رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الرابع عشر
-خُلق القلب عصيًا
لو أنها ورقةً لمزقتها، لو أنها زجاجةٍ لكسرتها
لو أنهُ جداراً لهدمته. لكنهُ قلبي.
أن يقف القلب داميًا بالحب والجرح في أنٍ واحد، أن يقف الماضي بقسوته كالغصة في حلقك، أن تتحول فراشاتك وأحلامك البكرية إلى طير ذبيح مع أول تجربة طيران له! أي وسام سيُمنح؟ الغفران أم الإنتقام؟ أي منهما سيشفي الروح المعتلة والمحتلة بجيوش الغدر؟ أي منهما سيهدي النسيان للأبد؟ أي منهما الصواب؟
كانت نظراتها ثابتة، تدرك هدفها جيدًا، انسكب دلو الأعوام السابقة فوق رأسها، أخذت تتأمله مُكبلًا مقيدًا. يعلو وجهه كدمات الإهانة التي سبق ونثرها طمعًا على جسدها متواريًا خلف ستار الحُب المزيف. بللت حلقها وتذكرت وعد سابق بينهم.
#flash back.
-ماقولتليش، أيه أول حاجة هتعملها لما يبقى معاك فلوس كتير؟
ليقترب منها ويطوق خصرها من الخلف ويسرح بخياله وأكاذيبه معها قائلًا: -هشتري يخت، ونعيش عليه أحنا الاتنين سوا، نعيش بعيد عن دوشة العالم. عشان محدش يزعجنا.
فأجابته هائمة بسُكر خِداعه: -كده كده وأنا معاك مش بكون شايفة ولا سامعة حد غيرك.
فاقت من شهد ذكرياتها على واقع حقيقتها المؤلمة وهي تسقط كالطائر الذبيح بين يديه وفي فخه الإجرامي، أغمضت جفونها فاعتصر منها دموع القهر وهي تقترب منه شيئًا فشيئًا، محاولة استجماع شتات نفسها وقوتها كرسيل المصري.
وقفت أمامه وهي ترمقه بسهام الخسة والتحقير وقالت بعتب: -أنا ازاي اتخدعت فيك؟ أزاي ما شوفتش إنك بني آدم حقير ولا تسوى، أزاي مصدقتش بابا!
ثم صاحت بصرخة عالية: -أنتَ أزاي تتجرأ و تعمل فيا كده!
برر قاسم قائلًا: -رسيل، انسي اللي حصل. أنا بعترف بغلطي، أنا لسه بحبك. تعالي نبدأ من أول وجديد.
-زال سحرك ياقاسم بيه، أنا أول مرة أشوفك على حقيقتك، حقيقة دنيئة.
ثم ألقى نظرة ناحية عاصي يحتشد بها الخوف: -بلاش يغريكي بفلوسه! محدش هيحبك أدي. رسيل فوقي.
ابتلع بقية أكاذيبه بصفعة قوية من كفها كانت من نصيب وجنته جعلته يجلس على ركبتيه من شدتها. ونهرته قائلة:.
-أنت أي؟ لسه هتكذب تاني! مش كفاية كذب وخداع بقا؟ يعني وصلت لي عشان توصل لقنديل المصري وتكون دراعه اليمين. مش كفاية قطعت الأيد اللي اتمدت لك!
أخذ يترجاها: -رسيل اسمعيني. كانت ساعة شيطان، أنا كنت شارب وقتها ومكنتش متخيل أن أبوكي يرفضني. أنا عملت كده من حبي ليكي، رسيل!
وبخته قائلة بمرارة وحرقة: -أنت عملت كده لانك بني آدم ناقص، خسيس. بس جيه الوقت اللي هخليك تدوق فيه مر السنين اللي عشتها.
تدخل عاصي آنذاك وضمها برفق من الخلف كي يهدأ من روعها، وقال بحدة: -خلصي حسابك معاه، لأن حسابه معايا لسه تقيل.
سحبت المسدس من خصر أحد الحرس وقالت بقوة: -حسابه معايا مش هيخلص غير بالدم.
صوبت فوهة السلاح إليه بيدها المرتعشة وهي ترمقه بخسة واحتقار، سألته سؤالها الأخير: -أنت عملت فيا كده ليه؟ أنا أذيتك في أيه؟ قول لي؟
كاد أن يقف على قدميه ويديه المنعقدة وراء ظهره، فألجمه أحد الحرس بعنف كي يبقي مكانه، تفوه قاسم ب شر: -لانك رسيل المصري بنت أكبر معلمين الغردقة، مفيش راجل عينه وقعت عليك إلا وقال هي دي. خليتك هدفي عشان أوصل وأحقق أحلامي، بس اللي حصل.
صرخت بوجهه إثر صمته المفاجئ: -أيه اللي حصل انطق!
أطرق بمكر ثعالب: -حبيتك يا رسيل، حبيتك وكنت عايزك تكوني ليا، بس أبوكي قل مني قدام كل الناس، قل مني وطردني. بقيت بين نارين، نار حبك ونار انتقامي، لحد ما خدت القرار اللي اكسر بيه قنديل المصري باقي عمره.
ردت بصوتها المختنق وهي تعيد السلاح إلى رأسه: -أنت حيوان. أنت مستحيل تكون بشر.
وقف عاصي بجوارها يريد أن يقتله بيديه ولكنه ترك لها الساحة كي يشفي قلبها العليل، تفوه بثبات: -ده خسيس يا حياة، ومايستاهلش ألا الموت.
ثار قاسم بوجهه: -أنت السبب في كل ده، رسيل بتحبني أنا، أوعي تفكر أنها ممكن تحبك في يوم. لو فاكر بكدة هتكسب قلبها تبقى غلطان ولعبتك خسرانة يا عاصي بيه! بس عايزك تفتكر حاجة واحدة كل ما تبص في عينيها. أنها كانت في حضني قبلك. أنا مش هسيبكم تتهنوا ببعض مهما حصل.
خطف السلاح منها بذعر بعد ما رفسه بقدمه فارتمى ارضًا، ثم صوب السلاح بوجهه: -حلال فيك إني اقتلك بأيدي...
فوجئ برد فعل حياة وهي تقف أمامه معترضة، وتضع كفها المرتعش فوق يده التي تحمل السلاح، تلاقت أعينهم لبرهة ثم قالت راجية: -بلاش تلوث أيدك بدم حيوان زي ده.
اتسعت عينيه مشدوهًا: -حياة أنتِ نسيتي عمل فيكي أيه، ده يستاهل الموت!
-الموت رحمة له يا عاصي. عشان خاطري بلاش، سيبه يروح في ستين داهية بعيد عننا.
رفض بعينيه حديثها الغير مقنع، ولكنه فكر للحظات ثم رمى السلاح للحراس وأمسك بياقة قاسم وسدد إليه الكثير من الضربات حتى سالت الدماء من أنفه. ف أشار لأحد رجاله بإشارة فهم مغزاها. ابعد عاصي يده عنه وتعمد ضم رسيل إلى صدره كي يعلن أمتلاكها أمامه ويبث وميض الهزيمة بعقله المريض.
شرع رجاله بتقيده وتكبيله بالحبال وتصلبه على حافة المركبة، اقترب عاصي منه بفظاظة ثم قال: -أنا دلوقتِ هاخد روحك بالبطيء، هعرفك يعني أيه روحك تتسحب منك وأنت متكتف ومش قادر تقاوم وتلحق نفسك.
ثم ركله بكل قوته ليسقط قاسم بالماء الذي تناثر هنا وهناك، ركضت حياة إلى عاصي تترجاه ببكاء لعدم قدرتها على تحمل المزيد: -بلاش، خليهم يطلعوه. حسابه عند ربنا.
مرت الدقيقتين على قاسم بمذاق أمر من مرارة أعوامه الماضية، تسحب الماء جسده وروحه وأنفاسه لأسفل، تقلبه يمينًا ويسارًا كيفما تشاء. بات صراخه منقطعًا، اخذ يصارح الموت والحياة وهو يتذكر فعلته الأخيرة وجريمته الكبرى وهو ينهش ضحيته، ذاق مرارة ما عانته.
أخرجوه رجاله من الماء عندما سُحب بواسطة الحبل المُكبل به حتى لفظ قاسم انفاسه صارخًا بالنجدة: -الحقوني...
جذبوه الرجال إلى سطح المركبة تحت قدمي عاصي وهو يلهث ويسعل بقوة، انحنى عاصي لمستواه وقبض على عنقه بشراسة: -عرفت يعني أيه تتعلق روحك بين الحياة والموت!
قهقه قاسم متعمدًا استفزازه وهو يسعل بقوة: -بس كانت ليا قبل ما تكون ليك، خليك فاكر ده كويس أوي...
بنيران غضبه ألقاه مرة ثانية بالماء كي يتجرع أقسى أنواع العقاب، أخذ يقرر فعلته أكثر من مرة حتى أوشكت روح قاسم على الانتهاء. في المرة الأخيرة التي أخرجوه فيه الرجال وبين توسلات حياه المتعلقه بساعده كالطفلة، رمقه بنظراته الساخطة حتى نادى على رجاله قائلًا: -سلموه لآندرو. وهو هيخلص عليه بمعرفته...
بالقصر
-يا صباح العسل على الهانم. تصدقي عبلة المحلاوي اتولدت علشان تبقى هانم وبس.
وضعت ساق فوق الأخرى وهي تستقبل مغازلة كريم الخفيفة وقالت:
-طول عمرك بكاش. مش هتبطل بكش،؟
جذب الكرسي نحوها وجلس فوقه برشاقة: -أنتِ مش مقدرة ولا أيه؟ تعرفي امبارح لسه كنت في سيرتك أنا وواحد صاحبي بيفكر يخطبك لباباه، يعني لسه شابة وحلوة ويتقدم لها عرسان!
قهقهت عبلة بصوت مرتفع إثر سماعها للكلام المحبب لقلبها، دائمًا تسعى لسماع كلمات الحُب والغزل والمدح، تنجذب للحديث الذي تكون محوره، فردت قائلة: -وبابا صاحبك ده أمور وغني وعارف هو هيتجوز مين ولا داخل على طمع؟
نطق كريم بتلقائية: -منا طفشته خلاص!
انكمشت ملامح عبلة: -ليه بس؟
-عشان حسيتهم فعلا داخلين على طمع...
ضحكت عبلة بصوتها الأنثوي الرقيع الذي دوى صداه بالقصر حتى وصل لأذان نوران التي تراقب مسرحية كريم من أعلى وهي تقول بتعجب: -نصاب أوي يا ابن جيهان؟ اللي يخلي البومة دي تضحك يبقى فعلًا مش سهل وحلنجى!
غير كريم مجرى الحوار قائلًا: -أي رأيك نشرب فنجان قهوة سوى واحكي لك على البنت اللي مطيرة النوم من عيني!
ردت بإعجاب: -يا سلام! كمان حب جديد. احكي لي يلا ومن بكرة اروح اخطبهالك. بنت مين وباباها بيشتغل أيه؟
رفع كريم نظراته لأعلى وهو يتأمل الفراشة الجميلة التي تتراقبهم من الشرفة وقال مغازلًا: -عارفة لما تبصي على السما بالليل وتتوهي وسط النجوم وفجأة يظهر القمر ف تنسي كل ده وتقولي هي دي!
ثم تنهد بشوق: -هي في جمالها زي القمر، بس عليها لسان يستاهل قصه يا خالتي.
ضربته على ركبته بغضب حتى استرد أعينه الهائمة وهي توبخه: -جاك خلع ضروسك، اي خالتي دي؟ قاعدين في عزبة أحنا!
تأوه كريم وهو يفرك ركبته مكان الألم: -عندك حق في دي، معلش سرحت شوية، أول مابفتكرها بنسى نفسي...
-اامم المهم باباها بيشتغل أيه؟
تململ كريم في جلسته وقال بمكر: -مدير أمن وعلى أعتاب وزير. حلو ده؟
شردت عبلة بدلال وقالت: -طيب لما يبقى وزير ابقى اشوف موضوع بنته.
تحمحم كريم بخفوت وهو يهمس لنفسه: -ده أيه الوقعة المهببة دي.
ثم جهر: -هما ماجابوش القهوة ليه لحد دلوقتي؟
-تعالي عايز أوريكي كذا تصميم واختاري اللي يعجبك.
أردف تميم جملته الأخيرة خاصة بعد ما لاحظ تحاشي شمس له، وتعمدها في الابتعاد عنه. فرغت من لف حجابها ودنت منه بتوجس حتى جلست بجواره تتفقد ما يُشير إليه. بدأت تدريجيًا تتناسى أسباب بعدها عنه وانغمست في اختيار التصاميم وشرعت في إبداء رأيها وإضافة لمستها الأخيرة على كل تصميم حتى استقر الثنائي أخيرًا على الشكل النهائي. كادت أن ترحل فأوقفها متسائلًا:.
-أنت متغيرة ليه؟
ردت بارتباك: -أنا؟ لا أبدًا. مفيش.
-متأكدة؟
-ااه متأكدة هكذب ليه! أصلًا ما بحبش الكذب.
تغير لون وجهه وشرد ذهنه في أكبر حقيقة كذب فيها وقال: -يعني أيه؟
-عادي، يعني أنا أصلا بقرف من الشخص اللي بيكذب، هكذب أنا ازاي.
-بس ساعات اللي بيكذب بيكون له أسبابه ومبرراته.
ردت بحسم: -مفيش مبرر للكذب يا تميم غير أن اللي بيكذب ده كذاب فعلًا وضعيف، ومعندهوش الجرأة أنه يواجه.
رمقها بنظرة توحي بعدم اتفاقه معها وقال ليجس نبضها: -يعني لو كذبت عليكي في حاجة، هتعملي أيه!
ردت بسرعة وبدون تفكير: -همشي وتبقى نهاية مشوارنا! لان بعد الكذبة الأولى كل الحقايق شكوك.
-يعني مش هتديني فرصة تسمعيني؟
فكرت للحظة ثم قالت: -فرصة الكذاب يعني كذبة جديدة. وأنا مش شخص فاضي عشان اسمع مبررات للكذب بكذب جديد، لاني هكون فقدت الثقة في الشخص اللي قُدامي.
ثم رمقته بنظرة استكشافية: -تميم أنت مخبي عليا حاجة،؟
-هاااه؟ لا أبدًا، كُنت عايز أقول لك بس جهزي نفسك هنسافر يومين دهب نغير جو، ابقي قولي لعالية ونوران يجهزوا هما كمان.
عقدت حاجبيه بشك ثم قالت: -تمام...
فغيرت مجرى الحديث: -ااه، نسيت أقول لك الدكتور الألماني بعت رده على التقارير و حابب يشوفك في أسرع وقت. قُلت أيه؟
بدت الحيرة تتنقل على ملامحه ثم قال ليهرب من ذلك المأزق: -خليها بعد ما نرجع من السفر.
أومأت بالإيجاب: -تمام.
كادت أن تغادر ولكنه أوقفها قائلًا بدون تفكير: -استني.
ألقت نظرة على كفه المثلج فوق كفها وقالت: -في حاجة؟
رد بتردد: -لا ولا حاجة. كنت حابب لو خرجنا نفطر سوا بره، أيه رأيك؟
بسيارة عاصي
أعرف بأنه سَيمر وأن كل ما مررت به مجرد سحابة صيف، و لكن ما الذي سَيتركهُ بداخلي؟
تسند رأسها على صدره بعد ما أصاب رأسها دوار الذكريات، فبحثت عن أكثر مكانًا أمانًا يمكنها أن تستريح فوق، بعد قضائها لفترة طويلة في البحر تلقي به نفايات ماضيها.
غلغل أصابعه بفراغات كفها صاحب الأصابع الطويلة والرفيعة الأشبه بيدي الأميرات، ربت برفق على كتفها وقال: -هتفضلي طول الطريق ساكته!
ردت بكلل: -أقول أيه؟
-أي حاجة متسكتيش. لو تعبانة من حاجة نروح لدكتور.
-لا، أنا كويسة.
-بس البنات مش هينفع يشوفوكي في الحالة دي؟
ردت بتثاقل: -هبقى كويسة.
قرر ألا يحملها عبئًا أضافيًا ويصمت هو الأخر مستلذ باستسلامها بين يديه واتخاذها من حضنه مأوى لأحزانها. أخذت يداه تتنقل بحرية من فوق رأسها لكتفها كي يشعرها بوجوده معها دائمًا.
وصل الثنائي إلى الفندق فكان يسري بانتظارهم. نزل عاصي أولًا وأخذ يحاوره بهمس بمواضيع مختلفة حتى انتقل إلى أمر صغاره وقال: -لسه نايمين؟
-فوق في جناح معاليك.
هز رأسه متفهمًا ثم عاد إلى حياة وفتح لها الباب بنفسه ومد يده كي يساعدها، أعطته يدها بدون تردد وهبطت من السيارة ووقفت بجواره فسألها: -متأكدة أنك كويسة؟
أومأت بخفوت حتى سارا الاثنين معًا ناحية الاستقبال بالفندق، أخذ مفتاح جناحه الفاخر المكون من غرفتين، غُرفة بها سرير ملكي بطراز حديث، والأخرى تحوي سريرين صغيرين لبناته شاملة الحمام والشُرفة الخاصة بالمكان. بينهم مسافة يوجد بها انترية وتلفاز تربط بين الغُرفتين.
وصلت حياة إلى الغرفة فسألته: -البنات فين؟
أشار إلى الغرفة الخاصه بهم: -هنا، تحبي نطمن عليهم!
هزت رأسها بالموافقة وسبقت خُطاه، فتحت الباب بهدوء ثم دلفت إليهم فاتبع خُطاها، بدأت في شد الغطاء فوق داليا بحب بعد ما طبعت قُبلة طويلة على جبينها، وهو الأخر فعل مثلها مع تاليا، ثم حرص على تشغيل التكييف على الوضع الساخن للتدفئة. أشار إليه كأنه يُتمم على ما فعله حتى تلقى منها نظرة القبول والرحب.
غادر الثنائي وقفل باب الغرفة بحذر وسألها: -تحبي تاخدي شاور؟ هيفيدك أوي.
-تمام.
دخلت الحمام لتترك للماء مهمة ذوبان أحزانها، أما عنه طلب لها وجبة الغداء خاصة طبق الباستا بالجمبري الذي تحبذه.
مرت قرابة النصف ساعة على حياة تحت الماء حتى استطاعت استجماع نفسها حتى خرجت بحالة أفضل، في نفس الوقت وصل الطعام وأخذه عاصي من النادل الطاولة. ثم عاد إليها فوجدها تصفف شعرها الثقيل أمام المرآة ويبدو عليها المعاناة الشديدة في ذلك.
وقف وراءها وتلاقت أعينهم بالمرآة: -اساعدك؟
أخذت وقتًا طويلًا حتى حسمت قرارها بصمت وهي تمنحه الفرشاة، استقبل هدوئها واستسلامها بابتسامة خفيفة وشرع في تصفيف جدائل شعرها الكثيفة بحب. ترك الفرشاة من يده ثم أخذ يبحث بالأدراج تحت أنظارها الفضولية حتى وجد مصفف الشعر الكهربائي، وبعد ما وصله بالكهرباء قال: -هتبردي لو سبتي شعرك كده، لازم ينشف.
سالته باستغراب: -أنت عرفت الحاجات دي أزاي؟
اكتفى بابتسامة خفيفة أرسلها إليها عن طريق المرآة ثم شغل مصفف الشعر وبدأ في تجفيف شعرها بمهارة فائقة اثارت إعجابها ودهشتها، كيف لرجل فظ غليظ مثله يقف على رأسها مهتمًا بما يجعلها أكثر راحةً ويفعل كل ما بوسعه لينال رضاها.
مر الوقت سريعًا حتى أنهى شعرها وجففه بعناية حتى أطفأ الجهاز وقال: -افتكر كده تمام! ناكل بقا لأني على لحم بطني من إمبارح.
رفعت عيونها بامتنان لتلتقي بعيناه المتعلقة بالمرآة وقالت بعرفانٍ: -شكرًا...
-على أيه؟
-عشان حليت مشكلة شعري، أنا كنت هقصه أصلًا
رد بحماس: -لا تقصي أيه بس؟ استهدي بالله، ولو على شعرك أنا مستعد أحل المشكلة دي كل يوم. بس بلاش حوار تقصيه ده.
-اشمعنا!
-بعدين هابقى أقول لك. يلا تعالى ناكل الأكل برد.
وثبت مرتدية بيجامة بيضاء فضفاضة واتبعت خُطاه بعد ما شبك يداه بيدها. وصل الاثنان إلى الطاولة وقال بحماس: -طلبت لك باستا بالجمبري، عارف أنك بتحبيها!
شكرته بنظرة من عينيها الزرقاء وجلست مقابله على الطاولة، بدأت بأكل السلطة الخضراء وما أن رفعت الغطاء عن طبق المكرونة وتسللت الرائحة لفمها، أمسكت ببطنها ورقدت إلى المرحاض كي تتقيأ ماء جوفها، ركض خلفها بلهفة منتظرها حتى فرغت من تلك اللحظات القاسية، ثم عادت إليه بحالتها الضعيفة فسألها:
-حصل أيه؟
-واضح أني أخدت برد. لو سمحت خرج الأكل من الاوضة مش مستحملة ريحته.
-برد أيه! أنتِ كنتِ كويسة! حياة أنا قلقان من حالتك دي؟ نكلم دكتور!
ردت بوهن: -متكبرش الموضوع أنا كو...
لم تُكمل جملتها فعادت حالة الغثيان إليها، رجعت إلى المرحاض وهي تفرغ أحشائها التي لم ينزل بها شيئا من ليلة أمس. فوجئت بيده تحاوط خصرها ويقفل بيده الأخرى صنبور المياه ويجفف فمها بالمنشفة ويقول:
-على أقل من مهلك.
عندما صافح خصرها زهر قلبها بنوع جديد من الورد لم يسبق لها نثره في تربتها. لأول مرة تراه عن قُرب بهذا الكم الهائل من الحنان الذي يجر قلبها إليه جرًا. رفعت عيونها المشدوهة إليه وقالت له بخفوت:
-أنا بقيت أحسن. مجرد برد.
ترك المنشفة جنبًا ثم حملها بدون مقدمات بين يديه فتعلقت بجدار عنقه باستسلام تام تستمع لتعليماته: -طيب نامي شوية ولو صحيتي تعبانة هنشوف دكتور، اتفقنا.
أومأت بطاعة وهي تتأمل ملامحه عن قُربه، وكفها الذي غدر بها ورسى فوق قلبه النابض بعشقٍ لم يعهده من قبل، يشعره وكأنه يعتني بطفلته الصغيرة بجسد إمراة مثيرة للغاية، وضعها على السرير برفق وشد الغطاء فوقها وأوصاها: -اتغطي كويس مش عايز شقاوة.
لبت طلبه بهدوء وأغلقت جفونها على الفور كي تنفرد بجملة الأحاسيس التي ولدت بجوفها وأنستها قسوة ما عانته صباحًا. ضحك عاصي على تصرفها الذي يبدو طفولية بالنسبة له ولكنه لو يعلم حقيقته لتولدت له جناحين يحلق بهما في سماء عينيها بحُرية تامة وبدون حواجز...
بسيارة عبلة
-بس أيه. سبب الزيارة دي يا مامي؟
أردفت عالية جملتها الأخيرة بعدما حاصرتها عبلة بالجامعة عندما انهت يومها الدراسي بحجة تناولهما للغداء معًا. ردت عبلة بخبث:
-لينا كتير مش بنتكلم، قلت فرصة نخرج سوا. مستغربة ليه؟
-لازم استغرب! دي أول مرة نخرج فيها سوا. بس تعرفي، أنا مبسوطة اوي. مامي ممكن اسألك سؤال؟
قفلت عبلة هاتفها بعد ما قرأت الرسالة النصية المرسلة وقالت:
-طبعا اتفضلي؟
سألتها بتردد: -حضرتك ليه بعيد؟ ليه أحنا مش صحاب؟ ليه عمرك ما حاولتي تعرفي أيه مزعلني وأيه يفرحني! ليه حياتنا كلها أوامر وتعليمات؟
مر الشريط المُظلم على ذهنها كضوء البرق وهي تتذكر جملتها المؤلمة وهي تدس الخنجر بقلب الام التي لم تفق بعد من عناء الولادة وهي تستفسر بشوق عن حال ابنتها أنا مش عارفة أقولك أيه بس للأسف البنت نزلت ميتة يا سوزان . ثم عادت إلى عالية وهي وجهها ابتسامة خبيثة:.
-معاكي حق، أحنا فعلا بعيد وده غلطي. بس لازم تعرفي يا عالية إني عشت حياة صعبة أوي، أنا عانيت مع شهاب دويدار، عشت سنين بحاول اتعافى من الاذية اللي كانت بسببه، باباكي وبابايا قتلوني كل ليلة، أنا بحاول اتعافي لحد النهاردة، ويمكن ده سبب بعدي عنك.
نظرت لها بأسى: -أزاي يا مامي فهميني؟
غيرت مجرى الحديث: -مش مهم، بالليل نرغي سوا، دلوقتِ قوليلي أنتِ أيه يبسطك وأنا أنفذه!
فكرت عالية طويلًا متعمدة وضع أمها في امتحان صعب كهذا ربما لو نجحت فيه، تكسر الحاجز القائم بينهم طول العمر. أخذت تقضم في أظافرها بتردد حتى قالت بشكٍ:
-ساعديني أرجع لمراد. مامي أنا بحبه.
كان ردها على الجملة أشبه بصدى رصاصة عندما ضغطت على فرامل السيارة بقوة وهي تصرخ بوجهها: -أنتِ آكيد اتجننتي؟ مراد مين! أنت تنسي مراد ده نهائيًا وده بمزاجك أو غصب عنك يا عالية...