قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل السادس والعشرون

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل السادس والعشرون

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل السادس والعشرون

بعض الأماني تظل كما هي باسمها،
حيث لا تخرج خارج إطار التنفيذ والتحصيل فتبقى كما هي أمنيات دون أن تتحق، فليس كل ما يتمناه المرء يُدركه، وليس كُل ما تشتهيه الأنفس تُلحقه.
الحمدلله يا حبيبي، على فكرة شهد تعبت أوي ساعة اللي حصل، وأنا قولتلها إن الخلفة دي رزق وربنا هيعوضكم، وبكرة تقف على رجلك تاني وتملا بيتكم بولاد حلوين شبهكم.

ألقت عليه قُنبلة لم يتحمل حملها فوق عاتقه فكرر خلفها مُستنكرًا كلمتها أو ربما حديثها بأكملهِ: خلفة! حضرتك تقصدي إيه؟
ضمت حاجبيها لبعضهما وهي تجاوبه ببلاهةٍ: هو أنتَ مش زعلان علشان شهد كانت حامل وأجهضت؟

القنبلة الثانية لاحقت الأولى في رد فعلها وقد توسعت عيناه وأنقبض قلبه وهو يُطالعها بذهولٍ وصدمةٍ ارتسمت فوق صفحات وجهه، وقد أضحى قاب قوسين أو أدني من لفظ أنفاسه الأخيرة أو التحول لغير الآدمية وبالرغم أن الجرح قد سكن إلا أن الروح كانت تأنِ بصراخٍ، حينها فرغ فاهه فأرتبكت هي لكونها أفصحت عن سر ابنتها، وخاصةً مع تبدل ملامحه فأضافت من جديد بنفس الإرتباك الذي بدا جليًا عليها: هو أنا معرفش هي قالتلك ولا لأ، بس أنا قولت إنها ممكن تكون عرفتك لأنها كانت تعبانة أوي، المهم يا حبيبي متزعلش نفسك وبكرة ربنا يراضيكم بأولاد كتير.

أنحبست أنفاسه داخل رئتيهِ وأتقدت النيران في صدره وعينيه اشتعل فيهما الجمر المُلتهب وللآسف ولجت شهد لهما بعدما استمعت لحديث أمها معه وحاولت ترتيب الحديث على طرفها لكنها عاتبت أمها بعينيها حينما لاحظت الوجع في عينيهِ وهو يُطالعها مُتحسرًا كمن فاتته أحلامه بأكملها، وحينما لاحظت أمها توتر الأجواء بينهما طالبت بالتحرك واستأذنت منهما وأنسحبت من مجال المعركةِ وقد فرحت الأخرى بفعلة أمها كثيرًا حتى تقدر على لملمة شتات الأمور وقد وقفت بقرب الفراش منه فوجدته يهتف أخيرًا بنبرةٍ آلية: مقولتيش ليه يا شهد إنك كنتي حامل؟

ازدردت لُعابها وهتفت بثباتٍ واهٍ يشوبه الكثير: كنت هقولك إزاي وأنا معرفش مكانك لولا إن باباك هو اللي عرفني؟ بعدين أنا خوفت أقولك تزعل وتتوجع، أنا من ساعة ما جيت كنت ناوية أقولك بس لما لقيت حالتك كدا مرضيتش أوجعك زيادة فوق وجعك، بس أنا سكت علشانك أنتَ والله.

ألقت الحديث وتفوهت به دون أن تُشغل عقلها بمشاعره فوجدته يشتعل من الغضب وهدر بإنفعالٍ وبنبرةٍ جامدة يوقفها عند ذلك الحد: مالها حالتي يا شهد؟ خلاص بقيت عاجز قدامك ومش نافع؟ ولا أنتِ هتشفقي عليا وتقولي يا حرام مبقاش قادر يتحرك ويصلب طوله، خبيتي ليه وأنتِ طول الليل نايمة جنبي في نفس السرير وفي حضني؟ وياترى بقى أجهضتي إزاي؟

تنهدت بقوةٍ وقد قررت ابتلاع غضبه ونوبة اهتياجه وهتفت برقةٍ مُصطنعة للحد الذي أجاد اقتناعه بالدور ومما تفعل: للآسف إجهاضي كان غصب عني، اسأل باباك هو كان عارف كل حاجة وهو يقولك أحسن علشان ممكن متصدقنيش لو قولتلك أنا، بس صدقني أنا تعبت أوي وكنت من غيرك تايهة وعاوزة أوصل لأي حاجة تطمني، فضلت في بيتنا بستناك تيجي يمكن أعرف أتصرف، بس أنتَ حتى مشاغلتش بالك بيا وفضلت بعيد عني مديني ضهرك وأنا بدور عليك، بس أنا حاولت من تاني ووقفت على رجلي علشان اللي حصل دا ميأثرش عليا، بس صدقني أنتَ بغيابك عني توهتني ووجعتني أوي.

حسنًا هي ماهرة في إيجاد لعب دور الضحية، تُجيد التصنع وإلقاء اللوم والمُعاتبة على الآخرين، تنجح في تلبس وشاح المظلومة فتصبح هي المجني عليه، في حين أنها الجانية الوحيدة، وقد أقتربت من نادر تجلس قبالته وشبكت كفها في كفهِ تهتف بنفس الأسلوب المتلون: صدقني كل حاجة بقت بتدمرنا وتيجي علينا، عاوزين ننسى كل دا بقى ونشوف حياتنا مع بعض، عاوزة نعوض اللي فاتنا كله ونبني حياتنا من تاني، خليك معايا بس ومتسبنيش لوحدي تاني، وأنا معاك هنا مش هسيبك.

أغمض عينيه وأرجع ظهره للخلف ففهمت هي أنه وقع في الشتات من جديد لذا استخدمت فنونها كأنثى عليه وأقتربت منه تضع رأسها فوق صدره وهي تتلمس شطر وجهه بحنوٍ وظلت تمسح فوق وجنته حتى كره هو معاملتها بتلك الطريقة وكأنه طفلٌ فتحدث بجمودٍ:
أطلعي برة يا شهد وأقفلي النور ومحدش ييجي علشان عاوز أرتاح شوية، يلا.

أبتعدت عنه بذهولٍ ثم خرجت بتروٍ نحو الخارج بينما هو فأغمض جفونه حتى لا يفيض الدمع منهما بعدما أنسحبت هي أسفل نظراته المُتتبعة لها، فتفاجأ بقلبه يُمطر العبرات داخله بوجعٍ على ابنه الذي حُرِم منه قبل أن يراه حتى، لقد عاش يتمنى أن يكون أسرة صغيرة تكون على غِرار بيت خاله المثالي؛ لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فبعض الأماني تظل كما هي لا يُكتب لها أن تتحقق، وقد خانته عبراته ونزلت من مُقلتيه ألمًا وكمدًا على كل ما فاته ووصل إليه حتى أضحى عاجزًا في أوج أيام صباه.

قيل في السابق أن الضغط قد يولد الإنفجار.
وبقدر الكِتمان يُصاب المرء بضغوطٍ أكبر وكلما ألتزم الصمت أكثر كُلما زادت الإنفجار أثرًا، لذا أخرج في جبعتك ولا تنتظر حتى تنفجر بلحظةٍ تصبح أنتَ المُذنب فيها.
في بيت عبدالقادر.

كانت. قمر تجلس برفقة آيات في البيت ومعهن جنة أيضًا وقد جلسن بالحديقة سويًا حتى أنسحبت آيات من وسطهن للخارج وظلت قمر شاردة الذهن وهي تتذكر ما حدث معها من شقيقها صباح اليوم وكيف أصابتها فعلته بالذعر منه، والآن ترى تلك ال جنة أمامها وهي لن تنس بعد ما تعلمه عنها وأنها تُكن بعض المشاعر لزوجها، أيتوجب عليها أن تهدأ وتصمت والنيران متقدة بداخلها؟

أمعنت النظر فيها لتجدها بملامح رقيقة تجذب أعتى الرجال نحوها، عيناها خضراوتان وكأنهما جنة مُمتلئة بالزرع الأخضر، بشرتها بيضاء لم تشوبها شائبة، مختمرة وترتدي الزي الشرعي، بالطبع وإن لم تفعل أي شيءٍ سينجذبوا لها الرجال، وهي تخشى من شيءٍ مجهولٍ رغم ثقتها بزوجها، وكما تعمقت في شرودها لاحظت إنسحاب الأخرى تتحدث في هاتفها وحينها زفرت بقوةٍ ثم تركت مقعدها وهي تتفحص الحديقة حتى رآت بعض الزهور ووسطهم واحدة ذابلة أو وهجها أقل، فأقتربت منها تمسح برفقٍ عليها.

لمعت العبرات في مُقلتيها وهي تُحدث الزهرة بقولها:
عارفة، أنتِ مزعلاني أكتر، بصي كلهم حلوين حواليكِ إزاي وأنتِ دبلانة ومطفية؟ مع إنكم مع بعض وأكيد نفس المياه بتسقيكم، بس شكلك زعلانة، أنا برضه زعلانة، بس مش من حد، زعلانة من كل حاجة، عاوزة أعيط بس مش عارفة أعيط علشان مفيش سبب أقوله لما أعيط، بس أنا مش كويسة.

تهدج صوتها وأختنقت إبان التحدث فتوقفت تلتقط أنفاسها ثم مسحت وجهها وهي تستغفر ربها وتحاول صرف التعب النفسي والعقلي عنها وقد شعرت برائحته تغزو وقوفها وذراعيه القويين يحاوطا خصرها ثم هتف بنبرةٍ رخيمة تغلغلت في أعماقها:
هانت وكلها حاجات بسيطة وتيجي تنوري البيت بكل شبر فيه وساعتها هتزهقي من الجنينة هنا، وحشتيني على فكرة، دي معاملة تعامليها لواحد خارج من حالة خطف وإعتداء؟

كان يعاتبها بمزاحٍ وفي الحقيقة هي أبتسمت بمجرد أن وجدته يهمس لها بتلك الطريقة وقد ألتفتت له تواجهه مبتسمة الوجه برقةٍ جعلته يهتف بمراوغةٍ قلما يتعامل بها هذا الخلوق:
الله أكبر، يا بركة دُعاكِ يا رُقية.

من جديد ضحكت له فور ما تحدث بتلك الطريقة الشقية وقد قطع خلوتهما ظهور جنة التي تورد وجهها خجلًا وشهقت بلهفةٍ وهي تعتذر عدة مرات بسبب تطفلها عليهما حتى عادت قمر من جديد لشراستها وحِدتها فتمسكت أكثر ب أيوب وهي تلاصقه وحينها هتفت الأخرى بتوترٍ:
أنا آسفة والله، بس آيات راحت فين؟ هي مش برة.

طالع أيوب وجه زوجته التي ضيقت جفونه بشكٍ فتولى مهمة الرد دون أن يُبرح محله أو يتحرك قيد أنملة والأخرى شبه تعانقه ولازال يولي جنة ظهره:
معرفش والله يا آنسة جنة بس تلاقي بابا طلب منها حاجة وراحلته المكتب، مشوفتيهاش أنتِ يا قمر طيب؟
وجه السؤال لزوجته حتى تجاوبه أو تبتعد عنه بهذا الوضع المُحرج، لكنها أصدرت صوتًا من حنجرتها يدل على النفي وأضافت بدلالٍ مبالغٍ فيه وفي أثره:.

لأ والله، أصلي مركزتش مع حد غيرك.
ألقت حديثها وهي لا تُلقي له بالًا فيما رفع هو حاجبيه ذاهلًا ورمقها بشكٍ من طريقتها حتى استأذنت الأخرى منهما وتركت المُحيط لهما بحريةٍ وقبل أن يهتف هو دفعته عنها بعيدًا تُعنفه بقولها:
أنتَ إيه اللي جابك هنا دلوقتي؟ سايب شغلك وأكل عيشك وجاي تعمل إيه وهي هنا؟ ومتخلينيش أتعصب أنا أقسم بالله على أخري، أنتَ متعرفش إن أنا هنا، جيت ليه؟

رفع حاجبيه بتعجبٍ من رد فعلها العنيف وقد أقترب منها أكثر يهتف بهدوءٍ يُجيد التعامل به ويتقنه:
أهدي، أنا كلمت آيات أسألها على حاجة قالتلي إنك هنا، ولما خلصت الشغل والحاجة أتحملت جيت على هنا وقولت نقعد شوية مع بعض، معرفش إن فيه حد غيرك، بعدين بلاش كل شوية تأكديلي إنك أخته كدا، أول مرة برضه شافني هنا قالي أنتَ مين وبتعمل إيه، أقسم بالله دا بيتنا أنا مش عابر سبيل.

زفرت هي بقوةٍ وحاولت أن تتوقف عن تلك الطريقة الحادة خاصةً أن هناك بعض الوساوس تساور عقلها وقد لاحظ هو إهتزاز حدقتيها وكأنها تواري عنه البكاء خلف ستار أهدابها فأمسك فكها بأنامله يسألها بإهتمامٍ بالغٍ:
مالك يا قمر؟ أنتِ إيه اللي مزعلك كدا؟

رفعت عينيها نحوه تُطالعه بلمحة بُكاءٍ كادت أن تُظهر نفسها على الفور لكنها وأدتها وأعلنت عن البكاء صراحةً أمامه وهي تشعر أنها وسط متاهةٍ وتقف عن بداية مفترق الطُرق، وقد ضمها هو على الفور يمسح فوق رأسها بحنو أبٍ يضم صغيرته الباكية وقد سألها بنبرةٍ أهدأ وأبلغ في إهتمامها:
طب خلاص طيب، بس مين مزعلك كدا؟ أنا والله مش قصدي إنك تزعلي مني خالص بس أنا مش فاهم مالك، حصل إيه يزعلك كدا ويخليكِ تعيطي؟

توقفت عن البكاء وهي تتنفس بعمقٍ ثم أبتعدت عنه ليتسنى لها رؤية ملامحه عن قربٍ وهي تناوله الجواب الذي حيره أكثر:
مش هينفع أقولك، صدقني مش هينفع أقولك على الأقل دلوقتي، بس ممكن تخليك معايا شوية، أنا بكون متطمنة وأنا معاك ومش بحس إني خايفة، ينفع؟
سألته بنبرةٍ راجية آملة ألا يُخيب أمالها فوجدته يَضمها من جديد داخل ذراعيه وشدد ضمته لها يهتف بصدقٍ يؤكد لها ما تمنته منه:.

وأنا العمر كله معنديش مانع أخليني معاكِ فيه أنتِ وبس.

أغمضت عينيها وهي تتمنى أن تبقي بجواره آمنة طوال العمر، لكنها لم تنس شقيقها وما حدث له، فإن كانت تتألم لنفسها إنشًا فهي تصرخ بوجعٍ عليه لمسافة أمتارٍ، بينما زوجها فرغم تيقنه أن هناك سبب قوي جعلها تظهر بكل هذا الضعف أمامه وهي تتمسك به لكنه ترك لها الحُرية حتى تتحدث وقتما تشاء وكأنه يقوم بموازنة المعادلة فلا هو يتركها بمفردها، ولا هو يُزعجها ويرفع من مقدار ضغطها.

ضجيج لا يتوقف، ورأس لا تهدأ، وألم يفتك بالرأسِ ويُتعبها، ماضي يتراقص أمام الأعين، وحاضر لم يفهم منه أي شيءٍ، ومستقبل مجهول يقف على أعتابه، وطفل صغير حُرِم من الحياة وفُرِضَ عليه الموت، وإضطراب حاد يُشبه نصل السكين حينما ينخر في العُنق ببرودٍ، وكأنه يسير وسط القبيلة في حالة زحامٍ وركضٍ أسفرا عن حربٍ دامية أفتكت بأرجاء البلدةِ.

كان يوسف يشعر برأسه تؤلمه وكذلك عيناه ألمته أيضًا، وقد ظل يتجول في منطقة وسط البلد يهرب فيها من نفسه وهو يصول ويجول ويهيم على وجهه وقد جلس في تلك المقهى القديمة ينزوي عن الجميع حتى تيقن أنه استعاد جزءًا من ثباته فقرر أن يتوجه لمكان جواد القريب منه قبل أن يذهب إليه بتلك الطريقة المُزرية، وقد أنهى جلسته وأطفأ لُفافة تبغه في منفضة الغليون ثم ترك الحساب وتحرك نحو سيارته يشق طريقه ويسلكه نحو العيادة النفسية.

في بيت جواد.
كان يجلس برفقة ابنته يرسم معها وهي تشاركه ما تفعل وقد جلست بقربهما فُلة و حبيبة أيضًا وحينها كانت كلتاهما تُسامر الأخرى وقد هتفت الأولى بنبرةٍ أقرب للهمسِ:
ما تركزي معايا يا ستي، دا وقته قواعد فيزيا؟ بقولك نيم كاوتش العربية علشان أركب الموتوسيكل وأجربه، وضرب هاني الجربوع علشاني برضه وكان هيضيع نفسه علشاني، دا أفهم منه إيه وعلى الله تقولي شهامة، دا مكانش عايش هنا أصلًا علشان يبقى شهم.

تنهدت الأخرى بقوةٍ وأضافت بضجرٍ منها:
طب يا فقيهة زمانك، مش هقولك دي شهامة منه ولا هقولك إنه لقاكِ واحدة مخها لاسع فقال نسكتها شوية، عاوزاني أقولك إيه؟ بعدين عيب كدا تركبي ورا حد غريب، يقول عليكِ إيه؟ صحيح أنتِ عيشتي برة كتير بس الحدود عيب نتخطاها ونخرج برة إطار حدودها، بعدين أنتِ مش دكتورة نفسية شاطرة؟ إزاي مش قادرة بقى تفسري مواقفه معاكِ؟

سألتها حبيبة بتهكنٍ فحركت هي رأسها بغير تناسقٍ وأضافت بحيرةٍ في أمره بالكامل:.

مش عارفة، كأنه حاجة كدا غريبة ومش مفهومة، يعني المفروض هو دكتور نفسي، بس دايمًا بلاحظ إنه عاوز حد معاه كأنه مريض تايه والعقل غايب عنه، بيسعى في المستشفى يدي كل المرضى الأمان ويساعدهم يخفوا وفي نفس الوقت هو عاوز حد يسأله أنتَ مالك، فيك إيه، هو حالة غريبة أوي، زي الدكتور اللي بيفشل في تشخيص نفسه وهو أشطر مُعالج في كل مكان، أنا لو أعرف كنت أرتاحت بدل ماهو محيرني كدا.

قبل أن تجاوبها الأخرى لاحظت قدوم زوجها نحوهما وقد كان يتحدث في الهاتف بلهفةٍ ثم أضاف أخيرًا:
تمام أنا هنزلك حالًا، أنا في شقتي فوق.
أغلق الهاتف تحت نظراتهما المُتعجبة فتحدث هو مُردفًا:
يوسف الراوي تحت هنزل أشوفه.

أنهى حديثه وتحرك يترك المكان فيما قفزت شقيقته بلهفةٍ تتبعه نحو الأسفل حتى ترى من وضعته في خانة الأعداء خاصةً بعد إنقطاع زوجته عن الجلسات الخاصة بها وقد لحقت بشقيقها وهو يفتح باب العيادة الخاصة به وباستقبال المرضى وقد وقف يوسف أمامه بصمتٍ جعله يرتاب منه لكن تلك السليطة تحدثت بفظاظةٍ تُهاجمه بها:.

جيت لقضاك بنفسك، أنا عاوزة أفهم هي بطلت تيجي ليه؟ لو أنتَ السبب أنا مش هسكتلك على فكرة، و عهد هتيجي تكمل العلاج، لأن كتر السكوت كدا هيضيع حياتها وممكن في أي لحظة توصل لمرحلة الجنون، هترتاح لما تجننها يعني؟
توسعت عيناه بصدمةٍ وحرك رأسه نحو جواد الذي ألتفت لشقيقته يوقفها بقوله مُعنفًا لها:
فُلة! كدا مينفعش وياريت تخليكِ في حالك.

تنهدت هي بثقلٍ رغم أنها كانت تتنفس بحدةٍ حتى وجدته يغمض جفونه ثم هتف بثباتٍ واهٍ يحاول التماسك قبل أن تطولها أيادي نوبته تلك:
ماشي، وأنا عندي كلمتي إنها هتكمل علاجها هنا.

أنهى حديثه ثم ولج نحو الداخل فتبعه جواد بينما هي فأشفقت عليه كثيرًا، فمنذ أن وقعت عيناها عليه علمت أنه يحتاج لجلسة مع شقيقها لذا توقفت عن التكملة وقرر أن تكف عما تفعل وتوجهت نحو الأعلى، بينما في الداخل وقف يوسف أمام الشُرفة وقد لحقه جواد ووقف مُرابطًا خلفه وسأله بثباتٍ:.

خير؟ على ما أظن كدا إنها كارثة حضرتك عملتها وزعلت حد منك وجيت هنا علشان تعرف إزاي تعالج الموقف، وأنا بقى معنديش حاجة تتقال، علشان ببساطة أنا شايف واحد قصادي بيغرق، بمد أيدي ليه علشان أخرجه، وهو كل اللي همه إنه لو خرج من المياه هيبرد، ففرحان بالدفا وخلاص، نفس الفكرة بالظبط، المرة دي بقى مش هقدر أسمعك.

كان يتخذ القسوة نهجًا ويسير على خُطى القوة أمام ضعيفٍ مثل الآخر وقد ألتفت له يوسف يُطالعه بنصف عينٍ حيث أرتاب من حديث الآخر الذي ناطحه وكأنه أضحى نِدًا له في الحرب، وقد سأله يوسف بنبرةٍ مبحوحة من مشاعره المُتأججة:
يعني إيه؟ أنا جايلك مخصوص علشان تنصفني.
هتف حديثه بنبرةٍ شبه مُنكسرة جعلت الآخر يطرق على المفترقات التي ستوصله لما يُريد قائلًا بحدةٍ بالغة:.

مش هنصفك وأنتَ عدو نفسك، الأولى أنتَ تنصف نفسك وتاخد قرار واحد جريء يخليك تتعالج علشان متوصلش للحالة دي، مفيش مريض نفسي في الدنيا دي كلها بيلاقي حد ينصفه غير نفسه، علشان بياخد القرار الصح.
أجج نيرانه ورفع مقدار غيظه حتى هدر يوسف فيه بإنفعالٍ نبع عن الشق الذي أصاب روحه المُتألمة ولازال جرحها حيًا:.

أبو العلاج لأبو اللي عاوز يتعالج، عاوز تعالج واحد ميت أصلًا! ولا عاوزني أقعد أفتح في الجروح اللي لسه حية كلها؟ عاوزني أتكسر أكتر ما أنا مكسور؟ عاوزني أقعد أفتكر اللي عيشت عمري كله بنساه وياريتني عرفت؟ عاوز إيه؟ قولي عاوز إيه؟
إنفجاره أتى بغير محله وإنهياره خرج أمام جواد الذي هدأ قليلًا وهتف بثباتٍ يواري خلفه تفاعله المُلتهب حماسًا لأجل رواية الآخر له:
عاوزك تقول وتتكلم وتخرج اللي جواك.

أنهى جملته بكل ثباتٍ فيما أبتسم يوسف بوجعٍ وقد ألتمعت عيناه بلمعة العبرات المؤلمة وهو يُضيف بقهرٍ:.

حاضر، عاوزني أحكيلك إيه بالظبط؟ أحكيلك عن العيل المُرفه اللي عاش 10 سنين من عمره في الجنة مع أب مثالي اسمه لوحده أمان وأم حضنها كله حنية؟ أقولك عن عيل كان بيرفض الأكل ويتدلع ويتمنع ويطلب نجوم السما تحضرله؟ أقولك عن عيل ربنا كرمه بأخت صغيرة سماها هو وخلاها دافع للمذاكرة والنجاح واللعب والفرح؟ أقولك عن العيل اللي باباه كان قبل ما ينام بيروح يلعب معاه ويحكيله حدوتة يعلمه منها حكمة علشان يطلع شخص سوي؟ هحكيلك، بس العيل دا مترحمش، علشان أتحرم من أمان أبوه، وحضن أمه وضحكة أخته اللي كانت بتجري عليه وأتحرم إنه يبقى إنسان.

أختنق وهو يتحدث لكنه توقف يلتقط أنفاسه المهدورة وأضاف بنفس القهر:.

عاوزني أقولك إني بقيت عيل بيتسحب علشان يسرق الأكل من المطبخ ولا أقولك إني كنت باكل مع القطط علشان بيأكلوني لوحدي، ولا عاوزني أقولك إني كنت عيل لسه في بداية شبابه وأترميت في الأحداث وسط عيال أنا مش شبههم ومش زيهم، عاوزني أقولك إني أتثبت في الحجز وواحد فيهم كان هيقطع وشي لولا إني وطيت عند رجله أطلب السماح منه؟ ولا أقولك إني كنت هناك بدعي ربنا كل يوم ينجدني من عمايلهم؟ عاوزني أقولك على العيل اللي كان طالب مثالي وكل سنة يكون الأول على المدرسة بسبب شطارته وأخلاقه، وفجأة أتحول لبلطجي لا عنده أدب ولا أخلاق؟ عاوزني أقولك عن عيل جوز عمته كان بياخده البيت عنده شفقة قدام الناس علشان يذلني هناك في بيته، يحضن أبنه ويبوسه ويأكله وأنا قصاده يتيم، عارف أنا لما بقيت أنام لوحدي وأخاف عملت إيه؟ بقيت بحط الهدوم جنبي وأكومها كأن حد واخدني في حضنه، أنا أتهرست، أتهرست من طفولتي لحد ما قربت أشيب، عندك استعداد تفتح كل الجروح دي وتدوس عليها؟

خانته العبرات ونزلت من مُقلتيه دون أن يشعر بنفسه وبما حدث، وقد أيقن جواد أن المرة أتته الفرصة وعليه أن يقوم باستغلالها لذا قطع المسافة بينهما يقف في مواجهة الآخر وأضاف بقوةٍ:.

المهم يكون أنتَ عندك استعداد، فاكر من ست سنين لما جيت المصحة وساعتها أترجيت إن تتعالج كان جوابك إنك مالكش حد تتعالج علشانه وقولت إنك معندكش حاجة تخليك تسيب قوتك وتبقى ضعيف علشانها، النهاردة هقولك لو مش شايف تبقى عبيط، عندك قمر وعندك والداتك وعندك بنت بتحبها وبقيت شايفها كل الدنيا، دول ميستاهلوش منك مرة واحدة تحاول علشانهم؟ مرة واحدة بس تاخد خطوة علشانهم هما، يوسف أنتَ عندك أربع إضطرابات لو واحد فيهم بس ليه سُلطة عليك وقُدرة كفيل إنه يتسبب في تدمير حياتك، لسه مش مقتنع؟

سأله بتهكنٍ وتقريعٍ وكأنه يضرب فوق الأوتار التي ستبرز عنها مقطوعة نادرة لن تتكرر ولو قصدها المُلحن، بينما الآخر حرك مُقلتيه بذهولٍ وهو يُطالعه حتى أضاف الآخر من جديد:.

ببساطة أنتَ في أي موقف غريب فيه أي شوائب عقلك بيقع في ضغط وتبدأ الأصوات جواك تخرج وتطلع من مكانها علشان تهاجمك، بس اللي أنتَ متعرفهوش بقى إن جسمك أضعف من تقبل أثر الأصوات دي كلها، فبالتالي بيحركك علشان تترجم العراك دا لصورة حقيقية مرئية تقدر تخرج فيها طاقة غضبك إنك تبقى عنيف علشان ساعتها بتكون ضعيف، وعقلك الباطن متبرمج إنه في حالات الضعف دي يخرج العنف منه ويسيطر بيه، كل دا خارج وعيك، بس لما بتدرك اللي عملته بتبقى كارثة لأن بطبعك الموقف مبيتصلحش في وقته، قولي حصل إيه بس النهاردة وصلك لهنا.

تنهد يوسف بقوةٍ وأرتمى فوق الأريكة الموضوعة خلفه وأضاف بتيهٍ وشتاتٍ وإرتباكٍ أصابه في مقتلٍ حينما تذكر ما فعله اليوم:.

كنت بسأل قمر على حاجة المفروض حصلت بيها وبين سامي وللآسف لما أفتكرت إنه ممكن يقرب منها وأنا قصرت في حمايتها كنت مكركب ومش راسي ودماغي مش ساكتة، وهي لقيتها كأنها خايفة مني ودا وجعني أكتر، عارف إن أيوب أحسن مني وعارف إنها ليها حق تثق فيه أكتر بس أنا بخاف عليها وبحبها، ولو حد آذاها أنا ممكن أطلع روحه في أيدي.

تنهد الآخر بثقلٍ وكأنه أمسك طرف الخيط أخيرًا ليضيف بثباتٍ يحاول به إقناع الآخر الذي لم يقتنع:
طب ما يمكن علشان كدا أختك مرضيتش تقولك، لأن عارفة إن العنف رقم واحد في قاموسك، وعارفة كمان إن أقرب حل عندك هو العنف، من المؤكد خافت تخسرك وخافت تقولك علشان متتصرفش غلط، المهم كمل حصل إيه؟
أكمل يوسف بخزيٍ وإنكسارٍ من نفسه ومما فعل:.

للآسف ساعتها أتعصبت والأصوات عليت جوة دماغي بمليون فكرة كنت أنا السبب فيهم، قبلها كنت سبب إن عهد تتأذي في غيابي لما سافرت وسيبتها وهي وقفت العلاج وحالتها بقت أصعب، والمرة التانية إن قمر حد فكر يقرب منها في غيابي وييجي عليها، والمشكلة ساعتها إني لما مسكت راسي وهي وجعاني وجت تقرب مني علشان تطمن عليا أنا زقيتها بس مكانش قصدي والله، ولا مرة هيكون قصدي آذي حد منهم، لا قمر ولا عهد اللي خافت مني وبصتلي بكره لأول مرة، حتى لما رجعت من السفر هي مبصيتش ليا البصة دي. أنا مش فاهم كل حاجة في ثانية واحدة باظت إزاي، بس أكيد أنا مهزوم ومش لاقي ينصفني ولا يقف في صفي، غريب إني عامل زي واحد ماشي في العالم دا يدور على طاقته وحد ينصفه.

جاوره جواد ورفع ذراعه يضغط فوق كتف الآخر ثم هتف بقوةٍ تتنافى مع حالة الضعف التي داهمت الآخر:.

ما قولتلك العالم مش هينصفك لو أنتَ منصفتش نفسك، لازم تقف على رجلك وتحاول تساعد نفسك أنتَ علشان مش هتلاقي حد ينصفك، أنا بكلمك وعارف أنتَ فيك إيه، عاوز تجري تصلح اللي حصل بس مش هتقدر علشان مكسوف، ونصيحة مني ليك جرب الليلة دي متروحش البيت، روح ع الحج نَعيم وآخر الأسبوع عندك جلسة هنا الساعة 8 بليل، وأقسملك بربي يمين هتحاسب عليه لو ماجيتش اليوم دا تقطع علاقتك بيا ومشوفش رجلك تاني هنا، ولا هخلي فُلة تكمل مع عهد، أنا مش هستنى لما في يوم تخسر اللي وصلتله بسبب عنادك، والمرة دي أهيه بجد، أنا بنصفك أهو وبمد أيدي للغريق، أنتَ بقى ناوي على إيه؟

سأله بقوةٍ كأنه يهدر بإنفعالٍ فلم يكن أمام الآخر سوى أن يُغمض عينيه لبرهةٍ يسيرة جعلته يلتقط فيها أنفاسه ويُلملم شتاته وأضاف أخيرًا:
ناوي أمسك إيدك قبل ما أتسبب إن هما يسيبوا أيدي.

من جديد يتعهد بعهدٍ يتمنى ألا يخونه، رغم معرفته أن قدرته أضعف من ذلك لكنه حاول أن يفعلها وقد وجد جواد يُربت فوق ظهرهِ وضم كفه يُشدد أزره وحينها أرجع يوسف ظهره للخلف يتنفس بحدةٍ فيكفيه ما أصابه اليوم من شتاتٍ جعله أشلاءٍ ضائعة وأضحى يركض لكي يقوم بجمعها.

الأثر لن يُزال من تلقاء نفسه،
عليك أن تسعى بنفسك حتى تزيله، كما عليك أن تختلق الفرصة من جديد، فإذا كُنت تريد الحياة عليك أن تسعى إليها خارج الحدود المفروضة عليكَ.
قُبيل فجر اليوم لاحظ أيهم أن ابنه لازال مُستيقظًا في غرفته بشرودٍ جليٍ في عينيه ونظراته المصوبة تجاه اللاشيء أمامه وقد فهم أن أثر ما حدث لازال عالقًا في ذهنه لذا عاد ادراجه لزوجته يستشيرها فيما لاحظ وقد هتفت هي بتفسيرٍ:.

علشان اللي حصل مخليه مستغرب الموقف ككل، هو علطول بيضحك وحر محدش بيقيده بس اللي حصل دا هيخليه بعد كدا يحسب خطواته، عارف إنه شبهك أوي في كل حاجة؟ حتى لما وصل هنا كان بيضحك ويهزر علشان ضعفه ميبانش، ظهورها للآسف كسر كبريائه، خلاه يكره الموقف وهي موجودة، وعلشان هو عزيز النفس زيك مقبلش حزن منها عليه، حاولت أكلمه بس شكله النهاردة طول اليوم صعب أوي.

تهدج صوتها وهي تتحدث وقد وقف أيهم حائر القرار وضعيف العزيمة لأجل ابنه حتى أضاءت رأسها فكرةٌ جعلتها تسحب زوجها بلهفةٍ ثم ركضت نحو غرفة الصغير ثم فتحتها بسرعةٍ كُبرى ووقفت في مواجهته تهتف بنبرةٍ أصبغتها بالحماس:.

بابا واخد أجازة اليوم كله علشاننا مع بعض، وإحنا خلاص قُرب الفجر فأنتَ قرر هنروح فين وكل اللي عاوزه هنعمله، وقصاد كل دا أجازة يومين كاملين من الدروس والمذاكرة، بس بسرعة علشان هو راهني إنك مش هتوافق وهيطلع شكلي وحش.
تعجب منها زوجها الذي أبتسم بزاوية فمه، فيما تنهد الصغير بثقلٍ وأضاف بنبرةٍ آلية وكأن هناك تُخمة أصابته:
بابا أكيد مش هيراهن علشان الرهان حرام.

هتف جملته لهما وأخفض رأسه حتى ضيقت هي جفونها وهتفت بحنقٍ من بين شفتيها المُطبقتين لزوجها:
بيعجزني، الواد بيحطلي العُقدة في المُنشار.
ضحك على جملتها رغمًا عنه ثم تولى منها زمام الأمور يهتف بمرحٍ لصغيره قائلًا:.

قولها يا حبيبي أحسن بتفتري عليا، عمومًا أنا مقدر إنك وراك مشاغل كتير الله يعينك برضه، وعندك مسئوليات محتاجة رعاية، تلاقيك مربط على صفقة أسلحة محترمة في اللعبة بتاعتك، أنا مقدرش آجي على شغلك برضه، فتصبح على خير أعتبرني مقولتش حاجة، مش عاوز أضغط عليك.
كاد أن يرحل لكن الصغير أوقفه بلهفةٍ بعدما خرج من قوقعة صمته الذي فُرِض عليه:
يعني نلحق نروح أسكندرية نتفسح هناك ونشوف البحر.

ضحكت نِهال رغمًا عنها فيما ألتفت هو من جديد يهتف بضجرٍ وتهكمٍ ما إن استمع لاسم المُحافظة من ابنه:
لأ دا أنا أضغط عليك وعلى أبوك وعلى اللي خلفوك كلهم، أسكندرية إيه ياض؟ أومال لو ماكنتش راجعلي في نفس اليوم، شوف أخرك معايا خمسة كيلو على الطريق أكتر من كدا شوفلك دار مسنين أرميني فيها أسهل.
قفز الصغير عليه يطوقه بكلا ذراعيه وهتف بدلالٍ مُصطنعٍ خاصةً حينما دعم والده جسده بكفيه الكبيرين:.

طب لو قولتلك إني لو روحت هفرح وآجي كويس؟ ونفسي أشوف البحر وأقعد قدامه؟ برضه مش هترضى يا بابا؟
ضحك له الآخر وأحتضنه بكلا ذراعيه وأضاف بخنوعٍ له:
أنا أديك عمري كله مش كفاية عليك يا حبيب بابا، يلا حضر نفسك علشان نروح أسكندرية كلنا وماما معانا أهيه هي كمان، أشكرها بقى علشان دي فكرتها هي وهي اللي صممت إنك تخرج من الحالة دي، ماما بتحبك أوي.

ألتفت لها الصغير يهتف بصدقٍ وهو يبتسم لها بحنينٍ ملأ قلبها بالرضا والحنان:
وأنا بحبها أوي وفرحان إنها معايا.

ركضت هي له تضمه بكلا ذراعيها وكأنها تحتوي عالمها بأكمله بين قبضتيها، تبدو وكأنها وجدت أحلامها بالكامل على هيئته هو حينما دلف أرضها صُدفةً فوجدها تغرق في منتصف المياه ببركةٍ مُظلمة ولم يكن أمامه سوى أن يمد كفه يلتقط كفها لكي ينقذها ولم تتصور إطلاقًا أنه كان يمد يده لها كي تنقذه هي من رُقعة ظلامٍ تفترش داخل قلبه.

محظوظٌ من يملك مكانًا يحتويه حينما يفقد صوابه ويَضل رُشده ويضيع من نفسه، والأكثر حظًا منه ذاك الذي فُرِضت عليه المعارك ووجد جيشًا من المُحاربين ينصفه، ذاك الذي يستمع لفؤاده الذي هتف بألمٍ يُملي عليه الحديث الموجع بأبلغ الكلمات قائلًا: الوجع يسكن في روحنا حتى عجزنا عن أن نصفه، واللسان فقد الحديث من طرفه وكأنه أضعف من ينصفه...
في منطقة نزلة السمان.

ذهب يوسف إلى هناك يقضي المتبقي من الليل هناك وقد جلس برفقتهم جميعًا يتابع العمل والحسابات لعله يهرب مما هو فيه وقد نجح في إخفاء حالته عن الجميع حتى طل الليل عليه في غرفته بضوء القمر فتنهد بعمقٍ ثم نزل لليله الخاص به، لم يرد إرهاقه بل أراد أن يجلس معه، لذا توجه إليه نحو حظيرته وأخرجه منها وقد صهلل الآخر بفرحٍ يُعلن عن ترحيبه له وقد أبتسم له يوسف الذي مسح فوق رأسه بلمساتٍ ناعمة جعلت الآخر يعلن عن شوقه له وقد أضاف يوسف بتعبٍ:.

أنا هاخد الخطوة وأجرب علشان اللي فيا مبقاش ينفع يتسكت عليه، كلهم بعيد عني هيكونوا في أمان، قمر هتعيش مع أيوب ومستحيل يفرط في حقها، وأمي هترتاح مع خالي ومراته علشان هي بتحبهم، محدش هيتعب معايا غير عهد لو فضلت كدا الحكاية هتخلص بوجع أنا مش هتقوملي قومة من بعده، هتبقى الرصاصة اللي تكسر قلب الخيل العنيد، مش هينفع في يوم أتعصب عليها وأخرج الوحش اللي جوايا لحد ما أشوف نظرة عينها دي تاني، عارف؟

توقف عن الحديث يتذكر ملامحها المحفورة بداخله وكأن طيفها لاح أمام ناظريه ليبتسم بصفاءٍ وهو يقول لرفيق روحه:
أنا بحبها لدرجة بتخليني أفكر ألف مرة قبل ما أعمل أي حاجة علشان هي متزعلش، فاكر لما جيت قولتلك إني بكرهني ومفيش حاجة واحدة ممكن تخليني أحب نفسي؟ هي بقى جت وخليتني أحبها وأحب نفسي معاها
توقف يلتقط أنفاسه وأضاف حينما أغمض عينيه ورآها في عين عقله الذي لم تبرحه منذ أول لقاءٍ لهما:.

حلوة الدنيا علشان فيها عهد وخفيفة على القلب علشان معاها عهد وأغانيها حلوة لو بتغنيها عهد، وكل ناسها طيبين لو بتحبهم عهد وكل الورد فيها عادي لو أتحط جنب عهد والألم والوجع شفا وأمل لو اللي بتداويهم عهد وكل حاجة تقيلة وصعبة لو مفيهاش عهد، مش مهم معاها أنا إيه وهي شيفاني مين، بس كويس إنها قادرة تشوفني أصلًا.

تفتكر الدنيا دي فيها حد زيها تاني يدي الغريب ومياخدش منه حاجة أو مقابل؟ عارف؟ نفسي المرة دي هي تنصفني وتعمل اللي بتعمله كل مرة، المرة دي وبس
تنهد بثقلٍ حينما استشعر صوت خطوات أحدهم يأتي من خلفه وحينها ألتفت ليجد نَعيم جاوره وهو يستند على عصاه ثم سأله بإهتمامٍ:.

أنا مرضيتش أضغط عليك وقولت أسيبك لوحدك يمكن تروق شوية وتيجي تقولي مالك، بس حبايبك الكدابين لما شوفتهم قالولي على اللي فيها، وعلشان هما حبايبي أنا كمان مقدرتش أكدبلهم خبر، بالعكس صدقتهم.
ناظره يوسف بضعفٍ فأقترب منه نَعيم يرفع كفه بُغتةً يمسح على كلتا عينيه وأضاف بألمٍ لأجلهِ:.

عيونك دايمًا بيكدبوك قدامي، علشان كدا بحب إنهم بيحترموني مش زيك بتعمل نفسك كبير عليا، ياض بتهرب من واحد رباك على أيده؟ شوف كل الصيع اللي هنا دول محدش فيهم تعبني زيك، وجعتني عليك بدل المرة 100 مرة وأنا علشان بحبك مش بتحمل وجعك، وعلى فكرة جواد كلمني علشان يتطمن عليك، شهم الراجل دا أوي، فاكر لسه أول مرة جالي يدلني على طريقك وأنتَ في المخروبة إياها، أسمع كلامه مرة وبطل عناد، إحنا كلنا معاك، لو مش علشاننا يبقى علشان مراتك اللي مسيركم يتقفل عليكم باب واحد بس، يلا وأنا معاك وفي ضهرك، ولا عندك شك في كدا يا غريب؟

أبتسم له يوسف بحنينٍ ثم ضمه فجأةً وكأنه يحتمي من نفسه فيه وقد ضمه نَعيم أكثر من مُرحبٍ ومسح فوق خصلاته وكأنه يضم رفيقه القديم بصورةٍ مستحدثة، الفارق بينهما أن الآخر لم تُرهقه الهزائم مثلما أرهقت صغيره، لكن لا شك أن كلاهما يملك القوة ذاتها لكي يواجه مثل تلك الصعاب.
مر بعض الوقت عليهما بعدها تركه نَعيم ليجلس برفقته وقد أتى إيهاب من العدم يجاوره وحينها هتف بضجرٍ:.

هتفضل كتير كدا؟ وآخرتها؟ لا بتتكلم ولا بتبطل فرك.
تنهد الآخر بثقلٍ وهتف بقلة حيلة:
أنا مزعل مني قمر وزقيتها وماليش وش أروح البيت وهي زعلانة مني علشان لو الإجابة بتاعتها طلعت هي اللي مخوفاني هكرهني أوي وأنا مش حمل كره من نفسي لنفسي تاني، صدقني أنا لسه بحاول مع نفسي شوية شوية بس قصادها هي مقدرش أبقى عاقل، واحدة بتشوفني أبوها، وأنا كل شوية أوجعها وأزعلها مني.

أخرج الشتات من داخله على هيئة كلماتٍ جعلت الآخر يضيفٍ بتهكمٍ ويُعلق ساخرًا:
أومال ليك وش تزعلها عادي؟ أيًا كان اللي حصل مينفعش تهرب منه، العاركة بتاعتك والهزيمة أو الخسارة برضه بتوعك أنتَ، فلو خسرت الشيلة شيلتك أنتَ، ولو كسبت يبقى كل الناس هتتمنى تاخد صفك، روح ياض صالح أختك وخدلها عروسة معاك البنات بتحب الحاجات دي أوي، يلا ياض متخلينيش أتعصب عليك، ودكر من ضهر راجل كسر كلمتي.

أنهى حديثه ثم تحرك من المكان فيما أتخذ يوسف القرار أخيرًا ثم تحرك هو الآخر من البيت نحو سيارته لكي يلحق ما يُمكن إلحاقه وبعد مرور ما يقرب الساعة من القيادة المتهورة وصل إلى هناك حيث مقر تواجد القمر وقد ولج الشقة يبحث عنها بعينيه فوجدها تجلس فوق المقعد بالشرفة وقد أغلقت الزجاج الكاشف للشارع فعلم أنها لم تنم بل أفنت ليلها تنتظره كما القمر لم يبرح السماء إلا بصعود الشمس.

حينها أبتسم ما إن تراقصت تلك الفكرة فوق أوتار فؤاده وقد ولج لها فوجدها تنام وهاتفها في يدها فتحته على صورة والدها وصورة يوسف معًا وقد أبتسم بعينيهِ ثم لثم جبينها حتى غزت رائحته أنفها ففتحت عينيها على مضضٍ وما إن رآته أعتدلت سريعًا وهي تقول بنبرةٍ ناعسة:
أنتَ جيت أخيرًا، اتأخرت ليه بس عضمي وجعني.
تنهد رغمًا عنه بثقلٍ ومسح فوق رأسها يُبلغها اعتذاره بصمتٍ حتى أبتسمت له وعاتبته بقولها:.

طبعًا هتقولي بتفضلي أيوب عليا وبتحبيه أكتر مني وشايفة إن هو أحق مني بيكِ، بس لو فكرت مرة واحدة هتلاقيني أنانية وبحبك أنتَ، كنت عاوزني أجي أقولك إن سامي استدرجني لحد ما أروح هناك ويخطفني ويساومهم بيا زي ما عمل مع إياد كدا لحد ما ابنه ظهر؟ كنت هتعمل إيه ساعتها؟
أندفع يخبرها بقوةٍ وكأنه لم يُفكر فيما يتفوه به:.

كنت هجيب رقبته وقتي مش هفكر فيها مرتين، كنت هخلي أصغر حتة فيه تصرخ من الوجع وميلاقيش اللي يداويه ويعالجه، كنت هضيع عمره كله وأعمي عينه اللي تفكر تبصلك.
أبتسمت رغمًا عنها وهتفت بقلة حيلة:.

زي ما توقعت علشان كدا قراري كان صح، أنا مش عاوزة أخسرك تاني أفهمني بقى، أفهم إن من غيرك تعبت من كتر ما كنت بعد الليالي وأدي لنفسي أمل برجوعك، عيشت عمري كله بقول للناس ليا أخ كبير ومسافر وهييجي علشان كنت واثقة إن هييجي يوم ونكون مع بعض، براحتك أزعل مني وأفتكرني بحب أيوب أكتر وبفضله عليك، بس أنا ليا الحق أخاف عليك حتى من نفسك، ومش هتبقى آخر مرة أخبي فيها عليك الحاجة اللي تتسبب في ضياعك مني، لو أنتَ ناسي أنا مش هنسى إن بمجرد اسمك ما بيحضر ليهم أنتَ علطول بتكون محور إهتمام عندهم، عاوزين يحرموني منك زي ما حرموني قبل كدا، أنتَ شاكك إني بحبك؟

بكت وهي تسأله حتى خطفها في عناقه فوجدها تتمسك به ودموعها تسيل فوق وجنتيها بينما هو استمر يمسح فوق ظهرها وقد أسعدته إجابتها رغم أنه شعر بالذنب لذا أبتعد عنها يسألها بنبرةٍ ضاحكة رغمًا عنه:
طب ممكن اسألك سؤال؟ هو مش عادي إنك تخسريني أنا وتخافي عليا، بس عادي إنك تخسري أيوب وتبهدلي الراجل معاكِ؟ ودتيه قدام سامي بنفسك يا جاحدة؟ دا أنا على كدا مربع جواكِ.

ضحكت على طريقته ثم مسحت وجهها وهي تقول بغلبٍ على أمرها كونها مُجبرة:.

الفكرة إني ماكنتش هقول لحد منكم أصلًا، بس لما فكرت تاني خوفت يكون حد فيكم هيتأذي وساعتها كلمت عُدي يراقبك هناك في الشغل وهو طمني عليك وفضلت متابعة معاه، ونزلت أعرف أيوب برضه وهو اللي قالي أروح هناك بس كان معايا ومسابنيش ولما الباب أتقفل هو فتحه ودخل منه في لحظتها وساعتها سامي مات في جلده أول ما شافه، هو أتصرف بهدوء شوية بس قبلها أنا خليته يحلفلي إنه مش هيضربه ولا يأذيه، بعدين هو قالي أي حاجة تحصل بلاش أقولك علشان متضيعش نفسك، هو بيخاف عليك برضه.

لو أخبرها عن مدى أمتنانه لها لن يوفيها حقها، في الحقيقة هي أثلجت روحه وأطفأت نيرانه لذا ضمها من جديد يعتذر منها عما بدر منه ثم لثم جبينها وأخرج من جيب بنطاله عُلبة وردية اللون ثم أخرج منها سلسالًا من خامة الفِضة بها قلادة على شكل قمرٍ ثم ألبسها لها حتى ضحكت هي بإتساعٍ فوجدته يُضيف بقلة حيلة ضاحكًا:.

عارفة يا هطلة أنتِ؟ أنا عمر ما حد حسسني إن الخوف على اللي بنحبهم طعمه حلو كدا، أنا فرحت أوي يخربيت دماغك، شكلي هاخد على الإحساس دا وإنك تحميني كدا وتخططي علشاني وأبقى عارف إن في ضهري مُهرة قوية مبتخافش من حد خالص، تعالي في حضني تاني.

ضحكت بصوتٍ عالٍ وضمت السلسال بأحد كفيها فيما سحب هو المقعد الآخر وجاورها ثم ضم رأسها تتوسد صدره وداعب خصلاتها بأنامله كما كان يفعل في صغره، لقد تمنى أن تبقى اللحظات بأكملها هكذا بقربها لذا أغمض عينيه وهو يمتن لرأسهِ التي توقفت أخيرًا عن التنازع.

في الأعلى وقفت عهد في شُرفتها تطمئن على قدومه حتى رآت سيارته السوداء الفاخرة تصف أسفل البناية فتنهدت بقوةٍ تخرج أنفاسها المكتومة ثم فتحت هاتفها لتجد قمر أرسلت لها تُطمئنها بقولها:
جه خلاص، أرتاحي شوية أنتِ.

رآت الرسالة وأبتسمت بسخريةٍ وكأنها لم تعرف الراحة ما دامت تُحب ذاك الغريب اسمًا ووصفًا، ذاك الذي يُطالبها أن تفعل مالم يفعله هو، حتى كادت أن تبكي أمامه، لكنها طوال أيام عمرها لم تفشل بأي شيءٍ بل تُحارب بكل مافيها، والآن هي تخوض حربًا لأجله ولن تفلت يدها من العِراك حتى لو تأذت هي.

لم نكن في حاجةٍ منكم للوقوف في صفوفنا.
ما أردناه فقط أن تساهموا في إنصافنا.
في صبيحة اليوم الموالي.

كانت مارينا في جامعتها تحضر مُحاضراتها الموجودة بجدولها العملي وقد أنهت واحدةً من المحاضرات ورآت أن هناك فارقٌ يصل لنصف ساعة بين كلتا المُحاضرتين وحينها قررت أن تُغير وجهتها وتمر لعنده في المكان الموجود بداخل مبنى الكُلية بذاتها وليس مكان المُحاضرة، كانت تبحث عنه بإهتمامٍ وتُفتش حتى وجدته يجلس برفقة زملائه بالعمل وقد لمحها هو وهي تمر خِلسةً من الخارج فترك موضعه وهرول نحوها سريعًا فرآها تركض مثل البلهاء فرفع صوته يوقفها بقولهِ:.

استني يا مارينا أقفي.
استدارت له بعينين مُهتزتين بتوترٍ فيما أقترب هو منها يقف أمامها يُطالعها بتعجبٍ فوجدها ترفع رأسها وهي تسأله بإندفاعٍ أبلهٍ:
أنا عاوزة أفهم دلوقتي إحنا وضعنا إيه؟ يعني لا متصالحين ولا متخانقين ولا نعرف بعض، وبعدين لو أنتَ زعلان مني عرفني، بس بلاش تتجاهلني كدا.
تنهد يوساب بثقلٍ وهتف مُرغمًا على ذلك:.

أنا زعلان عشانك أنتِ، حتة التمرد اللي جواكِ بتلغي العقل عندك وتحطك في موقف وحش مش شبهك، أنا شوفتك معاه وأنتم واقفين ومش هفتري وأقولك أنا شوفتكم بتتكلموا مع بعض أو بينكم حاجة، بس زعلت علشان أنا عارفك أنتِ وعارف أخلاقك، يبقى ليه تحطي نفسك عُرضة لواحد زي دا؟ مشكلتك إنك عاوزة كل حاجة في نفس الوقت ومش باصة لكل وقت لوحده، عاوزة تنجحي وبتذاكري وتثبتي نفسك، وعاوزة تأسسي شغل ومشروع علشان برضه تثبتي نفسك وعاوزة تدخلي علاقة علشان تثبتي إنك في صغرك عملتي كل حاجة وبرضه تثبتي نفسك، كل دا حلو وجميل إن الشخص يكون طموح، بس الوحش إن طموحه دا يكون عند في الناس، بتعاندي باباكِ وبتعاندي صحابك القُدام، وبتثبتي قدام أختك إنك مش زي ما هي فاكرة، بس النتيجة إنك في علاقة مع ولد حقير وندل فكر يساومك، وعلى فكرة جالي وقالي وأنا مسحت بكرامته الأرض ومديله فرصة يعدي في السيكشن في إمتحان الشفوي ويوريني شطارته.

توسعت عيناها بهلعٍ وتورد وجهها بإحراجٍ وهي تظنه يُعيدها كما كانت غريبة عنه أو ربما يكون صرف نظره عن خطبتهما وحينها حركت رأسها موافقةً دون أن تجد ما تتفوه به وكادت أن ترحل فوجدته يوقفها من جديد ثم أضاف بقوةٍ وشموخٍ:
يوم الأربع الجاي عندك إمتحان شفوي، ذاكري كويس علشان لو جاوبتي حلو هزود الجاتوه وأنا جاي أطلب إيدك يوم الخميس، يلا على محاضرتك إحنا مش فاضيين.

شهقت هي ببلاهةٍ وفرغ فاهها فيما كتم هو ضحكته ثم تحرك من المكان وتركها في الرواق بمفردها تحت أثر الصدمة لم تقو على الحِراك حتى عاد يسألها من جديد بنبرةٍ جامدة لكنها زائفة:
أنتِ لسه عندك؟ كدا هتاخدي صفر في الاتنين.
أجفل جسدها من صوته ثم ركضت بسرعةٍ كُبرى من المكان وغُرتها تتراقص فوق جبينها أثناء ركضها كما يتراقص فؤادها بين أضلعها فرحًا بهذا الخبر وكأنه أنتزع الخوف من داخلها وحفر محله كلمة الأمان.

هل يُمكن أن تناولنا الحياة ما طلبناه منها؟
في الحقيقة هذا السؤال قد يراود عقلك ويلوح بأفقهِ حتى تحصل على الجواب الذي يُرضي فضولك ويُخمد حيرتك.
في منطقة نزلة السمان.
كان نَعيم يترأس الطاولة والبقية حوله بمن فيهم مُنذر الذي سيذهب لعمله مُتأخرًا عن قصدٍ، و تَيام أيضًا حتى تحدثت سمارة بتعجبٍ وهي تجاور زوجها:.

هو مش يوسف كان هنا؟ صحينا الصبح لقيناه أختفى؟ طب كان قعد فطر معانا إيه الحيرة دي، دا أنتَ عازمنا كلنا مع بعض علشان نبقى عزوة.
جاوبها نَعيم بثباتٍ يُرضي فضولها:
كويس إنه مشي علشان راح شركة البترول النهاردة وبدأ شغله هناك من تاني، وبعدين الفترة الجاية هييجي كتير، أصل فيه كام قرار كدا خدتهم وإن شاء الله ناوي أفرحكم كلكم يا صيع.
أنتبهوا له فأشار هو نحو إسماعيل أولًا وأضاف:.

إسماعيل إن شاء الله كمان أسبوعين من دلوقتي هيكتب كتابه على خطيبته ويلبسها الشبكة، والأستاذ فضل موافق وأخوها وعيلتها كلها.
سعل المذكور بقوةٍ حتى ضربه شقيقه فوق ظهره وأضاف بصوتٍ عالٍ أضحك الجميع:
صحة يا سُمعة.
أنهى نَعيم ضحكاته عليهما ثم طالع وجه تَيام وأضاف بثباتٍ أغدقته المحبة:.

بعدها بأسبوع إن شاء الله فرح تَيام على عروسته وهييجي يقعد في البيت هنا معانا وعمله مفاجأة حلوة ساعتها، وهريحك من كل حاجة تقلقك وتخليك تعبان، أنا جيبتلك العربية زيك زي أخوك علشان تقدر تتحرك براحتك وعلشان شغلك لما تتجوز طالما مش هتسيبه.
ضحك له تَيام وأضاف بلباقةٍ أكثر الأحاديث التي تمناها نَعيم ذات يومٍ من فم صغيره:
ربنا يباركلي في عمرك يا بابا.

كلماته دومًا تُحيي القلب وتسعده وقد أوزعه والده ضحكة واسعة ثم ألتفت نحو سراج الذي كانت ابنة شقيقته تجلس فوق قدمه وأضاف بضحكةٍ مكتومة:
وأنتَ يا خال عيالي.!
أنتبه له بعينيهِ وأشار على نفسه مستنكرًا بقوله:
أنا! أنا خالي الشحطين دول؟
ألقى الجُملة بسخريةٍ حتى ضحكوا عليه فيما هتف إيهاب بحنقٍ منه وتهكمٍ عليه:
عيل لسانه عاوز قطعه.
ضحكوا عليه جميعًا فيما أضاف نَعيم بنفاذ صبرٍ وهو يحاول التماسك أمام الآخرين:.

يا بني ماهو أمك كانت خالة مراتي، وأنتَ ابن خالة مراتي ودول عيالها يبقى سيادتك خالهم، المهم أنا كلمتلك عادل أبو الحسن علشان يلغي موضوع خطوبتك دا وفترة التأديب بتاعتك، ووافق تتجوز نور بس بشرط هي توافق الأول من غير ضغط منك عليها، والقرار بقى في إيدها، والراجل مش هيحذرك، أنتَ فاهم.

ضحكة واسعة شقت وجه سراج وكذلك ابنة شقيقته التي صفقت بكلا كفيها معًا وكأن الصباح أتى مُحملًا بفرحة الجميع وقد ملأت المُباركات والتهاني المكان، وقد طالع نَعيم وجه مُنذر و مُحي وهتف بثباتٍ:
أنتم بقى ليكم نصيبكم بس مش دلوقتي، لما مُحي يخلص السنة دي و مُنذر يتنقل معانا هنا بشكل أساسي، وأعتبروها فترة أدب ليكم أنتم الاتنين بعد آخر مرة.
تدخل سراج يسأله بنبرةٍ ضاحكة:
يعني موهي لسه في فترة تأديب؟

تلقائيًا أرتفع حاجب المذكور بتأهبٍ للقادم وما إن حصل سراج على الموافقة من كبير البيت أنتبه ل مُحي من جديد وأضاف بسخريةٍ:
مش أنا خالك بس كنت ناسي؟ يلا ياض قوم هاتلي كوباية مياه ومتنساش إن الخال والد، يلا يا حبيب خالو.
من جديد يتسبب في ضحكات الجميع حتى قاطعه مُحي بقوله الذي خلى من كل أدبٍ وتهذبٍ:
طفحتها يا سراج قال خالي قال، يعني أنا لسه بتقبل إن عمي كان شوقي ألاقي خالي سراج إيه دا يا جدعان؟

رمقه مُنذر بعينين جامدتين فأضاف مُسرعًا بلهفةٍ يُعدل ما تسبب في تدميره بصراحته:
بس الشهادة لله يعني الاتنين جايبين إنتاج يرفع الراس، واحد جابلنا مُنذر أبو الرجولة كلها والتاني خال چودي يعني لأجل عين نكرم ألف عين.

ضحك والده رغمًا عنه وهو يرى مراوغته ومشاكسته للجميع حتى ضحك مُنذر هو الآخر لمرته الثانية تقريبًا أمام الجميع في هذا البيت، كانت السعادة ترافقهم في هذا الصباح وكأنهم حصلوا على هُدنة مع الحياة لتهدأ قلوبهم مما عانته في سابق حروبها.

تراهُ ساهٍ كفردٍ ما لهُ أحدُ
وفي ارتباكٍ كمن في صدرهِ بلدُ
إذا تبسّمَ قلنا لم يذُق ألمًا
وحين يحزنُ قلنا ويحَ ما يجدُ.

هذه الأبيات كُتبت ببراعةٍ لتصف كل فردٍ حزينٍ لم ترأف به الحياة، وقد كان نادر يجلس فوق الفراش بهمومٍ أثقلت كاهله بعد معرفته بخبر فقده لابنه، تُرى إذا كانت هذه هي مشاعره ومعرفته لم تتعدى الأيام، فما باله إذا كان أدرك الموضوع منذ بداياته، الأمر مؤلم ومتعب أن يُحرم المرء من نعمةٍ كان يتجهز لها بكل ما فيه، وقد كانت شهد تجلس في الخارج تراسل حماها الذي جعلها كما العروس في إصبعه بعدما كشف سرها.

وفي الداخل ولجت حنين وهي تضع له الإبرة الطبية الخاصة به في الوريد بمنتصف ذراعهِ وقد خرج من شروده متألمًا على مسحها بالقطنة الطبية فوق ذراعه فهتف بغلبٍ وقلة حيلة:
بالراحة يا حنين أنتِ واكلة لقمة زيادة ولا إيه؟
حركت عينيها نحوه وأبتسمت رغمًا عنها من جملته فيما ولجت شهد ورآته يبتسم للآخرى فدلفت أكثر ترفع صوتها وهي تقول بنبرةٍ جامدة لها:.

أنتِ! مش خلصتي شغلك؟ أتفضلي روحي شوفي وراكِ إيه وياريت تلتزمي بشغلك وبس، مش هفكرك كل شوية إنك ليكِ دور هنا تخلصيه وبس، ولا شكلك بتنسي؟
كعادتها تتحدث بخيلاءٍ وتعالٍ جعلا نادر يهدر فيها بإنفعالٍ:
أتكلمي كويس معاها يا شهد هي مش بتشتغل عندك، هي بتشوف شغلها معملتش حاجة غريبة ولا غلط، أنتِ اللي بس متعصبة على الفاضي ومش شايفة اللي عليكِ.

توسعت عيناها ما إن أنهى حديثه وهي تشير نحو نفسها باستنكارٍ وقد قررت أن تثأر لنفسها فأضافت بقوةٍ تصرخ في وجههِ:
أنتَ بتزعقلي علشان دي؟ على فكرة المفروض إنك تحترم وجودي هنا وتراعي إن مراتك معاك ولا مش واخد بالك إني كل ما آجي أقرب منك أو أعمل حاجة تيجي هي وتدخل؟
في تلك اللحظة دلفت فاتن إثر الصوت المُرتفع فوجدت ابنها يُضيف بقوةٍ هو الآخر وكأن صبره فُقدِ للنهاية:.

علشان دا شُغلها هي وهي أدرى بيه، وياريت تلتزمي حدودك وتتعاملي بهدوء وتراعي إنك مش في بيتك، روحنا ولا جينا إحنا هنا ضيوف وهي بتشوف شغلها العادي، تمام؟
خرجت حنين من الغُرفة ركضًا نحو الخارج قبل أن تبكي فيما رمقت فاتن زوجة ابنها بإذدراءٍ وأضافت بحنقٍ:
ياريت تهدي نفسك شوية الناس مش خدامين عندك، ولو غيرانة منها أوي كدا أتعلمي حاجة منها يمكن تنفعك وتهدي على نفسك شوية.

أنهت حديثها ثم أولتها ظهرها فيما وقفت شهد تُطالع أثرها بذهولٍ حتى صدح صوت جرس الباب فتحركت ركضًا للخارج تفتحه للطارق الذي تعلمه جيدًا وهو حماها، وقد نظر لها بنظراتٍ نارية جعلتها توميء له موافقةً وقد أنتبهت له فاتن التي وصلت عيناها لمرحلة الجحوظ حتى أوشك بؤبؤاها على الخروج من محجريهما فوجدته يبتسم لها بسخريةٍ ثم شملها بنظرةٍ مُزرية بثت الرُعب فيها ثم توجه نحو غرفة ابنه مُباشرةً.

حينها وقفت هي تحاول دعم نفسها والهُدى في تفكيرها رغم علمها أن قدوم الآخر كارثة ستقام لا محالة في ذلك، لذا لم تتدخر جهدًا في التفاني والإقدام نحو الداخل لتسمع زوجها المُبجل يهدر بإنفعالٍ وكأن نيرانه مُتقدة فوق الجمر:.

براحتك لو عاوز تعمل زي أمك وتحط إيدك في أيد أعدائي وتقف في صفهم ضدي، بس عندك علم إنهم السبب في إجهاض مراتك وسبب ضياع فرحتك منك؟ ومش بعيد يكونوا هما السبب إنك راقد مكانك هنا؟ أنا جيت بس أقولك إنك متغمي على عينيك، وأكيد مش هيبدوك أنتَ على يوسف علشان كدا كلهم بيذلوك هنا علشان خاطر يوسف يتشفى فيك من تاني.

تواجده من الأساس هو وأمثاله أكبر كارثة، هؤلاء هم البشر الذين يسيرون في الأرض ناشرين خرابهم فوق رؤوس البشر، هذا الذي قد تظنه لم يكن فوق الأرض منه أو ربما قد يكون خيالًا لن ترى مثيله، أرجوك أن تفتح عينيك‌ على وسعيهما لتعلم أن هناك كيان يسمي نفسه دولةً فعل الأكثر والمزيد، حيث يفعلون المصائب ويرتكبون الجُرم في حق الأبرياء ثم يبكون أمام العالم باحثين عن حقوقهم، لكن إن الله كبيرٌ أكبر من كل عدوٍ، والله غالب على أمره.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة