قصص و روايات - روايات عالمية :

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والعشرون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والعشرون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والعشرون

كنت أقرب إلى قطعة أثاث متروكة بإهمالٍ في منزلٍ باهظ الثمن، اشتراها أصحابه للتفاخر، وتركوها بعد أن تلاشت الرغبة في انتقائها، كم أبغض هذا الشعور المقيت بالتجاهل والإنكار! مضت ثلاثة ليالٍ وأنا لا أزال أمكث بمفردي، الخادمة تلازمني نهارًا، ومع هبوط الليل أبقى وحيدة، أحادث الفراغ، إلى أن أغفو من إحساسي العجيب بالتعب والإرهاق رغم أني لا أفعل ما يستدعي هذا الشعور. المريب في الأمر أن معظم الوقت كنت أبدو كسلى، يغلبني النعاس، فاقدة للنشاط، على عكس طبيعتي الحماسية، وكأن أحدهم يضع لي مثبطًا لأصبح هكذا، ولا استبعد حدوث ذلك! من أجل تحجيم غضبي من حبسي هكذا والسيطرة على نوبات هياجي.

في اليوم الرابع تحديدًا قررت العزوف عن تناول الطعام أو الشراب، لأتأكد من شكوكي بهذا الشأن، أريد أن أكون في كامل وعيي وطاقتي، فقد احتاج إليها إن حدثت المواجهة المتوقعة، اندهشت من إلحاح الخادمة المستريب وهي تعاود تكرار الأمر علي كل نصف ساعة:
-سيدتي، ألن تتناولي الطعام؟
بفتورٍ ظاهر على محياي أخبرتها:
-لا أريد.
أصرت على طلبها قائلة بتهذيبٍ:
-ولكن، إنها أصنافك المفضلة، لقد أعددتها خصيصًا لأجل إسعادك.

صحتُ في عصبيةٍ:
-قلتُ لكِ لا أريد، هيا اذهبي.
سألتني في حذرٍ:
-هل أحضر لك شرابًا؟
هدرت بها:
-لا، ألا تسمعي بوضوح؟ اذهبي!
لم تجد بدًا من الانسحاب، وقالت في طاعة:
-حسنًا.
قررت مراقبتها عن كثبٍ، دون أن تنتبه لي، لأكشف ما تفعله خلسة، صحَّت شكوكي عندما سمعتها تهاتف أحدهم في خفوتٍ وهي تاركة لباب الحمام موارب قليلًا:
-سيدي، إنها لا تريد، ماذا أفعل معها؟
صمتت للحظات، لتتابع بعدها:
-كما تأمر، سأحاول من جديد.

حين استدارت لتخرج، تفاجأت بي في انتظارها، ظهر التلبك على محياها، وسألتني بربكةٍ:
-أتريدين شيئًا سيدتي؟
أمرتها في صوتٍ صارم، والشرر يتطاير من عيني:
-اطلبي رئيسك فورًا!
حاولت التغطية على كشف أمرها، فأسرعت بتلفيق كذبة غير مرتبة:
-ولكن، أنا كنت أتحدث مع آ...
قاطعتها بصوتي الهادر وأنا أشير بإصبعي محذرة:
-لا تكذبي، لقد سمعتك تكلميه.
تجمدت نظراتها الحائرة علي، فأمرتها مرة ثانية بتهديدٍ صريح:.

-اطلبيه، وإلا سأقتلك.
لم تعرف ماذا تفعل، فالمفاجأة قد أربكت تفكيرها، لهذا اضطرت رغمًا عنها أن ترضخ لي، وقامت بالاتصال ب فيجو، والذي كنت متأكدة أنه لن يتردد في الإجابة على مكالمتها. نظرت إلي الخادمة بتوترٍ، ورأيت كيف بدأت في التعرق وهي تخاطبه:
-سيدي آسفة لإزعاجك، ولكن آ...
اختطفت الهاتف عنوة من على أذنها، لأكمل في هديرٍ حانق للغاية:
-ربما نسيت وسط مهامك الكبرى يا زعيم أن لديك زوجة.

جاء رده باردًا سمجًا كالمعتاد:
-لست متفرغًا لهرائك.
كنت في أوج غيظي وضيقي، وفاقدة للقدرة على ضبط انفعالاتي، لهذا تركت العنان لغضبي، فانفجرت صائحة به بنبرة شبه احتقارية وأنا أسير نحو غرفة النوم:
-اسمعني يا هذا...
تحركتُ بعيدًا عن الخادمة، رغم يقيني أنها تتبعني كظلي، لأكمل صياحي المهدد:
-إن لم تأتِ اليوم إلى هنا، سألقي بنفسي من الشرفة.
يبدو أنه استخف بتهديدي، فعلق مقتضبًا:
-حقًا؟

صرخت في انفعالٍ أشد، ووجهي يشتعل بحمرته الحانقة:
-اقسم لك أني لا أمزح، لقد سئمت من كل شيء، فلا مانع إن تخلصت من حياتي، وأظن أنك لن تحزن أبدًا، فلا داعي لإطالة مدة العذاب هذه دون جدوى لكلينا.
قال في عبثيةٍ استفزتني:
-أكل هذا لغيابي عنك عدة أيام؟ أجسدك متعطش للارتواء؟
من يظن نفسه ليتوهم أني لا أطيق صبرًا لبعاده، لعنته بين غضبي:
-أنت وقح.

لم أسمع ما يقوله على الطرف الآخر، حيث استدرت لأواجه الخادمة، ثم ألقيت لها بالهاتف، لأشير لها بسبابتي وأنا أطردها بوقاحةٍ:
-اخرجي، لا أريد رؤية وجهك.
تطلعت إلي بترددٍ، فأعدت الأمر بتهديدٍ شديد اللهجة:
-هيا من هنا، اغربي عن وجهي وإلا سألقي بكِ قبلي.

يبدو أنها خشيت من تهوري الجامح، فانسحبت في التو مغادرة المنزل، لأبقى في قمة عصبيتي بمفردي، وهذه الأفكار السوادوية تراودني لأقوم بتنفيذها في الحال قبل أن يفكر في لمسي، خاصة مع إبقاء نظراتي معلقة بالشرفة المفتوحة.

بغيظٍ مكبوت حدقت في الباب حين فُتح بعد مرور ساعتين، لأجد فيجو يدخل منه إلى البهو بعد غيابٍ قارب الأربعة أيام، كنت متأهبة لمواجهته، وأرتدي ثيابًا ملائمة لذهابي إن دعت الحاجة لذلك، فيما عدا الحذاء، فضلت أن أبقى حافية القدمين. في البداية رمقني بنظرة مطولة غريبة، طافت على ثوبي الأسود، إلى أن تجمدت لهنيهة على أصابع قدمي، لم تكن ثيابي مثيرة لدرجة لفت الأنظار، بل أقرب إلى الرسمية، ومع ذلك ظل يطالعني مليًا ولم ينبس بكلمة واحدة، فبادلته نظرة نارية حانقة، إنه بارع في استفزازي ببروده وصمته المتقن. طاردته بنظراتي وهو يقترب من البار ليفرغ في واحدٍ من الكؤوس الفارغة بعض المشروب المُسكر، تجرعه في فمه على دفعة واحدة، وهو ما زال محافظًا على صمته، وكذلك نظراته المرتكزة علي.

توقعت أن يبدأ بالحديث؛ لكنه لاذ بالسكوت، منحني نظرة أخرى جافة قبل أن يترك الكأس على سطح البار، ويستدير متجهًا نحو غرفة النوم، وكأنه لم يفعل شيئًا. تبعت خطواته متسائلة في صوتٍ مشحون ينم عن غضبي المندلع:
-أين كنت طوال هذه المدة؟
قال في جفاءٍ يحمل اللوم:
-أرى أنكِ بخير، لم يكن هناك داعٍ للتصرف بهذه الحماقة.
صحتُ به في عصبية مبررة:.

-ألا يحق لي الغضب لحبسي هنا في هذا المكان اللعين؟ ولن أتحدث عن تخديرك لي طوال الأيام الماضية.
التفت ناحيتي وهو ينزع عنه سترته ليظهر حامل الأسلحة الجلدي. ، ثم قال محذرًا:
-اسمعي، أنا لم أنم منذ عدة أيام، وكنت مشغولًا بحل بعض الأمور الهامة، فلا تجعليني انشغل بكِ حاليًا.
رأيتُ بقع الدماء على قميصه الأبيض، فانقبض قلبي تلقائيًا، ومع ذلك تمسكت بصمودي الزائف لأطلب منه في حدةٍ:.

-وأنا لا أريد الانشغال بك مُطلقًا، أريد الذهاب من هنا.
أزاح عنه حامل السلاح، وبدأ في حل أزرار قميصه، ليخبرني بنفس النبرة المحذرة:
-أنتِ زوجتي إن كنتِ نسيتي هذا، فلن تتحركي من أي موضع إلا وفقًا لرغبتي.
ضربت بقدمي الأرض وصوتي يرن في تذمرٍ غاضب:
-اللعنة عليك وعلى رغباتك.
أمرني بوجه جامد التعبيرات:
-أعدي لي كأسًا، هيا.

ثم تركني بعد أن ألقى بقميصه على الأرضية ليتجه نحو الحمام، رأيت على ظهره آثار سجحاتٍ، وكدمات، وبعض الجروح الحديثة، فخفق قلبي في جزعٍ من مجرد تخيل ما حدث. انفلتت مني صرخة متذمرة، لأندفع خارجة من الغرفة نحو البار، أردت إفراغ الطاقة الحانقة المحبوسة بداخلي، فلم أصبها سوى على القنينات الغالية، أمسكتُ بأول زجاجة، وقذفت بها بعصبية على الأرضية، لتتهشم كقنبلة إلى عشرات القطع الحادة، ويتناثر ما كان بها من خمرٍ في فوضى عارمة.

لم أتوقف عند ذلك الحد، بل سحبت أخرى وألقيت بها، لأمسك بالثلاثة وأرميها في جنونٍ. خرج فيجو من الحمام بثيابه التحتية لينظر إلي مدهوشًا، قبل أن يسألني:
-ماذا تفعلين؟
أخذت الزجاجة الرابعة وألقيتها في تعصبٍ قبل أن أجاوبه بابتسامة سخيفة:
-أفسد ما تبقى من يومك المزدحم زوجي العزيز.
وضع يديه على خصره معلقًا في هدوء:
-حسنًا، أنتِ من سينظف هذه الفوضى.
أمسكت بالزجاجة الخامسة لأخبره بتحدٍ، وأنا استعد لتطويحها:.

-هذا إن بقيتُ هنا.
فجأة شعرت بوخزة حادة مؤلمة، ضربت في جانب كتفي الأيسر، وكأن ألسنة اللهب قد اندلعت في هذا الجزء، لأجد بعدها خيوط الدماء تنساب على صدري، فنطقت بصوتٍ مرتجف:
-ماذا فعلت؟
حملقت للأمام في وجه فيجو الذي بدا للغرابة مندهشًا مثلي، لأسأله بعدها في استنكارٍ، وهذا الدوار العظيم يطوف برأسي:
-أقتلتني لأجل هذا؟
هرول ناحيتي مناديًا في صوت يبدو أني توهمته مذعورًا:
- ريانا.

سقطت في أحضانه، ورفعت نظراتي المشوشة ناحيته لأخبره بوهنٍ، كأني ألومه:
-إنها مجرد زجاجات خمر.
طوقني بذراعيه، وسحبني وهو منخفض بعيدًا عن موضعي، فصرخت من الألم السافر الذي عصف بكتفي، ظل يصيح بي:
-أفيقي؟
شعرت بقبضته تمس الجزء الملتهب من كتفي، فأطلقت صرخة موجوعة للغاية، سمعته يكلمني:
-إنها ليست خطيرة، لقد خرجت الطلقة من كتفك.
كنت ابتسم وأنا أردد قبل أن يحط الظلام على مداركي اليقظة:
-طلقة! الآن ستستريح مني.

لم يقلقني الظلام ككل مرة، بل أسعدني قدومه، كان آخر ما سمعته منه صوته الآمر لأحدهم، قبل أن يختلط بأصوات أكثر صخبًا، ليعمَّ السكون التام حولي.

ما عايشته لاحقًا كان مبهمًا، متخمًا بالضلالات المتداخلة، فلم أعرف إن كنت يقظة أم ما زالت أعايش هذا الهذيان الغريب، في بعض الأحيان بدت الأصوات من حولي واضحة، وفي أحيانٍ أخرى كانت غير مفهومة، أذكر أن صوت فيجو كان قريبًا للغاية مني وهو يأمر أحدهم:
-استدعي الطبيب مرة أخرى، أريد التأكد من التِئام الجرح.
رد عليه صوتًا مألوفًا لدي:
-إنه في الطريق، لا تقلق.
عاد ليتكلم بحزمٍ:.

-كل من تورط في عملية الاغتيال هذه سيحاسب.
عن أي اغتيالٍ يتحدثان، لم أحاول تفسير ما يصل إلى مسامعي من عباراتٍ غامضة، كل ما أردته هو النوم العميق، وتوقف شعور الألم الذي يُفسد علي راحتي. تسلل صوت فيجو مرة ثانية إلى طبلة أذني وهو يتلو أوامره:
-تأكد من تأمين محيط القصر، ضاعف الحراسات، وأعد حاصدي الأرواح للقيام بعملية ضخمة الليلة.

تطرقه لذكر هذه الفئة، يعني إعطاء الأمر المباشر بمذبحة بشعة، ألن يتوقف أبدًا عن قتل البشر؟ أم أن في هذا متعة مريضة له؟ استسلمت لإغراء النوم الدافئ الذي راح يداعبني، وتراخت حواسي مع أطرافي لأغرق في نعيمي المؤقت، إلى أن أفسده أحدهم بلمساته القاسية على موطن جرحي، تأوهت من الألم الشديد، وصرخت بغير تركيزٍ وأنا أحاول إبعاد اليد التي تمس جلدي، وعيناي لا تزالا مطبقتان على بعضهما البعض:.

-كم هذا مؤلم، لا تلمسني.
أتى الصوت الذكوري مطمئنًا:
-ستكونين بخير.
رددت محتجة على لمساته المزعجة على جلدي:
-أو لا أكون، لا يهم، دعني استريح نهائيًا.
قال بعد دقيقة من فحصي:
-حسنًا.
وقتئذ أيضًا سمعت فيجو يسأله:
-هل ستكون بخير؟
أجابه من كان قريبًا مني:
-لا تقلق سيدي، ستتجاوز مرحلة الخطر.

عن أي خطر يتكلمان؟ أنا أشعر برغبة عارمة في النوم، ولا أريد التفكير في أي شيء، أوقفت عقلي عن إرهاقه بما لا يفيد، واستسلمت للثقل الذي استحوذ على رأسي، فلم أسمع ما قيل بعد ذلك، وحلقت في الأحلام العجيبة التي راحت تحتل مخيلتي.

تواترت على موضع إصابتي وخزات حادة، أجبرتني على الاستفاقة بالتدريج من هذا السبات المتواصل، استغرقني الأمر عدة لحظاتٍ لاعتاد النظر بلا تشويش ضبابي. وجدتني في غرفة مختلفة كليًا عن السابق؛ لكنها تتفق في لون الأثاث الداكن القابض للروح. تراجعت بظهري للخلف بحذرٍ لأرفع من مستوى نظري قليلًا، واستندت على الوسادة الناعمة، كانت مريحة، أكاد أغوص بداخلها. تنهدت عدة مرات، وتأملت ما وُضع على جسدي من ثياب، كنت أرتدي منامة حريرية كحلية اللون، بحملات كتفٍ رفيعة، وسروال فضفاض. طُفت ببصري على الجبيرة المعلقة، وتحسستها في حرصٍ وأنا اتساءل بتحيرٍ:.

-ما الذي حدث لي؟
فركت جبيني بيدي الطليقة بعد أن رفعتها للأعلى، وبدأت في تذكر ما مررت به في صورة لمحاتٍ خاطفة، لأتنهد بعدها مطولًا، وأضيف:
-ماذا أتوقع من عائلة تنحدر عن عتاة المجرمين؟

ظللت راقدة في مكاني لعدة دقائق، أعبث بشعري وأمسده لأسوي أطرافه المهوشة، إلى أن أصابني الضجر من المكوث هكذا دون فعل شيء، لذا قررت النهوض، واكتشاف أين أتواجد حاليًا. بحذرٍ شديد زحفت إلى طرف الفراش، واستعنت بيدي غير المصابة لأقوم واقفة. أصابني دوار طفيف، فجلست سريعًا لئلا أفقد اتزاني، ثم عاودت المحاولة بعد دقيقة، وقمت سائرة تجاه نافذة الشرفة، أزحت الستائر الداكنة قليلًا لأجد النهار ما زال ساطعًا، رددت مع نفسي بقدرٍ من الحيرة:.

-حسنًا، هذا جيد، لم يهبط الليل بعد؛ ولكن في أي يوم نحن؟
أمعنت النظر في الفضاء الأخضر الممتد على مرمى البصر، كان مألوفًا إلى حد كبير، فتساءلت، وكأني أفكر بصوتٍ مسموع:
-هل عدتُ إلى القصر مرة ثانية؟
أخذت أدور ببصري في الأرجاء لأتأكد من تخميني، وبدا كل ما أراه معتادًا علي؛ لكن من زاوية مغايرة، فقلتُ لنفسي:
-إن كنت بالقصر، فلمن الغرفة إذًا؟

ارتجف قلبي حين طاف بمخيلتي وجه فيجو، تلبكت واستدرت كليًا دفعة واحدة لأجد شكوكي قد باتت حقيقة ملموسة، بالفعل صورته الفوتوغرافية معلقة على ركن بالغرفة لم ألمحها في البداية، تطلعت إليه بمهابةٍ فرأيت كيف يبدو مهيبًا وهو في كامل قوته وسلطته، تساءلت بساذجة مستنكرة:
-ماذا أفعل هنا؟

تذكرتُ أني أصبحت زوجته مؤخرًا؛ ولكني لم اعتد بعد على مشاركته كل ما يخصه بشكلٍ رسمي وعلني. عنفت نفسي لنسياني الأحمق، فهمست بصوتٍ خافت للغاية:
-بالطبع لابد أن تتواجدي في غرفته، فأنتِ زوجته، وطبيعي أن يكون هذا فراشك.
سحبت شهيقًا عميقًا لفظته على مهلٍ، ثم تحركت من موضعي نحو الباب، ولسان حالي يتساءل:
-لكن أين هو؟

حسمت الأمر بعدم إضاعة الوقت في الحيرة والتفكير، وقررت الخروج من الحجرة؛ لكني نظرت إلى هيئتي أولًا في المرآة لأتأكد من ملامح وجهي بعد إزاحة آثار النعاس من عليه، وتسوية المتمرد من خصلات شعري. ارتعشتُ حين فتحت الباب، حيث اندفعت كتلة من تيار هواء بارد لتضرب بشرتي، زادت رعشتي، فقررت بلا تفكير العودة للداخل لأسحب الروب الخاص بمنامتي، والمتروك على حافة الفراش، طرحته على كتفي دون أن ارتديه فعليًا، فمهمة تحريك ذراعي المصابة كانت شاقة ومؤلمة، ولم أرغب في إجهاد نفسي دون داعٍ.

وقفت في الرواق اتلفت حولي بنظرات متحيرة، رغم كون المكان مألوفًا إلا أني لم أجيء لهذا الجانب من القصر، فقد بدا معزولًا إلى حد كبير، ويحظى بقدرٍ من الخصوصية. تحركت على مهلٍ في اتجاهين متعاكسين إلى أن اكتشفت مكان سلم الدرج، هبطت عليه للطابق السفلي، وللغرابة لم أجد أحدًا من الخدم، بدا المكان هادئًا بشكلٍ يستثير الريبة. دق قلبي في خوفٍ، لن أنكر أن هاجسًا مزعجًا راودني بأني ساتعرض للاغتيال مجددًا، أو ربما الاختطاف، أيهما أقرب للحدوث.

ضحكت في نفسي ساخرة، ونفضت الفكرة الغبية عن رأسي، فلستُ على هذا القدر من الأهمية ليتقاتل الجميع من أجلي، ناهيك عن وجود عشرات الأشخاص ممن يتولون الحراسة والتأمين هنا. واصلت نزولي الحثيث بتؤدة، إلى أن وصلت إلى نهاية الدرج، تلفتُ حولي، ولم أجد أي شخص، تحركت فيما بدا وكأنه طرقة شاسعة لانتقل منها نحو البهو المتسع، حيث اعتدت الجلوس مع والدتي وشقيقتي، تُرى أين ذهبتا؟ انتفضت بداخلي مشاعر الشوق والحنين إليهما. قلتُ في نفسي كنوعٍ من الطمأنة:.

-ربما هما تجلسان معًا بالخارج، ف صوفيا تحب الأماكن المفتوحة.
أكملت المشي البطيء تجاه الشرفة التي تطل على الحديقة؛ لكني توقفت في منتصف المسافة حينما سمعتُ صراخًا مكتومًا، ارتاع قلبي وجزع في توجسٍ شديد، حاولت تجاوز مخاوفي إلا أن الصراخ تكرر من جديد مما جعلني أتسمر في مكاني مذعورة. تساءلتُ في غير صوتٍ:
-من أين يأتي هذا الصراخ؟

سكتُ للحظاتٍ محاولة استراق السمع بتأنٍ، ومع هذا لم التقط شيئًا، فقلتُ مؤكدة لنفسي:
-ليس بهذيانٍ، أنا واثقة أني سمعت أحدهم يصرخ.

أبقيت على سكوني المشبع بالقلق، وأرهفت السمع فتكرر الصراخ، عندئذ اكتشفت أنه أقرب لصراخ أنثى؛ لكني ما زالت حائرة بعد في تحديد مصدره، تحركت بعيدًا عن الشرفة، وتتبعت الصرخات المتقطعة، إلى أن ارتفعت بنسبة بسيطة، حين انحرفت عن طريقي تجاه السلم الرخامي المجاور للمطبخ الرئيسي، توقفت عند مقدمته، وأملتُ رأسي للأمام محاولة رؤية ما يدور بالأسفل، لم أرَ شيئًا بسبب العتمة، ترددت في الهبوط؛ لكن مع الصرخة التالية كنت قد استجمعت شجاعتي الهاربة، وقررت النزول.

أمسكت بالدرابزين لأنزل عليه بخفةٍ وأنا أحبس أنفاسي، ربما أحدهم في مأزق ويحتاج إلى المساعدة؛ لكن سرعان ما استنكرت هذه الفكرة الساذجة، فكيف لأحدهم أن يطلب النجدة في عرين الأسد؟ لم أتراجع وواصلت الهبوط إلى أن بلغت الدرجة النهائية، حيث يتواجد قبو القصر. لم أطأ هذا المكان سابقًا بالرغم من مكوثي فيه لفترة، كانت مرتي الأولى لاكتشافه. بالطبع بدت الرؤية متعذرة بسبب خفوت الإضاءة، فلم أتبين سوى مساحة فارغة تشبه حجرة واسعة تُفضي في نهايتها لعدة أبواب مغلقة.

اللافت في الأمر أن هناك إضاءات تنبعث عند كل عتبة باب مقفول، يبدو أن جميعها قيد الاستخدام، ما استرعى انتباهي أيضًا أن الأصوات أصبحت قريبة، همهمات متداخلة، وأنين متقطع لأحدهم. استحثني فضولي على متابعة ما يدور عن قربٍ، فتقدمت نحو الباب الذي انطلق من خلفه آخر صوت. كنت أشعر بدقات قلبي تتقافز، بأنفاسي تختل عن انتظامها، ومع هذا لم أمنع نفسي من تحري الأمر. وضعت يدي على مقبض الباب، وانتفض كاتمة شهقة غادرة وصوتًا يأمر بالداخل:.

-اقطع له الإصبع التالي، لا يهم إن خرج من هنا بلا أصابعه العشرة.
شخصت أبصاري وبرقت رغم الظلام المنتشر من حولي، تجمدت يدي في موضعها، ولم أجرؤ على تحريك المقبض إلا عندما صدح الصراخ المكتوم من الداخل، تغلبت بصعوبة على مخاوفي واقتحمت الغرفة متسائلة في استبسالٍ مصطنع:
-ما الذي يحدث هنا؟

التفت جميع من بالمكان ناحيتي، بدوا مصدومين لرؤيتي هنا، في حين تعلقت نظراتي بهذا المسكين المكبل جسده إلى مقعدٍ، والدماء تتفجر من يديه المبسوطتان على مسنديه، صرخت كردة فعلٍ طبيعة للمنظر المرعب المتجسد أمامي، بينما اندفع ناحيتي أحد الأشخاص ليخرجني عنوة وهو يعنفني:
-هيا معي.
حاولت إبعاد يده القابضة على ذراعي وأنا أنهره في احتجاجٍ:
-توقف، لا تمسك بي، يدك ملطخة بالدماء.
صاح آخر من الوراء يأمره:.

-اذهب بها للزعيم في التو.
أُجبرت على السير قسرًا مع هذا الرجل، سألته والخوف قد ملأ كل كياني:
-ماذا ستفعلون بهذا المسكين؟
جاوبني بجمودٍ وهو ما زال يدفعني نحو الأمام، تحديدًا الباب الموجود تجاه اليمين:
-إنه لا يخصك.
سألته بصوتٍ مهتز، ونظراتي تزداد ارتعابًا:
-أجبني، هل ستقتل...؟
لم أتم جملتي لنهايتها، فقد فتح الباب على مصراعيه، وصاح في تحفزٍ مخاطبًا فيجو ؛ كأنما أمسك بي بالجرم المشهود وتمت إدانتي:.

-أيها الرئيس، لقد جاءت السيدة إلينا ونحن نقوم بعملنا.
على ما يبدو تفاجأ فيجو بوجودي، فتعابير وجهه كانت مليئة بالاستغراب، ونظراته ناحيتي تنعكس فيها أماراتٍ لم أفهمها، تركت حيرتي المؤقتة جانبًا، ونفضت قبضة الرجل عني، لأهتف مبررة موقفي:
-إنهم يمسكون برجلٍ في هذه الغرفة، ورأيت أحدهم ينزع إصبعه ب...
قاطعني فيجو موجهًا كلامه الآمر لمن أتى بي جبرًا وهو يتحرك صوبي:
-حسنًا، اذهب أنت.

حاولت إيقاف الرجل قبل أن يذهب قائلة في جزعٍ:
-سيموت المسكين إن تركته يعود إليه.
التوى ثغر فيجو ببسمة جانبية صغيرة وهو يعقب:
-ليس بعد.
توقف قبالتي، وراح يطالعني بنظراتٍ فاحصة، كأنما يتأكد بها أني بخير، تجاهلتها لأسأله في نفس النبرة المرتاعة:
-أستدعه هكذا؟ تدخل من فضلك.
انتصب في وقفته، وقال بابتسامةٍ مغترة:
-إنها أوامري.
حلت الدهشة على كامل قسماتي مع ترديدي المصدوم:
-ماذا؟

زاد استقامة، وقال مؤكدًا، دون أن تحيد نظراته المتأملة عني:
-كما سمعتِ.
تبدلت تعابيري المصدومة للاستنكار الغاضب، وهدرت به:
-ألا تعني لك حياة أحدهم شيئًا؟
قال وهو يمد يديه ليجمع طرفي الروب معًا:
-أخبرتكِ سابقًا، أن الرحمة منزوعة من عالمنا.
تفاجأت من حركته غير المتوقعة، وتلبكت قليلًا، في حين أكمل بنفس الثبات الانفعالي:
-كما أنه خائن لجماعتي.

قشعريرة خفيفة دبت في جسدي حين لامس بباطن كفه جانب رقبتي، حركه في رفقٍ على جلدي، فتوترت، ووضعت يدي عليه أريد إزاحتها؛ لكنه أبقاها ملامسة لمنحنى عنقي. أطبقتُ على جفني لهنيهةٍ كردة فعلٍ لا إرادية من هذا التصرف غير المفهوم منه، رغبت من أعماقي في صده؛ لكني كنت أخشاه، أخاف إغضابه، وهو لن يتوانى عن إذاقة من يعارضه ألوان العذاب، ما لبث أن فتحت عيني لأنظر إلى حيث صاح أحدهم عاليًا:.

-أيها الزعيم، لقد تكلمت الخادمة.
وجدت ذراع فيجو تحاوط كتفي وهو يرد في هدوءٍ:
-جيد.
سألته في بلاهةٍ، وأنا بالكاد أحاول استيعاب وتفسير ما يحدث حولي:
-خادمة من؟
دفعني برفقٍ للأمام، وقال في مزيدٍ من الغموض الموتر:
-تعالي معي.

قادني لغرفة أخرى موجودة في نفس القبو؛ ولكن في الطرف الآخر، ولجت إلى الداخل لأتفاجأ بالخادمة التي كانت تقيم نهارًا معي مُلقاة على الأرضية، مقيدة القدمين واليدين، وممزقة الثياب، وجهها مدمي، مملوء بالكدمات والخدوش البارزة. التفت ناظرة إليه في استنكارٍ مذعور، وسألته بقلبٍ يعصف خوفًا:
-ما الذي تفعله هذه المسكينة هنا؟

من تلقاء نفسي كدت أتحرك ناحيتها لإنقاذها؛ لكن فيجو أوقفني عنوةً بجذبي من ذراعي، لأظل قابعة في مكاني، تطلعت إليه في دهشة يغلبها الاستهجان، فلم يعلق على تصرفه، رأتني الخادمة فصرخت مستغيثة بي:
-سيدتي، النجدة أرجوكِ.
نظرتها العاجزة المتوسلة استحثت إنسانيتي، فسلطت كامل نظراتي على فيجو، ورجوته بشدة:
-اتركها فيجو، إنها لم تفعل شيئًا.
نظر لي بجمودٍ قاسٍ، ثم علق في لهجةٍ ساخرة:.

-كل الناس عندكِ مساكين؟ ألا تشكين في أحدهم أبدًا؟
دافعت عنها بصدقٍ:
-إنها لم تؤذني، أنا متأكدة، لقد أقامت معي حين كنت غائبًا، وكانت ترعاني باهتمامٍ.
بنفس القساوة قال؛ وكأنه بلا قلبٍ ليتأثر مثلي بما أصابها من عنف:
-هذه كانت وظيفتها...
شعرتُ بقبضته تشتد على ذراعي نوعًا ما حين تابع محذرًا:
-لكن من الأفضل ألا تثقي بتوسلاتها لهذه الدرجة.

تحولت أنظاري عن فيجو لأتطلع إلى الخادمة والرجل القابض على فكها وهو يأمرها في شراسةٍ:
-من ورائك يا عاهرة؟ تكلمي، الزعيم جاء ويريد سماعك.
انتحبت، وسعلت، وبكت، قبل أن تنطق بصعوبةٍ:
-السيدة، سيلفيا.
لم يكن الاسم غريبًا على مسامعي، اعتصرت ذهني عصرًا لأذكر أين سمعته؛ لكن الوقت لم يسعفني لتخمين هوية صاحبته، ألقيت نظرة خاطفة على وجه فيجو عندما صاح بصوته الأجش الباعث على الرهبة:.

-لا توجزي في الرد، وأخبريني كل شيء.
من جديد اتجهت بناظري للخادمة عندما قالت، وقد أرخى الرجل قبضته عن فكها:
-حسنًا، حسنًا، هي من طلبت مني الإبلاغ عن وقت تواجدك بالمنزل، وأنا فقط اتصلت بها.
-لماذا فعلتِ ذلك؟
لعقت شفتها المتورمة بطرف لسانها، وأجابت بأنفاسٍ متقطعة:
-لقد هددتني بعائلتي، وهي ذات نفوذٍ وسلطة، وأنا خشيت من الرفض.

ترك فيجو قبضته عني ليتقدم في خطواته نحو الخادمة، ثم نظر إليها من عُلياه قائلًا في لهجةٍ بدت غير متسامحة نهائيًا:
-إن كنتِ أخبرتني بتهديدها منذ البداية لربما كنتِ نجوتِ من غضبي.
توسلته الخادمة في ذعر حقيقي:
-الرحمة أيها الزعيم، استحلفك أن تغفر لي.
تحركت لأقف خلف فيجو، ووضعت يدي على كتفه وأنا أطلب منه:
-من فضلك اسمع لها.
تجاهل كليًا النظر ناحيتي، وأبقى عيناه القاتمتان على الخادمة وهو يتوعدها:.

-الغفران، لا يحصل عليه أحد.
بتصميمٍ مرتعب زدت من رجائي له:
-أرجوك فيجو، لا تقتلها، كانت مضطرة، ألم تسمعها؟
وجدته يستدير ليواجهني، ثم طوق خصري بذراعه، وقال بلهجة لم أشعر فيها بالراحة:
-تعالي معي.

تعلقت عيناي بهذا الجانب المظلم من وجهه، وتنبأتُ من أعماقي بأنه لن يمرر ذلك مُطلقًا، مهما رجوته، فهذه طبيعته غير الرحيمة، حدث ما أخبرني به حدسي، ورأيته يشهر سلاحه من الحامل الذي لا يتركه أبدًا إلا في استحمامه. بالتفافةٍ سريعة خاطفة، وجَّه فوهته نحو رأس الخادمة، ثم ضغط الزناد لتستقر الرصاصة في منتصف جبهتها، شهقت صارخة من المفاجأة، وسألته في ذهول غير مصدقة ما جرى، وعيناي متسعتان على أخرهما:.

-ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟
دفعني بقدرٍ من الخشونة إلى خارج الغرفة، ونظراتي ما زالت متعلقة بالدماء التي راحت تلوث الأرضية من غزارتها، واختلطت بأجزاء المخ المتناثرة الخادمة بعد أن تفجر، أصابني الغثيان، وصرخت معدتي من فرط الألم. كنت شبه مغيبة و فيجو يكلمني بالقرب من أذني، بما بدا بتهديد مبطن:
-أخبرتكِ سابقًا، لا نترك خائنًا يعيش بيننا، وإن كانت امرأة وديعة ومُسالمة...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة