قصص و روايات - روايات عالمية :

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الخامس عشر

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الخامس عشر

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الخامس عشر

بأسلوبه الحازم العتيد الذي اعتاد ممارسته على من حوله، مهما بلغت درجة قرابتهم منه، فرض عليّ واقعًا صادمًا، حين نطق بجملته المقتضبة، مما جعل شفتاي تفتران في ذهولٍ مستنكر، كنتُ كمن تم صعقه بجهاز الصاعق الكهربائي، تبلدتُ، وشُلَّ تفكيري للحظاتٍ، وعقلي يرسم تجسيدًا لمستقبلٍ غارق في الظلام. جاهدت لأستفيق من صدمتي، وبذلت أقصى طاقتي لأضبط انفعالاتي، فلا تتعقد الأمور أكثر مما تبدو عليها. ظهر الاحتجاج في نظراتي، ولمحة منه انعكست في نبرتي عندما قلتُ بدبلوماسيةٍ:.

-إنها ما زالت صغيرة، ولديها الكثير لتفعله قبل أن تتزوج.
من موضعه البعيد عني، رمقني بهذه النظرة الجوفاء القاسية قبل أن يخاطبني في لهجةٍ غير متساهلة:
-لا رأي لكِ، أو لها...
احتقنت عيناي غيظًا منه، وتجهمت قسماتي بشكلٍ لافت، وزاد ذلك وضوحًا وهو يتم جملته:
-حُسم الأمر، فلا تجادلي فيه.
رددتُ بحرصٍ، وقلبي يفيض كمدًا:
-أنا لا أجادل؛ لكنها مفاجأة.
ضحك في سماجةٍ، وقال كأنما يسألني وهو يسحب مقعده الضخم ليجلس عليه:.

-مفاجأة سارة؟ أليس كذلك؟
لم أجبه، فلن أدعي كذبًا أن خبره الصادم جعلني أطير فرحًا، بل إنه حطم كل آمالي وتوقعاتي في إخراجها من هنا سالمة، دون مساس. انتبه له مرة ثانية عندما واصل الحديث:
-كما أني سأخبر صوفيا بالأمر، كنتُ انتظر انتهاء العرس لأطلعها عليه.
غاص في مقعده، وأخذ ينظر إلى ما لديه من أوراق مطروحة على سطح مكتبه، ناديته برقةٍ، كأنما استحث مشاعر الأبوة فيه:
-عمي مكسيم.

رفع ناظريه إلي قائلاً بلهجة جادة:
-لا تشغلي بالك بهذه المسائل، وابحثي عن طرقٍ تسعدي بها فيجو، فهو صعب المراس.
زويت ما بين حاجبي، فأكمل مبتسمًا في لؤمٍ، كما لو كان يتعمد استفزازي:
-كما أن أنثى واحدة لا تكفيه!
برقت نظراتي في إنكارٍ منزعج لوقاحته، وتقليله من شأني بطريقة ملتوية، أصاب هدفه، وأوغر صدري، فاستراح مبتسمًا، ثم قال بمكرِ الثعالب، وكأن وظيفتي معروفة مسبقًا:.

-مهمتك شاقة معه، فأنا أريد الأحفاد يركضون من حولي.
كورت قبضة يدي المسنودة إلى جانبي، محاولة ألا أظهر ضيقي الشديد من تلميحاته المستفزة، حافظ مكسيم على سخافة ابتسامته المتكلفة، وطردني بلباقةٍ:
-هيا يا حلوة، اذهبي.
ودعته دون كلامٍ، اكتفيت بابتسامةٍ لطيفة، أخفيتُ ورائها حنفي، سلطت نظراتي التي احتوت على بغضًا متواريًا نحو الباب، ثم غادر الغرفة وأنا أبرطم بكلماتٍ ناقمة، لم تفارق جوفي مطلقًا.
كانت البداية غير موفقة، فكيف إذًا ستكون النهاية؟ حتمًا لن تكون كما أرجو، تلكأت في سيري، وعقلي يكاد ينفجر من عجزي عن التفكير، بحثتُ عن مكانٍ هادئ في هذا القصر المتسع، لأجلس فيه بمفردي معزولة عمن حولي، لا أريد لأحدهم أن يزعجني الآن، فقد تعقدت الأمور، وأنا بحاجة للحظاتٍ من السلام النفسي لأفكر بذهنٍ صافٍ، فقد بدا وكأن عصارة أفكاري قد جفت من عقلي. خارج هذا القصر الضخم، المساحات الخضراء هنا شاسعة، متتدرجة في خضرتها، تتوه فيها من شدة اتساعها، لهذا لم أجازف وأتجول فيها بمفردي، وفضلت المكوث في الفناء الخلفي، والمخصص لدخول وخروج العاملين والخدم.

كان المكان مثاليًا للظفر بعزلةٍ بسيطة، ففي هذا الوقت عادة يكونوا مشغولين بتحضير الطعام.
جلست بالقرب من أحد أحواض الظهر، على العشب الأخضر، وارتكنت بظهري على الحاجز الحجري، لأتطلع بعدها في السماء الزرقاء بنظراتي الحائرة، فركت جبيني عدة مرات، ولساني يردد في تحيرٍ أكبر:
-ما العمل الآن؟
نفخت في سأمٍ يائس، وتابعتُ وشعوري بالعجز ينتشر في أعماقي:
-لا أستطيع إخبار آن.
عبست ملامحي، وأكملتُ بلا صوتٍ:.

-حتمًا ستجن، وقد ترتكب حماقة جسيمة.
أرحتُ يدي على العشب النضر، فشعرت بملمسه الطري على جلدي، أبقيتُ ناظري على الفضاء السماوي، وخاطبت نفسي:
-إنها متحمسة للتعليم والرياضة، كيف أقضي على أحلامها ببساطة؟
انتفضت كليًا في جزعٍ عندما سمعتُ صوتها ينادي:
- ريانا، أنتِ هنا؟

نظرت إليها بعينين مذعورتين، أحسستُ بفرار الدماء من عروقي، بخفقةٍ وجلة تضرب بعمق فؤادي، وكأني كنتُ أخشى من امتلاكها لقدرة غير طبيعية على التخاطر، وقراءة أفكاري. ظلت نظراتي ناحيتها متوترة، بلعتُ ريقي، وابتسمتُ لأخفي خوفي، تمددت على الأرضية إلى جواري، وهتفت في تشوقٍ:
-كنتُ أبحثُ عنكِ، وأنتِ تختبئين هنا؟
رددتُ ممازحة وأنا أرفرف بجفوني:
-أنا لا أختبئ، فقط كنت أستريح.
سألتني دون مقدماتٍ:.

-هل قابلتي مكسيم؟ هل تحدثتي معه؟
صمتُ لهنيهة، وتحاشيت التطلع إليها، وقلتُ كذبًا:
-لم أتمكن.
على ما يبدو لم تستوعب كلامي، فسألتني مستفهمة:
-ماذا تقصدين؟ لم أفهم.
ازدردت ريقي، ورسمت بسمة مهزوزة على ثغري موضحة لها:
-هو مشغولٌ، طلب مقابلتي لاحقًا.
علقت ساخرة في سخطٍ وهي تُعيد ذراعيها للخلف لتستند على كفيها:
-بالطبع، فقتل البشر أهم.

ارتفع صوتها نسبيًا مع جملتها الأخيرة، لذا حذرتها في توجسٍ، وأنا ألتف حولي برأسي لأتأكد من عدم متابعة أحد لنا:
-أخفضي صوتك.
ردت في تصميمٍ، كأنما تعاندني:
-هل أقول غير الحقيقة؟ إنهم قتلة!
نفخت في ضيقٍ، وهتفت وأنا أحيد بنظراتي عنها:
-إذًا لا تشتكي إلي حينما يضايقك أحدهم.
قالت في تبرمٍ:
-حسنًا، سأصمت.

ابتسمتُ في امتنانٍ لانصياعها بالرغم من نظرات الاحتجاج الظاهرة على وجهها، سكتُ لدقيقة إلا من صوت أنفاسي العميقة، كان مسموعًا إلى حدٍ ما، وظللتُ أَلفُ خاتم الخطبة في لفاتٍ رتيبة متكررة حول إصبعي كحركة لا شعورية مني، إلى أن لفتت آن انتباهي بقولها:
-أرى أن الخاتم قد أعجبك.
توقفتُ عن تحريكه، ونظرتُ إليها متسائلة ببلاهةٍ طفيفة:
-ماذا؟
أشارت بعينيها نحوه مفسرة:
-لم تتوقف يدك عن العبث به.

عللتُ بنبرة غير ثابتة، وأنا أبسط أناملي:
-أنا فقط متوترة آن، لهذا أديره حول عُقلتي، إنه لا شيء.
استعدت لتنهض من جواري، وقالت في إحباطٍ:
-أخشى أن ترضخي ريانا، وتنتمي لهم.
جزع قلبي لتصريحها، وهتفت نافية في لوعةٍ وأنا أراها تهم بالمغادرة:
-لا تقولي هذا، لن يحدث أبدًا.
قمتُ من مكاني، لألحق بها، أوقفتها بالإمساك بذراعها، وعاهدتها مؤكدة:
-أنا لن أتركك لهم.
صاحت في حدةٍ وهي تشيح بذراعها الآخر:.

-كيف؟ إن كانت كل الأبواب تغلق في وجهك!
نطقت بنزقٍ، وكأني أمنحها حلًا سحريًا لتصمد:
-سأحاول مع فيجو.
نظرت إلي مليًا بعدم تصديقٍ، وخاطبتني في تهكمٍ سافر:
-وهل رأس الشيطان هذا يسهل خداعه؟
وفقًا لأفعاله، فإنها أعطت الوصف المناسب لشخصه، فمن نتحدث عنه يتسم بذكائه الحاد، وبدهائه الكبير، وبالتالي أنا أمام معضلة حقيقية. لاحظت آن سكوتي، فقالت:
-ألست محقة؟
جاوبتها في ترددٍ:
-نعم.

كانت على وشك الذهاب؛ لكني قلتُ فجأة لأجعلها تقف في مكانها مذهولة، وبفمٍ مفتوح:
-سأجعله يقع في حبي!

لو لم أكن متيقظة ذهنيًا، ولا أشكو مرضًا، لظنت شقيقتي أني أعاني من الهذيان أو الحمى، وإلا لما نطقت بهذا التصريح المخيف الذي أصابني بالتلبك والارتجاف في نفس الوقت! أبصرتُ نظراتها نحوي، كانت تعبر عن دهشة عظيمة، التزمت الصمت لأراقب ردة فعلها، كانت متجمدة، متجهمة الوجه للحظاتٍ قبل أن يتحول عبوسها إلى ضحكات هازئة، مستخفة بي. لم أقاطعها، وتركتها تستمتع بسخريتها، فأنا مثلها لا أصدق ما أفصحت عنه، يكفي أن أكون سببًا في التهوين عليها. من بين ضحكاتها رددت وهي تشير بيدها:.

-أنتِ تمزحين؟
كتفتُ ساعدي أمام صدري، وأخبرتها في وجهٍ جاد التعبيرات، وكذلك بتصميمٍ عجيب:
-بالطبع لا، سأجعله يعشقني حتى النخاع، يذوب قلبه في حبي.
مطت فمها في استهزاءٍ أكبر، فتغاضيت عن علامات السخرية الجلية لأتابع:
-ووقتئذ سأطلب منه إرسالك بعيدًا، إرضاءً لي.
توقفت عن الضحك، ووضعت يديها على خصرها، لتقول في مرارةٍ:
-أنتِ حالمة، أمثاله يعتبروننا أوعية لإفراغ رغباتهم المكبوتة، لا أكثر من ذلك.

من كلامها المفعم بالأسى بدت المصائر محتومة، لا سبيل للخلاص، أطبق الصمت علي، ونظرت إليها بتخبطٍ، استشفت عجزي عن الرد عليها، فزادت من توضيحها لئلا أحلق في سماء الأحلام كثيرًا:
-كما أني لا أظن أنكِ ستنجحين في إخضاعه بأكذوبة الحب.
تحليتُ بفضيلة الصبر، وخاطبتها في تعقلٍ وأنا أحل تشابك ساعدي، لأضع كفي على كتفيها:.

-انظري آن، ربما أنتِ محقة لأني لا أوليه الاهتمام الكافي، دومًا أصده، أو أعامله بجفاءٍ، وحين يشعر بالنشوة الذكورية بوجودي معه سيتغير.
هزت رأسها في استنكارٍ، وأصرت قائلة:
-ما زالتُ عند رأيي.
ضغطتُ برفقٍ على عظام ترقوتها، وأكدت لها ببسمة صغيرة:
-لا تتشائمي.
جاءني ردها مباشرًا
-لا أريد التعلق بأوهامٍ واهية، فلا تحاولي رجاءً.
أكدت لها بعنادٍ:
-صدقيني، سأنجح.
أزاحت يدي عنها، والتفت عني هاتفة:
-لن تفعلي!

سرتُ إلى جوارها متسائلة في غرابةٍ:
-لماذا؟ هل تشكين في قدراتي؟
توقفت عن المشي، لتستدير ناحيتي، مجددًا نظرت في عمق عيني مؤكدة بحقيقة ما زالتُ غير قادرة على الاقتناع بها:
-لا، ولكنه غير قابل للحب!

منحتني هذه النظرة الواثقة، لتربت على جانب ذراعي، ثم وَلَّت مغادرة، وبقيت في مكاني أشيعها بنظراتي وهي تختفي عني، لأسرح بعدها في أفكاري المتخبطة بعد نقاشنا الجاد هذا، محاولة إعادة تقييم الوضع وفقًا للمستجدات فيها.

(غير قابلٍ للحب)، جملة قاسية، تبرز مدى صعوبة ومشقة مهمتي، كيف بأي حال سأجعل هذا القاتل المُجرد من الإنسانية منزوع المشاعر يهيم بي شوقًا؟ حقًا أن أتحدث عن معجزة إلهية في وقت لا تحدث فيه المعجزات! فماذا عني أنا ريانا؟ هل أهتم بمساعدة شقيقتي بالفعل؟ أم أنها مجرد حجة منطقية أُقنع بها نفسي لأتغاضى عما يراودني من آن لآخر حين يتواجد فيجو في محيطي؟ هل أستغل ظروفها، وأطيعها على طريقتي لأشبع شيئًا يبزغ بداخلي؟

ارتجفت للفكرة، وحاولت ألا أعزز من هذه المشاعر السخيفة، مستنكرة إياها بشدة، ومؤكدة لنفسي:
-أنا لستُ هذا الشخص اللئيم، ولن أدع هذه الخواطر الغبية تعاود الظهور في عقلي.
يبدو أن البقاء بمفردي لمدة طويلة يجعلني أنساق وراء ما لا أحب، لهذا بقدرِ ما أستطيع دفعتُ هذه الأفكار بعيدًا عن ذهني، وانتصبتُ في جلستي، مرددة في جدية تامة وبصوتٍ خفيض:
-سأفعل ما أفعله لأخرج آن من هنا، فقط لا غير!

نهضتُ بعدها من موضعي، لأخرج من الشرفة، رافضة أن أدع نفسي لوحدتي التي تستثير في كياني ما لا أحبذه.

ذهبتُ بعد برهةٍ إلى غرفة الاستقبال، حيث كانت تجلس والدتي، لم أرها معظم اليوم، اختفت على نحوٍ غامض، وحتى وقت الغذاء لم تكن حاضرة، وشقيقتي أرادت الاستلقاء في غرفتها، فتركتها على حريتها لأفتش عن صوفيا بعد أن عرفت بعودتها. اعتقدتُ أنها ذهبت مع مصممة الديكور للإشراف على وضع التصاميم النهائية، فقد تم تخصيص مكان غير هنا لإقامة حفل الزفاف، تجنبًا لمخاطر التعرض للهجوم، أسرعت في خطاي، واتجهت إليها، ناديتها عدة مرات، فلم تنتبه لي، مما أصابني بالشك والقلق، حين وقفتُ خلفها، وجدتها تحدق بتركيزٍ شديد في صورة فوتوغرافية قديمة، تتموضع في المنتصف بين عدة شبابٍ، حاملة لرضيعة صغيرة.

كانت صوفيا آنئذ في أوج صباها، وجمالها الفاتن، تبتسم بسعادة وبهجة. أمعنتُ التدقيق في تفاصيلها، بدا من حولها مألوفين لي، لقد كانوا مثلها في أعمارٍ أصغر. قلتُ مبهورة، وأنا أجلس على مسند الأريكة لأتأملها معها:
-أوه، صوفيا، إنها رائعة.
حركتها والدتي للجانب قليلًا لأراها بوضوحٍ، فسألتها في فضولٍ:
-من أين أتيتي بهذه الصورة؟
أجابتني بعد تنهيدةٍ متمهلة:
-كانت معلقة على الجدار في منزل رومير.

اندهشتُ لخروجها من القصر الذي بدا كسجنٍ أبدي لجميع من يمكثون فيه، وسألتها في عدم تصديق:
-هل ذهبتي إلى هناك اليوم؟
أومأت برأسها قائلة:
-نعم، اصطحبني أفراد الحراسة إلى بيته، ووجدتها معلقة، فأخذتها.
لن أنكر أني شعرت بالغيرة قليلًا لتنعم والدتي بقدرٍ من الحرية، على عكسي، لم أفارق جدران هذا القصر رغم اتساعه، وكأنه محظورٌ علي وطأ ما يتجاوز أسواره العالي. عدتُ للانتباه لكلامها عندما تابعت:.

-أنا أخرجتها من الإطار لأنظر إليها.
اقترحت عليها بابتسامةٍ منمقة:
-يمكننا أن نضعها في واحدٍ جديد، لونه فضي.
استعادت الصورة نصب عينيها، واستطردت في ألمٍ محسوسٍ في نبرتها:
-أتعلمين؟ في هذه الصورة ملخص حياتي.

وافقتها في وصفها الدقيق، فإلى اليسار كان يقف والدي، يحاوطها من كتفها، وأنا أجثو على ركبتي بثوبٍ منفوش، أما على اليسار، فوقف خالي رومير، وإلى جواره أندرو، كانوا جميعًا يضحكون في مرحٍ. أشرتُ بإصبعي نحو أحدهم قائلة باشتياقٍ، وهناك حزٌ خفيف في قلبي:
-ذلك أبي.
رأيتُ الحزن ينعكس على ملامح والدتي وهي ترد:
-نعم، العزيز توماسو.
هتفت في حماسٍ يشوبه الدهشة:
-لا أصدق، أندرو كان رفيعًا للغاية.

نظرت إلي بعد أن ضحكت، وعلقت:
-نعم، لا أعرف ما الذي أصابه ليسمن سريعًا، كما أنه كان صديق والدك قبل أن أتزوج به.

على حسب الأعراف المتبعة في عائلات المافيا، حين يتوفى الزوج، ويترك أرملة صغيرة بمفردها، مع صغار ضعاف يتم تزويجها لأقرب شخصٍ على صلة وثيقة بالعائلة، وممن ينتمون للجماعة، وهذا ما حدث مع أمي، بعد اغتيال توماسو، تقدم أندرو لخطبتها، وتزوجا بعد بضعة أشهر لرعايتنا وتولي شئوننا. مِلتُ نحو والدتي بعد أن وجدتُ الدموع محتجزة في مقلتيها، حاوطها بذراعي لأضمها إلي وأنا أقول:
-كلاهما في النعيم الآن، لا تحزني.

ردت في هدوءٍ:
-أتمني ذلك.
شتتُ أحزانها بقولي الساخر وأنا أشير نحو هيئتي:
-انظري إلي، كنت أشبه الدمي.
رفعت يدها لتداعب وجنتي بدلالٍ، وعقبت:
-بل أجمل بكثير.
ابتسمت لتدليلها، وأصغيتُ إليها وهي تقول:
-كنتِ في عامك الرابع على ما أظن.
أشرتُ نحو الرضيعة هاتفة في صيغة تساؤلية بمرحٍ:
-أهذه آن؟ كانت تشبه الملائكة.
اهتزت رأسها بهزة خفيفة حين جاوبتني:
-نعم، كانت صغيرة للغاية.

كنا في ميلانو آنذاك، في فيلتنا الصغيرة، ذات الحديقة المحدودة، بعيدًا عن هذه المدينة الموحشة، الغارقة في أشباح الموت، لكنها كانت جنتنا اللطيفة، بعيدًا عن العصابات، وحاصدي الأرواح. كنتُ مسترخية التعبيرات وهي تكلمني:
-لا تزال تفاصيل هذه الصورة حاضرة في ذهني، رغم أني لا أتحدث عما حدث آنئذ كثيرًا.

حلت غضاضة موغرة في روحي بعد هذه العبارات، حيث أشعرتني بوخزة مزعجة في قلبي. لفظتُ الهواء من رئتي ببطءٍ، خاصة عندما أخبرتها بصعوبةٍ، مقاومة تأثير مشاعري المرهفة على صوتي:
-أذكر أن والدي توفى بعد التقاطها بمدة قصيرة.
صححت لي فيما بدا لي صدمة جلية:
-لا، في نفس اليوم.
صحتُ في دهشةٍ:
-معقول؟ لكنكِ أخبرتني بغير هذا.
رمشت بعينيها مؤكدة:
-لم أرغب في إحزانك، خاصة أن ما حدث كان بشعًا للغاية.

راحت والدتي تسحب شهيقًا عميقًا تحفز به نفسها، كأنما تستعد لمهمة جديدة باتت إلزامية عليها، أرادت للمرة الأولى بعد سنواتٍ إطلاعي على حقيقة ما دار على خلفية ذكرى التقاط هذه الصورة تحديدًا.

تَتابعت على رأسي الذكريات المفجعة الحزينة، تلك التي كانت إلى حدٍ كبير مبهمة، منقوصة، غير مفهومة بالنسبة لي، خاصة مع صغر سني، وتواجدي حول أشخاص يرتدون البذات السوداء، وسيدات تبكي وتنوح في لوعةٍ. سردت صوفيا بألمٍ التفاصيل المرتبطة بحادث وفاة والدي، حكت أنه تم إخبارها من قبل توماسو بتجهيز غرفة الاستقبال وإعداد أصناف الطعام الشهي من أجل الزوار المهمين القادمين لعقد اتفاق تصالح لضم الصفوف وتوحيد الجبهات ضد الهجمات الغادرة من الجماعات الأخرى المنافسة، لهذا حرصت والدتي على إظهاري بمظهرٍ لائق، وأفرطت في تزييني، كما فعلت مع شقيقتي ونفسها.

أخبرتني أن رومير حضر لهذا الغداء قبل أن يأتي الضيوف ومعه أندور، التقيا بزوجها، ومكث ثلاثتهم لبعض الوقت، إلى أن كانت أصوات جدالهم عالية بعض الشيء، حضرت على عجلٍ متوجسة خيفة من حدوث مشكلة ما، نهرها شقيقها لتدخلها غير المسموح، وطلب منها عدم تكرار الأمر مهما سمعت من حوارات، خاصة حين يأتي الزوار إلى هنا. بالطبع لم تكن لتخالف أي أوامر موجهة إليها سواء من شقيقها أو زوجها، فكلاهما من كبار قادة المافيا.

لاحقًا أخبرتني أنها استقبلت مكسيم، وابنه البكري، و ماركوس، أعطهم المشروب، وغادرت، سكتت لبرهةٍ، ولم أجازف في قطع فترة صمتها، على ما يبدو كانت تستحضر كافة ما يتعلق بالذكرى من مشاهدٍ مؤلمة، قالت أنها عادت بعد برهةٍ على الصراخ المنادي:
- صوفيا.
جاءت مهرولة تقول في طاعةٍ:
-ما الأمر؟
أخبرها مكسيم في لهجته الحازمة:
-أخرجي هذا الصبي من هنا.

توجهت أنظارها نحو الفتى المتجهم، كانت عيناه ملتهبتان، ووجهه يشتعل من صدغه، ظنت أنه ربما تلقى صفعة عنيفة، فهناك آثار أصابع محفورة على بشرته، تشتت نظراتها عنه لتسمع ماركوس وهو يقول مبررًا:
-اهدأ مكسيم، إنه غضٌ، غير ملمٍ بالقواعد بعد.
صرخ معترضًا في صوتٍ أجش صارم:
-ابعده عن ناظري، وإلا سأقتله، من يخالف الأوامر لا يحق له الحياة، وإن كان من صلبي.
انتبه رومير لوجودها، فصاح بها في تعنيفٍ:.

-أنتِ لا تزالين هنا، خذيه، واذهبي.
هرولت نحو الفتى تمسكه من ذراعه لتسحبه خارجًا وهي تقول في انصياعٍ مرتاع:
-حسنًا.
ما إن ابتعدت به عن محيطهم حتى سألته في اهتمامٍ أمومي:
-هل أنت بخير؟ هل أحضر لك ثلجًا؟
نفض يدها المقتربة منه، وقال في عدائيةٍ صريحة:
-لا تلمسيني.

ثم تركها وركض خارج بهو الفيلا، ليبقى بمفرده في الحديقة، احتارت صوفيا في التصرف معه، لم تتعامل سابقًا مع أمثاله من حادي الطباع؛ لكنها تذكرت أنها مضطرة لتجهيز المأدبة في عجالةٍ، لذا لم تلحق بالفتى، وانشغلت بمهامها المنزلية.
عادت أمي من انخراطها في دوامة الماضي لتخبرني والدمع يسيل من عينيها، بأن ما تلى ذلك كان دمويًا بشكلٍ مخيف، رددت بصوتٍ متهدج:.

-انطلقت الأعيرة النارية من الداخل، وعلمتُ فيما بعد أن توماسو سقط صريعًا في دمائه...
اهتز كل ما بي لمجرد تخيل المشهد في رأسي، بكيتُ في صمتٍ، ووالدتي لا تزال تتكلم:
-كنتُ في قمة رعبي، لم أخرج من المطبخ، واختبأت أسفل الطاولة، متوقعة مجيئهم لقتلي أيضًا.
احتضنتها في خوفٍ غريزي، فأكملت وهي تريح رأسها على صدري:.

-المرعب في الأمر أنكِ صغيرتي كنتي في الحديقة، و آن كانت مع المربية بالأعلى، كنا حرفيًا تحت الحصار.
أجهشت صوفيا بالبكاء، وبدا مسموعًا، فطلبت منها برفقٍ:
-لا داعي أمي، من فضلك اهدأي.
وكأني أحادث الفراغ، واصلت سرد ذكرياتها الأليمة:
-عج المكان بالرجال من الطرفين، واحتدمت المواجهات، كان الجميع فيها في خط النار.
شعرت بانتفاضتها بين أحضاني، فرجوتها بشدة:
-توقفي أمي، أنتِ غير مضطرة لهذا.

قالت رغمًا عني، كأنما وسيلتها لتنفيس مشاعرها المكبوتة:
-امتلأ المكان بالمزيد من الضحايا، وعلمت من رومير أن مكسيم وشقيقه قد فرا، بعد إصابة الأخير بإصابة خطيرة.
زدتُ من الضمة مؤكدة عليها، وقد أطبقت على جفوني لأطرد عبراتي العالقة:
-لقد مضى، وانتهى، نحن بخير الآن.
تنهدت صوفيا في عمقٍ لعدة مراتٍ، واستطردت بعد ذلك:
-نعم، أنتِ محقة.

تراجعت عني، لتضع الصورة التي كانت لا تزال في يدها على الطاولة القصيرة المستديرة المواجهة لها، ثم نظرت إلي وهي تمسح بقايا الدموع عن عينيها بأناملها، لتتابع بأسى:
-والباقي أنتِ تعرفيه، تزوجت ب أندور من أجل الحماية، واستمر الصراع دائرًا بين العائلتين، إلى أن تورطي فيه دون قصدٍ حين قتل ماركوس وهو يحاول اختطافك.

الانتقال لهذه الجزئية كان موترًا لأعصابي، اختلست النظرات لأتأكد من عدم متابعة أحدهم لحوارها الاسترسالي، وطلبت منها بصوتٍ اكتسب طابعًا جديًا رغم خفوته:
-لا داعي للحديث عن ذلك الآن، ونحن في بيتهم.
ابتسمت لتطمئنني، وهتفت في لطافةٍ:
-الأمر اختلفت قطعة السكر، لا تخافي.
جالت عيناي في حركات عشوائية حول الأركان، من أجل ضمان انفرادنا، وهذا الصوت المستنفر يردد في رأسي:.

-لا نزال في قبضتهم، وهل يأمن أحدهم لمكر الثعالب...؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة