السيارة قليلاً يدوي صوت المحرك فقط في ارجائها اخترقه لاحقاً صوت هاتف آدم الذي اجاب فوراً وكأنه متوقع اتصالاً كهذا:.

اعلم ماستقولين مايا ولكني حقاً اسف اقسم لكِ انه كان لدي عمل ضروري، اعلم. وانا حقاً اسف لتركك تديرين الاجتماع وحدك. أأنتي جادة؟ ألم ينتهي بعد؟ اي قرص؟ تباً للحظ السيء، حسناً حسناً خمس دقائق وسأرسله لكِ على بريدكِ الالكتروني...
اغلق هاتفه والتفت اليها يقول بنبرة ليس فيها طلب ورجاء بل امر واجب الحدوث:
سنمر على شقتي قليلاً. انه امر ضروري بخصوص العمل.

التفتت اليه بحدة وبأنفعال، أهو جاد؟ أهذه خدعة ما؟ انها لاتطيق وجودها في سيارته كيف ستطيق منزله؟ نعم سترفض. ولكن ليس الان. عندما يقفان امام الشقة ويطلب منها النزول. عندها ستنفجر بوجهه!.

وقفو امام بناية من الطراز الحديث تقبع فيها شقة آدم في الطابق الثاني. تحفزت كل خلاياها وحضرت كلاماتها التي ستنطقها ماان يطلب منها النزول. اخرج المفتاح من السيارة بأستعجال واخرج مفاتيح شقته من جيبه والتفت اليها. انفرجت شفتاها مستعدة للرد. ولكنها فجأة انخرست وانسدلت كل شعرة كانت توقفها مستعدة لمهاجمته عندما سمعته يقول:
انتظريني هنا سأعود بعد دقيقة.

التفتت اليه بتفاجئ ولكنه لم يكن امامها. لقد نزل مسرعاً نحو شقته، هل حقاً ماسمعته؟ ألم يطلب منها النزول حتى؟ أهو يحاول اهانتها بشكل ما ام انه شاب محترم فحسب؟ حواء لايمكن لها فهم آدم ابداً!.

خمس دقائق لااكثر حتى وجدته يهبط مجدداً من البناية يحمل بيده حاسوبه المحمول ودخل نحو مقعده واول ماجلس ناولها قنينة ماء صغيرة باردة ومنعشة لم تتمكن حتى من التفكير في رفضها فهي بحاجة ماسة اليها بعد هذا اليوم الحار الطويل، ماان استلمت الماء من يده حتى فتح الحاسوب فوراً وادخل به قرصاً مدمجاً وبدأ بأرساله، وها هو تصرف محترم اخر فهذا الآدم لم يكمل عمله فوق تاركاً اياها وحدها في السيارة بل احضره بسرعة واتى محضراً معه الماء الذي لم يخطر على بالها من الاساس ولكن على باله فقد خطر! شيء جعلها تكرهه اكثر، فعقلها لايريد ان يرى شاباً محترماً. فأسرة مراد لاتليق بها صفات الاحترام حسب ماترى، تريد ان ترى شاب همجي. متكبر. متسلط. لتتمكن من كرهه اكثر وليس ليسترعي انتباهها بأصوله واحترامه!.

دقائق اضافية وانتهى من عمله مثل ما انتهت هي من ارتشاف الماء كله. انطلقت السيارة مجدداً يملأها صوت آدم يتحدث مع تلك ال مايا واعداً اياها بالقدوم في اسرع وقت. وهذا ال اسرع وقت كان واضحاً من سرعته الجنونية.
وصلو امام منزلها ولكنه لم ينزلها ويذهب ببساطة. فقد كان هناك زائراً يقف قرب سيارته خارج المنزل ينتظر عودتها بفارغ الصبر، لقد كان ابن عمها رأفت. نزل ادم فوراً معها عندما فتحت بابها ونزلت بأستعجال...

كان رأفت شاب وسيم يبلغ22 من عمره ولكن كان يبدو بعمر ريم او حتى اكبر منها بسبب جسده الرياضي وقامته الطويلة، اقتربت ريم منه يتبعها ادم وقالت بتفاجئ:
رأفت؟
تعمد رأفت عدم نزع نظارته الشمسية كي لاترى عينيه الدامعتين وقال لها بأبتسامة:
مرحباً عزيزتي. كيف حالك؟
بخير شكراً. ولكن لما انت واقف هنا لما لم تدخل؟
اردت التحدث اليكِ.
ثم رفع نظره بحدة نحو ادم واكمل:
علي انفراد!
ادخل ادم يديه بجيبي بنطاله وقال ببرود:.

اسف. هذا اخر شيء سأسمح لك به.
التفتت اليه ريم بأقتضاب كعادتها وقالت:
لاتنسى انه ابن عمي!
تيسم بسخرية وقال:
اجل. رأفت! كيف لي ان انسى انه ابن عمك! فهذا الوحيد من ابناء عمك يصعب على نسيانه.

وهنا كان ادم يلمح لحادثة اغتيال عمه معتز التي نفذها رأفت. اعاد رأفت ابصاره نحو ريم متجاهلاً وجود ادم فهو اخر شخص يرغب بالشجار معه حالياً بوقته الضيق هذا، مد كلتا يديه وامسك ريم من كفي يديها وهنا جذب انتباه آدم الحاد وكاد ان يتكلم ولكن لم يشأ ان يتحامق ففضل الصمت ورأفت يقول:
انا سأسافر الان من اجل الشركة ولن اعود ألا بعد شهر. لذلك اتيت لتوديعك...
ثم اكمل بنبرة ندم:.

اعلم ان ما سأقوله قد جاء متأخراً. وانه لن يغير من الامر شيئاً، ولكني حقاً اسف يا ريم. فبسببي انا تورطتي انتِ بكل هذا.
وهنا بالطبع يقصد زواجها من ادم. سحبت ريم احدى يديها تاركة الاخرى في يده وطبطبت على كتفه برفق وقالت:
لاتشغل بالك بالامر كثيراً، انت تعرف ان جدك كان سيجبرني على هذا حتى وان قررت العائلتين التصالح من دون ثأر. كانو سيتخذون هذا الحل، هذا قدري ولاعلاقة لك به فلاتحزن.

عندها لم تكن النظارة جيدة بمافيه الكفاية لتخفي دموعه المنسابة وقال بصوت ضعيف ومهزوز:
ليس من اجل هذا فقط انا اسف، انا، اسف ايضاً لأني تركتك وحدك بعد وفاته.
ثم بكى بقوة اكبر وهو يقول:
كان صعب على ان اراك ريم، انتي تعلمين ماذا كنتما انتي وهزيم بالنسبة لي.
ثم لم يجد كلمات اخرى تعبر عما في داخله فقال بقلة حيلة:.

لم استطع القدوم، انا لم اتمكن من رؤيتك فحسب. كان الامر صعب علي. صعب جداً! واعلم انكِ احتجتني في وقتها. واعلم انه لم يقف احد بجانبكِ. ولكني كنت ضعيف، ضعيف اكثر مما املك القدرة على تقوية غيري!
بكت ريم بصمت ومسحت برفق اكثر على كتفه وهي تقول:
لاتبكي عزيزي، كل شيء قد مضى الان. لاداعي لفتح الماضي...

رأفت كان الصديق المقرب لهزيم وريم منذ طفولتهما رغم انه يصغرهما بثلاث سنوات. وفاة هزيم كانت صدمة له لم يستطع مواجهة الامر ببساطة او تقبله وبالتالي انعزل في منزله يواسي نفسه ويصبرها ولم يكن قادراً على رؤية ريم ووجهها الذي يحمل ملامح هزيم فجروحه التي يحاول تقطيبها كلها ستنفتح بقسوة، لذلك ومثل مافعل الباقين، هو ابتعد عنها تاركاً اياها بمفردها!.

رغم ان ادم قد كره رأفت بسبب امر عمه ألا انه الان قد اشفق على حاله، فعائلة ياسين تعاني مثلهم. وتملك جروحاً غير مقطوبة مثلهم، وتتألم مثلهم، ليست عائلة مراد هي فقط من على حق!.

ولحظة الشفقة هذه تحولت الى بركان هائج عندما شاهده يسحب ريم ويعانقها بقوة مودعاً اياها وباثها دموعه الحارقة، هل حان الوقت ليتحامق؟ ليس الان. وليس في هذه اللحظة. ولكنه منظر لايمكنه تحمله فقام بالاستدارة والعودة نحو سيارته فوراً وشغلها وقادها بغضب مبتعداً قدر الامكان عن هذا المكان...
خرجت من بين احضان رأفت لترى سيارة ادم قد اختفت من الوجود حولها. امر اراحها بشكل ما.

دخلت نحو المنزل وعادت فوراً لتكمل نومها الذي سلبوه منها. يوم اخر ككل الايام. ولكن ليس ليلاً ككل الليالي. كانت تفترش الارض بأوراقها غارقة وسط رسوماتها الكئيبة التي لاتعكس سوى روحها المظلمة. كان المنزل يغط بنوم عميق يريح اصحابه عدا اميرته الساهرة هذه، تعشق الليل ووحدته. وسكونه المخيف الذي لايحمل اصوات من حولها وهمساتهم التي تنخر قلبها من دون سبب، تريد صمت. تريد وحدة، وحدة لاتحمل سواها وسوى ذكرى اخيها قربها، ترسم بيدها. تحدق بعينيها. ولكن عقلها معه. ودموعها معه. بين لحظة واخرى تقوم بتمزيق الاوراق بشكل هستيري لتبدأ برسمة جديدة. ولكن من دون تغيير جديد. فالرسمة ذاتها سوداء في كل مرة، كئيبة وحزينة في كل مرة، واخيراً انتشلها من عالمها هذا صوت اهتزاز هاتفها ونغمته القصيرة. هناك رسالة ما قادمة. تركت فرشاة رسمها جانباً وتناولت الهاتف. الرقم ذاته الذي رفضت تسجيله وحفظه في هاتفها، آدم!

-(هل انتِ معتادة دائماً على معانقة الشباب هكذا؟! ).
قطبت حاجبيها بغضب واستنفرت كل خلاياها من جملته هذه. وهذا مااراده. فلم يستخدم جملة مثل هل انتي معتادة على معانقة ابن عمك هكذا دائماً. فهذه لم يكن اكيداً انها ستسفزها بشكل كافي لتجيبه...
ثواني وليس دقائق حتى وصلته رسالة منها تحمل كل بدايات الحرب والاحتدام.
-(لااظن ان ابن عمي شاب غريب. )
كز على اسنانه بغيظ اكبر وهو يرد على رسالتها:.

(أحقاً؟ اسف نسيت انه يجوز ان تعانقي ابن عمك)
(اولاً. هو يصغرني بثلاث سنوات ونحن كالشقيقين فليس كل الناس مثلك نظرتهم سيئة. وثانياً يجوز او لايجوز هذا الشيء ليس عائد لك. )
(اجل عائد لجيراننا حازم فهو من سيتزوجك. أتصدقين اني نسيت! )
وقبل ان تجيب وصلتها رسالة اخرى منه:.

(اقسم ان شاهدتك تلمسين يد شاب اخر مجرد لمسة فسأقتلك. ليس اضربك. وليس اصفعك. بل سأقتلك! ِ. حتى وان لم نتصرف كزوجين. حتى لولم نعش قصة حب. هذا لن يغير انكِ شرعاً وقانوناً زوجتي ومن المستحيل ان اسمح بشيء كهذا. هل فهمتي؟! ).

عصرت الهاتف بكلتا يديها كادت ان تهشمه مثلما تكز على اسنانها. ثم فجأة ارتخت اعصابها. وانفتح جبينها المقتضب لتلتمع دموع منكسرة داخل ذلك المحيط الازرق، وتذكرت من تكون، انها لاشيء. فلماذا ستناقشه؟ لماذا ستعترض؟ ببساطة اجابته:
(حاضر. ).

عرف فوراً معنى هذه الجملة وادرك الافكار التي تهاطلت على عقلها في هذه اللحظة، زفر بضيق وتجهم وجهه. لم يكن يريد ان يصل معها لهذه الفكرة. ارادها تعانده. تناقشه. تعارضه، وتلمح غيرته! وليس ان يذكرها انها دية عليها اطاعة الاوامر...
رمى الهاتف من يده واستلقى على سريره يغوص ببحر عميق من الافكار لاتدور سوى حولها!.

اما هي تركت الهاتف من يدها وبعثرت الاوراق بعيداً عنها وطالبها جسدها بأي حركة ينفس بها عن غضبه بدل ان يبقى ثابتاً ويخنقها. قامت بغضب واخذت عدة انفاس عميقة لترتاح ولكن من دون فائدة. سارت. ضربت. حطمت. ومن دون فائدة. الايام تمضي. وكل ثانية تمر عليها يجعلها تعد تنازلياً للوقت الذي سيسحبوها به قصراً من منزلها الى منزله. وعند هذه الفكرة رفض عقلها الواقع. رفض ان يفكر اكثر بهذا. اتجهت كالعادة نحو علبة دوائها فوق طاولة التزيين واخرجت قرصين منها لتتناولهما. رفعت يدها نحو فمها ورفعت رأسها معه لتدفعهما ولكنها توقفت فجأة. لمحت عينيها شيئاً من خلال المرآة لم تنتبه اليه مسبقاً. اعادت الحبوب ببطئ نحو العلبة وهي تنظر بجمود من خلال المرآة نحو تلك الاكياس في احدى زوايا غرفتها التي نقلتها الخادمة هنا صباح هذا اليوم بأمر من بلقيس. رفعت حاجبها بقسوة واعادت العلبة نحو مكانها دون ان تتناول شيئاً. لما ستحتاج مهدئ وهي قد وجدت ما ستنفس به عن غضبها؟ المشتريات التي ابتاعها لها آدم!.

تقدمت نحو الاكياس واخرجت محتوياتها بغضب ونثرتهم حولها، لايمكنها نكران كم تبدو الملابس وباقي المشتريات رائعة. بل مذهلة! ولكن كبريائها اقوى من احساساتها الانثوية الضعيفة. اخرجت اكبر مقص تمتلكه وبدأت بتمزيق الملابس بشكل مجنون ثم قطعت الاكسسوارات بيديها وتناولت المقص مرة اخرى لتمزق مااستطاعته من احزمة الاحذية لتتلفها، انتهت من الامر وهي تلهث بشكل مرتجف وهي تشعر واخيراً ان شيئاً بارداً اثلج لها صدرها واراحها، ولكن لاتنكر انه اراحها بشكل سيء! شيء ما جعلها تشعر ان تصرفها ليس صحيحاً على الاطلاق بحقه. ولكن لابأس المهم انها قد ارتاحت!

وقفت والمقص لايزال بيدها تحدق ببرود بأشلاء الملابس الملقية امامها. رفعت كرتا عينها نحو كيس غفلت عنه دون ان تنتبه اليه مسبقاً. كان مميزاً عن باقي الاكياس بلونه وشكله. سحبته بعصبية والقت مابداخله ارضاً، مدت يدها نحو قطعة القماش الناعمة تلك بلون الشمع. امسكته من اطرافه ورفعته امام ناظريها فأنفرجت شفتيها بذهول من دون ارادة منها. كان ارق فستان شاهدته، بسيط ولكن يملك شيئاً جذاباً يجعله فاخراً. كان اجمل فستان من بين اللواتي مزقتهن. ازدردت ريقها بتردد ورمقت المقص بنظرة تردد اكبر. قطبت حاجبيها وهي تلاحظ قصاصة ورق صغيرة كانت بداخل الكيس، رفعتها وقرأت مامكتوب بداخلها بخط منمق:.

(جذب نظري في المتجر. وكنت متأكد انه لن يليق بسواكِ، آدم)
ارتجف قلبها. ونبض لأول مرة بعد ثلاث سنوات. كلمات بسيطة ولكن جذابة. مثل الفستان بالضبط!.

أتظنون انها تبسمت وفجأة اصبح كل شيء وردي اللون حولها؟ انها ستغير نظرتها اليه؟ قد تنعجب به؟ نبض قلبها لم يهبها هذا التأثير. بل اشعل نيرانها اكثر. وماترددت بشأنه نفذته الان. سحبت ذلك الفستان الرقيق لتمزقه بيديها لتنفس عن الجحيم الذي اشعله كلماته ثم تناولت المقص لتمزقه قطع اصغر، كان اجمل الفستاين اللواتي جذبنها. وتعاملت معه بقسوة اكثر مما تعاملت مع البقية...

الوقت يضيع منها، يقربها منه، يتلفت اعصابها، يدمرها. يبعدها عن ذكرى اخيها. غرفة اخيها. رائحة اخيها، يبعدها عن سامي ليقربها من صاحب دم مراد ذاك، فكرة جعلتها تتناول في تلك الليلة ثلاث اقراص من المهدئ لتغط بسبات عميق خالي حتى من الاحلام، فالاحلام لاتحمل سوى كوابيس واقعها!.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة