قصص و روايات - روايات عالمية :

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والعشرون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والعشرون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والعشرون

لحظات الشوق الودَّية التي من المفترض أن أكون عليها في هذه الأثناء المميزة بين زوجين يسعيان للتقارب الحميمي انعدمت تمامًا، كانت الأجواء بيننا مشحونة، متأزمة، مطعمة بالكراهية والحقد، كلانا متأهبان، مستعدان لإحراق أحدنا الآخر، دون اكتراث بمشاعر بعضنا البعض؛ وكأن بُغض الدنيا بأسرها قد اجتمع في نفسي كلينا. رُحت أنظر إلى فيجو بنظراتٍ متسائلة باحثة عن أجوبةٍ شافية، بعد أن استثار حواسي برغبته في إعلامي بالحقيقة الغائبة عني كاملة. حدجني بنظرةٍ احتوت إظلامًا أرعبني، ارتجفت، وانكمشت، وشعرت بالتضاؤل. على ما يبدو أشفق علي، وإن كنتُ أشك في ذلك، فترك معصمي وابتعد عني ليلتفت ناظرًا في الناحية الأخرى.

بقيتُ متسمرة في مكاني، ذاهلة، متخبطة، ضائعة، أي شيء غير أن أكون نفسي الهانئة. استجمعت جأشي وأنا أشعر بأنفاسي مضطربة، حملقت في ظهره متسائلة بصوتٍ مهتز:
-ما الحقيقة؟ هيا، قل!
توغل أكثر في صمته المريب، لا يفوه شيئًا، فازداد الفضول المقلق بداخلي، تغلبت على مخاوفي التي تساورني بين الفنية والأخرى خشية مواجهته الشرسة، خاصة أني لا أعلم بنواياه بعد، وضغطت عليه بإلحاحٍ يحمل في طياته الاتهام:.

-أما أنها محاولة جديدة منك لخداعي؟
التفت برأسه تجاهي، وقال في صوتٍ صارم خشن:
-لستُ بحاجة للكذب أو التضليل...
شملني بهذه النظرة الموترة لأوصالي، وأتم جملته:
-فما أريده أحصل عليه.
تضاعف دبيب قلبي المرتجف، فحاولت إظهار تماسكي، وسألته بلجلجةٍ محسوسة في نبرتي:
-أخبرني إذًا، وتوقف عن المماطلة.
عاد للتحديق أمامه متجنبًا نظراتي المسلطة عليه، واستطرد يقول بعد زفيرٍ ثقيل:
-حسنًا.

رأيته يتحرك بضعة خطواتٍ في اتجاه نافذة الشرفة، أزاح الستارة الحاجبة عن المشهد الطبيعي بالخارج، لينظر مليًا بشرودٍ عبر الزجاج وهو يسترسل في سرد ما لم أتوقع:
-لم أكن حاد الذكاء فقط، وانتبه لصغار الأمور، بل كنت مولعًا بالرماية أيضًا، وأجدتُ استخدام الأسلحة بشكلٍ شبه احترافي قبل أن أتم الحادية عشر من عمري، حتى مهاراتي في التصويب من مسافاتٍ بعيدة باتت رائعة.

معلومة جديدة أضفها إلي لاحتفظ بها في ذاكرتي بشكلٍ مال للألفة، تلك التي كانت مناقضة لطبيعة الموقف الحاد بيننا، ركزت كامل انتباهي معه وهو يتابع دون أن ينظر في اتجاهي:
-في هذا اليوم تحديدًا، أذكر أني تسللت إلى مكتب أبي، حيث يحتفظ بخزانة مليئة بالأسلحة الفريدة من نوعها.

رأيتُ في انعكاس وجهه على زجاج النافذة شبح ابتسامة مريرة مرسومة على زاوية فمه، سرعان ما اختفت لتحل الجدية القاتمة على ملامحه، دققت النظر في انعكاسه، وأرهفت سمعي وهو ما زال يتكلم في زهوٍ:
-كنت أعرف كيفية فتحها بسهولةٍ، فأتطلع إلى المعروض بتأنٍ، واختار في كل مرة سلاحًا مختلفًا أتدرب على استخدامه بمفردي، حتى أجيده.

على عكس المعهود في الصبية المماثلين له في العمر، كان يتخذ مسألة الزعامة وقوانينها الصارمة بصورة جدية، فاعتاد على التعامل مع الأسلحة النارية منذ نعومة أظافره باحترافيةٍ واضحة، وأكد ذلك بإفصاحه عن الأمر بنوعٍ من التفاخر. عدتُ للانتباه إلى كلامه عندما أضاف بنفس الهدوء المغلف بالجدية:
-قبل أن أقدم على أخذ واحد منهم، سمعت ضجيجًا يأتي من الخارج...

رغمًا عني تسارعت نبضات قلبي من سرده المشوق، وكأني أعايش الأحداث بكامل وجداني، لا اعتمادًا على ما يرسمه الخيال فقط، فجزءٌ غامضٌ منه يرتبط بعائلتي أيضًا. تقدمتُ خطوة في اتجاهه، ونظرت إليه من الجانب باهتمامٍ وهو يقول:
-تحركت بخطى خفيفة متسللة نحو باب الغرفة، لم يكن مغلقًا، ومن الفرجة المواربة حاولت رؤية ما يحدث، خاصة أن الصخب كان آتيًا من عند الدرج.

أصبحتُ الآن أقف إلى جواره، أنظر عبر الزجاج إلى الخارج، لا أعلق بشيء، وأصغي فقط لحديثه. استمر فيجو في الكلام، فاستطرد:
-رأيتُ والدتي وهي تركض خلف أبي على الدرجات تتوسله أن يصغي إليها، يمنحها الفرصة للتبرير والعفو.

تلقائيًا اتجهت أنظاري إلى انعكاسه، رغبة غريبة بداخلي استحثتني على النظر إليه، ورؤية ملامحه، ما زال وجهه على هدوئه الجامد، تعجبت للغاية من ثباته، فغيره كان أظهر تأثره، حيث أن للأمر علاقة مباشرة بالعائلة؛ لكنه بدا غير مبالٍ على الإطلاق. تابع فيجو بنفس النهج الثابت:
-لم أعرف لماذا هي تستجديه هكذا بتذلل، خاصة أنها لم تعتد على فعل ذلك، كانت امرأة ذات كبرياء.

كنتُ لا أزال واقفة في موضعي، إلى جوار فيجو، أتطلع إلى الفراغ الممتد أمامي بعينين تائهتين، ورأسي قد بدأ يتشكل فيه خيالات منسوجة من حديثه الجاد. انتقلت أطراف الخيوط جميعًا إلى فيجو، وأصبح هو القاص للأحداث، وأنا أتخذ موقف المتفرجة التي تطوف بين المشاهد المتعاقبة بلا تدخلٍ فعلي مني.
سرد خصمي موضحًا في سلاسةٍ على لسانه، فقال:.

تواريتُ عن الأنظار لئلا ينتبه أحدهما إلى وجودي، كنتُ بارع في الاختباء كذلك، أعرف المواضع التي تسمح لي بالتنصت على الآخرين وعدم كشف أمري، فليس من السهل أن تكون مولودًا في جماعة مشهود لها بالإجرام الشديد. اختلست النظرات إلى حيث توقف الاثنان، على بُعد عدة أمتارٍ مني؛ لكن لا أحد منهما يراني، وأصغيت إلى أبي مكسيم وهو يصرخ بها:
-أيتها اللعينة، سأمزقك إربًا.

كانت قبضته قد امتدت لتلف عنقها، قاصدًا خنقها منه، منعها من التنفس، فسعلت شاهقة في ألمٍ، قاومت مسكته القاسية، وتوسلته ببكاءٍ وصوتها يبدو متقطعًا:
-توقف، أرجوك.

حرك يده الأخرى، ورفعها للأعلى في الهواء، مهددًا بصفعة قاسية، جعلت قلبي ينقبض، ومع هذا لم أحرك ساكنًا، بقيتُ كالصنم جامدًا، لا أريدهما أن يدركا وجودي، والفضول بداخلي يأكلني لمعرفة سبب نشوب هذا الشجار العنيف، لم يخفض مكسيم يده، وأبقاها على علوها؛ لكن ارتفع هدير صوته بها:
-هل كنتي تظنين أني لن أعلم؟
تحشرج صوتها، واختنق بشدة وهي تبرر له:
-إنها مرة واحدة فقط، ضعفت، وكنتُ بلا وعيٍ، لا أدرك ما يحدث.

انخفضت يده الطليقة، ودفعها بخشونةٍ نافرًا منها، لتطرح من شدة الدفعة أرضًا، فارتطم جسدها بقساوةٍ بالأرضية الصلبة، انكفأت على وجهها تبكي في أسى، وهو من فوقها يصيح غاضبًا:
-لقد حذرتك سابقًا، إن فكرتي في خيانتي، فلن أرحمك.
رفعت وجهها إليه، واستعطفته من بين دموعها الغزيرة:
- مكسيم، أتوسل إليك، كنت يائسة للغاية.
ركلها في معدتها ركلة مباغتة جعلتها تنفجر من الألم الصارخ، قبل أن يهتف في حدةٍ:.

-وأنتِ خالفتي اتفاقنا.
علا صوت بكائها الشديد، فانحنى عليها جاذبًا إياها من ذراعها وصوته يجلجل:
-انطقي، من هو؟
زاد نشيجها وهي ترد في عجزٍ:
-لا أعرف، صدقني لا أعرف.
اغتاظ من كلامها، وصرخ بنبرة مشتاطة:
-يا لحقارتك! تنامين مع الرجل ولا تعرفين من هو؟ أي نجاسة هذه؟!
في لحظةٍ ظننتُ أنه لن يترفق بها، خاصة أنه يلجأ دومًا لاستخدام العنف المفرط مع من يفكر في خيانتها، لن تجد من يشفع لها، سمعتها تقول وسط نهنهاتها:.

-أنا بشر، لي مشاعري، في لحظة يأسٍ استسلمت، ولم أكن واعية.
استفزه دوافعها، فاهتاج في جنونٍ:
-لا تبرري جريمتك، فأنتِ رميتي بنفسك في أحضان أول جرذ حقير فتح ذراعيه لكِ، رغم تنبيهي لكِ بألا تقعي في فخ الرزيلة...
كور قبضته، ولكمها في صدرها وهو ينعتها:
-أيتها العاهرة الرخيصة.
تأوهت من الوجع، فترك ذراعها، ثم أمسك بها من رأسها، ليهزها في عنفٍ وهو يتوعدها:.

-اقسم لكِ أني سأصل إليه، وأحرقه، ليس هو فقط بل كل عائلته.
رأيتُ الجزع متجسدًا على قسمات وجهها، بصق فوقها، وأضاف بعد ركلة قاسية في ساقها:
-حقًا لا تليق بكِ حياة القصور، أنتِ تستحقين الموت.
من مكاني كم تمنيتُ لو استطعت التدخل ومنعه من إيذائها، فما كنت أراه بينهما من احترام وملاطفة تزداد في وجودي انعدمت كليًا مع غيابي. تحملت والدتي عنفه الواضح، وقالت في استعطافٍ:.

-أنا لا أبحث عن الأعذار، لكني نادمة للغاية، أرجوك اصفح عني من أجل فيجو.
أرجع رأسها للخلف لتنظر إليه ملء عينيه، وقال في وعيدٍ شرس:
-لن يحدث، ستنالين جزائك بعد أن أعرف من هو، وسيعلم فيجو أي أم لديه.
وجدتها ترد في تحدٍ فاجأني من جرأته:
-بل أنت من عليه أن يتوقف عن لومي، كفى خداعًا مكسيم...
رأيتُ مسكة أبي تهتز، فتمكنت من انتزاع رأسها من قبضته، اعتدلت في رقدتها المخزية، وواصلت عتابه بغير ضعفٍ:.

-هل يظن فيجو أننا نحيا كأسرة سعيدة؟ نحن أبعد ما يكون عن هذا...
استندت على يدها لتقوم واقفة، ما ارتدته من قناع الندم والخذلان اختفى، وحل محله آخر كنت اكتشفه للمرة الأولى، برأسٍ مرفوع ناطحته في الكلام في غير رهبةٍ:
-أنت كل يوم مع عشيقة جديدة، تجعلها تشعرك برجولتك الناقصة، وأنا أدعي جهلي، وأمثل دور الزوجة المطيعة والأم الحنون من أجل عدم إحزان طفلي.
رد عليها مكسيم في حمئةٍ مغتاظة:
-لا تتدخلي في شئوني.

رمقته بنظرة دونية قبل أن تعلق باشمئزازٍ:
-أتظن أن رائحة قذاراتك لا تصل إلى أنفي وأنت تستلقي كالخراف على الفراش لتعوض نقصك؟!
بدت الكلمات حبيسة جوفه، فلم يعقب عليها، وأضافت في قوة اندهشت منها:
-أنا أتحملك لأجل فيجو فقط، لكني سئمت منك، ومن حقارتك.
للغرابة رأيتها تتقدم ناحيتها، تلمس بإصبعها صدره وهي تخاطبه:
-أتعلم شيئًا؟
ابتسمت في شماتةٍ وهي تخبره:.

-إن واتتني الفرصة لخيانتك مجددًا سأفعل، لأجل نفسي المحرومة أمام رجولتك الضائعة، ومع أي رجل
حقًا اكتشفت من خلال حديثها المحتدم الوجه الآخر لمن كنت أعدها أمي، لمن أرفض حتى ترديد اسمها بين اعترافاتي، كنت أراها للمرة الأولى، أعرفها على حقيقتها، أحسست حينئذ أني كنت أعايش وهمًا شنيعًا، الأسرة السوية، حطمني سيل الاعترافات النازقة من الداخل قبل الخارج. اشتعل وجه مكسيم على الأخير وهدر في استهجانٍ:.

-لن تفعلي.
قبل أن يفكر في الإمساك بها، خفضت يده في استبسالٍ، وأكدت عليه في نبرة متباهية:
-بل سأفعل، لن أبقى محاصرة في قالب المرأة المهزومة إرضاءً لك، أنا أيضًا لي نفوذي وكلمتي المسموعة عند عائلتي، أم تراهم سيصمتون حين يعلمون بإذلالك لي؟ بكلمة واحدة مني أبيدك!
نظر لها مبهوتًا، فهددته بشكلٍ سافر:.

-أنت لم تختبر قوتي الحقيقية بعد، وأفراد جماعتي ما زالوا يبغضونك، ما رأيك أن أعلن عن هجراني لك زوجي الحبيب، صدقني لن تمضي بضعة أيامٍ إلا وقد تخلصت منك، وحينها سأغدو الأرملة الحزينة التي تحاول لملمة شتات نفسها، يكفي أن أعطي الأمر لخاصتي بتدميرك، ونشر أسرارك الهامة.
صرخ بها في حقدٍ:
-لن تجرؤي.
ببرودٍ تام ردت وهي تنفض شعرها بعد تسويته خلف ظهرها:
-صدقني أنا أشرس مما تظن بكثير.

لو كنت محل أبي وامرأتي تُحادثني بهذه اللهجة المهددة لما سكت مُطلقًا، ولأخرجت خنجري من غمده، لأشق به صدرها قبل أن تتجرأ على المساس بي وهدم كل ما شيدت؛ لكن ما الذي جعلها تملك فجأة مفاتيح القوة بيدها؟ هناك أمرٌ خفي ما زالت أجهل به. على عكس المتوقع من مكسيم كان بلا حراكٍ، مُنصتًا لتهديداتها الصريحة بلا ردة فعلٍ قاسية، حقًا للمرة الأولى وجدته مهزوزًا، غير واثقٍ من قدرته، هذا الذي اعتاد على مواجهة العتاة بلا شفقة، يقف هكذا لا حول له ولا قوة، كم أحسستُ بالضياع في هذه اللحظات!

قال مكسيم حفظًا لماء وجهه الذي أريق على مرأى ومسمع مني:
-سأحاسبك على كل شيء، صدقيني.
ضحكت في استهزاءٍ، وعقبت:
-لن تستطيع، لن تهدم صورة الأسرة السعيدة، على الأقل لحين الانتهاء من إعداد فيجو ليكون خليفتك، فأنت بلا وريث، خاصة لو عُرف بشأن عجزك ال...
ضحكت مرة ثانية في سخريةٍ فجأة، ثم كتفت ساعديها أمام صدرها، وأضافت في استمتاعٍ:
-وخلال ذلك سأكرر الخيانة مع الأقرب إليك، حتى وإن كان أفراد حراستك!

ثم لوحت بيدها له، واختتمت كلامها:
-هيا ابحث عن طريدتك، ولنا موعد عزيزي.

غادر مكسيم في التو بعد صدامه المحتدم معها، مجرجرًا ما اعتبره أذيال خيبته، وهزيمته الأولى في مواجهتها، فانزويت خلف الباب في العتمة كاتمًا أنفاسي، خاصة عندما لمحتها تتحرك صوب الحجرة لتلج إلى الداخل، ألصقت ظهري بالحائط، واحتميت بالكتلة الخشبية التي حالت بيني وبين رؤيتها لي، سمعت وقع خطواتها وهي تتجه نحو المكتب الخشبي، ثم عبثها بالقرص الخاص بالهاتف الأرضي. صوت أنفاسها المنفعلة كان واضحًا، ما لبث أن تحول لنبرة حانية عندما استطردت:.

-عزيزي، إنه أنا...
تبدلت نبرتها للجدية وهي توضح له:
-ليس وقته، اسمعني جيدًا، لقد علم مكسيم بشأن علاقتنا السرية.
حلَّ الضيق بصوتها وهي تهاتفه بعد لحظة من الصمت:
-لستُ حمقاء لهذه الدرجة لأخبره بأمرك.
نفخت عاليًا، وخاطبت الطرف الآخر في عصبيةٍ:
-لم يكتشف هويتك بعد، لكنه بصدد ذلك.
ناضلتُ لأبقى ساكنًا، غير منحازٍ لأبي، كان ذلك لأجل غاية، فتحملت بشاعة الخيانة وابتلعتها. ارتفع صياحها عندما رددت:.

-لا تصرخ توماسو، أنا مثلك، الخطر محدقٌ بي.
سرعان ما هدأت حين أضافت:
-لا أعلم، ربما أحدهم تعرف إلي وأنا معك، لقد أخبرتك سابقًا أن تكون لقاءاتنا في مكانٍ غير معروف.
ضحكت في ميوعة، وقالت بدلالٍ:
-طبعًا أحبك، لم أعشق سواك.
بدت مسترخية للغاية وهي تتحدث:
-حسنًا، لن آتي بحماقة، ولكن عليك ألا تثير الشكوك في الفترة القادمة، واتخذ حذرك إلى أن أنجح في الهروب من هنا، ونكون معًا للأبد.

كنت أراها في هذه اللحظة مقيتة للغاية، أمًا بشعة، لا تستحق هذا اللقب، انتفاضة سريعة نالت مني عندما رددت اسمي بغتةً:
- فيجو...
شعرت أنها اكتشفت مسألة وجودي؛ لكن تبددت مخاوفي مع إكمالها:
-لم أفكر في شأنه بعد؛ لكني بحاجة لتوفيق أوضاعي أولًا.
تنفستُ الصعداء لأني كنتُ لا أزال غير مرئي بالنسبة لها، فراحت تتحدث بأريحيةٍ مع عشيقها السري:
-إن تم تخييري بين بقائي وتركه...

حبستُ أنفاسي للحظة متوقعًا أن أكون على قائمة اختياراتها، انهدمت كل توقعاتي عندما نطقت بغير احترازٍ حاسمة أمرها:
-فسأتركه.
بهذا الحديث العفوي أجهزت على أي مشاعر حانية تجاهها، قضت على عاطفتي نحوها، بالكاد تماسكت، وأصغيتُ إليها وهي تسأله:
- توماسو، ماذا عنك؟ هل ستترك زوجتك وطفلتيك لأجلي؟
تدللت نبرتها وهي تقول بعد أن أرضى شعورها الأنثوي:
-أحبك جدًا.

لم أطق البقاء وسماع المزيد مما قد يؤلمني، تسللت في حرصٍ شديد بعد أن ألقيتُ نظرة خاطفة عليها، كانت توليني ظهرها، مما منحني الفرصة للتحرك في خفةٍ، لم أحرك الباب من موضعه، وشققت طريقي خلال المساحة المتروكة بين الكتلة الخشبية والحائط، وساعدني على ذلك نحافتي آنذاك، خرجت هاربًا والنيران مندلعة في صدري، وألسنتها الحامية تلتهم قلبي، لم أبكِ لأجل اختيارها، بل قررت أن أقتص منها بطريقتي.

عادوت أدراجي برأسٍ مرفوع في إباء، وبكتفين منتصبين في شموخٍ، وهذه النظرة القاسية تعلو وجهي، وقفت أمام عتبة الباب، انتظر ببرودٍ تام انتهائها من اتصالها الهاتفي، ويداي في جيبي، كأني لم أعرف شيئًا. شهقت مصدومة حين استدارت ووجدتني أطالعها بغموضٍ مرعب، تلبكت، ووضعت سماعة الهاتف من يدها منادية إياي بصوتٍ مضطرب:
- فيجو!
قلبت نظراتها الزائغة بيني وبين الهاتف قائلة بتبريرٍ كاذب:
-أنا، كنتُ، فقط آ...

أوقفتها مُدعيًا جهلي قبل أن تتمادى في خلق كذبة غير مرتبة:
-ما الأمر أمي؟ هل هناك خطبُ ما؟ لماذا وجهك شاحب؟
ردت على أسئلتي بسؤالٍ حائر:
-ألم تكن موجودًا وأنا أتحدث بالهاتف؟
هززت رأسي نافيًا:
-لا...
ثم رسمت هذه الابتسامة اللئيمة على ثغري وأنا أواصل الكذب:
-لقد جئتُ الآن.
رأيتها تسحب شهيقًا عميقًا طردته على مهلٍ وهي تردد:
-يا إلهي، أرحتني.
اقتربت منها متسائلًا:
-مع من كنتي تتحدثين؟

رمشت بعينيها قائلة وهي تبتسم في وداعةٍ:
-لا أحد مهم، هيا بنا، موعد طعامك قد حان يا صغيري الغالي.
تركتها تداعب صدغي بلمستها المخادعة، ورمقتها بنظرة أخرى غامضة، العجيب في الأمر أنها كانت تكذب بتبجحٍ وهي تنظر في عمق عيني، وتركتها تصدق كوني الفتى الساذج الذي لم يعلم بخيانتها بعد.

توماسو! اسم لم أنساه مُطلقًا، كنت بحاجة لمعرفة صاحبه، وتطلب ذلك مني التحلي بالصبر والحفاظ على هدوئي المزعوم، فالغضب لن يصل بي إلى شيء، خاصة مع انعدام المعلومات المتوفرة عنه؛ فقط هو رجل متزوج، ولديه طفلتان.

أشهر انقضت من عمري وأنا أراقبها بشدةٍ، أحاول أن أعرف هوية الرجل الذي اعتادت على ملاقاته سرًا، يبدو أني ورثتُ ذكائها، فقد حرصت أشد الحرص على التغطية على آثارها، بالإضافة لتضييق الخناق عليها من قِبل أبي، فخروجها من القصر كان محدودًا، مقتصرًا على أماكن بعينها، غالبيتها تخص عائلتها، ومن النساء، بالإضافة إلى قداس الأحد. رفض مكسيم ذهابي معها، كأنما كان يخشى من محاولة غدرها المتوقعة مستغلة إياي كدرعٍ لحمايتها من ردة فعله، وأنا كنت أريد الذهاب معها أينما اتجهت لإكمال مراقبتي الحثيثة، فكانت عقوبتي قاسية منه حين أعارض قراره، تحملت الكثير وصمدت، وتابعت ما يبذله أبي من جهود لفرض سيطرته التامة على الجماعات الداعمة لنا، قبل الخلاص من عُصبتها نهائيًا.

كلاهما حاولا خداعي بوهم الأسرة المترابطة، وأنا ادعيت مجاراتي لهما، إلى أن علمت مصادفة عن لقاءٍ يجمع بين مكسيم وشخص يدعى توماسو، بدأت الشكوك تحوم حول هذا الأخير، خاصة أنه كان ينتمي لجماعة تُصادق عائلة أمي، فحاولت في الخفاء جمع معلومات مفيدة عنه دون أن أثير الريبة، وبدأت تدريجيًا أصابع الاتهام تتجه إليه، إلى أن تأكدت من كونه الشخص المقصود عندما ذهبت إلى القداس معها، في البداية ظننت أن الأمر عاديًا، حرصها على التقرب من الرب؛ لكن لحماقتي صدقت الكاذبة، وتركتها تخدعني مجددًا، في زيارتنا الأخيرة، نهضت من جواري هامسة في أذني:.

-سأذهب إلى الكاهن، أريد الاعتراف له، لن أتأخر عليك.

انسحبت قبل أن تبدأ العِظة بدقائق، فساورتني الشكوك، كل مرة تأتي إلى هنا لتعترف قبل ميعاد بدء العِظة؟ لم يبدُ الأمر مقنعًا لي مع تكرار الأمر، نهضت خلفها، وتبعتها دون أن تراني، إلى أن لمحتها تمرق مسرعة في الردهة متجهة إلى إحدى الغرف الخلفية، بعيدًا عن مكان تواجد القس، وهناك أظهرت شغفها المتأجج لهذا الرجل الذي عاث بيده في مواطن جسدها ليشعل خلاياها بالرغبة واللهفة.

رأيتها وهي تموء في أحضان آخر غير زوجها ما جاهدت لإخفائه عني، لهذا لم أندهش من حرصها الأسبوعي على حضور العِظة، ها قد سقط قناع آخر لأكاذيبها، وانكشف وجه شريكها؛ لكني لم أعرف بعد إلى أي جماعة ينتمي لأنتقم منه أشد انتقام، قبل أن يتحول انتقامي لأتباعه.

جاءتني فرصتي دون أن أسعى إليها، حينما تمت دعوتنا لتناول الطعام مع جماعة رومير في عقر دارهم، من أجل مزاعم المصالحة وتوحيد الصفوف، كنت هادئًا، طائعًا لأبي وعمي، استقبلتنا في البداية امرأة بشوش، لطيفة بدرجة تصيبك بالضجر، وتدعى صوفيا. تعاملت معها بجفاء، وجمود، وانضممت إلى الرجال في مكان جلوسنا، بدا الوضع عاديًا، إلى أن رأيتُ وجه توماسو وهو يظهر من الخلف ليطبع قبلة على وجنة المرأة، حينئذ تبدلت سحنتي للنقيض، انعكست مشاعر الكراهية على صفحة وجهي، وقدحت عيناي بشرارات الغضب، فما استحوذ على مخيلتي وقتئذ لمساته الوضيعة على جسد عشيقته المسماة بأمي، نطق عمي عندما وجدني متجمدًا في مكاني، ورافضًا الاقتراب منه:.

- فيجو، هيا، صافح عمك توماسو...
ربت على كتفي ليستحثني على التحرك وهو ما زال يتكلم:
-سيغدو حليفنا القوي.
لم استجب له، وظللت أحدجه بنظراتٍ متوعدة، فأمرني مرة أخرى بقليلٍ من الحرج:
-تحرك فيجو.
قلتُ رافضًا بعنادٍ:
-لا أريد.
هتف ماركوس مذهولًا لموقفي غير المحايد:
-ماذا؟
أخبرته ببساطةٍ، وعيناي لا تتحولان عن وجه توماسو القميء:
-إنه من أعدائنا.
ضحك توماسو في سخافة مستفزة لي، وقال ممازحًا أبي:.

-يبدو أنه شبيهك مكسيم في طباعه الحادة، لا يعطي لأحدهم ثقته ببساطة.
علق عليه والدي:
-نعم، نسختي المصغرة.
تكلم عمي مرة ثانية في صيغة منزعجة:
-نحن نوحد الجبهات الآن، كفى تصرفات صبيانية، واقترب منه.
قال رومير هازئًا بسماجةٍ:
-يبدو أنك غير قادر على إقناعه ماركوس، لنرى تأثير الزعيم عليه.
أخبره عمي في ضيقٍ:
- فيجو لا يعصي لي أمرًا؛ لكن لا أعرف ما الذي أصابه.
تدخل مكسيم لإقناعي بمد يدي، فصاح في حزمٍ:
-نفذ أمر عمك.

دسستُ يدي في جيبي، لأخرج منه مديتي، وأنا أسير متجهًا نحو توماسو، رأى الأخير ما أفعله، فعقد حاجبيه بترقبٍ؛ كأنما يتوقع حركة غدرٍ مني، عندما وقفت قبالته سرعان ما أشهرتها محاولًا إصابته في موضعٍ مؤلم؛ لكنه تدارك حركتي، وصدها بعضده، فأصابته بجرحٍ غائر. صاح رومير مصدومًا لتصرفي الأهوج:
-ما الذي فعلته؟
دفعني للخلف في قساوة، وهتف ماركوس مستنكرًا:
-أيها الأحمق، ماذا فعلت؟

تجاهلت نعته المسيء، والتفت ناظرًا لأبي لأخبره بنظرةٍ ذات مغزى، وكلمات موحية:
-إنه يستحق الموت أبي، إنه الخائن الذي تبحث عنه.
لم يستوعب مكسيم مقصدي الغامض، فنهرني بصفعة قوية للغاية جعلت رأسي يطن:
-لا تقل أبي، اغرب عن وجهي.
بقيتُ متسمرًا في مكاني، مستعدًا لتلقي عشرات الصفعات، إلى أن يتفقه ذهن أبي لمقصدي، انطلق عمي تجاهي، ودفعني قسرًا من أمامه وهو يقول:
-هيا، تحرك.

قال توماسو وهو يضع يده على موضع الدماء النازفة:
-لا تقلق مكسيم، ليس بالأمر الخطير، ولن يفسد ما نسعى لأجله.
قلتُ بغضبٍ محموم وقبضتي عمي تدفعاني بعيدًا:
-أيها الزعيم، إنه من غدر بك، من كنت تفتش عنه لأشهرٍ.
تطلع إلي مكسيم بنظراتٍ مبهمة، ما زالت جاهلة بمقصدي، وقال في صوتٍ حانق حازم بعد أن جاءت صوفيا إلينا:
-أخرجي هذا الصبي من هنا.

توجهت أنظار صوفيا نحوي، فرأت عيناي ملتهبتان، كنت أشعر بحرارة الصفعة على صدغي، حتما تلونت بشرتي واشتعلت، رأيتُ تعاطفًا منها ناحيتي؛ لكني لم أبالِ، فقط سمعتُ عمي يقول مبررًا ما اعتبره طيشي:
-اهدأ مكسيم، إنه غضٌ، غير ملمٍ بالقواعد بعد.
صرخ أبي معترضًا في صوتٍ أجش صارم:
-ابعده عن ناظري، وإلا سأقتله، من يخالف الأوامر لا يحق له الحياة، وإن كان من صلبي.
انتبه رومير لوجودنا، فصاح معنفًا المرأة:.

-أنتِ لا تزالين هنا، خذيه، واذهبي.
هرولت صوفيا نحوي لتمسكني من ذراعي، سحبتني منه خارجًا وهي تقول في انصياعٍ مرتاع:
-حسنًا.
لكزت يدها الموضوعة علي، وسرت إلى جوارها مرغمًا، ما إن ابتعدت بي عن محيطهم حتى سألتني في اهتمامٍ أمومي لم استسغه:
-هل أنت بخير؟ هل أحضر لك ثلجًا؟
ثم مدت يدها ناحيتي فنفضتها وأنا أقول في عدائية صريحة:
-لا تلمسيني.

تركتها لأركض خارج الفيلا أريد البقاء بمفردي، محاولًا البحث عن طريقة أكشف بها خداع هذا الوغد دون أن أكشف سر الخيانة علنًا.

نالت من جسدي بضعة انتفاضات مرتعشة، جعلتني أشعر ببرودة قارصة تدب في أطرافي، استنكر عقلي ما سرده علي فيجو من أحداثٍ تخص واقعة الخيانة المزعومة، فأفقت من صدمتي المؤقتة، رافضة تصديق ما تفوه به كليًا، إنه يحاول تحطيم طفولتي بأكاذيبه، يدمر ذكرياتي بادعاءاته غير الصادقة، غامت عيناي، وصحت به في استهجانٍ رهيب:
-أنت كاذب، أبي ليس هكذا!

تغاضى عن عصبيتي، وتابع بهدوءٍ وهو يُعيد إلى ذهني تفاصيل الحلم القريب الذي انبعث من بواطني، لأخوض مرة أخرى في أحداثه:
-رأيتك بالحديقة تلتهين بألعابك السخيفة، وجهك البريء استفزني، كنتُ أريد قتلك، ويدي بالفعل أمسكت بالمدية وأخفيتها وراء ظهري.

غريزًا وجدتني أتراجع خطوة بعيدًا عن جواره، وبوادر الرهبة تستحوذ على كياني، فحلمي كان منقوصًا، والتكملة على ما يبدو لدى فيجو. ظلت نظراتي متعلقة بوجهه الساكن في تعبيراته، وقد استطرد متحدثًا بنفس الصوت الهادئ الواثق:
-حدجتك بهذه النظرة المميتة، واكتفيت بالإطاحة بطاولة اللعب، ثم ابتعدت لأضبط من انفلات أعصابي المحترقة.
سألته في ذهولٍ مصدوم، وأنا أشعر بالدموع تزحف إلى مقلتي:.

-لماذا أردت قتلي؟ أنا لم أفعل لك شيئًا.
لم يعلق علي، فهاجمته معاودة التقدم ناحيته وأنا شبه أبكي لتأثري:
-لا أصدق أن طفلًا في عمرك يفكر في القتل.
قال في عنهجيةٍ مغيظة:
-القتل متعة لمن يجيدها.
ثم غمز لي بطرف عينه متابعًا:
-وأنا ماهر بهذا!
رمقته بنظرة مشمئزة نافرة، وهممتُ بالابتعاد عنه؛ لكنه استوقفني بقوله الغامض:
-انتظري، الجزء الأفضل لم يأتِ بعد.
التفتُ ناظرة إليه هاتفة في صوتٍ مختنق حانق:
-ماذا تريد؟

سألني في برودٍ:
-ألن تسمعي البقية؟
صحت رافضة كليًا قبل أن أسير ناحية الفراش لأجلس على طرفه:
-لا أريد.
تجاهل رغبتي، وتابع باستمتاعٍ؛ كأنه يريد إيذائي بإطلاعي على الحقيقة:.

-كنت أتجول حول المنزل، رأني أحد أفراد الحراسة، ظن أني قد ضللت الطريق، ونجحت في خداعه، واستوليت دون أن ينتبه على سلاحه الناري، أخفيته في حزام ظهري، ثم انطلقت باحثًا عن طريق أتسلل به للداخل، ووجدت نافذة الشرفة المتسعة مفتوحة قليلًا، كانت منفذي للولوج.
أحسست بقلبي يقصف في قوةٍ وهو يضيف بإهانةٍ:
-لمحتك تتبعيني كجروٍ ذليل، تواريت عن الأنظار في بقعة غير مرئية، وانتظرتك في الظلام، إلى أن خطوتي للداخل.

سددت أذناي عن سماع ما يقول وأنا أصيح:
-توقف.
استمر على تجاهله المتعمد، وأكمل:
-حينئذ التففت لأدور من حولك...
كما كان يسرد راح يعيد تجسيد المشهد بحذافيره، فأقامني من جلستي بغتةٍ، فشهقت صارخة من فزعي، والتف من حولي ليطوقني من عنقي، وجدت يده تكمم فمي، وتسد عن أنفي الهواء، تحدق في أذني هامسًا:
-أطبقت على أنفاسك هكذا أريد خنقك،.

برقت عيناي في ارتياعٍ أشد عندما أشهر سلاحه الناري، ليضع فوهته عند جبهتي، مرغ طرفها الجامد على جلدي، فتضاعفت رجفاتي، ثم واصل هسيسه القائل، وأنا أقاتل للبقاء على قيد الحياة:
-ويدي الأخرى قد أمسكت بالسلاح، كنتي تنظرين إلي بهذه النظرات الباكية المفزوعة غير الواعية...

أزاح يده قليلًا عن أنفي، لأتمكن من التنفس بصعوبة واضحة، بعد أن شعر بتسرب الحياة مني. انخفضت يده الممسكة بالسلاح، وضمني بذراعه ليلصقني بصدره أكثر، وردد بزفيرٍ ثقيل:
-وفي نفس التوقيت ظهر توماسو في مرمى بصري، أصبح الاختيار بينك وبينه، وحسمتُ الأمر في لحظة.
أزاح ذراعه عنه، ومدده للأمام في الفراغ وهو يشرح لي:
-من رمية واحدة ارديته قتيلًا، لم أخطئ هدفي أبدًا، وسحبتك إلى الخارج، لأبدو كمن كان يلهو معك.

بعد أن أنهى جملته تركني فجأة كما أمسك بي، فانتفضت بعيدًا عنه، وكلي يرتجف خوفًا منه، استدرت لأنظر إليه من موضعي النائي عنه، وصرخت فيه بصوتي المتحشرج:
-أنت قاتل، قاتل!
لم يعبأ بهديري، وأعاد سلاحه إلى حامله، انتصب في وقفته واضعًا يديه في جيبي بنطاله، وتابع بتشفٍ وهو يرمقني بنظراتٍ مشحونة بالبُغض:
-حين عدتُ إلى المنزل، أطلعت أمي على الأمر، أخبرتها بما فعلت وأنا أنظر في عينها مثلما فعلت معي.

حملقت فيه بعينين تبكيانٍ في خوفٍ، لم أستطع السيطرة على ارتجافاتي، وزحفت بقدمي إلى الخلف محاولة الهروب من محيطه الخانق لي، راقبني فيجو من مكانه قائلًا بعد تنهيدة سريعة:
-وجراء هذا أصابها مس من الجنون، وراحت تصرخ بهياج، أمسك بها أبي مندهشًا لحالتها، فاعترفت له بفعلتي.
للمرة الأولى رأيته يضحك عاليًا، بلا تحفظٍ، ليبتر ضحكاته بغتةً موضحًا لي:.

-أتصدقين؟ بدلًا من الثورة علي، ولومي، هلل فرحًا، وقال متباهيًا أمامها، ها قد فعلها ابني الزعيم الصغير.
غلف صوته قساوة أشد وهو يقول:
-رأيتها تحترق بقهرها، ولم أحزن عليها، فقد نالت ما تستحق.

حقًا كان قادرًا على استخراج كل المشاعر ونقيضها في نفس الآن، لم أرَ من هو مثله، ولم أعد أريد، نال كل ما يبتغيه بتحطيمي كاملًا، نجح في هدم رواسخي، في إحداث الشروخ بأعماقي. نهج صدري وواصلت نشيجي المرتاع، بينما فيجو يخاطبني في هدوءٍ:
-لاحقًا انتشر الخبر بين الجميع أني من أقدمت على اغتيال توماسو بلا خوف لكونه الخائن، ولم نتطرق لمسألة العشيق، حفاظًا على سمعة أبي، لكن من وقتها أصبح الجميع يخشاني.

أحسست بصوته يشتد، بنظراته تقسو وهو يزيد من القول:
-الصفعة التي تلقيتها قديمًا، رددت بأمثالها كثيرًا، حرصتُ على اصطياد كل من علم بأمره كعشيق واغتياله في هدوء، حتى أهلكت الجميع.
جزءٌ بداخلي رفض التجاوب مع جحود نفسه وشراسته، وهتفت مستنكرة ما أطلعني عليه، ظنًا مني أنه يبالغ من أجل الاستمرار في إرهابي:
-لا أصدق ذلك! كيف يمكنك أن تقتل بهذه البساطة ولا تشعر بالندم؟!

قال في تفاخرٍ أصابني بالغثيان وهو يمرر يده أعلى رأسه:
-اعتدت الأمر حلوتي.
صحت به في انفعالٍ يشوبه نشيج بكائي:
-أكرهك، إنه أبي من قتلته، ألا يؤنبك ضميرك أبدًا؟
صدمني مرة أخرى برده الجامد المجرد من المشاعر، وإصبعه يشير ناحيتي:
-اللعين توماسو هو من تسبب في الخيانة أولًا، ومتوقع أن تسري دماء الخيانة في نسله.
رمقته باحتقارٍ ممزوجٍ بالكثير من الكره، وبادلني إياه بغير ترددٍ؛ لكنه ضاعفه بإنذاره الصريح:.

-لهذا أريد تحذيرك، لا تصغي لكلام الزعيم مكسيم، وتنجبي له أحفادًا مني...
هل يظن أني سأدعه يمسني بعد ما ألقاه على مسامعي؟ إنه واهمٌ، لن يقترب مني، ولن ينالي مُطلقًا! المؤلم في الأمر وإن كنت استبعد حدوثه أنه اعترف لي علنًا بنواياه الشريرة تجاهي، حيث قال ممهدًا لما هو قادم، دون أن تهتز عضلة من وجهه، أو يختلج صوته أدنى ذرة ندم:
-فإن حدث وحملتي جنينًا، سأقتله كأبيكِ...!

تتبع البقية بعد انقضاء شهر رمضان.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة