قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الأول للكاتبة نهال مصطفى الفصل الرابع

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الأول للكاتبة نهال مصطفى الفصل الرابع

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الأول للكاتبة نهال مصطفى الفصل الرابع

يقول نزار قباني: -الحب ليس روايةً شرقيةً بختامها يتزوج الأبطال، لكنه الإبحار دون سفينةٍ وشعورنا أن الوصول مُحال!
-ولكني ملكت السفينة ورفعت شراعها وأعلنت عليه حُبي، وأبحرت إليك على أملٍ بأن عيونك مرساي، وبدلاً من أن أموت غرقًا في بحر حبك العميق بقلبي، مت عطشًا لرؤياك وغيابك والأيام التي قضيتها بدونك باحثة عنك، لِمَ أوهمتني بأن الطريق إليك سهلًا، وهو فخٌ!
#نهال مصطفى.

‏ كأنها جاءته من أحلامه
كل منا يركض في اتجاهه لتحقيق أهدافه، منا من يسلك طريق الخير مستندًا على عكاز الصبر ومنا من يقطع طريق الشر والوساطة ليصل أولًا، والعبرة هنا ليست بأولوية الوصول ولكنه بمصدقية الرحلة!
وصلت نوران بصُحبة كريم إلى قسم الشرطة مستقلين عربة أجرة وتقدمت بسرعة أشبه بالركض متجهه نحو أحد الأمناء وطلبت: -لو سمحت عايزه أقدم بلاغ!

وثب الأمين لاستقبالها وإعداد أوراق الطلب وظلت تراقبه بكفها المرتعش على البار وهي تأخذ أنفاسها بصوت مسموع، وبعد دقيقة عاد إليها قائلًا: -بلاغ في مين يا ست!
بللت حلقها وشرعت في رواية الحدث الدرامي الذي أخذ به عاصي أختها من قلب حارتهم، فختم الأمين قصتها ساخطًا: -هو فاكر البلد مفيهاش قانون ولا أيه؟
تدخل كريم مؤيدًا لجملته بثقة: -أصله راجل مفتري أوي، ومحدش بيقدر يقف قدامه.

سأله الأمين بتلقائية: -أنت تقرب لهم أيه؟
توترت الكلمات في حلق كريم، فأجابته نوران بسرعة: -قريبنا من البلد، المهم أختي هترجع بيتها النهاردة؟
الأمين برسمية وهو يستعد لكتابة البيانات: -اسمه أيه الجدع دا!
-عاصي، عاصي دويدار.
كانت إجابة نوران بحماس وأمل شديد ولكن هنا توقف حبر القلم، ويد الأمين بمجرد سماعه الاسم، انكمشت ملامح وجهه وهو يكرر سؤاله: -قُلتي مين!
-عاصي دويدار حضرتك!

بدا عليه الارتباك والخوف، وقال متحججًا وهو يتأهب للذهاب من أمامها: -طيب خليكي هنا هشوف بس سيادة المأمور وأرجع لك حالًا!

يسري بثقة عارمة وهو يضع ساق على الأخرى: -لقيت الحل اللي هيمسكك عقد الإدارة، ويخرجك من دماغ عبلة هانم للأبد وكمان من غير ما يأثر على رفاهية معاليك!
تلك كانت أخر جُملة أردفها يسري على أذان عاصي مما جعله يصغي إليه متجاهلًا رنين هاتفه، وقطب حاجبيه متسائلًا: -أنت دماغك راحت فين؟
ابتسامة خبيثة ارتسمت على وجهه يسري وقال: -راحت شُبرا!
بدا الغضب يكسو ملامحه، فسأله بنبرة حادة: -مش فاهم!

تحمحم يسري بخفوت، وبنبرة مُغلفة بحماس الشر قال: -البنت ال أحنا جبناها من شُبرا.
-قصدك الدكتورة شمس؟
أومأ يسري مؤيدًا تساؤله وأكمل: -هنلفق لها قضية مترتبة، متعرفش تخرج منها، غير بطريقة واحدة!

بات حماس عاصي يبهت لما يبدو عليه رافضًا لاقتراح يسري الذي أكمل تقديم وجبة الشر الدسمة: -هنتفق معاها، ونقول أنها حُب قديم لمعاليك، وعشان كدا جبتها القصر، وتتجوزها كدا وكدا، لحد ما تاخد الأوكيه من الهانم، نقطع الورقة ويا دار ما دخلك شر ونراضي البنت بكام مليم، والموضوع ينتهي!

تمددت ملامح عاصي تدريجيًا لما يدل على أن الحديث راق واستطاب إليه وأخذ يُقلب الفكرة برأسه حتى عادت أنظاره إلى يسري الذي يُغلف له أفكاره السوداوية بشريط هدايا وقال: -وأنا سألت عليهم زي ما قلت لي، البنت دخلت الجامعة بمنحة دراسية ولانها فعلا مجتهدة، وهتبقى وجهة كويسة لمعاليك، عايزه بس شوية تلميع سيبهم عليا. قلت أيه!

ضرب الأرض بمشط حذائه اللامع بخفوت وهو يفكر في الأمر، ولكنه لم يستغرق وقتًا طويلًا حتى رن هاتفه مرة أخرى، فقبل ما يجيبه قال ليسري: -سيبني أقلب الموضوع في دماغي وبعد الاجتماع هقولك تعمل أيه!
ثم أجاب على هاتفه قائلًا: -ممدوح باشا، اخبار معاليك!
ظل يسري يراقب تبدل ملامح عاصي المُتقلبة هو يتحدث في الهاتف حتى أنهي جُملته بفظاظه وقال: -لالا، نفذ اللي طلبته وكملوا إجراءات البلاغ.

يبدو أن الرجل كاد أن ينافشه في الأمر ولكنه أجزم قائلًا: -مفيش كلمة تعلى فوق القانون سيادتك، وهو كذلك، شاكرين لأفضال معاليك.
بمجرد ما أنهي المكالمة سأله يسري بفضول: -في حاجة يا بُص؟
ألقى هاتفه بجواره وقال بهدوء: -البنت أخت شمس، مقدمة بلاغ فيا!
-دا ايه الورطة دي بقا؟ البنت دي لازم تتربي.
عاصي برزانةٍ وهو يضع ساق فوق الأخرى: -لا ورطة ولا حاجة، محلولة!

‏في حياة كل منا يوم قديم أو حدث حزين ما زال يمتد في كل الأيام ويقاسمها، أحيانًا يكمُن في نظرة شاردة أو دمعة حارة أو كغضبك الشديد على أشياء سخيفة. تشاركا تميم وشمس في الشرود، كل منهما شرد إلى موضع ألمه الذي لم تخدره السنوات.

كانت شمس تطالع الأشجار حولها والطبيعة بصمت يحمل أثقال من الصخب، تذكرت أمها وأبيها وتلك الصرخة التي اندلعت من صميم قلبها إثر سماع خبر فقدانهم الأبدي، ترقرقت العبرات من عيونها فتعمدت أن تخفيهم عنه وهي تطالع بتشتت فوضى العمال على الجهة الآخرى.

انغمس تميم في قراءة كتابه وذلك لا يمنعه من اختلاس نظرة كل فترة والثانية من تلك الملاك الثائر، حيث استمدت صفاتها من اسمها، كالشمس تشرق لتنير عالمك وفجاة تختفي فلا ترى منها إلا الظلام، كان مصيرها من اسمها لكل شيء نهاية حتمية، لا تعلم من أين ابتدى ولأين سينتهي؟ كانت إمرأة بنكهة اللغز المحير للعقل ومثير للفضول ولكنه كان يخشى أن يقترب منها لتحرقه!

حاولت أن تُشتت رأسها عن أحزانها والتفتت للكتاب الذي بيده فقالت بإعجاب: -end of love!
كأن ثمة حوار فُتح ليدور بينهم، استغل تميم الفرصة ليتعرف أكثر عليها ويحل شفرة ألغازه حولها، قفل الكتاب وقال بتنهيدة: -لكُل حاجة نهاية حتى الحُب!
رمقته شمس بنظرات مُعارضة: -أي حاجة في الدنيا وليها نهاية، حتى الإنسان مننا بينتهي، لكن الحُب الحاجة الوحيدة اللي ما ينفعش تنتهي!
-قرأتيها؟

أصدرت صوتًا نافيًا لسؤاله وقالت بحزن: -قرأت نصها، وكالعادة مكملتش!
أسبل عيونه مستفهمًا حول ردها الغريب: -أزاي؟ قصدك مش حلوة!
ردت بعفوية: -إطلاقا، بس دي عادتي ما بحبش النهايات حتى ولو سعيدة، ما بحبش أكمل الرواية واتعلق بأبطالها وفي الأخر يفارقوني! أو افتكر إنهم مش موجودين معانا، أنا مش بعرف أمشي الطريق لأخره! لازم اسيب باب للفضول والحنين، يديني الفرصة إني أرجع له وقت ما أحب! دي حياتي.

شرد في كلامها المغلف بأسى ينافس مأسي أيامه، ولكنها أتبعت بشكٍ: -بس الحب الحاجة الوحيدة اللي ما ينفعش تنتهي، الحب الصادق يولد ولا يموت، له نقطة بداية، بس ملهوش نهاية مهما تجاهلنا الأمر!
ظل يستمع إليها بإعجاب، يبدو إنها لامست نقطة في عقله لم يوصل لها أحد من قبل، تأمل شرودها وهي تُنمق الكلمات وتحشو أوجاعها بجوف العبارات لتنطقها بصورة فلسفية وأكملت: -عارف مشكلة الحُب أيه؟

لمعت عيونه بإثارة لاستماع المزيد منها وقالت: -إنه بيختار الشخص المستحيل، الشخص السهل المُتاح ليك أبدًا مش بيغريه، يعني مثلًا الرواية دي، ضابط في الجيش الروسي، وقع في حب بنت عادية، بس جمالها اللي مكنش عادي، ورغم الحروب والصراعات ما بين جيشه وسكان المدينة إلا أنه تخلى عن كل دا ودخل بيتهم على إنه شخص فقير، عشان يكون جمبها. لو كُنت مكان الكاتب، كنت هتخلي النهاية أيه؟

تضرمها عيناه إعجابًا بفطنتها، فكر لدقيقتين قبل أن يُجيبها وقال
-أنا لسه معرفش الكاتب رأيه أيه، بس شايف أن الحُب لازم ينتصر!
-انتصار الحُب الحقيقي في استمراره حتى ولو مش هينفع نكمل مع بعض؟

أبت ملامح وجهه كلامها وقال: -دي يبقي اسمه ق تل نفس، ليه الإنسان يعمل في نفسه كدا! أحنا من حقنا نحب ونلاقي مُقابل للحُب دا؟ وإلا يبقى زي اللي بيزرع في أرض بور! الحياة مليانة فُرص يا شمس، متوقفيش نفسك عند محطة واحدة لمجرد أن القطر فاتك؟

أيدت كلامه بعقلانية وقالت: -دا رد منطقي وواقعي لأي حد جاي الدنيا عشان يعيش أيامه ويمشي، أه مجبر على طوي اللي فات، بس حد زيي بيتعامل مع الحُب على إنه هواء وميه، كل لحظة بنستخدمهم، بس مش كل لحظة بنقول إننا بنحبهم، دا الفرق، الحُب بيجي مرة واحدة وبيعيش فينا بصرف النظر عن حياتك هتكملها مع مين بعدين؟
ثم أطلقت تنهيدة وأكملت
-كل واحد جوه قلبه أوضة مقفولة مكتوب عليها ممنوع الإقتراب!

ظن أن بالحديث سيكتشف هويتها ولكن لم يزيدها الكلام إلا غموضًا، طالعها بتطفل شديدٍ إثر تلك العواصف التي هاجت ببدنه من زوبعة أوجاع امرأة رأت من الدنيا ما رأت ولكنها مازالت صامدة كالجبل.
ركضت تاليا و داليا إلى عمهم وعانقوه بحب، فقالت تاليا بمرحٍ: -أخيرًا نزلت الجنينة يا أونكل تميم!
ابتسم تميم بامتنانٍ: -اشكروا الدكتورة شمس بقا.

تدخلت داليا بجزل طفولي وسألتها: -حضرتك الدكتورة شمس، تاليا قالتلي إنك طيبه أوي.
ثم اقتربت منها وربتت بكفها الصغير على كفها وأكملت: -ممكن متزعليش من بابي؟ هو دايمًا عصبي وبيزعق، نانا دايمًا بتقول إنه مشغول، عشان كدا هو عصبي.

كغيث انهمر على جروح شمس وهي تطالع رقة ولُطف الصغار وهما يتحاورن معها، والكثير من المرح الذي جعلها تنسى أوجاعها للحظات مسروقة من الزمن، إلا أن هبت عاصفة من نوع أخر لتفسد مجلسهم، فبمجرد دخول عبلة التي اشتعلت النيران من ملامحها وهي تزمجر بغضب عارمٍ: -مين نزل تميم هنا؟
رفع تميم رأسه إليها بعد ما سر. ق نظرة سريعة من وجه شمس التي بدا عليها القلق وقال: -أنا طلبت من الدكتورة شمس.

جثت عبلة على ركبتيها أمامها ولكن سِهام الشر تحاصر عيونها وقالت بزيف: -تميم حبيبي أنا خايفة عليك، الدنيا مش تمام، ودربكة الحفلة والجو مش هيبقى لطيف، لو سمحت متزعلش مني.
ثم صوبت أنظارها الثاقبة لشمس وقالت: -هنا مفيش حركة بتتم غير بعد رأيي، اتمنى الدكتورة تعرف أن القصر دا له قواعد، مش زي الخرابة اللي جاية منها!

احتدت نظرة تميم إليها فابتلعت عبلة ما تبقى من إهانات، وطلبت من الفتيات قائلة: -وصلو أونكل تميم لأوضته يا حلوين.
وهنا تعالت أصوات صاخبة من الخارج، وأحد الحراس قادمًا إليهم، وبمجرد ما سألته عبلة: -أيه الدوشة اللي بره دي!
طأطأ رأسه وقال: -دي الشرطة بره، وبيسألوا على الدكتورة!
رمقتها عبلة بسخرية: -دكتورة! أنا عارفة عاصي حدفها علينا من أي داهية، اتصل لي به حالًا.

توترت شمس وهي تضم يد داليا بقلق، خاصة بعد وتيرة الإهانات التي سُددت إليها، ونظرة أخيرة كانت من نصيب تميم التي أومأ إليها راجيًا أن تهدأ، ولا تُفاقم الأمر، كأنه يريد أن يُخبرها بطريقة ما أن هذا هو الجو المعتاد لقصر آل دويدار.
جذبت عبلة الهاتف من الحارس وقالت بلهفة: -أيوه يا عاصي، شوفت المصيبة اللي أنت حدفتها علينا؟

خرج عاصي من اجتماعه بعد ما أنهاه بأفضل العروض لصالح شركاته وأخذ يخطو بفظاظة في دهليز المكان ويتبعه يسري، فقال عاصي بهدوء: -اديها التليفون!
زفرت عبلة بضيق لعدم تمالكها زمام الأمر ومدت لها الهاتف قائلة: -كلمي!
بأنامل مرتعشة وصوت لا يقل إنش عن ارتجاف يدها وضعت الهاتف على اذنها وقالت بصوت خافت: -ألو!

خاض بالأمر بدون مقدمات وأردفت بحدة غير قابلة للنقاش: -بصي يا شاطرة، هتخرجي للظابط اللي بره وتقوليله انك هنا بتشتغلي، ومش مخ طوفه ولا حاجة!
تلجلجت معترضة: -بس!
ارتفعت نبرة صوته بصرامة: -حرف تاني غير كدا، هتلاقي نفسك متهمة بسر قة حاجات لو اتباعتي أعضاء مش هتجيبي نص تمنها!

هنا أغلق هاتفه ومده ليسري وواصل طريقه نحو سيارته بفظاظة، لحق يسري بخُطاه مسرعًا وهو يسأله: -معاليك مصمم على البنت دي ليه! افهم من كدا وافقت على كلامنا؟
فكر عاصي للحظات ثم قال: -البنت لسانها طويل وعايزه تتربي!
يسري بعدم فهم: -وده أيه علاقته؟
-فيها من نفس طينة تميم، ف هي أكتر حد هيعرف يتفاهم معاه!
فتح له يسري باب السيارة وهو يقول: -نفسي أفهم أيه في دماغ معاليك!

صعد عاصي سيارته الفارهة بالمقعد الخلفي ثم لحق به يسري فأنطلق السائق عائدًا إلى القرية، وهنا أردف سؤاله الأخير: -فكرت في كلامنا بتاع الصبح!
انتهى عاصي من إشعال سيجارته وقال
-فكرت، والفكرة عجبتني!
تحمس يسري للمغامرة الجديدة التي سيخوضها رئيسه وقال بشغفٍ
-هو دا الكلام! خطط يسري متُخرش المية!
أخذ نفسًا طويلًا من سيجارته ودار برأسه يطالع الطريق من النافذة وقال بمكر: -بس مش شمس!
عودة إلى القصر.

تُراقب نوران أختها بذهول شديد بعد ما نفت كل الاتهامات الموجهة لعاصٍ، فنهرتها أختها معترضة: -شمس، أنتِ بتقولي أيه؟
ضغطت شمس على كف أختها ثم أكملت حديثها إلى الضابط: -أختي بس فهمت الموضوع غلط، وأنا موجودة في القصر هنا بصفتي الدكتورة شمس، وبقوم برعاية مريض!
أطرق الضابط باحترام ونادي على العساكر كي يتأهبوا للرحيل، ثم سحبت شمس أختها جنبًا وقالت بحذر
-نوران، أنا هنا بشتغل، وصلي لفوفا الكلام دا!

نهرتها نوران بعنف: -أنت ازاي تقولي كدا على المُج رم دا؟ شمس أنت واعية لتصرفاتك!
ربتت على كتف أختها بتفهم: -أنتِ مش فاهمة حاجة، بصي هو هيجي بكرة وهتكلم معاه ولازم هيكون في حل، المهم دلوقتِ تخلي بالك من فوفا وادويتها، وطمنيها أنا كويسة أهو.
ثم مسحت بعيونها ساحة القصر لتطمئن اختها حتى ولو كذبًا: -وأديكي شايفة المكان، وليا أوضة لوحدي وبتعامل باحترام، أنتِ اطمني!

أسبلت نوران عيونها بعدم تصديق: -مع أن قلبي مش مطمن، بس هصدقك يا شمس.
مسحت شمس على شعر أختها وقبلت جبهتها بحنان: -متقلقيش، ويلا عشان تطمني جدتك، وأنا هكلمك على طول!
أدخلت نوران يديها بجوف حقيبتها وأعطتها سلة سوداء بداخلها بعض النقود وقالت: -خدي ارمي له فلوسه في وشه واخلصي من الرعب دا، المكان دا مش مريح ياشمس أنا خايفة عليكِ!
أخذت النقود من اختها وقالت بهدوء: -هحاول، يلا روحي أمشي أنتِ دلوقتِ.

تقف جيهان بصحبة عبلة في أحد زوايا القصر يراقبان الحدث بعيون الشر، حتى تفوهت جيهان قائلة: -عبلة اسمعي كلامي البنت دي مش هيجي من وراها غير المشاكل، قلبي مش مرتاح لها!
عقدت عبلة ذراعيها وهي تحدج نظراتها القوية جهة شمس وتقول: -لا ومكلف نفسه عاصي وجايب دكتورة تراعي اخوه، من أمتى بيهتم تميم اصلا!

مالت جيهان على أذان أختها وقالت بصوت يشبه فحيح الأفاعي: -ياخوفي يكون عاصي ابنك عينه منها، وجايبها القصر وحجته تميم!
هزت رأسها نافية وهي تقول بثقة: -مش ذوق ولا مستوى عاصي، اطمني!
بثت الاطمئنان بقلب جيهان ثم سألتها: -عبلة، أحنا لازم نظبط جوازة عاصي من هدير، دي البنت اطلقت عشان بتحبه!

يبدو أن الجملة لم ترق لمُخطط عبلة ولكنها تجاهلتها سريعًا وهي تغادرتها متجهة نحو شمس العائدة إلى مدخل المنزل، ف عاقت طريقها وقالت بشموخ: -شكلك عوج و بتاعت مشاكل!
فاض صبرها حتى تأفف شمس بضيق ثم قالت: -آه، أنا فعلًا كدا والأحسن تتقي شري، عشان أنا عوج ومش بيهمني حد!

كانت تلك أخر جُملة ألقتها شمس على مسامع عبلة وتركتها وغادرت وهي تلعن الصدفة التي قادتها إلى هنا، حيث باتت نيران غضبها لا ترى أحد، بل تلسع كل من يقترب منها، ذهلت عبلة من وقاحتها الزائدة وأخذت تض رب كف على الأخر وهي تتوعد لها بأن تحول حياتها لجحيم.

تتقوس حول نفسها كحمامة تحت المطر لا تعلم إلى أين ستذهب بعد ما هُدم عشها! إلى أين تتجه وهي ضعيفة هكذا كاليرقة! يبدو أن شعور أُلف واحتضان ذاتها معتادة عليه! أحست بأنها ليست المرة الاولى التي ترمم فيها نفسها بنفسها! يبدو أن حياتها القديمة لم تكن بفارق عن حياتها الآن، ربما ماتت من قبل ألف مرة! تقاسم الحيرة قلبها! لِمَ ألقاها المُوج إلى هنا؟ ما هو المصير الذي ذرفها إليه؟

كان مذاق التيه بالنسبة لها كالماء والهواء، ليست بشعور مخيف تهابه وتخشاه، رُبما كانوا من قبل أصدقاء، تتقلب في فراشهم كل ليلة؟ ولكن توقفت دموعها حائرة، كحيرة الرمش، هل يحضن الدمعة أم يتخلى عنها؟ وسألتها نفسها السؤال الأصعب!

-‏ هل لا يستحق الإنسان أن يشعر ولو لمرّة واحدة ف العُمر بأنهُ في المكان الصحيح الذي لا شك به ولا حيرة! ما هو الذنب الذي يعاقب المرء عليه بتلك القسوة! أهل من العدلِ أن نسدد دينًا لم نقترضه؟
مسحت رسيل عبراتها المترقرقة وهي تدفن وجهها بالوسادة، حيث بتر خيط أفكارها جُملة المُمرضة: -لازم تاكلي! مش هينفع كدا!
صرخت بها رسيل: -قُلت سيبيني لوحدي!

لبت الممرضة طلبها وجذبت الباب الزجاجي لحديقة غرفتها وانصرفت كي تهاتف الطبيب وتروي له حالة المريض.
وعلى الجهة الأخرى من الحديقة يجلس عاصي ويتناول وجبة غدائه على البحر بأشهى أنواع الأسماك التي يُفضلها، ارتشف رشفة من كأس النبيذ ف تقدم إليه يسري بوجه عابث لاحظه عاصي، وما أن وضع لقمية صغيرة بفمه سأله: -مالك!
أخفض يسري وجهه بالأرض وقال بأسف: -لما تخلص أكلك معاليك!

ترك الشوكة والسكين من يده والتفت إليه منتبهًا: -اخلص يا يسري؟
خيم الخذلان على وجهه وقال بحزن: -خسرنا مزاد العلمين.
يعلم يسري بأهمية هذا المزاد بالنسبة لعاصٍ لذلك أردف جملته بأسفٍ شديد، ولكن رد فعل عاصي كانت غير متوقعه فسأله: -ورسي على مين!
-على شركة ماريو.

زفر بضيق ثم نهض جاهرًا بغضب واشار إليه محذرًا بسبابته: -دول زودوها أوي. يُسري، تجيب لي قرار الشركة دي وصحابها ومين الممولين بتوعها، كل حاجة يا يسري، أنت فاهم!
أومأ يسري بطاعة: -فاهم، فاهم معاليك؟ اهدا بس.
ثم لقمت أعينه تلك الممرضة التي تتحدث في الهاتف، فعاد إلى هدوئه العاصف مرة أخرى، وسأله بعيون ماكرة لا يفصح عن خباياها: -البنت اللي جوه دي فاقت!
تشتت تركيز يسري قليلًا وسأله بحماقة: -أي بنت معاليك!

حدجه بأنظاره الحادة: -يسري!
انتبه يسري أخيرًا: -اه قصد معاليك البنت بتاعت البحر! اه فاقت وبعت لها الغدا.
ثم اقترب منه وسأله ناصحًا: -أحنا مش هنخلص منها بقا؟
طالع عاصي البحر بعيونه المراوغة ووضع يده في جيب بنطاله الأبيض وقال شاردًا: -عايزك تعرف أصلها وفصلها!

أحس يسري بالعجز إثر صعوبة طلبه وقال معارضًا وبنبرة مغلفة بالسخرية: -معاليك أنا خدامك آه، بس مش بنجم هنا عشان أعرف أصل واحدة هي نفسها مش عارفه هي مين!
لقنه بنظرة حادة أخرسته وجعلته ينسحب من أمامه مُلبيًا لطلبه بدون كلمة زائدة.

في جنوب الغردقة
ضجيج تفجر بجميع أرجاء البيت أخذ يُكسر كل ما يقابله، كُرة ملتهبة من الغضب تأكل كل ما تلقاه، هشم فريد غُرفته جاهرًا
-يعني أيه تروحي مني!
دخلت فريال جهة مصدر الصوت ونهرت أخيها معترضة: -أنت اتجننت، سايب عزاء المعلم قنديل وقاعد تكسر هنا؟

دار إليها بعيونه المحمرة وشعره المُنسدل على جبهته أزاحه للوراء وقال بجنون: -قلبت البحر عليها حتة حتة، فوق وتحت، يعني أيه البحر يغدر بيها، دول كانوا صحاب، ويوم ما القاها ياخدها مني؟

يبدو أن البحر من معشر الرجال، إذا غار جُن، التقم حبيبته كي لا يشاركه أحد فيها، ربما أراد لها قصة جديدة ومغامرة جديدة سيشهد عليها، ربما اعتبرها شخص غير عادي، فلابد من قصة مثيرة لتعيشها، العادي لا يليق ب فتاة مثلها! أو ربما أحس البحر برفضها فتولى مهمة انقاذها من شخص لم تتمناه لساعة أن يقاسم قلبها!
حاولت فريال أن تهدأ من بركان أخيها الثائر وقالت: -قضاء ربنا يا فريد، هتكفر!

بعدم تصديق: -لا ماهي مش دي النهاية! مش دي النهاية اللي تليق بصبري وحبي ليها السنين دي كلها!
ثم تناول بدلة الغطس وغادر هائمًا: -هقلب عليها الدنيا يا فريال!
صرخة أخته بخوف عليه من غدر البحر الذي سبق وغدر بابنة عمها، حاولت أن تلحق بها بسرعة ولكن بدون فائدة، اندفع هائمًا على وجهه في مهب رياح الحُب والتمرد على أعرافه!

يخطو نحو غرفتها بثقة عارمة ظنًا منه بأن كل ما على الأرض خاضعًا لقوانينه، لأوامره، طرق على باب غُرفتها ثم دخل قبل أن تأذن له بالدخول، فزعت من مرقدها بتوتر وهي تضم ساقيها إلى صدرها وتوبيخه قائلة: -أنتَ أزاي تدخل قبل ما اسمح لك!

جر المقعد الخشبي المُخصص لتسريحة غرفتها وجلس عليه وأخذ يثني في أكمام قميصه تحت عيونها المُرتعدة صامتًا، لا يهزه انتفاضة صوتها. سحبت الغطاء إليها ظنًا منها بأنه سيحميها منه وقالت: -بكلمك ولا مابتسمعش!
تحمحم بخفوت ثم أجاب ببرود غير متناهٍ: -مستني تحسني أسلوبك معايا عشان أرد!
علمت بأنها أمام رجل قوي، ليس بالسهل خديعته ولا التفاهم معه، أخرج سيجارة من جيبه وسألها بهدوء مرعبٍ: -هتضايقي لو شغلتها!

ألتزمت الصمت ولكن عيونها أعلنت الرفض، ولكنه عقيم في قراءة عيون النساء تجاهل ما أفصحت به عيونها وأخذ نفسًا من سيجارته وقال برتابة: -أسف ياااا، نسيت أنك مش فاكرة حتى اسمك، بس أنا عايزك تحطي نفسك مكاني.
بللت حلقها الذي جف من هيبته وهي ترمقه بعيونها السماوية الواسعة التي تحتكر نصف مخزون العالم من النبيذ وقالت: -مش فاهمة!

قرب مقعده منها وقال بنبرة يكسوها المكر والخديعة: -بصي أنا راجل مش متجوز، وليا سُمعتي اللي عشت بحافظ عليها عُمري كله، مش حلوة في تاريخي دا كله يقولوا عاصي دويدار عنده بنت في الجناح بتاعه!
لمعت نظرات السخرية على وجهه مقارنة بما رأته صباحًا، وبما تسمعه الآن، ابتسمت باستهزاء وقالت
-اه منا واخدة بالي.

تجاهل سخريتها التي يدرك سببها جيدًا وقال: -جميل، نبقي متفقين، أنا كلها ساعة وراجع القاهرة، وأنت ما ينفعش تبقي هنا!
اندفعت بدون تفكير: -ومين قالك إني عايزة أقعد هنا أصلًا!
مثل التأثر الشديد على حالتها وقال معاتبًا: -هو خير تعمل شر تلقى الزمان دا!

رمت الغطاء من فوقها ولامست الأرض أقدامها العارية التي يغطي الفستان منتصفها، شيء ما جذبه ليطالع ساقيها الاشبه بأعمدة رُخام مثيرة للمس، ولكنه سيطر على أهواه مكملًا مسرحيته مُلتفًا لحديثها: -أكيد أهلي بيدوروا عليا، أنا هنزل من هنا على أقرب قسم وهبلغ!

وقف أمامها بهيئته المُتناسقة وهو يطرق أنظاره لمستوى أنظارها وقال بنبرة تحدٍ: -معنديش مانع بس بعد ما تقدمي البلاغ، هترجعي هنا مش هتلاقي مكان تنامي فيه، شوفي بقا ممكن تقعدي فين لحد ما البوليس يلاقي أهلك دا إن عرفوا يوصلوا لحاجة!
رفعت عينيها المُقمرتين بوميضٍ خافت من الرعب ولكنها أبت الخضوع لكلامه الذي يفوح منه رائحة الدخان، قالت متحدية
-هقعد على الرصيف ولا إني اقعد في مكان يخص واحد مغرور زيك!

-هو في حل واحد!
علم أنها امرأة لا تُقتل بسهولة، ما كادت أن تخطو خطوتين توقفت إثر جملته الأخيرة التي جعلتها تلتفت إليه منتظرة أن يكمل جملته، أكمل عاصي بصوته الخفيض وبتردد مزيف: -مش عارف إذا كنتي هتوافقي ولا لا، بس الخيار في الأول والأخر ليكِ!
يطوف الفضول بملامحها وهي تناظره: -سمعني!

أخذ يتحرك في الغُرفة بعشوائية ليكمل مسرحيته على أتم وجه، لانت معالم وجهه مما يجعلها تحس بحاجته لمساعدتها، وقف يتأمل البحر من وراء الزجاج للحظات طويلة مازالت تنتظره فيها على مراجل متقدة، حتى قال بفظاظته المعهودة: -أنا محتاج مساعدتك زي ما أنت محتاجة مساعدتي!
بللت شفتيها بنفاذ صبر وهي تخطو نحوه بفضول
-وبعدين!

تطرفت بخيالها لأبعد مدى كي تُخمن ما يشغل تفكيره ولكنها فشلت، رجل مثله لا يكشف كل أوراقه مرة واحدة، أخذ يطوف حولها كما يطوف الدبور حول الزهرة وقال: -أنت مشكلتك الوقت وأنا كمان، محتاجة وقت عشان تعرفي أهلك، وقت عشان تفتكري انتِ مين، وكل دا عشان يحصل لازم تكوني في مكان آمن!

ارتاد فكرها ساحات الحيرة وهي تراقبه، حيث أكمل: -وأنا محتاجك في حياتي فترة مؤقتة، هوصل فيهم لهدفي، والمُقابل متحلميش بيه، أولهم هدور على أهلك، هتعيشي في مكان متحلميش بيه، شيك على بياض تكتبي المبلغ اللي عايزاه وأنا هنفذ!
دب الرعب في قلبها فأخذت تقبض على ياقة فستانها كي تحمي نفسها من نظراته المريبة وتقوس أصابع أقدامها من شدة الخوف، وقالت
-قصدك أيه؟

-هنلعب لعبة بسيطة أوي، النهاردة ف القاهرة في حفل عملاق، هيكون فيه كبار رجال الأعمال، أجانب وعرب.
صمت للحظة يراقب تلك الملامح التي استمدت جمالها من صخب البحر، تثير العواصف وتصنع الدوامات لتغرق أمهر السباحين بهما، صف أمامها بشموخ وقال
-هقدمك في الحفلة على أنك خطيبتي. خطيبة عاصي دويدار!
ذهول، عيون متسعة صامدة ثم ضحك ملء فمها وهي تحاول استيعاب ما سمعت، حتى تفوهت بسخرية
-أنت مش مغرور وبس! لا كمان مجنون!

نظر في ساعته بهيبة ثم قال
-قدامك بالظبط 40 دقيقة، تفكري وتاخدي قرارك، أكون غيرت هدومي.
وكأن السماء أهطلت فوق رأسها جمرًا، فالموت والحياة الاثنان تآمرا عليها، وقفت أمامه لتعيق طريقه معلنة رفضها القاطع: -مش مضطر تستنى الوقت دا كله عشان تعرف ردي، تقدر تأجر ألف واحدة من اللي تعرفهم يلعبوا معاك اللعبة الرخيصة دي يااا عاصي بيه دويدار!

أفحمته بسخريتها وتقليلها منه، تعمد أن يحافظ على ثباته لأخر لحظة حتى وهو يراها تغادره وترحل كفراشة لم يرق لها مذاق الصبار ففر هاربة.

عودة للقاهرة. قصر آل دويدار
بدأ الحفل وبدأت عبلة في استقبال الضيوف، التجول بين المقاعد والترحيب بالجميع، وكانت تُرافق خُطاها هدير كي تصنع أكبر عدد من العلاقات والمصالح الشخصية، باتت تتعرف على بنات وأبناء الضيوف وتمازحهم بخفة وتهتم بتقديم المشاريب إليهم وتعمد الكثير الاقتراب منها لما تملكه من عدد المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي الهشة.

أجبرت عبلة ابنتها على حضور الحفل، ارتدت الفستان الذي احضرته إليها ولكنها تعمدت أن تغطي ذراعيها ب شال حريري وهي تجلس في مكان هادئ تُراقب الأكاذيب المتحركة، وكل منهما يعرض أثمن ما لديه.
دلفت جيهان إلى ساحة القصر وأخذت تبحث عن أولادها إلى أنها تصادمت ب كريم فجذبته بقوة وسألته: -أنت مختفي من أول الصبح ليه؟

هندم كريم سترته وهو يراقب المحيطين حوله ويهمس لامه خلف أسنانه المُنطبقة ويقول: -مصالح عُليا يا جيهان هانم! وبعدين المسكة دي هضيع برستيج ابنك!
زفرت جيهان بإمتعاض: -أنتَ هتجنني، بقولك شوفت أخوك مراد؟
ذهل كريم من سؤالها: -هو مُراد جاي؟
-قال لي إنه جاي، ومأكد عليا!
تحمس كريم بعفوية: -دي الليلة هتبقى دمار! دا له 10 سنين مدخلش القصر دا؟
جيهان بتخابث
-ماهو لازم يحضر، مش أنت لوحدك اللي عندك مصالح عُليا.

ضحك كريم على سخرية والدته منه، حيث مال على آذانها وقال
-جي جي، أنا مُشفق على عاصي، هو المفروض يختار واحدة بس من كل البنات دي؟ ما اختار معاه أنا كمان!
لكزته أمه بغلٍ: -انتيل أفلح في دراستك الاول بدل ما أنت عمال تسقط كدا.
-منا مش هتعدل غير لما اتجوز، جربي كدا مش هتخسري حاجة.

هنا طل مُراد بفخامته وفخامة هيئته وبدلته الأنيقة فكان كالبدر في ليلة تمامه يسطع أمام الجميع، اندفعت جيهان إليه وعانقته بانتصار وشوشت له: -كنت متأكدة إنك مش هتخيب أملي، تعالي تعالي سلم على خالتك.
في الطابق العلوي.

يجلس تميم على مقعده المتحرك يُراقب الحاضرين من خلف السور، يراقب تلك الملايين المتحركة أمامه، الفتيات يعرضن جمالهن بطريقة مقززة، صخب عارم هنا وهناك، أحضان وتلامس بين بعضهم لبعض بحجة الصداقة، سيدات تتباهى بما لديها من مجوهرات، ورجال يعرفون أين يدسون أعينهم!
اقتربت شمس منه بخطوات هادئه وأخذت تشاهد الصرح الضخم من الحاضرين وقالت بهدوء: -ليه منزلتش!

أجابها تميم بدون ما ينظر لها: -دا عالم مزيف، عالم مش شبهي، لو فكرت اتكلم مع شاب من الواقفين دول، مش هلاقي في عقله ذرة نضج، كلهم عالم الشو والكذب والفلوس!
ثم أخذ نفسًا بارتياح وأكمل: -محتوى حياتهم هنصيف فين النهاردة! مين مُعجب بمين! تؤ جو مغبر بالكذب، مش لوني!
عقدت شمس ذراعيها وسألته بفضول: -طيب وليه أنت مش زيهم!

امتنع تميم عن الرد وعاد لمشاهدة المسرحية التي نعلم جميعنا بأكأذيبها ولكنا مازلنا نشاهدها، أحست شمس بأنها لامست جرح ما بقلبه تعمد السكوت عنه، وتعمدت هي الأخرى ألا تغوص في الحديث.
ركضت عبلة إلى ابنتها التي تعبث في شاشة هاتفها ونهرتها معاتبة: -سيبي الزفت دا وقومي رحبي بالناس!
زفرت عالية باعتراض
-مامي أنا قلت لك مش عايزه انزل واجبرتيني، متجبرنيش كمان اسلم على ناس غريبة!

بدا التوتر على ملامح عبلة، فلحظتها عاليه، فوقفت وسألتها
-مامي حضرتك تعبانة؟
أجابت عبلة باختناق: -الساعة داخلة على 12 والبيه أخوكي مجاش! وبكلمه مش بيرد.
ربتت على كتفها وقالت: -طيب اهدي، هروح اشحن موبايلي واكلمه.
ترجتها عبلة بأمل
-حاولي يمكن يرد عليكِ يا عالية، انا حاسة هتجرالي حاجة لو أخوكي نشف دماغه ومجاش.

رفعت عالية ذيل فستانها الطويل وانصرف جهة المنزل وهي تعاود الاتصال بأخيها مرارًا وتكرارًا، ولكن بدون فائدة، قفزت في رأسها فكرة كتابة رسالة نصية له، ظلت تخطو بعبث وهي تجمع تركيزها كله في ترتيب الكلمات، فاللحظة التي انشغلت فيها عالية بهاتفها كان مُراد يتحدث هو الأخر بهاتفه باحثًا عن مكانٍ هادئ وفي تلك اللحظة تصادم الثنائي ببعضهم ف سُكب كأس العصير الذي بيد مراد على فستان عالية ، التي فزعت صارخة بوجهه.

-مش تفتح؟
-ومش مفتحة أنتِ ليه؟
أخذت عالية تثرثر بكلمات غير مُبهمة حتى قالت معترضة: -وقليل ذوق كمان!
ثم انشغلت في تنظيف فستانها وهي تدفعه بقوة من أمامها مما أثار إعجاب مُراد بها الذي لم يتعرف على هويتها بعد، ابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال لنفسه: -غزالة، بس بتعض!

في تلك اللحظة التي ينتظرها جميع الفتيات لتوقيع عاصي دويدار في حبهم، دخل بفخامته وخلفه عدد كبير من الحرس أشبه بموكب ملكي، صُوبت نحوه جميع الأعين، من يطالعه بإعجاب، ومن يحدجه بنظرات التمنى، ومن يطلق صفير انبهاره علنًا، رجل تجمعت به وسامة وفخامة رجال الأرض، ولكن كل هذا انطفىء بمجرد وقوفه جمب فتاة أشبه بحوريات البحر، ترتدي فستانًا فخمًا باللون الازرق استمد لونه من عيونها، مرتديه حذاء بكعب مرتفع مما جعلتها تُنافس قامته في الطول، شعرها المموج الذي ينسدل بطوله ليُغطي أسفل ظهرها، مُلفتة لانتباه الجميع كالعطر من غير صخب.

تحاشي الجميع موكب عاصي الفخم وصُوبت أسهم نظراتهم الثاقبة نحو رسيل الواقفه على يساره، اقبلت عبلة إلى ابنها كإقبال العطشان على بُحيرة ماء وعانقته هامسة بعتب: -كل دا تأخير؟
ربت عاصي على ظهرها وقال: -كان عندي شغل!
ابتعدت عبلة عنه وهي تراقب رسيل بنظرات حارقة وسألته بهمس: -مين دي؟
اتسعت ابتسامة عاصي وهو يطوق خصر الفتاة ويجذبها إليه أكثر ويجهر بصوته معلنًا: -حياة، حياة مراتي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة