قصص و روايات - روايات عالمية :

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل السادس

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل السادس

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل السادس

غاب عني المنطق في اللحظة التي ضغطت فيها على الزناد، لم أعد أرى، أو أسمع، أو أدرك ما يدور من حولي، كل ما يحيط بي بدا أطيافًا مبهمة، حتى الأصوات المنتشرة في محيطي تداخلت بشكلٍ مزعج. خلال نوبة هياجي، ساد استنفارًا مريبًا في المكان، فأصبح يعج بالكثيرين ممن ضاعفوا من الصخب، لا أعرف كيف اجتمعوا وتزاحم بهم هذا القبو الكئيب. لا إراديًا وجدت نفسي أضغط بإصبعي مرة ثانية على الزناد، فانطلقت طلقة نارية أخرى، لا أعرف من أصابت هذه المرة أيضًا، ولا سابقًا!

ما أحسست به لاحقًا في غمرة هذا التوتر المتصاعد، أن ثقلاً قويًا انطلق ناحيتي ليطرحني أرضًا على ظهري، ثم أطبق بكله على كلي ليثبتني في موضعي، شعرت كذلك بقبضة قوية تحاول انتزاع السلاح من يدي المتخشبة عليه، كنت أرفض التخلي عنه، تشبثتُ به بكل قوة، وعدت لأحملق بتحدٍ متضاعف في زوج الأعين الشرستين والناظرتين في قلب عيني بشيء غريب يحمل خوفًا متناقضًا عما أعايشه، أحقًا أتوهم ذلك؟ جعلتني هذه النظرة العجيبة المسددة لشخصي أتحير كثيرًا، ومع ذلك قاومت ترك أداة حمايتي، والخلاص من ألد الأعداء المتربصين بي.

ارتفع صراخي المهدد في المكان:
-سأقتلكما!
استطعت تمييز صوت فيجو وهو يأمر أحدهم:
-لا تنظر إليّ هكذا، أحضر المهدئ.
المهدئ، علاجي الفعال! ففي كل مرة أثور فيها، يستخدمون ذلك السائل لتحجيم مقاومتي، لن أسمح لهم بالسيطرة علي، إنها فرصتي للقضاء على أقطاب الشر، وربما أقدم خدمة لخالي لتولي الزعامة بعد مقتلهم. استنفر بدني وتصلب وأنا أسمع لوكاس يقول:
-دعني أقتلها، هذه الساقطة تستحق الموت.

الدنيء، أيجرؤ على نعتي بهذا اللقب؟ من يظن نفسه سافك الدماء هذا؟ هدرت أسبه في غير اكتراثٍ:
-سأحرقك حيًا يا (، ).
شعرت بركبة قوية قاسية تضغط على لحم فخذي من أجل تثبيتي، وصوتًا حازمًا يأمرني:
-اهدئي.

ثم أحسست بقبضة أخرى تفرد ذراعي على امتداده وتلصقه بالأرضية الصلبة، لتقوم يد أخرى بانتزاع السلاح من بين أصابعي. آخر ما أذكره في هذه اللحظات العصيبة أني لم أتوقف عن الصراخ والصياح والمقاومة، حتى شعرت بهذه اللسعة تصيب عنقي، فخبت قوتي، وخارت بشكلٍ سريع، لأنتقل بعد ذلك ذهنيًا في تطوافٍ غريب داخل هلاوس أغرب، وأحلام أعجب، كلها دارت حول المشهد الدموي الذي عايشته بكامل جوارحي في طفولتي المبكرة، حيث قُتل المدعو ماركوس.

لحظاتٍ وتجمد كل شيء، وخف الثقل العظيم الجاثم على جسدي، لأجد ضوءًا قويًا يسطع في عقلي، قبل أن يعود بي الزمن إلى الوراء، عندما كنت طفلة صغيرة، مع فارق أني كنت بمفردي في حديقة واسعة للغالية؛ لكنها خالية من البشر، رُحت أتجول فيها والخوف يملأ قلبي. تابعت السير في وجلٍ، وعقلي المرتاع يتساءل أين أمي؟ وأين شقيقتي؟ لماذا أنا هنا وحدي؟ أين الجميع؟ تابعت المشي الخائف وسط هذه الحديقة حتى اقتربت من سورها الحجري الكبير، اضطررت لأن أرجع رأسي للخلف حتى أراى نهايته، وللعجب! لم أستطع تبين حافته!

فجأة وجدت الظلام يهبط، وما كان أسفل قدمي من نجيلة خضراء تحول في غمضة عينٍ إلى بحيرة من الدماء الغزيرة، سرعان ما ارتفع منسوبها، وبدأت أغرق فيها، لم أتمكن من السباحة بشكلٍ جيد، كنت حاول إبقاء رأسي للأعلى، كادت بحور الدماء تسحبني معها نحو الهاوية الموجودة في الجهة العكسية. حاولت السباحة عكس التيار، وصوت صراخي يعلو طالبًا النجدة، لكن لا أحد معي، امتدت يدي لتتعلق بواحدٍ من الجذوع المقطوعة لإحدى الأشجار، وكان لي طوق النجاة، تسلقته لأبقى أعلاه، تشبثت بالفروع الناتئة فيها لأضمن عدم سقوطي، وبقيت أسبح معه في هذا الظلام الباعث على الموت.

ازدادت مخاوفي وارتعبت أكثر حين وجدت هذه الأعين الشيطانية تدور من حولي، وكأنها تطاردني، حاولت الهروب منها؛ لكنها ظلت تتبعني أينما ذهبت وأنا جالسة على الجذع، حتى عندما أطبقت على جفوني، كانت تقتحم خيالي، كأنما تريد الاستحواذ عليّ، كم تمنيتُ في هذه اللحظة المخيفة أن ينتهي هذا العذاب! لكن لا تتحقق كل الأمنيات وإن كانت في غمرة الأحلام السيئة، بقيت حبيسة هلاوسي لوقت طويل، فلم أستفق من حالة الضياع المرعبة إلا على صوتٍ ناعم أليف ينادي في حنوٍ:.

- ريانا!
ظللت مغمضة لعينيّ، رافضة الاستجابة لهذا النداء المطمئن، إلى أن تيقظت حواسي بالتدريج، وبدأت أستعيد وعيي، عندئذ أجبرت جفناي على فتحهما. في البداية كانت الرؤية مغبشة، مشوشة، فلم أتمكن من رؤية أي شيء، حتى اعتدت على الإضاءة القوية، تلك التي لم أتبين بعد مصدرها، رأيت وجه والدتي قريبًا مني، ويدها الرقيقة تمسد على رأسي وهي لا تزال تخاطبني:
-هل أنتِ بخير؟ هل تسمعيني جيدًا؟

هسهست بصوتٍ واهن، وقد تفشي في قدرًا أكبر من شعور الارتياح:
-أمي.
مسحة أخرى رقيقة لامست خدي وهي تضيف متنهدة في راحة:
-حبيبتي، لا تخافي أنا إلى جوارك.
كلماتها المطمئنة كانت كالمسكن، فجعلتني أسترخي من جديد، واستسلم لهذا الخدر الدافئ الذي أخذني معه إلى ظلامٍ جديد، كان خاليًا من الهلاوس والأحلام المفزعة.

-لقد أفقتِ أخيرًا.

مرة ثانية تسلل إلى أذني صوت والدتي الهادئ بعد أن شعرت بعودة الإدراك الحسي إلى عقلي، لم أعلق عليها، ولذتُ بالصمت، لأبدأ في تفقد ما حولي بتمهلٍ حذر، كانت الحجرة غير مألوفة بالنسبة لي، كل ما فيها لم أره سابقًا، يطغى عليها اللون الرمادي الداكن الممتزج بالسواد، إلا من نافذة وحيدة تعلوها ستائر بيضاء اللون، يتسلل عبرها ضوؤ النهار. لهذا تساءلت رغم شعوري بالإعياء، وقد تنبهت كذلك لوجود نافذة يخترقها ضوء النهار:.

-أين أنا؟
جاءني ردها مصحوبًا ببسمة صافية، باعثة على الطمأنينة:
-أنتِ في منزل الضيافة التابع ل...
لم تستطع إكمال جملتها للنهاية، حيث اقتحم خالي الغرفة، وصاح في غضبٍ قاصدًا إهانتي:
-الآن أفقتِ يا حمقاء!
زجرته والدتي محتجة في ضيقٍ حرج وهي تنهض لمواجهته من فورها:
- رومير!
استدرت برأسي نحو خالي الذي خاطبني في تعصبٍ:
-هل أدركتِ أين أوصلتنا بعنادك؟
حدجني بنظرة قاسية مليئة بالغيظ وهو يتابع إهانته الحادة لي:.

-أيتها المتخلفة الغبية!
من جديد أنذرته أمي في حمئة:
-لا تكلمها هكذا، إنها ما زالت في حالة صدمة.
رفع سبابته أمام وجهها يحذرها في حنقٍ:
-لا تدافعي عنها صوفيا، الحرب على وشك أن تنشب بسبب غبائها المحكم.
بررت له رعونتي في دفاعٍ واضح:
-هي ما تزال صغيرة، لا تحملها الذنب.
لعن خالي بصوتٍ خفيض، فتساءلت وأنا أسعل بخفةٍ:
-ماذا حدث؟

عاودت والدتي الجلوس على طرف الفراش إلى جواري، وقالت ببسمة زائفة؛ لكنها أرادت بها طمأنتي:
-لا شيء حبيبتي.
احتج رومير في حدةٍ ساخطة بعد أن أصدر صوتًا معترضًا:
-لا شيء؟ حقًا؟ أتصفين ما فعلته بلا شيء؟
وجه كلامه لشخصي مستخدمًا يده في الإشارة:
-إنها كادت تقتل أقطاب عائلة سانتوس.
تمتمت من بين أسناني في خفوتٍ، وقد قصف قلبي هلعًا:
-اللعنة!
توقعت حدوث الأسوأ؛ لكن تبددت مخاوفي وهو يكمل:.

-لكن حمدًا لله لم تصب أيًا من رصاصاتها الخرقاء أحدهما.
إذًا من أصبته وأنا أطلق النيران بعشوائية؟ ظل هذا السؤال يراودني للحظاتٍ حتى تنبهت لصراخ خالي المنزعج:
-أتدرين ما أرغب في فعله حقًا؟
قطبت جبينه وأنا أنظر ناحيته، فأجاب في وعيدٍ:
-أريد قتلك لأوئد هذه الحرب قبل أن تندلع.
نهضت صوفيا من جديد، وشكلت بجسدها حائلاً بيني وبينه وهي تهتف في فزعٍ:
- رومير، إياك!

من بين خوفي المستمر وجدت نفسي أنطق بنزقٍ، وكأني حقًا أعلن عن انتهاء مقاومتي لكل هذه الصراعات:
-قم بذلك خالي...
حملق في بعينين تحويان كل الغضب، فأكملت بنبرة بدت إلى حدٍ ما هازئة ومتحدية في نفس الآن:
-رغم أني أظنك غير قادر على ذلك.
اِربد وجهه بعلامات الحنق، فلم اكترث، وواصلت الكلام بغير احتراز:
-فأنا طرف الصفقة الرابح في مصالحك الشخصية.
هدر بي عاليًا قبل أن أشعر بلسعةٍ مؤلمة تصيب صدغي:
-أيتها (، )!

فاجأني بصفعته، واشتعل وجهي بحمرته، فانهال عليّ بأخرى زادت من لهيب بشرتي، مما جعل والدتي المصدومة تتدخل لإيقافه وهي تتوسله:
-كفى، دعها رومير، أنت تؤذيها.
للغرابة، لم أكن متأثرة بردة فعله المتوقعة، وانتظرت منه المزيد من الضربات الموجعة؛ لكنه بصق في وجهي، ولوح بيده هادرًا:
-إنها تستحق الموت.

إهاناته غير المبررة جعلتني أشعر بالدونية والاستحقار، فتجمعت العبرات في عيني تأثرًا، سحبت نفسًا عميقًا لأمنع نفسي من البكاء، والظهور بمظهر الضعف أمامه، لقد واجهت الموت عدة مرات، فلماذا تُبكيني إهانته؟ هل لأني أكن له التقدير والاحترام فحزنت لمعاملته الخالية من المحبة والعطف؟ أبعد كل تلك السنوات من محبتي المخلصة له يؤلمني بكلماته وكأني فردًا غريبًا لا أنتمي للأسرة؟ ربما تصرفت بتهورٍ؛ ولكني فعلت ذلك بعد أن تم تهديدي بشقيقتي البريئة، من كان في مثل وضعي سيفعل أكثر من ذلك بكثير. انتبهت مرة ثانية لصوته المرتفع وهو يكلم أمي:.

-سأفقد أعصابي منها.
وجه أوامره لها بدلاً من مخاطبتي:
-دعيها تستعد، وتنزل للأسفل لتعتذر ل مكسيم ورَجُليه، هم منتظرون في البهو.
الاعتذار من هؤلاء القتلة! حقًا؟ أأفعل ذلك بعد ما جابهته معهم؟ غلت الدماء في عروقي، وغطت على ما كان بي من شعورٍ بالهوان، لتثور مرة ثانية ثائرتي، وصحت رافضة بشدة:
-لن أفعل، ولو قطعت رقبتي!

وجدت قبضته تمتد لتنال من عنقي، جذبني في خشونة، وخنقني بأصابعه القوية، ليسدَّ الهواء عن قصبتي، عجزت عن التنفس، ورحت أشهق باحثة عما يمد رئتي بالهواء، ارتاعت صوفيا من المنظر المخيف، وحاولت قدر استطاعتها تخليصي من قبضته المحكمة؛ لكنه كان في أوج غضبه وحنقه، فلم يرَ سوى أني فتاة عاصية يحتاج للتخلص منها، لم يعبأ بالتوسلات الباكية ل صوفيا، وسلط عينيه الشرستين على وجهي قائلاً بلا ذرة تعاطفٍ:.

-أنا لا أطلب منك، ستفعلين كل ما أمرك به، أتسمعين؟
استمر في ضغطه المؤذي على كل عنقي، بالكاد كنت أكافح لالتقاط الهواء، تلونت شفتاي بزرقةٍ مخيفة، وشعرت بغمامةٍ تحط على مداركي، كأني على وشك فقدان وعيي. تركني رومير قبل أن ألفظ أنفاسي الأخيرة، لأسعل سعالاً حرجًا متواصلاً، هذه المرة انسابت دموعي عفويًا، ونظرت إلى أمي أشكو إليها سبب عزوفي عن تنفيذ أمره بصوتٍ متحشرج لا يخلو من السعال:
-إنهم يريدون إيذاء آن.

هتفت متسائلة في جزعٍ أكبر:
-ماذا؟ صغيرتي آن؟
ظللت أسعل وأنا أحاول المتابعة:
-نعم، كنت أدافع عنها وعني.
التفتت والدتي ناظرة إليه وهي تكلمه:
-أسمعت رومير؟
بدأت بشرتي تستعيد لونها الطبيعي، بعد الشحوب اللحظي الذي ساد فيها، نظرت إليه وأنا أمسح الدموع عن طرفي، لأجد وجهه مليئًا بتعابيرٍ قاسية تشاركت مع نبرته في قوله الحازم:
-لا، لم أسمع ولن أسمع، اجعليها تجهز، وأنا في انتظاركما.

أدركت أنه لن يقف في صفي مطلقًا، لن يتخذ موقفًا دفاعيًا من أجل حمايتي، وهذا ما حز في قلبي كثيرًا! نظرت مرة أخرى إليه وهو يحذرني بلهجةٍ غير متسامحة:
-من الأفضل ألا تثيرين غضبي، فأنا بلغت أقصى صبري.
أفسد عليه إلقاء باقي أوامره حضور الخادمة التي استطردت متكلمة في حرجٍ طفيف:
-عذرًا سيدي، الرئيس مكسيم يريدك.
نطق من فوره في حدةٍ:
-اللعنة، لا أظنه خير.
تطلعت إليه الخادمة في ترقبٍ، فأمرها وهو يشير بيده:.

-اذهبي، وأنا قادم خلفك.
رأيتُها وهي تومئ برأسها مرددة:
-حسنًا.
شيعتها بنظرة سريعة تشتت عنها، عندما هدر خالي من جديد يُنذرني بلهجةٍ أشدُ بأسًا قبل أن ينصرف:
-إن فسد الأمر سأضع رصاصة في رأسك!
انقبض قلبي وتمزق من حديثه، فنظرت إلى والدتي بذهولٍ مصدوم، فرددت الأخيرة بعجزٍ واضح عليها:
-لا تخافي صغيرتي، لن يحدث شيء.

كنت متيقنة أنها مثلي، لا تملك زمام أمرها، ولا تمتلك حرية التصرف في أي شيء، الكل يخضع لأوامر خالي، لا يوجد من يتجرأ على مخالفته من الأساس، نكست رأسي في خزي، وأنا أخبر نفسي بندمٍ كبير:
-يا ليتني لم أتِ إلى هنا!

بعزةِ نفسٍ وكبرياءٍ ما زال متواجدًا بداخلي وقفت أمام المرآة المتواجدة في ركن الغرفة، أتأمل وجهي المتورم من الجانب بنظراتٍ ملية مطولة، بعد أن انتهيت من تصفيف شعري، وجمعه في كومة واحدة ليبدو كذيل حصانٍ منسدل على ظهري. لم أضع مسحة واحدة من مساحيق التجميل، بالرغم من إحضار والدتي لخاصتها حتى أستخدمها وأخفي آثار اعتداء خالي عليّ. أردت أن أجعل من أنا مُقبلة على مواجهتهم على رؤية ما تعرضت له من وحشية، لإجباري على القيام بما لا أرغب، لئلا يظنوا أنه نابع من ندمي الحقيقي.

جميعهم يريدون مني أن أكون الزوجة المخلصة، الوديعة، الطيعة، تلك التي تكون محبوبة في الأوساط الاجتماعية نهارًا، ومحمومة بوهج الحب مع زوجها الكريه ليلاً، أي منطق هذا؟ كيف أمنح من لا أستطيع النظر في وجهه مشاعري الفياضة، وإخلاصي الكامل في الحب؟ انتشلني من دوامة أفكاري المتصارعة هذه اللمسة الرقيقة من صوفيا على كتفي، فاستدرت ناحيتها لأجدها تفرد ثوبًا من اللون الأصفر على طرف السرير، رسمت ابتسامة زائفة لم تنجح في خداعي وهي تخاطبني:.

-انظري إليه صغيرتي، أليس رائعًا؟
حملقت في الثوب المصنوع من قماش الستان الناعم بنظرات نافرة، غير راضية، لأعلق بعدها في عبوسٍ:
-لا أحب هذا اللون...
رفرفت صوفيا برموشها في ترددٍ، فرُحت أعلل لها احتجاجي:
-وأنتِ تعلمين ذلك، الأصفر يبدو مزعجًا، وفاقعًا للغاية.
حاولت إقناعي بارتدائه، فأشارت إلى هيئته قائلة بما يشبه الإلحاح:
-لكنه من أحد بيوت الأزياء الشهيرة، و...

استمرت في إبداء محاسن الثوب لعلها تنجح في إقناعي بالنهاية، ومع ذلك سيطر على عقلي سؤالاً واحدًا، لم أتركه يُحيرني، وحادثتها بما يجول في رأسي:
-من أحضره أمي؟
أتاني ردها مائعًا، مُحايدًا، ومثيرًا للمزيد من الشكوك:
-لا يهم من جاء به، إنه جميل، وأجده لائقًا بكِ.
أوشكت على تكرار اعتراضي؛ لكنها هتفت في تصميم يشوبه قدرًا من التحذير المتواري:
-من الأفضل أن ترتديه، هذه رغبة خالك.

نطقت في تهكمٍ مزعوجٍ، وقد ازدادت تعابيري تجهمًا:
-خالي الحنون.
ربتت على ظهري تتعجلني في جديةٍ:
-هيا، لا نريد أن نتأخر.
أكملت الناقص من كلامها في ألمٍ محسوس في نبرتي وأنا أتحسس بشرتي المطبوع عليها أصابعه:
-وإلا تعرضت لصفعاته.
لعقت شفتيها، واستطردت في تحرجٍ:
-لن أبرر تصرفه لأنه مرفوض في كل الأحوال، ولكنه في الأخير يبحث عن أمن الجميع، أنتِ قبل شقيقتك.

رمقتها بهذه النظرة الحادة الناقمة، ومع ذلك قابلتها بلطفٍ وهي تزيد من محاولاتها البائسة لإقناعي بالارتضاء بالأمر الواقع:
-حلوتي، أنا أخشى عليكِ من بطشهم، أنتِ لا تعرفين كيف هي حياة العصابات، وهم أناس لا يرحمون.
ثم مدت يدها لتلامس وجنتي وهي تقترح عليّ باسمة:
-لما لم تضعي من هذه القليل؟ ستبدين فاتنة للغاية.
أبعدت وجهي عن أناملها هاتفة في رفضٍ مُعاند:
-لا أريد.

هذه المرة لم تسعَ للضغط علي، وعلقت في تفهمٍ وهي تتحرك ناحية باب الغرفة:
-حسنًا، لا يهم، ارتدي ذلك، وأنا أنتظرك بالخارج.

تابعتها بناظري وهي تغادر بابتساماتها المصطنعة التي أخفت ورائها حزنها المكشوف، لأقف بمفردي في منتصف الغرفة حانقة، وناقمة على كل شيء. كدت أركل الثوب بقدمي، فابتعدت لأقف عند النافذة، باحثة عن دفعة من الهواء البارد لأطفئ بها الغليان المستعر في صدري، لن أنكر أن المشهد من الأعلى كان خلابًا، وممتعًا؛ لكن أفسد نقائه وجود عشرات الرجال المنتمين لجماعة سانتوس. ابتعدت عن النافذة، وأسدلت الستائر لأبدأ في تبديل ملابسي، وأنا غير مقتنعة أبدًا بما أنا مقدمة عليه.

كم كنت أرجو أن آوي إلى مكانٍ يخلو من كل ما يربطني بالثأر، ورغبات الانتقام، لأحيا كباقي البشر الأسوياء حياة طبيعية، بعيدة كل البُعد عن مشاعر العداء الممميت المعروفة بين أوساطنا. صوت الضحكات المجلجلة لخالي كان يرن في البهو المتسع لهذا المنزل الضخم، كنت أستطيع تمييزه وأنا لا أزال أقف في الطابق العلوي، أعلم أن رومير يبذل قصارى جهده لاسترضاء من يمقتهم لأجل أهوائه ومصالحه، وليس لخاطري بالطبع.

تلكأت في خطواتي وأنا أهبط الدرج، كنت بالفعل قد ارتديت هذا الثوب الأنيق رغم تحفظي على لونه؛ لكني لن أنكر مدى اتساقه مع قوامي الرشيق، وملائمته للون بشرتي، كنت ممتنة لكونه طويلاً لا يبرز ساقاي، حتى كُميه المصنوعان من الدانتيل كانا يصلان إلى مرفقي. رفعت يدي لأتحسس صدري النابض في توترٍ وأنا أتأكد من إخفاء مفاتني، بالرغم من الاستدارة المغرية الظاهرة في الثوب. حاولت جاهدة ألا يصدر كعب حذائي فرقعات مدوية على الدرج أثناء تحركي عليه، فلا ألفت الأنظار إليّ. سبقتني صوفيا في النزول، وسمعتها تنطق باسمي بعد ضحكات قصيرة تبدو أنها مفتعلة، كما لو أنها تحاول تحسين الموقف المتأزم بعد تصرفي الأخير وتجميله بلباقتها المشهودة.

بغيرِ قصدٍ، وحينما اقتربت من البقعة المجتمعون فيها في شكل دائري، وجدتني ألتفتُ برأسي ناحية فيجو، دونًا عن غيره، لأنظر إليه بتحدٍ، وبلا ضعف، لا أعرف السبب تحديدًا للتصرف بهذه الطريقة الطفولية. أمسك بعيني وهما تعبران عن بغضي الصريح له. على ما يبدو لم يكن مكترثًا بكراهيتي، كأنما كان معتادًا على ذلك مني، بل إنه طالعني بنظراتٍ فاحصة، مترقبة، ثابتة، ونافذة، تُشعرك بأنك مجرد من أي شيء قد يحجبك عن نظراته العميقة، نظراته كانت شبيهة للغاية بتلك النظرات التي صاحبتني في هذياني. رغمًا عني اضطررت لقطع التواصل البصري الحانق من ناحيتي، لأنظر إلى والدتي التي استقبلتني بوداعةٍ، كأنما تُعاود تقديمي إليهم:.

-تعالي قطعة السكر، نحن في انتظارك.
بتُ أكره هذا اللقب المدلل لأنه تحول لنوعٍ من السخرية، خاصة أمام من أمقتهم. تنفست بعمقٍ، وتقدمت نحوهم وأنا أجاهد لإخفاء هذا التوتر المُلبك الذي أصابني فجأة، ربما لأن معايشة هذه النوعية من المواقف لم يكن مستحبًا لي على كل حال. تأكدت من رفع هامتي وأنفي للأعلى عندما أصبحت قريبة منهم، سرعان ما تحول ارتباكي لكتلة من الغيظ عندما نطق لوكاس بوقاحةٍ ساخرة:.

-النمرة الشرسة عادت لوعيها أخيرًا.
اتجهت أنظاري الكدرة إليه، ورمقته بغضبٍ قد بدأ في التجمع في حدقتي، حتى ذهني استحضر تهديده المستفز لشقيقتي. ابتسم وهو يغمز لي فاشتطت غضبًا، كأنما يتعمد إغاظتي بأسلوبه المزعج، ربما على وشك أن ينجح في إخراجي عن هدوئي الزائف لأندفع ناحيته، وأطبق في عنقه غير عابئة بتحذيرات خالي، ولا بغضب البقية، لن يخلصه من قبضتي إلا الموت. سمعت صوت مكسيم يناديه في لهجةٍ صارمة:
- لوكاس!

رفع كفيه في الهواء، وتابع باسمًا بسماجةٍ:
-أنا أتسلى مع كنتنا الشقراء.
ثم أردف موجهًا حديثه إلى شخصي وهو يضم أصابعه معًا لتبدو كالسلاح الناري:
-انظري، لم أمت بعد، تحتاجين لتحسين مهاراتك في التصويب إن أردتِ قتلي.
سخريته مني كانت جلية، مهينة إلى حدٍ ما، كما أنها جعلتني محط أنظار الجميع أكثر، لهذا لم أقبل تهكمه الفظ، وحدجته بتلك النظرة الهازئة وأنا أتحداه قائلة:
-سأعمل على ذلك في المرة القادمة.

هنا هدر خالي في حدةٍ، كأن اللوم من اختصاصي فقط:
- ريانا!
افتعلت الضحك وأنا أخبر رومير دون أن تحيد نظراتي عن وجه لوكاس الحانق:
-أنا فقط أمزح معه خالي، لماذا أنت منزعج؟
تجاوز عن السخيف من ردودي، وصاح في حزمٍ:
-دعكِ من هذا الهراء، وأخبريهم بما تحدثنا فيه بالأعلى.
خاطبني لوكاس في نبرة مستفزة:
-هيا يا حلوة، أتوق لرؤيتك تركعين...

اختلج وجهي أمارات الغيظ سريعًا، وانتشرت في كامل ملامحي، بالكاد منعت نفسي من شتمه، فقبضت على يدي كوسيلة لكبت مشاعري العدائية تجاهه. اللعين واصل نهجه الحقير معي فاستأنف بتلميحٍ متجاوز للغاية مصحوبًا بغمزة وقحة من عينه:
-ليس لي فقط، ولكن ل فيجو، وحينها ستصرخين من المتعة.

فتحتُ عيناي على اتساعهما من صدمتي لوقاحته غير الخجلة، وعفويًا التفت ناظرة إلى فيجو الذي بدا هادئًا للغاية، كأنما لم يثر الأمر حفيظته، بل كان يشملني بنظرة دقيقة، ثاقبة، تكاد تخترق الثوب لترى ما بأسفله، ربما جعل بكلماته الخيالات الجامحة تلعب في رأسه، كتفت ساعداي أمام صدري لأخفي البروزات الظاهرة على ثوبي، ورددت في عدائيةٍ أكثر وضوحًا:
-لا تقلق، سأصرخ على جثته فقط.

كادت يد رومير تطال خدي لصفعي كتقريعٍ لما اعتبره إخفاقًا في ضبطي؛ لكن استوقفه صوت مكسيم الحازم والمشدد:
-لا تفعل!
احتميت خلف والدتي التي تقدمت أمامي لتمنعه من البطش بي، فراح يبرر بخجلٍ فشله في تهذيبي:
-أعتذر منك مكسيم، لم أنجح في تأديبها كما ينبغي، أنا واثق أن فيجو سيجعلها زوجة مثالية.

استطعت أن ألمح فيجو من طرف عيني وهو يتحفز في وقته، وكأن يتأهب للتدخل إن ساءت الأمور، مما أثار دهشتي إلى حدٍ ما. بادر لوكاس بالرد في نبرة موحية:
-صدقني هو أفضل من يُخضع النساء.

ثم أطلق ضحكة عالية كأنما يؤكد على مهاراته الفريدة والفذة في إجبار النساء على طاعته الطاعة العمياء، وأيضًا إشارة ضمنية لعلاقاته المتعددة مع الجنس الآخر؛ كأنها مسألة تدعو للفخر برجولته. المزعج في ذلك أن فيجو لم يعلق مُطلقًا عليه، كان على ما يبدو قليل الكلام، وهذا ضايقني بشكلٍ ما، لكونه يجعله جامعًا بين النقيضين في نفس الوقت: الغموض لاجتنابه، والفضول لاكتشافه.

لن أنكر أني شعرت في قرارة نفسي بنظرات فيجو مرتكزة على هذا الجانب من وجهي، والذي ما تزال آثار أصابع خالي ظاهرة عليه، أردت أن أُريه مدى صلابتي في تحمل الأذى، لذا لن يكون من السهل عليه إخضاعي كما يردد الأحمق ابن عمه، أنا لست كأي امرأة عرفها، ولست كغيري من النساء!

في هذه الأثناء، لم انتبه ل لوكاس وهو يتحرك من موضعه ليقف إلى جواري، فقد تغير مجرى الحديث لمسألة أخرى غير اعتذاري، فارتحت لذلك؛ لكن ما لبث أن اقشعر بدني وأنا أسمع همسه القريب من أذني:
-لقد استمتعت بتخديرك في كل مرة، تُرى هل تذكرين ما فعلته بكِ؟

تحول خوفي الغريزي في طرفة عين إلى غضبٍ مستعر، وأنا أتخيل مجرد التخيل أنه تجرأ ولامس مواطن جسدي المحظورة بغير احترام خلال فقداني للوعي. التفتُ إليه وأنا أرفع يدي لأصفعه على وجهه؛ لكنه كان كمن يتوقع الضربة، فأمسك بمعصمي وأوقفه قبل أن أحركه شبرًا واحدًا لأجده بعدها يبتسم لي في شماتة وهو يهمس لي:
-لن ينزعج فيجو إن تزوج بكِ بذراعٍ ناقصة.

انتزعت رسغي من قبضته وأنا أكز على أسناني ألعنه في سري، يا ليته يحترق حيًا في الجحيم! تراجع بعيدًا عني وهو يدندن بصافرة سمجة مثله، فلم أبعد ناظري عنه إلا عندما رأيتُ فيجو يتابع ما يحدث بيننا بنظراتٍ نارية تحوي شيئًا يزيد من رهبتي. تحاشيت هذه النظرات، واختبأت خلف والدتي، لعلها توفر لي بعض التغطية حتى ينتهي كل ذلك.

على غير المتوقع، سادت حالة من الهرج بالخارج، استطعنا جميعًا سماع الصخب والصيحات المصحوبة بإطلاق أعيرة نارية كثيفة، جعلتنا ندور برؤوسنا في كافة الأرجاء، أدركت وجود كارثة ما لا يعلم من بالداخل عنها شيئًا، فغريزيًا التصقت بوالدتي لنتحمي بجسدينا معًا، تأكدت من مخاوفي باندفاع أحدهم نحو البهو من الباب الرئيسي وهو يردد بلهاثٍ مُخاطبًا الزعيم مكسيم:
-أيها الرئيس، جماعة أليكسي يحاوطون المكان.

لم يكن الاسم غريبًا على مسامعي، لقد تردد في بعض المرات حينما كان يأتي خالي لزيارتنا في ميلانو ويجتمع مع بعض القادة بمنزلنا هناك، ليتناقشوا في أمر هذه الجماعة. بدأت ذاكرتي في العمل بنشاط، واستجمعت في ذهني بعض المعلومات الأولية عنهم، إنهم أفراد عصابة ينتمون للجانب الروسي، الأشرس على الإطلاق، كانوا –وما زالوا- يتنافسون مع العصابات الإيطالية في فرض سطوتهم على مدينة شيكاغو، وبالطبع كل فترة يحدث صدام عنيف بين الجانبين، يخلف ورائه عشرات القتلى، والضحايا، والأرامل، واليتامى. تنبهت لصوت فيجو وهو يقول للمرة الأولى بعد صمتٍ طويل بما يشبه الزئير:.

-لا أحد يعلم بأمر تواجدنا هنا.
علق مكسيم عليه وهو يخرج سلاحه من حامل جرابه
-هناك خائن بيننا!
ثم وجه أوامره للرجل مشيرًا بإصبعه:
-أحضر كل الرجال، واستعدوا للمواجهة.
رأيتُ بعد ذلك كلاً من لوكاس و فيجو مدججان بالأسلحة، وينطلقان صوب المدخل خلف رجل مكسيم، شتت نظراتي عنهما لأحدق في وجه خالي وهو يأمرني مع والدتي، ليستحثنا على التحرك:
-وأنتم هيا، إلى الداخل.
سألتني صوفيا وهي تحاوطني بذراعها:
-من هؤلاء؟

أنكرتُ علمي بهويتهم قائلة في خوفٍ محسوسٍ في نبرتي:
-لا أعرف أمي.

قادني رومير مع والدتي إلى الرواق الجانبي، حيث يؤدي بعد بضعة أمتارٍ إلى سلمٍ غير مرئي يهبط للأسفل، رفعت طرف ثوبي، ونزلنا عليه في سرعة حتى وصلنا لقبوٍ شبه معتم. على نحوٍ غريب، بدا مألوفًا بالنسبة لي، تغاضيت عن خاطري السريع، لأمسح بنظراتٍ شمولية المكان، حيث كان متسعًا، ومقسمًا إلى عدة حجرات مغلقة الأبواب. كنتُ قد ألفت شبيهتها عندما تم احتجازي على يد فيجو وابن عمه. أرشدنا خالي نحو الحجرة الأخيرة، بعد أن فتح بابها المقفول، ولدهشتي، كانت نفس الغرفة التي بقيتُ محتجزة بداخلها بعد أن تمكن الوضيع لوكاس من الإمساك بي!

استحوذ على تفكيري في هذه الثواني الفارقة، ما عايشته من لحظاتٍ حرجة حينما استوليت على السلاح الناري، وبدأت في إطلاق النار بصورة عشوائية، صحيح أني أخطأت التصويب، ولم يتعرض أي أحد للسوء، إلا أني ظللت على حالة التردد المصحوبة بالخوف، لن أنكر أن عدم إدراكي لما حدث لاحقًا كان جيدًا إلى حدٍ ما، فأنا لا أحتمل المزيد من الضغوطات المهلكة للأعصاب. انتشلني من دوامة هلاوس يقظتي صوت رومير المحذر بوجهٍ غائم:.

-لا تبرحا المكان، وانتظرا هنا.
هتفت والدتي تسأله في ذعرٍ منتشر في كل ذرة من كيانها:
-أين ستذهب وتتركنا؟
أجابها وعيناه تدوران في الحجرة بقلقٍ بالغ، كأنما يفتش عن شيءٍ بعينه:
-سأتفقد الخارج مع باقي الرجال.
سمع ثلاثتنا صوتًا يصدح عاليًا من بعيد:
-تم اختراق الجانب الغربي!
أتبع ذلك دوي طلقات عنيفة من بنادق آلية، انحنيت مع والدتي للأسفل بشكل غريزي للاحتماء من أي أعيرة غادرة، بينما دمدم خالي في حنقٍ:.

-اللعنة، لقد أتوا مستعدين هذه المرة.
كلماته كانت مليئة بالغموض والحيرة، حيث لم أفهم سبب كل ذلك الارتباك والتوتر؛ لكن على ما يبدو فالخطب جلل، وإلا لما ساد الهرج من حولنا. رأيتُ والدتي تندفع نحو شقيقها وهو عند عتبة الباب، تعلقت بذراعه، وتوسلته برعشة واضحة في نبرتها:
-لا تتركنا بمفردنا هنا، أنا مرعوبة للغاية.
انتزع قبضتها من على ساعده، وخاطبها في عنادٍ يحمل في طياته الإهانة:
-أنا لست امرأة لأختبئ!

نظرت له بتأففٍ، فالموقف لا يدعو للظهور بمظهر الرجولة الزائفة من عدمه، لكون الموت ببساطة لا يفرق بين أحدٍ حين يأتي لحصد الأرواح! أسرعت ناحية والدتي لأحتويها، وحاوطتها بكلتا ذراعي هاتفة في هدوءٍ:
-لا تخافي أمي، أنا إلى جوارك.

كانت ترتجف بشدة، ووجهها مع نظراتها خير دليل على مدى الارتعاب الذي يسيطر عليها، خفَّض خالي من الإضاءة، فأصبح المكان يغرق تقريبًا من الظلام، وقبل أن ينصرف وجدته يخاطبني في صوتٍ يجمع بين الأمر والحزم:
-احملي هذا.
أمعنتُ النظر في وسط العتمة السائدة فيما بسطه في يده، فرأيت سلاحًا صغيرًا محشوًا بالطلقات، خفق قلبي مرتجفًا، وسألته بعينين متسعتين في حيرةٍ مذعورة:
-ماذا سأفعل به؟

جذبني من معصمي ناحيته، ودسه في راحتي قائلاً بخشونة:
-استخدميه عند اللزوم.
لم يضف المزيد، وتركني ليلحق بالبقية، فاستدرت مُتطلعة إلى صوفيا المنكمشة على نفسها بخوفٍ يماثلها. جاهدت لتخبئة مشاعري المرتاعة، وتكلمت بخفوتٍ:
-لن يحدث لنا شيء، نحن في منأى عن الخطر.

وددتُ لو استطعت تصديق ما تفوهت به حقًا، أننا نبعد عن مكمن الخطر؛ لكني غير واثقة من تبعات هذا الهجوم المباغت على واحدة من أشهر العصابات في المدينة. من تلقاء نفسي تحركت نحو الباب لأغلقه، واستخدمت المقعد الخشبي لأحشره بين المقبض والأرضية، لأضمن بقائه موصدًا، على الأقل لحين التأهب والاستعداد للمواجهة الحتمية.

مضت الدقائق علينا ثقيلة، مستنزفة للأعصاب، كنت أرى صوفيا وهي تعضُ على أناملها من شدة خوفها، دفعتها للاختباء معي أسفل المنضدة المستطيلة، وجثوت على ركبتي انتظر بترقبٍ الخطوة التالية. ارتفع الصخب مجددًا، وعلا دوي تبادل إطلاق النيران، فبدا قريبًا للغاية، شهقت والدتي صارخة، فمددت يدي نحو فمها لأساعدها على كتم أصواتها الخائنة، نطقت من بين نحيب بكائها:
-أنا خائفة للغاية!

رددتُ هامسة وأنا أضغط بيدي الخالية من السلاح على كتفها:
-اهدئي أمي، ولا تصدري أي صوت، وإلا سمعونا.
هزت رأسها بتوترٍ شديد، قبل أن تتمتم:
-حسنًا.
انقضت لحظة عليها قبل أن تعاود الهمهمة في ارتجافٍ متعاظم:
-لماذا تركنا خالك، أليس من المفترض أن يبقى لحمايتنا؟ وأين فيجو و مكسيم؟
لم ترَ والدتي النظرة الساخطة التي احتلت وجهي وأنا أسمع عبارتها الأخيرة، لأنطق بين جنبات نفسي في سخريةٍ مريرة:.

-لا يظهرون شجاعتهم إلا على النساء.
صرخة غادرة انفلتت من بين شفتي صوفيا عندما صاح أحدهما من مسافة قريبة للغاية منا:
-إنهم هنا!
مرة ثانية كتمت فمها بكلتا يديها في ندمٍ لا يخلو من الذعر وهي تنظر لي من خلال الضوء الخافت المتسلل من النافذة المستطيلة الصغيرة التي تعلو الحائط الجانبي، انتظرت ابتعاد صوت الأقدام لتسألني في فزعٍ:
-هل سمعونا؟
قلتُ بتحيرٍ حقيقي:
-لا أعلم أمي، حقًا لا أعلم.

سيطرت عليها نوبة أكبر من الهلع وهي تردد برعشاتٍ متزايدة:
-سنموت، سيذبحون رقابنا.
رُحت اطمئنها رغم عدم يقيني من ذلك:
-لن يجرؤا!
أخذت صوفيا تهسهس في رجفةٍ واضحة مليئة بالندم وهي تضع يدها على عضدي لتتشبث به:
-يا ليتني لم أتِ إلى هنا!

في هذه الأوقات العصيبة، كم رجوت لو كانت شكوكي غير صحيحة، ولم يعلم أي أحد بتواجدنا في هذه الغرفة السُفلية! اتخذت حيطتي، وأحكمت قبضتي على السلاح، ووجهته ناحية الباب المغلق، فإن أقدم أحدهم على اقتحام المكان، ضغطت في التو على الزناد وأرديته قتيلاً. سحبت أنفاسًا عميقًا لأهدئ بها من روعي؛ لكن الأدرينالين المتدفق في دمائي حال دون حدوث ذلك، التفت ناظرة إلى إلى صوفيا أطلب منها بصوتٍ خافت:.

-لا تصدري صوتًا أمي.
اشتدت قبضتها على معصمي وهي تخبرني في همسٍ مذعور:
-أنا خائفة للغاية، لا أريد أن أموت.
أخبرتها مؤكدة:
-لن يمسك سوء.

بالكاد مضت بضعة ثوانٍ قبل أن يدفع أحدهم الباب المغلق بدفعة قوية، جعلت الكتلة الخشبية تهتز، والمقعد يرتج في موضعه، انتفض كلانا في خوفٍ، وتعلقت والدتي بمرفقي، كنت في قمة خوفي وقتئذ، تجمدنا في مخبئنا، آملين أن ينجدنا أحدهم في الوقت المناسب. دفعة أخرى قوية أطاحت بالباب والمقعد الذي يثبته، لينفتح على مصراعيه، وصراخ والدتي قد راح يملأ أركان الغرفة تأثرًا بما يحدث.

اقتحم المكان عدة رجال غرباء، كانوا يتحدثون بلكنةٍ غريبة، من موضعي ودون إضاعة وقتٍ في التخمين ضغطت على الزناد لأصيب من استطيع منهم، وبالفعل نجحت في إصابة قدم أحدهم، وأخطأت في البقية، مهاراتي في التصويب تحت الضغط تحتاج للتمرين، رنت كلمات لوكاس الهازئة مني عقلي عندئذ.

كنت أريد الانتقال من موضعي لبقعة أفضل أجيد فيها التصويب؛ لكن ثوبي أعاقني عن الحركة بخفة، تعثرت فيه وأنا أحاول النهوض من أسفل المنضدة، لاتجه للناحية العكسية، مما عزز من فرصة خصمي لاستغلال الموقف، حيث دنا مني فردًا من هذه الجماعة المُميتة، وأطاح بالسلاح من يدي بمهارةٍ وعنف، قبل أن يجذبني من رسغي إليه، لارتطم في قسوةٍ بصدره الصلب، أدارني في سرعة ليكون ظهري لصيقًا به، ثم حاوط عنقي بذراعه، وضغط به على مجرى الهواء، قاصدًا خنقي.

رغم القبض عليّ إلا أن خوفي على صوفيا فاق خوفي على نفسي، فتحولت أنظاري نحوها لأجدها جاثية على ركبتيها، وأحدهم يوجه فوهة سلاحه ناحيتها، صرخت بغريزية:
-أمي!
رأيتها وهي تزحف للخلف وكلتا يديها مرفوعتين في الهواء تتوسل هذا القاتل ألا يمسها، برقت عيناي في اتساعٍ شديد، وهتفت استجديه متوسلة بصوتٍ مختنق:
-لا تفعل، أرجوك.

لم يصغِ إلي، وضغط بغير ندمٍ على الزناد ليجعلها تتكوم أرضًا، وبقعة من الدماء راحت تتفجر من عند كتفها، حينئذ انتفضت اتلوى تحت قبضته المحكمة، لكزته بكوعي في جانبه بكل ما اعتراني من قوة محاولة التحرر منه، وصوت صراخي المفطور يجلجل عاليًا، حتى كاد من شدته يخترق الجدران...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة