قصص و روايات - روايات عالمية :

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الأول

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الأول

منحت المضيفة ابتسامة لطيفة، مع إيماءة ممتنة من رأسي، بعد أن أرشدتني إلى مقعدي بالطائرة. جلست بجوار النافذة، لأمتع عيناي برؤية السحاب، وما يقبع أسفله من مبانٍ تتضاءل في حجمها رويدًا رويدًا، إلى أن تلاشت كليًا. التفت برأسي نحو والدتي التي همَّت تسألني:

-هل أنتِ بخير؟
أجبت باقتضابٍ دون أن أخفي انزعاجي:
-نعم..

داعبت "صوفيا" بشرتي بحنوٍ، وقالت بهدوءٍ محاولة تبديد مخاوفي:
-استرخي قطعة السكر، لا شيء خطير.
زممت شفتاي، واعترضت متسائلة بشكلٍ مباشر:
-لماذا نحن مضطرين للذهاب؟
تنهدت قبل أن تجيب:
-أصر خالك على حضورنا "ريانا"، وأنا لم أستطع الرفض.
واصلت احتجاجي قائلة:
-إنه حفل لا يخصنا بأي حالٍ، ولسنا على صلة بأحدٍ هناك.

شتت نظراتها عن وجهي، وقالت بقليلٍ من الجدية:
-لا يهم، هو أراد رؤيتنا.
قلت ببساطة:
-يمكنه المجيء في أي وقت لرؤيتنا، لا داعي لذهابنا نحن إليه.
عادت لتحدق بي قائلة:
-"ريانا"! أنتِ لا تدركين حجم المسئولية الملاقاة على عاتق خالك لكونه الرئيس، لن يكون متفرغًا لنا وسط كل تلك الصراعات.

أدركت أن الجدال معها لن يجدي، ولن تعدل عن رأسها فنحن بالفعل بالطائرة، وعلى وشك الوصول، وحتمًا ستتجه بمجرد هبوطنا إلى الفندق المحجوز مسبقًا لنا للاستعداد لحفل الزفاف، وأنا مرغمة على الذهاب بصحبتها، لذا تنهدت قائلة باستسلامٍ، وقد تهدل كتفاي:
-حسنًا.

حاولت أن ألتهي بعقلي –ولو بشكلٍ مؤقت- عن أي شيء يذكرني بعودتي إلى مدينة الموت؛ "شيكاغو". لا أصدق أني في طريقي إليها بعد مضي ما يقرب من أربعة عشر عام على ذاك الحادث المؤسف؛ اغتيال "أندرو". والحق يُقال لم تتزوج والدتي بعدها، فحينئذ قام خالي "رومير" بإعادتنا سرًا إلى مدينة "ميلانو"، لنظل هناك في معزلٍ عما يحدث من صراعات مميتة.

ما زالت تأتيني تلك الرجفة كلما انغمست في أحلامي العميقة حين أغفو، أعود لطفولتي البعيدة رغمًا عني، أشعر بمذاق الدم في فمي، وبرائحة الموت في أنفي. كنت على وشك الاختطاف لولا أن تدارك أحد رجال "أندرو" الأمر، وسدد سلاحه الناري في وجه الخاطف الذي تناثرت بقايا مخه المنفجر على جسدي بعد أن طُرحت أرضًا وهو يجثو فوق جسدي الضئيل، كان كمن حط صخرة لتهشم عظامي الواهنة، أبعده "رومير" عني وهو يلعنه راكلاً جثته بقدمه:
-احترق في الجحيم "ماركوس"
انقطعت أنفاسي من هول الموقف، وشعرت بضمته الحنون تحتويني في أحضانه، ثم أعادني إلى أمي.

في تلك الفترة البائسة، انتابتني حالة من الهلع الجنوني؛ وكأن مسًا من الشيطان طالني. لم أتوقف عن الصراخ لأيام متواصلة، كان المخدر فقط ما يبقيني هادئة، لأعود بعد أن ينتهي مفعوله في دمائي للصياح بشكلٍ هيستري. بالطبع تحاشت شقيقتي الصغرى الاقتراب مني، وكان الخوف ظاهرًا في نظراتها نحوي، وارتعبت والدتي من تدهور حالتي للأسوأ، ليكون القرار الصادر من قائد المنظمة الجديد بإقصائنا لنعود لموطننا بـ "إيطاليا"، وكانت النجدة الإلهية حقًا، فبعد وقت لا بأس به من العلاج المتواصل استعدت عافيتي، وأصبحت حياتنا نوعًا ما عادية؛ وإن كانت متحفظة.

بضعة ساعات وهبطت الطائرة في المطار، لنجد فور انتهائنا من إجراءات الوصول سيارة فارهة في انتظارنا، والسائق يقف مستندًا على الأبواب الجانبية، حاملاً لافتة بأسمائنا، تحسبًا إن لم ننتبه له. ألقيت نظرة مدققة عليه، لم يكن سائقًا بالمعنى الحرفي، وإنما أحد أفراد منظمة "فاليريو" في زي رسمي. استطعت أن ألمح سلاحه الناري خلف سترته معلقًا في جرابه، بلعت ريقي في حلقي الجاف، واستشعرت مجددًا مذاق الدماء الكريه في فمي، تباطأت حركتي، فشعرت والدتي بارتباكي، وتأبطت ذراعي لتحثني على السير وهي تهمهم بخفوت:
-كل شيء سيكون على ما يرام، لا تقلقي.

تعبيرات وجهي كانت جامدة، ونظراتي منزعجة، احتفظت بصمتي، ومضينا في طريقنا للفندق بعد أن جلس كلانا بالمقعد الخلفي. راقبت بشرودٍ قلق واجهات المباني المختلفة، والحدائق المكتظة بالبشر، وسرحت مع لافتات محال الماركات الشهيرة حتى وصلنا عند وجهتنا. قاومت قدر المستطاع ما يعتريني من ذكريات خائنة متسللة إلى عقلي من أعماق ذاكرتي، خطوت نحو الداخل وأنا شبه متحفزة..

كانت كلماتي محدودة مقتضبة مع والدتي التي بدت سعيدة بتلك الرحلة الاستثنائية. وبعد برهةٍ في غرفتنا الفخمة، كانت أمي قد ارتدت ثوبًا أرجوانيًا، مفتوح الصدر، بفتحة مثلثة تجد مثيلتها في الظهر أيضًا، غطت قدرًا منها بترك شعرها البني ينسدل عليها، ولفت حول عنقها شالاً مصنوعًا من الحرير من نفس اللون أظهر لمعان بشرتها البيضاء. كنت أمتلك نفس البشرة، بالإضافة إلى زوجٍ من الأعين الزرقاء، وشعرًا أشقر اللون.

على عكس والدتي لم أتزين مثلها، كنت كمن تتجه لمقابلة عملٍ، وليس إلى عرسٍ كبير، حيث ارتديت بلوزة من اللون القرمزي، ذات ياقة تحجب ما قبل عنقي بالكامل بأنشوطة عريضة، ومن أسفلها تنورة كريمية اللون، تكاد تصل إلى ركبتي مع فتحة شق صغيرة بالخلف. عقصت شعري كعكة، فتذمرت والدتي قائلة:
-بحق الله! هذا حفل للزفاف "ريانا".

علقت بعدم مبالاة أظن أنها استفزتها:
-وماذا في الأمر؟ أنا سعيدة هكذا.
توسلت إليّ قليلاً:
-من فضلك، لا تتسببي في إحزاني، أين لمسة الأنوثة بكِ؟
حاورتها بنوع من الجدية كتعبير عن اعتراضي:
-لست هنا لاصطياد عريس سيدة "صوفيا".

قالت ببساطة:
-ومن قال هذا؟ أريدك أن تكوني جميلة.
لم أرغب في إحباطها أكثر من ذلك، لذا اضطررت أن أترك بعد الخصلات تنساب على جانبي صدغي، وألطخ شفتاي بمزيدٍ من الحمرة المغرية، علها تمنحني تلك اللمسة السحرية.

تلقيت اتصالاً هاتفيًا قبيل توقف السيارة عند مدخل القصر المُقام بداخله حفل الزفاف، تجولت بنظرات عابرة على الحراسة المشددة التي حاوطت المكان في وضح النهار، وكأن الحرب ستندلع هنا. ترجلت والدتي أولاً، واستدارت نحوي تسألني:
-"ريانا"! ألن تأتِ معي؟
أجبتها بهدوءٍ:
-سأتبعك بعد لحظة، فقط سأنهي مكالمتي مع رئيسي في العمل.

صاحت "صوفيا" عاليًا، كأنها تتعمد أن يصل صوتها إلى مسامعه:
-أخبريه أنكِ في أجازة، وإلا سيضطر "رومير" للتعامل معه.
تورد وجهي حرجًا من ذلك الموقف، وهمست وأنا أضع يدي على طرف الهاتف:
-حسنًا، لقد سمعك الرئيس.

كنت أتمنى أن التحق بالجامعة، ولكن لأسباب عائلية شبه صارمة اكتفيت بالمرحلة الثانوية، ومع ذلك لم أتوقف عن تلقي الدورات التدريبية في مجال إدارة الأعمال، وسمح لي خالي بتولي متابعة جزءًا من أعماله بـ "ميلانو" كنوعٍ من قتل الفراغ الطويل المصاحب لحياتي، لكني اتخذتها وسيلة لإثبات تفوقي. أنهيت المكالمة بعد دقيقتين، واشرأبيتُ بعنقي وأنا أترجل من السيارة لأنظر إلى والدتي التي اصطفت خلف بعض الرجال والسيدات من ذوي الثياب الغالية، وعلى ما يبدو هناك أحدهم يراجع أسماء المدعوين قبل السماح لهم بالدخول. بدا ذلك مبالغًا فيه، لكنه منطقي، فقادة المنظمات وأعوانهم مجتمعين في الحفل.

تهاديت في خطواتي وأنا أتخذ مكاني خلف إحداهن، تابعت ما يحدث من إجراءات بفتورٍ إلى أن جاء دوري، سألني الرجل الضخم ذي البشرة السمراء، والذي يسد المدخل بجسده المليء بالعضلات المنتفخة:
-ما اسمك سيدتي؟
أجبت بزفيرٍ متعب:
-"ريانا أندرو".

ألقى نظرة متأنية على القائمة التي بحوزته، وعاد ليحدق بي قائلاً:
-اسمك ليس مسجلاً عندي.
انعقد حاجباي في دهشة عجيبة، وهتفت مستنكرة بتهذيب:
-كيف هذا؟ تأكد من فضلك
أخفض نظراته مجددًا، وتابعت بعينين حائرتين الرجل الآخر المشابه له في الحجم، والذي تحفز في وقفته وهو ينظر نحوي، وكأنه يستعد لطردي باعتباري متطفلة دخيلة، لكني تفاجأت به يرحب بوقار شديد بأحدهم:
-تفضل سيد "فيجو"، الجميع في انتظارك بالداخل.

لم أكلف نفسي عناء النظر لمن جاء بعدي، ولمحت بطرف عيني طيفًا لبدلة سوداء وظلاً طويلاً حجب أشعة الشمس عن جانب وجهي. رأيت الرجلين يتنحيان للجانب من أجل السماح لذلك الضيف الهام بالمرور، وبقيت مهملة في مكاني حتى أنهوا طقسهم الترحيبي الحار. اعتذر الرجل مني قائلاً:
-سيدتي، على ما يبدو أنتِ لست مدعوة..

وكأني أرغب بالحضور حقًا؟ لاح على زاوية فمي ابتسامة استهجان، تذكرت أني مؤخرًا ما عدتُ أستخدم لقب زوج أمي –تكريمًا لذكراه- في المناسبات الرسمية بعد اعتراض خالي على ذلك. كان الرجل الآخر على وشك طردي بوقاحةٍ، حينها استقمت في وقفتي، وانفجرت صائحة فيه بنفاذ صبر، وبنبرة حادة:
-السيدة "صوفيا فاليريو" والدتي، تحقق من اسمها، وأنا "ريانا توماسو فاليريو"، وإن لم تصدق يمكنك استدعاء خالي لتتأكد..

تبدلت الأحوال كليًا، واعتذر مني بشدة:
-أسف آنستي.. لم أنتبه لذلك، من فضلك تقبلي اعتذاراتي الحارة وآ...
قاطعته بعبوسٍ ملوحة بيدي في وجهه:
-لا يهم.

بدأت بالسير مجددًا، وأنا لا أعرف أين أتجه تحديدًا، نظراتي كانت تائهة، مرتبكة قليلاً، لما لم تنتظرني والدتي لنذهب سويًا؟ كنت على الأقل تلافيت الإحراج الذي تعرضت له من قبل هؤلاء الرجال. تشتت ذهني، مع نظراتي للحظة قبل أن أتوقف حين سألني أحدهم بصوتٍ بدا عميقًا؛ لكنه أرسل شرارة من الرعب انتشرت تلقائيًا في أوصالي:
-أنتِ إذًا هنا؟

استجمعت جأشي، وارتديت قناع البرود على وجهه، وبكل عنجهية استدرت للخلف لأجد أحدهم مستندًا على الجدار، يثني ركبته قليلاً، رفعت عيناي ببطءٍ لألقي نظرة شاملة عليه، كان في بدلته السوداء، يدس يديه في جيبي بنطاله، لا شيء سوى اللون الأسود طاغيًا على كل ثيابه، حتى رابطة عنقه. وصلت إلى وجهه، لديه ذقن نابتة، وبشرة مصبوغة باللون البرونزي، أما عيناه فكانتا تختبئان خلف نظارة تحمل نفس اللون الداكن.

لم يكلف نفسه عناء رفعها لأرى ملامحه بوضوح، بدت حوله هالة غريبة من القوة والعظمة، هكذا استشعرت دون أن أكون بحاجة للتخمين. انتصب بكتفيه، فازداد عرضًا، وتطلع إليّ مليًا من خلف نظارته القاتمة. تعصبت قليلاً من نظراته المستترة، وسألته بوجهٍ عابس:
-ومن أنت؟

اعتدل في وقفتي فبدا أكثر طولاً مني، حسنًا كنت بالكاد مع حذائي العالي أصل لكتفيه، فماذا إن انتزعته؟ سأبدو قصيرة للغاية؛ وإن لم أكن في الواقع كذلك، لكن إن قارنت طولي به فإنه يفوقني بمسافة. تقدم نحوي بخطواتٍ ثابتة، مغترة، استطعت أن أشعر خلالها بغطرسته، خاصة مع تلك تلك الابتسامة المليئة بالزهو والمتشكلة على ثغره. مد يده لمصافحتي معرفًا بنفسه:
-أنا "فيجو سانتوس"..

لكني تجاهلته، لما أكترث بمن أجهل هويته؟ وقُلت بسخافةٍ، وقد عقدت ساعداي أمام صدري:
-لا يعنيني من أنت!
ثم أضفت أهاجمه باستحقارٍ متعمد للتقليل من شأنه:
-أم أنها طريقتك غير الناضجة لمعاكسة الفتيات؟

سحب يده للخلف وقد انزعج من قلة تهذيبي معه، تتبعته بعينين نافرتين وهو ينتزع نظارته عنه ليظهر كامل وجهه بتقاسيمه الصارمة. أرسل لي من عينيه نظرة غاضبة قبل أن ينطق بغموضٍ أصابني بالتوتر:
-مخطئة، حتمًا سنتقابل.
نفيت على الفور بنبرة شبه هازئة:
-لن يحدث إلا في أحلامك المحرمة!

ندمت على زلة لساني المتهورة، وبلعت ريقي بصعوبة، خاصة مع نظراته الغريبة المسلطة عليّ، وكأن الأمر يروقه، ابتسم قليلاً، ودنا مني فتراجعت على الفور للخلف في ردة فعل تلقائية لاتجنبه. لم يبعد "فيجو" عينيه الجائعتين لشيء ما عني، وقال بابتسامة ذات دلالة خاصة، تنم عن ثقة كاملة:
-ستأتين إليّ قريبًا.

كنت على وشك لعنه؛ لكنه ألجم لساني بوضع إصبعه على شفتي، تصلبت من لمسته المباغتة، لأكن صادقة مع نفسي، لم يتجرأ أي غريب على تجاوز حدوده معي؛ ربما لخوفهم المفهوم من سطوة خالي وشراسته إن شكيته وعلم بالأمر، أو لعدم رغبتي في السماح لأحدهم بالتودد لي بنوعٍ من المبالغة. تشتت أما نظراته القوية التي نفذت بداخلي؛ وكأنها تعري شخصي المتوتر. لم يبتسم، وأضاف:
-استمتعي، أنتِ في ضيافتي.

لكزت بعنفٍ ذراعه لأبعده عن تلمس فمي رغمًا عني، وإحساسي بالغضب مستعر في كل ذرة تنبض بالحياة في جسدي. استمر في تحديق الغريب بي، تجاوزني ليمضي في طريقه وأنا أتبعه برأسي، تفاجأت بذلك التجمع الذكوري الذي ينتظره من خلفي، على ما يبدو لم أنتبه لوجودهم منذ البداية. تجمدت عيناي على أحدهم تحديدًا، كان يرمقي بنظرة خالية من الحياة، حرك ذراعه بإشارة ما من أصابعه نحوي؛ وكأنه يشهر سلاحه الناري ويسدده ناحيتي قاصدًا قتلي، وإن لم يحمل حقًا واحدًا في يده، لكن رؤيته يفعل ذلك أرعبتني!

قفز قلبي خوفًا، وسريعًا ما سيطرت على رجفتي، وحدجته بنظرة نارية مهددة؛ ومع ذلك بادلني ابتسامة مستفزة مترقبة. لم يتحرك إلا بعد ابتعاد المدعو "فيجو"، أو أيًّا كان اسمه، عنه ليتبعه بشموخٍ. أشحت بوجهي عن هذا التكتل اللعين، ودمدمت من بين أسناني المضغوطة بحقدٍ:
-الحقير! من يظن نفسه...؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة