قصص و روايات - روايات عالمية :

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

بعض الأمور لا يهم فيها مقدار المكسب أو الخسارة، إلا إذا تطرقت للمشاعر الإنسانية المرهفة، حينئذ يكون المكسب مُبهجًا، والخسارة مفجعة، وهذا ما شعرت به مع فيجو، عندما استنكر مشاعري تجاهه، أحسست بروحي كسيرة، بنفسي محطمة. رفضت أن أسير إلى جواره، وأسرعت في خطاي بقدمي العاريتين على الأرضية المملوءة بكل ما هو جارح لباطن القدم، لم أكترث، ولم يشكل ذلك فارقًا معي، فالألم المعنوي أقسى في جرحه من الجسدي.

تطلعت بنظرات جمعت بين السخرية والعجب لسيارة الليموزين الرابطة في انتظارنا، لم نأتِ في واحدة في أول السهرة، ومع ختامها تنتظرنا باعتبار كوننا –مجازًا- على موعدٍ مع المزيد من اللقاءات الحميمية المميزة، يا للتعاسة! اتجهت إليها أجرجر قدمي، ثم جلست بعد لحظاتٍ باسترخاء على المقعد الخلفي، واضعة حذائي بإهمالٍ على أرضية العربة، تركت ملمس المعدن البارد يتسلل إلى جلدي الملتهب.

الغريب أن لحظات الحزن والإحباط تبددت وراحت تحل محلها لحظات الانتشاء والهذيان، يبدو أن ما سرى في دمائي من مواد مخدرة يفعل بي الأعاجيب، ولم أمانع، فما الذي ظل لدي لأخشى فقدانه؟ في البداية وجدتني أضحك بصوتٍ مكتوم، ثم حررت ضحكاتي لتنطلق عاليًا في نشوة متزايدة، أدرت رأسي ناحية فيجو الذي استقر إلى جواري، فقلت وأنا أضع يدي أمام فمي:
-عذرًا، لم أستطع منع نفسي.

سحبت نفسًا عميقًا لأتمكن من كتم ضحكاتي الغريبة؛ لكني فشلت، وتركتها تعبر عن مدى ابتهاجي المتناقض، أدمعت عيناي من كثرة الضحك الهيستري، ونظرت إليه لأخاطبه:
-أبدو كالمهرج وأنا أعبر عن حبي لك، وأنت قاتل أبي، وخالي، وغالبية أحبتي.
مسحت ما انساب من دموع من على وجنتي غير مكترثة بتلطيخ وجهي، وتابعت في صوت جاد قبل أن يختلط بالقهقهات:
-كيف أقع في حب شخصٍ مثلك؟

رمشت بعيني، وتأملته للحظة تصنعت فيها وجومي، ثم أضفت وأنا أشير إليه:
-أنا حقًا مريضة، لستُ بعقلي، فلا يوجد إنسان سوي يحب معذبه!
كان فيجو يتابعني بلا تعليق، يحدق في بصمتٍ، فأشحتُ بوجهي للجانب، ورفعت يدي أعلى رأسي لأحرر هذه الكومة الحبيسة، فانساب شعري في فوضوية على كتفي وخلف ظهري. تنهدت في مللٍ، وصارحته هازئة:.

-لم يخطئ الطبيب النفسي عندما وصف لي الدواء لأتجرعه كل ليلة؛ لكن يبدو أن آثاره الجانبية قد جاءت معي بالعكس، فبت أحبك.
زممتُ شفتي، ثم وضعت إصبعي أسفل ذقني قائلة:
-أنصحك أن تغير ذلك الطبيب وتأتي لي بآخر، فربما جعلني أكرهك أكثر، وانتقم منك بضراوة.
النظرات البارزة على تعابيره تجاهي أصابتني بالحيرة، ومع ذلك استطردت في صوت شبه آمر مشيرة له بسبابتي:
-اقترب قليلًا...

لم يتحرك من موضعه، كأنما يتعمد الانصياع إلى أمري، مما أغاظني، لهذا تزحَّفت ناحيته، وملت نحو أذنه هامسة:
-لا تدفع له أيضًا، استعد أموالك.
ثم أرحت رأسي على كتفه ساحبة شهيقًا عميقًا ممتزجًا برائحة عطره وأنا أعترف له:
-أنك مميز في اختيار عطرك، دومًا يترك أثره إما على ثيابي أو جسدي...
ضحكت بخفوتٍ، وهمست:
-كأنك توصمني بك.
شعرت بيده توضع على جانب ذراعي، تتلمسها في رفقٍ، قبل أن يتكلم أخيرًا:.

-حينما تفيقين لن تتذكري ما حدث.
تخللتني قشعريرة خفيفة، تلك التي تجعل وميض الأحاسيس يشتعل، ناظرته عن قربٍ خطير، وشردت في هذه التوريات النافذة التي تحتويها حدقتيه، لم أكن قادرة على صد ما يحاول إشعاري به، فلا يزال إحساس الإهانة متغلغلًا في، لهذا أزحت يده بعيدًا، وقلت وأنا أعتدل في جلستي لأشير نحو قلبي:
-نعم؛ ولكن سيظل ذلك موجوعًا.

مرة أخرى نظرت ناحيته، وبعمقٍ، أكاد أجزم أني رأيت هذه النظرة الغامضة المليئة بعلامات الحيرة تحتل حدقتيه، تلك التي تستثير شكوكي دومًا، وتجعلني أتساءل، هل حقًا يهتم لأمري؟ لمحت من زاويتي حامل أسلحته ظاهرًا من خلف سترته، خاصة مسدسه، دون ترددٍ مددت يدي لأسحبه، تفاجأ بي استله، فأوقفني بالإمساك برسغي، حاولت جاهدة أخذه وأنا أخبره بعزمٍ:
-قد يكون علاجه في إسكات صوت الألم الموجود به للأبد.

نهرني دون أن يكون غليظًا معي:
-توقفي.
هتفت بتصميمٍ طفولي:
-انتظر أريد التجربة.
تمكن من إبعاد يدي كليًا عن خاصته، ودفعني قليلًا عنه قائلًا بغير رضا:
-من الأفضل أن تبقي مكانك ساكنة ولا تلمسي شيئًا.
نفخت في تذمرٍ قبل أن أبدي احتجاجي علنًا:
-ألا تكف عن إصدار الأوامر أبدًا؟
ضحكت هازئة منه، وأضفت:
-إنه شيء ممل.

فركت جبيني في تعبٍ، ونظرت إلى زجاجات الخمر المرصوصة جنبًا إلى جنب عند الزاوية مليًا، كانت من النوع العتيق الذي لم يعد يتم صناعته، مما أثار اهتمامي، خاصة هذه الفوهات المسدودة بالخشب المصنوع من البلوط، إنه دومًا يهتم بما هو فريد وغير موجود، ما يوشك على الانقراض، مثلي تمامًا، فإن قُتلت فرضًا لن يكن لي بديلًا في غباوتي. تنهدت بعمقٍ، وتكلمت ساخرة:.

-يا إلهي، يبدو أني قد أصبت بلعنة حبك، لا يتوقف عقلي عن التفكير بك على أي صورة.
كركرت ضاحكة بشكلٍ هيستري قبل أن أتابع:
-ويا لها من لعنة سقيمة، نهايتها الموت!

مددت يدي لألتقط واحدًا من الكؤوس المصفوفة إلى جوار بعضها، ثم سحبت زجاجة الخمر، وضعت فوهتها بين شفتي لأنتزع السدادة الخشبية التي تسد فتحتها، قذفتها للأمام وأنا أشعر بالألم يجتاح أسناني؛ لكن ذلك لم يمنعني من التمتع بما حظيت به، ملأت كأسي لأكثر من نصفه، تجرعت القليل، وسكبت البعض على ثوبي وعلى أرضية السيارة، كنت أتصرف بطريقة خرقاء. هزأت من حماقتي قائلة:
-لا أبدو كسيدة مجتمع متحضرة وأنا هكذا.

أرحت الزجاجة في المنتصف بيني وبين فيجو، ومددت إليه يدي بكأسي قائلة في نوعٍ من الإلحاح:
-هيا تناوله معي..
نظر إلي بعبوسٍ ملحوظ، فغمزت له هاتفة:
-لا تقلق ليس مسممًا، لقد تذوقته قبل، إنه رائع المذاق.
رفض عرضي مغمغمًا:
-ربما لاحقًا.
نظرت له باستنكارٍ، وعلقت بتبرمٍ:
-أنت حقًا لا تجيد الاستمتاع بوقتك.
جاء تعقيبه محيرًا:
-يكفي أن أراكِ تلتهين.

ارتشفت كل ما في الكأس جرعة واحدة، ثم تجشأت في صوتٍ خفيض، واستطردت مبررة:
-هذا ما لدي لأفعله بعد أن أثبت فشلي في كل شيء، حماية عائلتي، الزواج بك، وفي كسب قلبك...
وضعت الكأس مكفيًا على جانبه في الرف، وأكملت برأس مترنح:
-وحتى سيلفيا تفوقت علي.
مع حركة السيارة دار الكأس حول نفسه، وسقط أرضًا دون أن يتهشم، فأشرت إليه صائحة بصوتٍ مال للضحك:.

-انظر إلى ذلك أيضًا، لم أستطع وضعه بشكلٍ صحيح، أترى كيف أصبحت أكثر فشلًا؟
فجأة أحسست بنوبة من الغثيان تضرب معدتي، فوضعت يدي عليها قائلة بإعياءٍ:
-لا أشعر أني بخير...
زادت اهتزازات السيارة من هذا الشعور المؤلم، فصحت في حدةٍ:
-سأتقيأ، أوقف السيارة.

بالفعل أعطى فيجو أوامره للسائق لإيقافها، وبمجرد أن ترجلت منها، وهرولت لخطوات معدودات نحو بقعة خاوية شبه معتمة على الطريق راحت معدتي الهائجة تثور، وتفرغ ما فيها، حقًا كنت في حالة مزرية، وكريهة. أبقيتُ رأسي منخفضًا، وظهري منحنيًا للحظاتٍ حتى تهدأ اضطرابات معدتي، ثم رددت في يأسٍ:
-لقد اكتملت الليلة بذلك القرف.

شعرت بيده تتلمس ظهري العاري، فاقشعر كامل بدني، لم أجرؤ على رفع رأسي ناحيته؛ لكني سمعته يسألني:
-هل أنتِ بخير الآن؟
حاولت الاعتدال، وتجنبت النظر ناحيته، ثم أخبرته وأنا أتحرك تجاه السيارة:
-نعم، لنذهب.

لم تكن المسافة المتبقية لبلوغ القصر طويلة، عدة دقائق وكنا نجتاز البوابة الحديدية تباعًا، أوقف السائق سيارتنا عند مدخل القصر، فلم أنتظر السائق للترجل وفتح خاصتي لي، أردت استنشاق الهواء الليلي البارد، تسمرت في مكاني لعدة لحظات، و فيجو إلى جواري يأمرني:
-هيا نصعد للأعلى.
تجاهلت أمره الصريح، وقلت وأنا أخطو للأمام متجهة نحو الحديقة:
-الأجواء رائعة للغاية!

لحق بي ليمسك بذراعي مستوقفًا إياي عنوة، وقال في حزمٍ:
-أنتِ بحاجة للاغتسال والراحة.
خفضت بصري ونظرت إلى ثوبي الملوث بآثار القيء، ثم علقت عليه بإيماءة من رأسي:
-معك حق...
تحولت بناظري تجاهه، وأتممت جملتي وهذه الابتسامة العابثة تحتل زاوية فمي:
-لا يصح التجول هكذا.
وضعت يدي الطليقة على كتفي لأزيح الحامل جانبًا، فانكشف جزءًا واضحًا من مفاتني، ملت ناحيته لأخبره بمكرٍ مثير:
-سأخلعه، وأسير عارية.

امتدت كلتا يديه لتقبض على ذراعي، هزني في عنفٍ وهو ينهرني بلهجته الصارمة:
- ريانا!
ارتج كل ما في بقوةٍ، وعاندته بغير مبالاة:
-لن يراني أحد، الكل نِيَام...
من جديد شعرت بهذه الاهتزازات القاسية تجتاحني، وصوته الآمر يخترق طبلة أذني:
-توقفي.
سألته في استهجانٍ عابس:
-لما أنت منزعج؟

رأيت كيف قست ملامحه، وكيف بدت نظراته أكثر حدية وغضبًا، لم أعبأ بحنقه الآخذ في التصاعد، بل تمسكت بعنادي، وتلويت بجسدي محاولة التحرر منه، زفرت في ضجر من عدم نجاحي، وقلت بغيظٍ مستاء:
-ألم يكن ذلك تهديدك لي سابقًا؟ لما لا أفعل ذلك الآن؟
أتى رده مزعوجًا ومصحوبًا بهزة قوية:
-أنتِ لست في حالتك الطبيعية!
دُرت برأسي للجانبين، قبل أن أهمس له بتحذيرٍ.

-ششش، اخفض صوتك، سيسمعنا أحدهم، وقد يكون عمي مكسيم مستيقظًا بعد...
ثم ضحكت في ميوعةٍ وتابعت:
-ولن يعجبه اقترابنا الحميمي...
رمقني بهذه النظرة القاتمة، فأوضحت أكثر:
-فالحب محرم هنا.
لدهشتي أرخى قبضتيه عني، وتركني طليقة، عندئذ فردت ذراعي على اتساعهما، وسحبت نفسًا عميقًا ملأت به رئتي، ثم لفظته على مهلٍ وأنا أردد:
-أوه، يا للهواء المنعش!

فجأة وجدت قدمي لا تلامس الأرضية، حيث رفعني كالجوال على كتفه ليحملني، اغتظت من تصرفه، ودمدمت وأنا أضرب ظهره:
-اللعنة، توقف عن ذلك.
رد في صوتٍ أجوف:
-أنتِ أصبحتِ خارج السيطرة، من الأفضل أن أعود بكِ للداخل.
ولج بي لداخل بهو القصر، فحاولت رفع جسدي والاستقامة؛ لكن لم أستطع، كانت قواي شبه معدومة، توقفت عن المقاومة، وأخبرته بأنينٍ:
-أنت تضغط على معدتي، إنها تؤلمني.

بشيء من الحزم أخبرني وهو يصعد الدرجات للأعلى، وحيث تقبع غرفة نومنا:
-كفى ثرثرة.

حين وصلنا إلى المكان الذي يجمعنا ليلًا، مددني فيجو بحذرٍ على الفراش، تعلقت بعنقه وأنا أضحك لأمنعه من الاستقامة؛ لكنه تمكن من إزاحة ذراعي وتركني مستلقاة بلا قدرة على فعل أي شيء، شعرت بملمس الأغطية الناعمة أسفل مني، فتمرغت فيها بدلالٍ، بينما راحت نظراتي الفضولية تفتش عنه، رأيته يغلق الباب بالمفتاح، فزويت ما بين حاجبي متسائلة بتعجبٍ:
-ماذا تفعل؟
أجاب وهو يستدير ليواجهني نازعًا عنه سترته:.

-من الأفضل أن أبقي الباب موصدًا.
رفعت جسدي لأعتدل، وقلت وأنا أرخي حاملي كتفي ثوبي لأكشف عما أملك من مقومات طبيعية:
-كما تريد.
أبقيتُ نظراتي مسلطة على وجهه، فوجدته لا يرمش، يراقب ما أفعل بهدوءٍ مريب، رغبت في استفزازه، وقلت وأنا أسحب الثوب من عند قدمي:
-ما أجمل ذلك الشعور، التجرد من كل شيء.

يبدو أن محاولة مقاومة إغواء الأنثى وهي في حالة انتشاء ورغبة كان عسيرًا، لبى فيجو دعوتي المبطنة، ودنا من الفراش بعد أن تخلى عن ثيابه هو الآخر، ليبدأ في التودد إلي مظهرًا هيمنته الذكورية المتفردة، تركته يتولى قيادة مسار علاقتنا، يدك الحصون، ويحتل القلاع، رافعة رايات استسلامي البيضاء، حتى ارتفعت ألسنة اللهب في أجسادنا مع انسجامنا المتزايد، سألته، وأنا أهمس بالقرب من أذنه:
-لما لم تحبني؟

من علياه شعرت به يتصلب في انزعاجٍ، كأنما لم يستسغ ما أطلعته عليه، ومع ذلك لم أتوقف عن استخراج ما أريد سماعه منه، فحاصرته بسؤالي التالي:
-ما الذي ينقصني لتشعر بوجودي؟
همس لي مناديًا بنفسٍ ثقيل حار:
- ريانا.
جاء صوتي مهتزًا، خفيضًا، مغلفًا بالمرارة والألم وأنا أنتقل للسؤال التالي:
-ألستُ كافية لإسعادك؟
طيبت كلماته الخافتة –تلك التي بدت كبلسمٍ وضع على جرح ملتهب ليداويه- عندما أفصح بنزقٍ:.

-بل أنتِ فيكِ كل ما أريد.
سألته والدمع يترقرق في عيني تأثرًا:
-إذًا لماذا لا آ...؟
لم أكمل جملتي بسبب هذه القبلة الجائعة التي تلقيتها، لا أعرف إلى متى امتدت؛ لكن بمجرد أن توقف همست بخفوتٍ مليء بالاحتياجٍ:
- فيجو.
أطبق بكله على كلي، وأخبرني بما لا يدع مجالًا للشك في نفسي بأنه يكن لي شيئًا وإن كان ينكره:
-لا داعي للحديث الآن، فأنا أرغب بكِ، وبشدة.

في لحظة فريدة، متفردة، ونادرة الحدوث تلاشى الوحش الآدمي القابع بداخله، وتحول إلى آخر أكثر ترفقًا وتلطفًا، كان كما أريد، مفعمًا بما تعشقه الأنثى، مما جعلني أمنحه نفسي كما لم أفعل من قبل، كأني أغرقه في نعيم جناتي، تركته يتخللني، وأعطيه من حرارة مشاعري ما بدا شبيهًا بحمم البركان الثائرة، فصال وجال وحقق أعظم الانتصارات، كانت مع انقضاء ظلامها الحالك ليلة مختلفة للغاية، قد لا تعوض حين يعود الإدراك إلى كلينا...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة