رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل السادس والأربعون
إبان جلسة الشباب مع نَعيم و ضحكاتهم على سراج الذي مازحه حينها دلف ميكي وهو يقول بنبرةٍ مُتلجلجة وكأنه يخشى التحدث:
يا حج! فيه واحد برة عاوز يقابلك.
انتبهوا له فدلف خلفه ماكسيم وهو يقول بزهوٍ في نفسه:
مقدرتش أقف استنى الإذن، أصلي ماليش كبير بقى.
وقف الشباب مع بعضهم بدهشةٍ من جرأته ووقاحته التي أتت به إلى هُنا وخاصةً نَعيم الذي طالعه بدهشةٍ سرعان ما تحولت إلى التقزز وهو يرى الأخر في عقر داره يقف بمنتهى التبجح وقد صادف دخول يوسف وبجواره أيوب في نفس اللحظة التي التفت فيها ماكسيم خلفه وهو يقول بسخريةٍ:
چو! دا أنا محظوظ إن الحبايب كلهم هنا بقى.
اندهش يوسف من تواجده وكذلك أيوب الذي نظر له ماكسيم يُمعن النظر في وجههِ يحاول أن يقرأ ماهيته وشخصيته التي أتضح عليها الإلتزام، وكأن اللحظة الغريبة هذه لحظة مصيرية ضيفها أيوب أو لربما يكون هو عنصرًا أساسيًا بها.
لاحظ يوسف نظرات الأخر الذي أمعنها بكل تركيزه في وجه أيوب الذي بدا أمامه حائرًا كما أن الجو ساده التوتر وشحنات سلبية حملتها الأعين ووجهتها الأبصار ليقطعها أو لربما زادها ماكسيم حين وجه استفساره ل أيوب: مين أنتَ؟ تبعهم هنا؟
زاد تعجب أيوب وتفاقمت حيرته أكثر لكن يوسف بطريقته المعتادة تدخل يهتف فيه بنبرةٍ حادة: أنتَ مال أمك؟ جاي علشان تُرط في الكلام؟
تعجب أيوب من طريقة يوسف مع شخصٍ من المفترض أن يكون ضيفهم، وحتى الآن لم يكن الأمر كما يبدو أو كما يلزم، بل يبدو أن ضيفهم وجوده أثقل من الهموم فوق الكتفين ليتحدث نَعيم حينها بنبرةٍ جامدة يوجه حديثه لهذا الذي استوطن بهو بيته: عاوز إيه يا جدع أنتَ؟ جاي هنا تهبب إيه؟
تصنع ماكسيم البراءة والودِ الذي برع في رسمهما فوق تعابيره وهو يقول بنبرةٍ تحمل من اللُطف كثيرًا: دي مقابلة لضيف في بيتك يا مصري يا كريم؟ بعدين هو أنا شرير يعني علشان أضرب نار على إسماعيل إمبارح وماجيش أتطمن عليه النهاردة؟ مش أخلاقي دي.
تبدلت التعابير وتباينت ردود الأفعال وسيطرت الدهشة المصحوبة بالتقزز من بجاحة هذا الشخص على الأجواء، أما أيوب فأقرب ما قفز إلى عقله بعد رؤيته لهذا المشهد أن هذا ربما يكون أحد مقالب الكاميرات الخفية، أو ربما يكون مشهدًا من أحد المسلسلات، فما يراه بعينيه بعيدًا عن أرض الواقع، لكن صوت نَعيم وطريقته كلاهما يؤكد له أن ما يراه حقيقةً حيث رد الأخر بنبرةٍ جامدة قاسية: كويس إنك قولت علشان لما أخلص عليك يبقى ليا حق، مسيرك تقع تحت أيدي واللي بيننا مش سهل ومش قليل.
ابتسم ماكسيم ببرودٍ مثل طبعه الأوروبي بدمائه الباردة. وهو يقول بنفس النبرة الثلجية: اتأخرتوا أوي يا حج، دا أنا قولت إيهاب مش هيسيبني يطلع عليا زي ما بيقولوا كدا شمس، بصراحة جيت أتطمن عليه واضح أنه كبر والجواز غَيره.
هنا نطق إيهاب بثقةٍ ردًا على حديث هذا الرجل الملون كما يلقبونه هُم نافيًا لظنونه تجاهه: أنا مستني عليك علشان أجيب أخرك، زي الدبيحة المربوطة كدا كل ما تتربط أكتر وأكتر وقعتها بتيجي أسهل، فبراحتك خالص، كدا كدا أخرتك معروفة، يا السجن لحد ما تعفن وتستوي فيه بدل ما أنتَ مِخضر كدا، يا موتك على أيدي وبكدا أكون اتكيفت بحقي.
ضحكات! كل ما نتج عنه ردًا على الأخر ضحكات سخرية واستهزاءٍ به والبقية ينظرون لبعضهم بدهشةٍ من طريقته وخاصةً أيوب الذي لم يفهم أي شيءٍ لكن قدره أوقعه هُنا، أما الأوروبي فأوقف الضحكات وهو يقول بنبرةٍ هادئة على عكس تعابيره السابقة: 100 مليون دولار، لو بقيتوا معايا، ولو كلكم هخليهم 150 مليون دولار، قولتوا إيه؟
كان يتحدث بثقةٍ وهو يلقي عليهم الرقم الذي تسبب في ذهولهم وإثارة دهشتهم حتى وصله الرد الصارم من نَعيم الذي هتف بنبرةٍ جامدة يرفض رفضًا قاطعًا لا يقبل المناقشة: والله لو مال قارون كله برضه لأ، الفلوس دي بتاعة الناس اللي ملهمش أصل زيك كدا، إنما إحنا عندنا أصل وأصل كبير كمان مخلي أشكالك طمعانة فيه أو على الأقل نتساوى ببعض، بس احب أقولك اتغطى كويس وخصوصًا راسك علشان الحاجات دي لما بتتعرى بتتعب صاحبها.
جاهد الشباب لكتم ضحكاتهم بعد حديث نَعيم ومعهم أيوب أيضًا بينما ماكسيم تجاهل حديث غريمه ثم توجه ببصره إلى ماكسيم الذي كان يحدق النظر فيه بحقدٍ لكن الأخر تصنع اللُطف وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
إيه يا سراج؟ مش هتسلم عليا؟ دا أنا خالو حتى، ماما كانت بنت عمي، يعني أنا خالك.
يلا يا ابن من هنا.
هتفها سراج ردًا عليه يَسبه بألفاظٍ خارجة دون أن يتوقع أحدهم هذا الرد، فشهق أيوب ونظر إلى سراج الذي بدا منزعجًا بينما الأخر سأله بنفس الأسلوب البارد:
كدا! حد يشتم خاله كدا؟ دي تربية عمو نَعيم ليك؟ ماما لو كانت عايشة كانت زعلت خالص منك.
رد عليه سراج بوقاحةٍ ينفي قول الآخر:
لأ والله ماما لو كانت عايشة وشافت خلقتك كانت خلتني تفيت في وشك، وبعدها أديك على راسك بالشبشب، بس حظك إن ماما ماتت، عقبالك يا رب.
عاتبه ماكسيم بنظراته ثم التفت إلى أيوب يمعن النظر في وجهه من جديد وقال بنبرةٍ هادئة لا تتناسب مع الموقف أو الأحاديث السابقة لهذا:
أتمنى المقابلة دي متأثرش على علاقتي بيك.
تأهبت حواس يوسف بينما أيوب رد عليه بنبرةٍ جامدة يستفسر منه:
وأنا إيه اللي يخلي علاقة تربطني بيك؟ أنتَ ضيف هنا وشكلك مش مُرحب بيك، وأنا هنا ضيف برضه بس الفرق أنهم أكيد حابين وجودي، يعني حتى لو فيه علاقة عابرة فهي عكسية.
ابتسم له ماكسيم ثم ربت على كتفه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة وكأنه يسخر:
طب يا ضيف، بكرة تبقى صاحب مكان.
زفر نَعيم مُطولًا ثم رفع صوته ينطق بنفاذ صبرٍ:
استغفر الله العظيم وأتوب إليه، ما تغور يا جدع أنتَ.
هز رأسه مومئًا له ثم ارتدى نظارته السوداء ذي الماركة العالمية الشهيرة ثم قال بنبرةٍ جامدة تبدلت تمامًا عن بروده أثناء دخوله:.
خلوا بالكم أنا جاي هنا ليا هدف، لو اللي حصل زمان حصل تاني أنا هيكون ليا تصرف ميعجبكومش، كلكم مع بعض، ولو فكرت يا يوسف تعمل اللي عملته قبل كدا أنا هزعلك أوي أوي فوق ما تتصور.
أقترب منه يوسف يقول بنبرةٍ جامدة دون أن يرف له أي جفن وكأنه يعلن عليه العصيان منذ لحظتهما هذه:
دا عند أمك، وأعلى ما في خيلك أركبه، ولو جدع سِد معايا بس مترجعش تعيط زي المرة اللي فاتت.
حرك ماكسيم بؤبؤيه يقرأ تعابير وجه إسماعيل الذي وبالرغم من ثباته وقوة من يحاوطونه إلا أن عينيه نطقت بالخوف من هذا الرجل الذي ترك المكان ورحل دون أي مزايدات على الحديث أو الرد على الأخير الذي رفع صوته يقول أثناء تحركه:
ابقى فكر مرة تانية قبل ما رجلك تجيبك أرض الرجالة، علشان المرة الجاية مش هترجع سليم، زورونا تجدوا ما يسركم.
رحل الأخر تمامًا ولم يوليهم أي إهتمامٍ بل قصد وجهته وتحرك من المكان يتركه لهم لكن قبلها حفظ ملامح أيوب جيدًا بل حفرها في ذاكرته بأدق تفاصيلها وبداخله سعادة كبيرة مجهولة المصدر حتى الآن لكن يبدو أن طرقه تتهيأ له حتى يصل إلى النهاية المُرادة.
انزوت عن الجميع كعادتها من جديد منذ أن انفصلت عن زوجها السابق، هي لم تكن سيئة كما يزعمون لكنها تتصنع قوةً هي لم تَملكها، لكن من الداخلة هي هشة بطريقةٍ يصعب تخيلها، رقيقة بقدر الصلابة التي تُصدرها، جميلة بقدر حنان قلبها، وحيدة بقدر الناس المُجتمعين في الدُنيا، هي من أصبحت جانيةً بعد أن جُني عليها.
هاتفها بجوارها أغلقته بعدما منعها والدها من مهاتفة الصغير إياد، بل منعها من التعامل مع عائلة العطار من جديد وأخبرها أنه سيتولى مهام العمل معهم وأنه شارف على إنهاء هذا العمل معهم تمامًا وهي فقط عليها أن تبتعد عنهم.
بكت نهال بقهرٍ وهي ترى نفسها وسطهم كما المنبوذة، جميعهم يكرهون عودتها إلى هُنا وعائلة زوجها كانت تكره وجودها في بيتهم، وزوجها نفسه كرهها وبغض قربها وهو يتهمها بأنها كما الأرض الجارفة لن تُزرع ولن تصلح للزراعة.
طرق والدها باب غرفتها وما إن أذنت له بالدخول دلف الغرفةِ يحمحم بنبرةٍ خَشنة ثم قال بنبرةٍ جامدة وكأنه يتعمد إصدار هذا الجمود لها من جِهته:.
يلا اتفضلي علشان ناكل، عمامك برة وعاوزين نتغدا سوى، مش هنفضل مستنين حضرتك.
انتبهت لصوته الجامد الذي يخلو من اللين وردت عليه بثباتٍ قدر المُستطاع منها بالرغم من ألمها:
مش عاوزة آكل، الحمد لله شبعانة.
رفع حاجبيه يستنكر قولها ثم أغلق الباب ودلف الغرفة وهو يقول بنفس الجمود:
هو أنتِ عيلة صغيرة هنفضل نحايل فيكِ؟ اتفضلي يلا عيب الناس برة مستنية، ولا أخرج أقولهم الهانم مقموصة؟
سحبت الهواء إلى رئتيها عنوةً ثم هتفت بنبرةٍ مُحتدة وكأنها تتخذ وضع الهجوم عليه:
لأ، أنا لا مقموصة ولا زعلانة، أنا بس يدوبك موجوعة مش أكتر، متشغيلش بالك دي حاجة عادية وهتعدي يعني.
أدرك هو مقصد حديثها بمنظورٍ خاطيء لذا رفع صوته ردًا على ما تفوهت به قائلًا:.
موجوعة؟ علشان بقولك خلي بالك من خطواتك بعد كدا؟ ولا علشان بقولك إنك بقيتي في وضع مختلف لازم تحسبي كل خطوة على نفسك؟ استنى إيه؟ لما الغرب يلاحظوا وييجي حد منهم يتكلم ويقول اتطلقت علشان تدور على حل شعرها؟ ولا هستنى إن عمامك يعايروني بيكِ وبربايتك؟ اسمعي يا نهال! مش معنى إنك اتطلقتي يبقى أنتِ حرة نفسك، دا معناه إنك مفروض عليكِ حاجات أكتر من اللي فاتت وأنتِ بنت، مفهوم!
ترقرق الدمع في عينيها وهتفت بنبرةٍ أتضح الوجع بها بقدر ما حاولت اخفاءه:
وهو إياد بقى علاقتي بيه غلط؟ علشان تمنعني حتى من دروسي معاه؟ إيه الغلط أنا مش فاهمة؟
جاوبها بنبرةٍ يتملكها العِند وكأنه يُصر على وجعها:.
علشان بيديكي حاجة مش من حقك أصلًا، وعلشان علاقتك بيه في حد ذاتها مش مقبولة ومحدش هيفهمها، وبتعلقي نفسك بيه وخلاص، لأخر مرة هقولك أنتِ مُطلقة وبقى محسوب عليكِ كل خطوة هتتحركيها، شكلك كدا كبرتي وخيبتي.
أولاها ظهره ليعود إلى الخارج من جديد تاركًا إياها خلفه تتألم من قسوة حديثه، فمنذ أن عادت إلى هُنا وهو تغير معها تمامًا، حتى مرضه ألقى ذنبه عليها وأنها المتسببة فيه، بالرغم من حبه لها إلا أنه دومًا يصنع الحدود بينهما، نظرت إلى الهاتف المغلق بجوارها وهي تفكر في الصغير الذي أصبح مؤخرًا سببًا قويًا مُعبئًا بالأملِ في حياتها المُظلمة.
دلفت لها والدتها بعد خروج والدها وما إن تلاقت نظراتهما سويًا حينها بكت نهال بوجعٍ أفصحت لوالدتها عما تشعر به عن طريق البكاء فاقتربت منها والدتها تعانقها بين ذراعيها وهي تمسح على ظهرها أما الأخرى فعوقبت على ما لم تقترفه هي وألقى المجتمع على عاتقها مسؤليته، هي لم تكن سيئة لكي يتم نبذها، بل الأشخاص أساؤوا إليها.
في بيت عبدالقادر كان إياد يبحث عن أي طريقة توصله بها، كان مثل الطير يبحث عن عِشه الذي هاجر منه بالخطأ، حتى أن ميعاد درسه اليوم فَلَّ مع مرور الوقت، فأصابه الإحباط في مقتلٍ، جلس في الحديقة بملامح واجمة حزينة تلبسته بعدما أغلقت كل الطُرقات في وجهه وقد دلفت له آيات التي كانت تمسك في يدها الحاسوب وهي تقول بمرحٍ:
يلا جهزت القعدة لينا سوى علشان نخربها، جاهز؟
حرك رأسه نفيًا فشهقت هي بدهشةٍ تلقائية ثم تركت ما كانت تمسكه في يدها على الطاولة واقتربت منه تحتضنه وهي تقول بنبرةٍ حزينة لأجلهِ:
مالك يا أودي؟ أنتَ لسه زعلان؟
أومأ موافقًا برأسه وقد لمعت عيناه بوميضٍ حزينٍ وهو يقول بنبرةٍ غلفها الحزن:
آه، هي نهال مش هتكلمني تاني زي ماما؟ بس أنا بحبها أكتر من ماما والله، علشان هي بقت صاحبتي مش زي ماما، هي مش عاوزة ترد عليا ليه؟
حزنت آيات لأجله كثيرًا وشعرت تقريبًا بما يشعر به الصغير لذا جاورته بعدما انتقلت من موضعها إلى مكانه وربتت عليه وهي تقول بنبرةٍ مختنقة:
لأ هي باباها تعبان شوية بس وأكيد مش فاضية ترد علينا، أكيد لما هي تفضي نفسها شوية هتكلمك، مش هي بقت صاحبتك خلاص، طب نعذر صحابنا شوية بقى ولا نزعل منهم وهما بيكونوا تعبانين؟ لازم تفهم إن كل واحد عنده ظروفه يا إياد وهي لما ظروفها تخلص هتكلمك، اتفقنا؟
هز رأسه مومئًا بعدم اقتناع لكنه حاول التمسك بحبالٍ قد تكون بالية لكنها على كل حالٍ أفضل من اللاشيء، أما آيات فتنهدت تنهيدة مُثقلة بالهموم ولم تنكر أن الصغير تحسن كثيرًا بعد دخول نهال عالمه وللحق لم يكن الصغير بمفرده بل ووالده أيضًا، كلاهما تجاوز الإنفصال عن أماني بتواجد نَهال التي بدت وكأنها دلفت لمكانها الطبيعي.
وقف أيهم على بعدٍ منهما وقد تابع الموقف بعينيه ولم ينكر أن شعوره يتطابق مع مشاعر صغيره، كلاهما يعلم أهميتها، على الرغم أنه يتصنع عكس ذلك وأنها مجرد عابرة كما غيرها من السابقات لكنه تفاجأ بها تستوطن القلب وتسكنه، حتى وإن لم يتأكد هو من هذا لكن هذه البدايات هو يعلمها جيدًا، في السابق كان يظن مشاعره حقيقة لكن الآن هو يتأكد من الحقيقة، لكن مهلًا هل يكرر خطأه ويصبح تصرفه أهوجًا كما فعل سابقًا أم يتريث حتى لا يتكرر ما سبق وفعله وظل نادمًا على فعله؟
في مكانٍ أخرٍ في حارة العطار.
كانت ضُحى تجلس في صالة الشقة بعدما قامت بتطبيق روتين العناية بنفسها ككل جمعة في الأسبوع بعد مضي ستة أيام عبارة عن ضغط العمل وآلام جسدية ونفسية في بعض الأحيان، أما اليوم فهو يوم العيد لفتاةٍ مثلها تعمل بكل جدٍ، لم تنكر أن خبر إصابة إسماعيل أصابها ببعض التخبط لكنها ظنت أنه لربما يكون الشعور بالذنب لأنها كانت تسخر منه وعلى كلٍ هي لا تهتم به من الأساس، ربما يكون غريبّا في طريقته وأسلوب حياته وعمله، وربما يكون تجاهله لها لكن على كلٍ هو كما هو غريبٌ.
انتقلت بين حالات تطبيق الواتساب لتظهر لها حالة إحدى صديقاتها في العمل وخارجه وتعد من أكثر الناس المُقربين لها تعلن خطبتها على علاء! خطيبها السابق يتقدم لِخِطبة رفيقتها المُقربة إن لم تكن الوحيدة التي وصلت لهذه المكانة من بعد قمر.
لم تصدق عينيها بل أنها ظنت أنها تتوهم هذا، لذا خرجت من التطبيق بأنامل ترتجف بخوفٍ وهي تذهب لتطبيقٍ أخر وهو تطبيق تبادل الصور الانستجرام لتجد صورتهما سويًا والأخرى يرتديان خواتم الخِطبة، ففورًا نزلت دموعها وهي تشعر بالشفقة على حالها، لم يكن الحزن لأجلهِ هو، بل لأجل التي من المُفترض أن تكون رفيقتها، طعنة غريبة ضُربت في قلبها، فلو كان الأمر من أخرى كانت تقبلته، لكن السهم خرج من قوس رفيقتها.
خرجت قمر من المطبخ تقول بتحذيرٍ مرح قبل أن يُمر الوقت عليهم وتبدأ معركة كل يوم جمعة:
اسمعي يا بت! أنا روحت السوق مع أمك ونضفت السمك وغسلته وكنست الصالة وقبلها مروقة الشقة أقسم بالله بعد الأكل لو ما غسلتي المواعين لأكون جايباكِ من شعرك، ردي يا ضُحى بدل ما ازعلك.
كانت ضُحى تشعر بالضغط عليها وكأن حديث قمر هو فتيل القنبلة الموقوتة التي انفجرت لتوها وهي تقول بنبرةٍ باكية أقرب للصراخ:.
غوري من وشي يا قمر! أنتِ شكلك فاضية.
اندهشت قمر من طريقتها فرفعت صوتها هي الأخرى تعنفها بقولها:
أنتِ بتكلميني كدا ليه؟ هو أنا شغالة عندك؟ اتكلمي معايا عِدل يا ضُحى بدل ما ازعلك.
زفرت ضُحى ثم غمغمت بعدة كلماتٍ حانقة وهي تعبر هم ضيقها بهذه الطريقة ثم دلفت غرفتها وأغلقت الباب خلفها بعنفٍ حتى أجفل جسد قمر من هذا الفعل ثم جلست تضرب كفيها ببعضهما تتعجب من طريقة الأخرى وفعلها الغريب وما إن أدركت فعلها رفعت صوتها تعاندها أكثر وهي تقول:
طب مش هعمل حاجة يا ضُحى واعملي أنتِ بقى علشان تبطلي جنانك دا، أنا مش بشتغل هنا.
أتت غالية من الشقة الأخرى إلى هُنا وهي تعنف ابنتها بقولها:.
أنتِ مجنونة يا بت! بتكلمي مين؟ وبعدين صوتكم على مع بعض ليه؟ مش هتبطلوا الهبل بتاعكم دا بقى؟
جاوبتها قمر بنبرةٍ حزينة وهي تُبريء نفسها من لومٍ أُلقى على عاتقها:
يا ماما والله أنا جاية انكشها وأهزر معاها، طب ما كل جمعة أنا اللي بعمل، بس هي معرفش مالها بقى.
ربتت غالية على كتفها وهي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول إبعاد الحزن عن طريقها من ابنة خالها:.
طب متزعليش نفسك هي مضغوطة من الشغل شوية وبعدين معلش يا ستي خليها عليكِ، روحي يلا جهزي السلطة أخوكِ قرب ييجي و عُدي جاي مع خالك من تحت راحو عزال ابن أبو محمد هييجوا جعانين.
تحركت قمر من محلها تتجه إلى شقتهم، بينما أسماء خرجت من مطبخها تمسك في يدها ملعقة تقليب الطعام ثم قالت بتعجبٍ:
العيال دي مالها؟ أوعي تقولي اتخانقوا مع بعض تاني عظيم بيمين انتف شعرهم في أيدي، مش ناقصة هبل هي مبقوش صغيرين.
طالعت غَالية باب غرفة ضُحى ثم اقتربت من الأخرى تسألها بتعجبٍ من حال الأخرى:
هي بنتك مالها يا أسماء؟ البت لسه بتقولها دي طلعت فيها زي البابور المهبب، حد مزعلها ولا إيه؟
لوحت لها أسماء بكفيها وهي تقول بدون اكتراث وكأنها اعتادت على تبدل الأخرى وتغير حالتها المزاجية:.
إيه الجديد يعني؟ هتلاقيها واخدة كلمتين في جِنابها من الشغل ولا حد من صحابها زعلها، سيبك منها أنا هدخلها كمان شوية علشان لو دخلت دلوقتي هتعصبني.
أومأت لها أسماء بينما ضُحى في الداخل كانت تبكي وهي تشعر بالشفقة على حالها وأنها هانت على رفيقتها، لكنها المُلامة في الأخر، هي من ظنت بها الخير لكن الأخرى كانت تحقد عليها وهي لم تنتبه لهذا، أخطات في حق نفسها خطئًا بلا عودة عنه لإصلاحه وكان الثمن هو مشاعرها وقلبها.
في نفس البناية تحديدًا بداخل شقة عهد.
منذ عودتها من السوق وهي تشعر بشيءٍ غريبٍ عليها، تحديدًا منذ معرفتها بما فعله يوسف في عمها لأجلها، لم تتصور أن يفعلها أو حتى يُضحي بنفسه ويخاطر تلك المُخاطرة الكُبري لأجلها هي، لكنها حينما تذكرت حديثه مع أيوب اهتز قلبها من محله، جملة أنها حقه تلك لم تمر عليها كما غيرها من الأحاديث بل هي تحديدًا احتلت العقل.
زفرت بقوةٍ من هذه العلاقة التي فُرضت على كليهما ثم فتحت هاتفها على صورة عمها وهو يقف في الشارع بعدما التقطت لها رفيقتها أمنية هذه الصورة لتتشفى بعمها، ورغمًا عنها ابتسمت وشعرت أنها انتصرت عليه، فأتت مَي من الداخل وسألتها بحيرةٍ:
بتضحكي على إيه يا بنت المجانين؟ أنتِ ملبوسة يا عهد؟ في وشنا طول اليوم مبوزة ودلوقتي وشك منور وأنتِ بتضحكي مع نفسك؟
رفعت الهاتف جهة والدتها ليصبح نُصِب عينيها فشهقت الأخري وابتهجت ملامحها وخطفت الهاتف وهي تسألها بحماسٍ تغلفه الدهشة من هذا المنظر:
مين اللي عمل فيه كدا؟ دخل في قطر سواقه أعمى؟
ضحكت عهد بصوتٍ عالٍ ثم حركت رأسها نفيًا ورافق نفي رأسها قولها بنبرةٍ ضاحكة:
لأ، بس دا يوسف اللي عمل كدا.
سألتها الأخرى باستنكارٍ من حديثها:
يوسف! يوسف مين دا؟
جاوبتها عهد بنبرةٍ جامدة تؤكد عليها:
يا ماما هيكون يوسف مين؟ جوزي و.
توقفت عن الحديث بعد نطقها لهذه الكلمة تتعجب من نطقها لها فيبدو أنها تيقنت من زواجها ولا مفرٍ من هذا الشيء، أما الأخرى فابتسمت بعينين لامعتين وهي تشعر أنها وجدت الحائط الذي تأمن لابنتها أن تتكيء عليه، حتى وإن طال الزمان فسيظل كما هو ثابتًا.
أما عهد فأستطردت حديثها ناطقةً بترددٍ أو لربما تخبطٍ:.
يوسف الراوي راح بليل أول إمبارح عمل كدا علشان يجيب حقي منه، وقال إنه زي ما التاني ضربني وحسسني بالضعف لازم هو كمان يحس باللي أنا حسيت بيه.
ربتت مَي على رأسها ثم لثمت جبينها وأضافت بنبرةٍ مُحشرجة:
ربنا يبارك فيكم لبعض ونفرح بيكم على خير.
نظرت عهد لها بتعجبٍ فيما تحركت الأخرى من محلها واستأنفت سيرها نحو الداخل من جديد لتترك ابنتها خلفها تشعر بالتعجب والتوتر معًا فكيف تخبرها أنه من المؤكد سيأتي اليوم الذي ينفصل فيهِ عنها ويأخذ عائلته ويرحل من هنا كما أخبرها.
في منطقة نزلة السمانِ
جلس أيوب بجوار نَعيم الذي قرر أن يتغاضى عن مجيء ماكسيم إلى بيتهِ وكأن الغوث أتى إلى هنا أو لربما تلك المقولة القديمة لكنها بصورة عكسية حيث قال نَعيم مُرحبًا به بنبرةٍ ضاحكة:
يا أخي طول عمري اسمع جملة إذا حضرت الشياطين، أول مرة في حياتي أشوف عكسها وتحضر الملايكة هنا وتخفي الشياطين، نورت يا ابني، بيتك نور بيك.
أبتسم له أيوب وهو يقول بنبرةٍ هادئة ردًا على قول الآخر المُرحب به:
البيت منور بأهله وصحابه، ربنا يجعله مفتوح بحسك ويملاه إيمان وبركة يا حج.
ربت الأخر على ركبته فيما قال يوسف يمازح إسماعيل بقوله ضاحكًا وهو يأخذ كوب الشاي الخاص به:
ابسط يا عم، الشيخ أيوب ساب صلاة العصر في الحارة وجه مخصوص علشان يتطمن عليك، مش بس كدا، دا جايبلك معاه جاتوه كمان.
اندهش إسماعيل مما وقع على سمعهِ وسأل بذهولٍ يتأكد مما قيل لأجلهِ:
إحلف! قول والله كدا؟
ابتسم له أيوب ثم تقدم له بجسده يُعطيه علبة الحلويات وهو يقول بنبرةٍ هادئة من وجهه البشوش:
من غير ما يحلف، أنا فعلًا جيت علشانك وعلشان أتطمن عليك، أصلها مش شوكة سمكة دخلت رجلك يعني، ألف سلامة عليك وربنا يتمم شفاءك شفاءًا لا يُغادر سِقمًا.
رفرف إسماعيل بأهدابه لا يُصدق نفسه ثم نظر لعلبة الحلويات الموضوعة بجواره وما إن أدرك الموقف حينها نطق بنبرةٍ هادئة لازال بها تيهه:
ألف شكر يا أستاذ أيوب مش عارف أقولك إيه بس تسلم رجلك لمجيتك لحد هنا.
ابتسم له أيوب وهز رأسه مومئًا، فأتى إيهاب من الخارج برفقة سراج فنطق الأول بنبرةٍ جامدة:.
للأسف أشترى البيت اللي قولتلي عليه يا حج، واضح كدا إنه معلي السعر أوي، الناحية اللي هناك كلهم تقريبًا وافقوا واللي رافض مستني السعر يرفع شوية.
زفر نَعيم مُطولًا ثم استفغر ربه حتى جلس الإثنان فتحدث يوسف بجمودٍ يوجه حديثه ل سراج:.
شوفت! عرفت إننا مكناش عاوزين نفرض رأي عليك ما قد كنا خايفين عليك؟ مشكلتك إنك غبي وعاوز تكبر مرة واحدة، ودلوقتي كلنا بقينا محشورين معاك بعدما كان أخره بس يسمع عننا، قولي بقى الحل إيه؟
زفر سراج في وجهه ثم جلس على المقعد دون أن يعطيه الرد حتى سبه يوسف بنبرةٍ خافتة، فقال مُحي بنبرةٍ ضاحكة:
الراجل جاي يزور واحد مريض، يقول علينا إيه؟ أشكال متربيتش؟ منكم لله كسفتونا.
ضحك له أيوب وهو يقول بنبرةٍ هادئة:.
متقولش كدا أنا أخوكم برضه، بعدين دا حق إسماعيل عليا أني أجي أزوره وكلام سيدنا محمد ، يعني أنا جاي علشان الحق اللي عليا لأخويا المسلم.
انتبهوا له فقال نَعيم بنبرةٍ ضاحكة وهو يرى الاستنكار على ملامحهم:
طب فسرلهم علشان دول الحمد لله عارفين الفروض بالعافية أصلًا.
أضاف أيوب مُفسرًا ومردفًا لسابق قوله مستدلًا بحديثٍ قُدسيٍ عن رب العزة جل جلاله:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله:.
إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أعُودُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ وكيفَ أُطْعِمُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي، يا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أسْقِيكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أما إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي.
نظروا له بدهشةٍ أكبر من السابق فأضاف هو بتيسيرٍ لهم يوضح مقصد الحديث القدسي الذي قاله لهم:.
عيادة المريض حق من حقوق المسلم على أخيه المسلم والتي حث عليها النبي، وفي هذا الحديث يخبر النبي أن الله جل جلاله أراد أن يقول يوم القيامة: يا ابن آدم وظاهره أن النداء للمسلمين بما سيترتب عليهِ من أجرٍ، مَرضتُ فلم تعدني المقصود هنا مرض عبده، وعدم زيارة الصحيح لمريضٍ من عباده، إنما أضاف سبحانه وتعالى المرض إلى نفسه تشريفًا لذلك العبد.
فيسأل العبد ربه مُتعجبًا وحائرًا ومستفسرًا: يا رب كيف أعوك وأنتَ رب العالمين؟
فالمرض يكون للمخلزق العاجز وأنتَ القاهر القوي الملك فكيف لي أن أعودك؟ وكيف لي أن أزورك؟
فيقول سبحانه جل جلاله: أما علمت أن عبدي فُلانًا وظاهره أنه يُراد به كل مسلمٍ أصابه المرض، ثم يتضح هذا من قوله:
مَرُض فلم تعده، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده.
أي وجدت ثوابي وكرامتي في عيادته، لأن الله يستحيل عليه المرض، لأن المرض صفة نقصٍ والله سبحانه وتعالى منزه من كل نقصٍ وهذا مِن التَّلطُّفِ في الخِطابِ والعِتابِ، ومُقتضاهُ التَّعريفُ بعَظيمِ ثَوابِ تلك الأشياء.
نظروا له بذهولٍ بينما هو أبتسم لهم ثم أضاف من جديد مُفسرًا ومردفًا:.
يعني أنا جاي بصراحة أخد ثواب من إسماعيل ومجدد نوايا كتيرة أوي، ربنا يكرمنا جميعًا بكل خير ويكتب لنا الجزاء الحسن ويراضينا بكل خير.
تحدث نَعيم ردًا عليه ناهيك عن عينيه اللاتي نطقتا بكل فخرٍ بهذا الشاب:
ربنا يكرمك يا بني بكل خير، ربنا يعلم زيارتك دي جت في وقتها بصراحة، الراجل اللي كان قبلك دا حضر حرق دمنا، منه لله، بس وجودك والله نساني كل حاجة زعلتني.
سحب نفسًا عميقًا ثم أضاف مستفسرًا بأدبٍ دون أن يظهر متطفلًا عليهم أو على شؤونهم:
أنا آسف أني بسأل أو بستفسر، بس هو مين دا أصلًا، ولما هو اللي عمل كدا في إسماعيل واعترف محدش وقفله ليه وازاي يخرج من هنا سليم؟
رد عليه إيهاب بنبرةٍ جامدة بعدما اندفع في الحديث:.
أنتَ فاكرني مقدرش أجيب رقبته هنا تحت رجلي؟ ولا حتى أسيبه يخرج من غير ما أكسره 100 حتة؟ الفكرة أنه قبل ما بيتحرك بينشر رجالته في كل مكان معاهم سلاح يغرق الدنيا، يعني في أي لحظة متعرفش الطلقة جايالك منين، راجل دمه يهودي.
سأله أيوب بتعجبٍ من حديثه يستنكر قوله:
هو مين دا أصلًا؟ وبأي صفة هنا؟
جاوبه نَعيم بنبرةٍ حزينة يائسة:.
دا المفروض ظاهريًا أنه عالم آثار من أوروبا من أصول روسية، بس الباطن أنه تاجر آثار تقيل كان سبب في خروج نص آثار نزلة السمان من مصر، راجل معدوم كل حاجة عدلة وفيه كل العِبر، عاوز ياخد الباقي من نزلة السمان قبل ما المشروع الجديد يبدأ، وعاوزنا إحنا بربطة المعلم كدا نقف معاه، علشان إيه؟ علشان احنا محبوبين وسط الناس، عاوز يستغل النعمة اللي ربنا رزقنا بيها علشان يخسف بينا الأرض، وأنا حالف 100 يمين حاجة زي ما تحصل لو هترمي في الشارع أو لو هموت حتى، كفاية اللي راح مني بسببهم.
هتف جملته الأخيرة بوجعٍ ملحوظ وهو يبتلع الغصة المريرة في حلقهِ التي تشكلت عن طريق الماضي الذي لازال أثره محفورًا في عقله وثابتًا في قلبه، فلاحظه أيوب وأمعن النظر في وجهه أما الشباب فنظروا لبعضهم بعضًا وقال مُحي بنبرةٍ حزينة:
خلاص يا بابا ربنا يصبرك، وبعدين أنا معاك أهو اعتبرني أنا هو وإنك خلفت واحد بس مش اتنين، مبسوط كدا؟
ضحك نَعيم رغمًا عنه وكذلك البقية فيما نطق سراج بسخريةٍ يوجه حديثه إلى مُحي:.
قوم هات جهاز الضغط بتاعك اللي أبوك جابهولك أكشف عليه من الضغط اللي أنتَ جيبتهوله.
ضحكوا على حديثه وكذلك أيوب الذي نظر في ساعة يده ثم قال بأسفٍ وهو يتجهز للرحيل:
طب أنا مضطر استأذنكم بقى وألف سلامة عليك يا سُمعة إن شاء الله يعني أجيلك المرة الجاية على خير من غير أي إصابات، خلي بالك من نفسك.
سأله نَعيم بلهفةٍ من خبر رحيله:.
طب خليك معانا شوية بس، ناكل لقمة مع بعضنا وبعدها أتحرك الأكل جاهز أصلًا مش هياخد حاجة.
جاوبه أيوب بأسفٍ منه:
معلش والله يدوبك لازم أتحرك، والدي مستنيني علشان قولتله هناكل سوى مرة تانية إن أراد لنا المولى.
ضحك له نَعيم وقال بنبرةٍ مرحة:.
لأ خلاص طالما فيها الحج عبدالقادر العطار طول عمري اسمع عنه من مصطفى الله يرحمه وكنت أفضل أقوله طب خليه ينفعك وهو اللي عليه أنه أغلى من أهله، مقابلتوش بس قابلتك أنتَ وأظن الجواب باين من عنوانه أهو.
ابتسم أيوب بسمته الخَجلة حينما يُطريء أحدهم عليه وعلى أخلاقه وتربية والده له ثم ودع بقية الشباب وتجهز للرحيل ومعه يوسف أيضًا الذي تحرك معه عائدًا إلى الحارة بعدما اطمئن على رفيقه.
في منطقة الزمالك.
جلست رهف تفتح كافة أوراق العمل الخاصة بها ومعها والدتها أيضًا ثم تعود وتمسك هاتفها تبحث بداخله عما تُريد لكن بدون أي فائدة لم تصل لأي شيءٍ، كانت تشعر بالهشاشة والبكاء من داخلها وفي الخارج صدرت أقوى النُسخ منها، لم تعد تتحمل أكثر من هذا، كل البيانات المطلوب دراستها وكافة المعلومات والأرقام الحسابية البنكية، وكافة الأشياء الهامة وضعتها في هذا الملف لتقوم باستنباط النتيجة المنتظرة، ولم تتوقع أن في خضم عملها يختفي الملف بهذه الطريقة.
نزلت دموعها تزامنًا مع ارتفاع صوت هاتفها عاليًا برقم مادلين فأجابت هي بلهفةٍ ظنًا منها أن الأخرى وجدت مُرادها:
ألو، ها يا طنط لقيتيه؟ أو أي ورق ليه علاقة بيهم؟
نطقت الأخرى بأسفٍ تنفي حدوث شيءٍ هكذا:
للأسف لأ أنا بكلمك اسألك لو كنتي لقيتي أي ورق فيه معلومات عنهم بحيث إننا نقدر نعمل فايل جديد ونشتغل عليه مع بعض، قبل الأسبوع الجاي، مفيش قدامنا غير كدا.
ترقرق الدمع في عيني رهف وسحبت نفسًا عميقًا قبل أن تنفجر باكيةً ثم قالت بنبرةٍ مُختنقة:
ماشي، هكلمك تاني.
أغلقت الهاتف وهي تبكي ثم ألقته على الأريكة، لم تتخيل أن تعب الأيام السابقة أصبح هباءً منثورًا، صعدت إلى غرفتها بكتفين مُتهدلين من الهزيمة التي تلقتها والخذلان التي تسببت فيه ل يوسف الذي وثق بها، فلو كان حمزة معها هُنا لكان الأمر أصبح مختلفًا، لكن حتى من اعتادت عليه بمثابة جيشها لم يكن هو أيضًا.
جلست شهد باسترخاءٍ تامٍ على الأرجوحة في الحديقة تتصفح هاتفها فوجدت يوسف كتب عبر تويتر جملته الأخيرة الشبيه لشبيههِ يطمئن فزفرت بعمقٍ ولم تحتاج وقتًا طويلًا لكي تفهم مقصد الجملة فمن المؤكد أنها ل عهد، لذا حاولت أن تبحث عنها فخطر ببالها أن تتفحص قائمة المتابعين من جهته لتجدها حقًا بينهم.
حسابٌ يحمل اسمها باللغة الإنجليزية.
Ahd Mahfouz ضغطت اسم الحساب وبحثت بداخله ثم قامت بتكبير الصورة الخاصة بحسابها، فكانت صورة عهد وهي تحمل وعد وتحتضنها ودونت أسفلها كلمات تعبر عن العاطفة:
هذا كوني برغم من صغره إلا أنه أكثر الأماكن في العالم احتواءً لي، هي مني وأنا منها، هي نجمتي وأنا سماها.
ابتسمت شهد بسخريةٍ فوقع بصرها على يوسف يضع على كافة منشوراتها قلوبًا تعبيرية تدل على إعجابه بما تدون، هذا الذي لم يعر أحدهم أي إهتمامٍ يبدو أنه مولعًا بحسابها وصفحتها الشخصية بقدرٍ كبيرٍ.
أتت فاتن تجاورها وأتى سامي خلفها يجلسا معها، فانتبهت هي لهما وخاصةً ل سامي الذي سألها باهتمامٍ:
ها يا حبيبتي مبسوطة معانا هنا؟ أنا مش عاوزك تفضلي في الشقة هناك لوحدك من غير نادر علشان أفضل متطمن عليكِ.
ابتسمت له بمجاملةٍ وهي تقول برقةٍ كعادة طبعها معهم:
متقلقش يا أنكل أنا بخير، لو حسيت إني محتاجة أروح الشقة هروح وهاجي تاني، أكيد مش هتأخر.
هنا هتفت فاتن بنبرةٍ محتدة في الحديث:
لأ مش هينفع، طالما جوزك مش هنا يبقى تفضلي مكان ما إحنا موجودين تروحي لوحدك تعملي إيه هناك؟ أظن هو عارف إنك في البيت هنا معانا، يبقى تراعي المسئولية اللي عليكِ، أنتِ مبقيتيش صغيرة خلاص.
نظرت لها شهد بعينين مُتعجبتين وقد ثبتت حركة بؤبؤيها فيما نطق سامي بنبرةٍ جامدة يوقفها عن الحديث بهذه الطريقة:
فاتن! سيبيها على راحتها كدا ميصحش.
التفتت له ترد عليه بنبرةٍ جامدة وتوقفه من استرسال الحديث:
مالكش دعوة أنتَ! دا كلامي مع ابني مفهوم؟
تركها سامي وشأنها ثم ركز بصره مع رسائل التهديد التي لازالت تُرسل له ثم تحرك من محله يقرأ المكتوب في محوى الرسالة التي كُتِبَ بداخلها:.
طب لو أخو نَعيم مات فعلًا والناس قتلوه، أكيد قتلوا ابنه معاه، تفتكر بقى لما يعرف إنك السبب في قتل ابنه وأخوه، هيسيبك؟ فكر فيها كويس.
ازدرد لُعابه بخوفٍ وضاقت عليه الضلوع حتى أن رئتيه كدا أن تنفجرا من شدة الضيق، لم يكن الأمر سهلًا بل يبدو أن من يراسله يعلم القصة ككل بأبعادها ومن المؤكد أن أبوب الجحيم شارفت على فتح مصراعيها ليقع بداخل الفوهة ثم ينفجر بعدها كما البُركان الثائر.
جلس الشباب مع بعضهم في بيت الحُصري
تحديدًا في بهو البيت لكن حالتهم كانت إلى حدٍ ما أفضل من السابق، حيث جلسوا مع بعضهم يلعبون مع جودي التي أضافت إلى الأجواء مرحًا كبيرًا جعلتهم يخرجون من قوقعة شرودهم وتفكيرهم فيما هو قادم عليهم.
أستغل ميكي حالة المرح التي جلسوا فيها مع الصغيرة وخاصةً إيهاب الذي جلس على المقعد البلاستيكي واوقفها على قدميه وهو يرفعها تارةً و ينزلها تارةً أخرى وكأنها تتأرجح في الهواء وهي تضحك بسعادةٍ وهو أيضًا حتى وجدها تعانقه وهي تقول بحماسٍ كبير:
بحبك يا عمهم.
احتضنها إيهاب وهو يضحك على جملتها وكذلك البقية فيما لثم هو جبينها بحنوٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة على عكس عادته الجامدة:
و عمهم بيحبك أوي أوي.
أقترب منه في هذه اللحظة ميكي يجلس وسطهم ثم قال بلهفةٍ أظهرت نبرته متعجلة:
معلش يا عمهم عاوزك في كلمتين ضروري.
انتبه له إيهاب فعدل وضع الصغيرة على قدميه ثم قال موجزًا بنبرةٍ جامدة:
معاك، خير.
تحدث ميكي بنبرةٍ مترددة الوتيرة وكأنه يخشى التحدث لكنه نجح أخيرًا وهو يقول:
الست أم جنى جوة عند جماعتك، معلش تكلمهالي أنتَ علشان هي عاوزة ضامن ليها، وعاوزة حد يديها كلمة وأنا مش هلاقي أحسن منك يعني.
ابتسم إيهاب بسخريةٍ وهو يرد عليه:
عاوزني على أخر الزمن دا أروح أكلم الحريم؟ ملهمش راجل دول يعني؟ بعدين جواز إيه؟ عندك مكان ياض تتجوز فيه؟
رد عليه الأخر يجاوبه بلهفةٍ:
أيوة يا عمنا، أبويا خلص شقة عمي اللي في بيتنا وبدأت أوضبها، هي اوضيتن وصالتين، حلوة يعني أحسن من الإيجار، بس أمها بقى مش عاجبها، وأبوها مش معانا أصلًا، على فك خرجت أهيه يا عمهم روحلها أبوس إيدك دي حطاني في دماغها.
تنهد إيهاب بثقلٍ ثم التفت ينظر للمرأة بعد خروجها من بيته ثم ترك الصغيرة وتحرك من محله نحو السيدة التي بدا عليها الشقاء والبؤس معًا، امرأة في أوائل العقد الرابع من عمرها ترتدي عباءة سوداء متهالكة وغطاء رأسها القديم يُغطي خصلاتها، وملامحها تنطق بالعجز.
أوقفها بنبرةٍ جامدة حين هتف:
ست أم جنى! ممكن كلمتين؟
رفعت رأسها نحوه ورحبت بمقترحه وهي تقول بنبرةٍ مؤكدة:
طبعًا يا سي إيهاب اتفضل يا أخويا.
حمحم بشخونةٍ ثم نطق بنبرةٍ هادئة ثابتة:
أنا جاي بخصوص الواد ميكي دا واد طيب وغلبان وأنا أضمنه برقبتي، مالك بقى؟ وإيه اللي يرضيكي ويرضي أبو جَنى علشان نعمله؟
ابتسمت بسخريةٍ موجعة عند ذكره لاسم زوجها ثم هتفت بتهكمٍ:.
أبو جنى؟ بص يا أخويا أنتَ مش غريب عننا ولا تايه عن وضعنا، بس أديك شايف على حبة عينك أهو شقيانة من بيت لبيت وشغالة دلالة، ولو فيه واحدة عاوزة تمسح سلمها ولا تغسل سجادها ولا تروق بيتها أنا مبقولش لأ، أنا بعمل كل حاجة علشان عيالي، بس يا أخويا من حقي لما أجوز بنتي اتطمن إنها مش هتبقى زيي، مش عاوزة حظها يطلع زي حظي وفي الأخر تتشحطط من بيت لبيت علشان تقدر تقضي يومها.
لم يعلم لماذا آلمته بحديثها وأيقظت جروحه فلم يعي لنفسه سوى وهو يسألها بنبرةٍ غلظة قاسية:
وفين جوزك؟ مش المفروض أنه شغال على فردة توكتوك؟ فين شغله وفلوسه؟
ابتسمت بنفس السخرية ولمعت عيناها بعبراتٍ حارقة وهي تقول بنبرةٍ مُحشرجة:.
أهو لا منه ولا كفاية شره، عاوز بس ياكل وينام ويشرب الهِباب اللي بيطفحه دا ومحدش يسأله على حاجة، زي قِلته ولا داري بأي حاجة، وأنا يا أخويا معايا في رقبتي 4 عيال، عاوزني بقى أجوز وخلاص؟ طب أنا بقبل الذل والكلام من اللي يسوى واللي ميسواش، هي هتقبل؟ مش كل الناس زي الست مراتك يا أخويا.
انتبه لها فحرك رأسه مستفسرًا باستنكارٍ نطقته عيناه فأضافت هي بامتنانٍ للأخرى الغائبة عنهما لكن ذكرها الطيب حضر:.
سمارة الله يعزها ويراضيها ويفرحك بعوضك منها إن شاء الله، علطول يا أخويا تبعت للعيال حاجات حلوة ولو عندها هِدمتين كدا ولا كدا جُداد بتبعتهم للبنات، وساعات لو فصلت معايا تبعت اللي فاصلت بيه للعيال برضه، الله يسترها، غيرها بيقعد يتأمر عليا ويشوف نفسه، إنما هي والله ياريت الناس كلها زيها كدا، والأهم من كدا أنا هجيب فلوس الجهاز منين، دا أنا بجيب الحاجة من تاجر الجملة بطلوع الروح، هجيب جهاز العروسة إزاي؟
دق قلبه من جديد لأجلها هي، هذا الميت يحيا بمجرد ذكراها، من ظنها متاهةً لن توصله تفاجأ بها هي الطريق الوحيد الذي يعبره به إلى بوابة الأمان ليستقر أخيرًا، لم ينكر أن هناك شيء نضج من جديد مثل تفتح الزهور بمجرد الاستماع لحديث المرأة ثم قال بنبرةٍ هادئة:.
طب يا ست أم جَنى أنا عند كلامي مش هغيره، الواد مكرم طيب ميغركيش أنه اسمه ميكي بعدين لو على الشغل هو معانا هنا أهو وماسك تقريبًا نص الليلة هنا، عاوزك تطمني وأنا لو عليا هظبطه، إنما بقى موضوع الجهاز متشغليش بالك أنا موجود واللي تحتاجيه تعالي بس ميكي ميعرفش حاجة ولا أبوها، أما ابوها نفسه فسيبيهولي أنا، لو مظبطهوش بحق مبقاش عمهم.
ابتهجت ملامحها ونزلت دموعها وهي تقول بنبرةٍ باكية:.
روح ربنا يجبر بخاطرك ويراضيك يا رب وتفرح بعيالك، إلهي ما تقع في ضيقة ويفتحلك السِكك المقفلة يا رب.
ابتسم لها ونظر في أثرها وهي ترحل من المكان ثم توجه ببصره إلى بيته وخاصةً نحو زجاج شرفة شقته فوجد المصباح مُضاءًا من خلف الزجاج البُني، فابتسم حينما تذكر حديث المرأة عنها وتحرك نحو الأعلى بخطواتٍ هادئة فوصله صوتها في المطبخ تقريبًا تقوم بإعداد وجبة الغداء، دلف يتكئ بكتفه على حواف باب المطبخ ثم ضم ذراعيه معًا يتابعها وهي تتحرك داخل المطبخ بانسيابية وما إن استقرت عند الطاولة الرخامية حينها وقف خلفها يهمس في أذنه بقوله صاحب النبرة الرخيمة:.
بتعمل إيه يا عمنا؟
التفتت له برأسها وقد تلاقت نظراتهما سويًا فأضافت هي بنبرةٍ مُتعجبة من هدوئه وطريقته:
بعمل الغدا، خير فيه حاجة؟
حرك رأسه موافقًا ثم اقترب منها يُلثم وجنتها بنفس الهدوء حتى اتسع بؤبؤاها من فرط دهشتها فوجدته هو يقول بنبرةٍ هادئة تماثل سابقتها:
جاي أقولك إن أمي الله يرحمها شكلها الحبة اللي عاشتهم كانت متوصية وهي بتدعيلي علشان تطلعي أنتِ من نصيبي.
التفتت له بكامل جسدها فأحكم هو الحصار عليها حينما مد كلا ذراعيه يسد عليها الطُرق من الهرب فوجدها تسأله بتعجبٍ من حالته:
عمهم! إيه يا أخويا أنتَ كويس؟
ابتسم لها وحرك رأسه مومئًا يؤكد سؤالها فهمت أن ترد عليه لكن صوت تَحية حينما دلفت أوقفها هي بينما هو التفت برأسه فوجد تَحية تقول بإحراجٍ منه:
يوه! بتعمل هنا إيه يا إيهاب؟
سألها هو بنبرةٍ جامدة بعدما أفزعه صوتها:
أنتِ اللي بتعملي إيه هنا؟ دا مطبخي.
ضحكت سمارة وهي ترد عليه تجاوبه بقولها:
ماهو أنا نسيت أقولك إنها كانت في الحمام.
ترك هو زوجته ثم سحب ثمرة الموز الموضوعة على الطاولة وهو يقول بتهكمٍ لهما:
لأ إزاي دي قلة رباية مني أني جيت هنا، مشوفش واحدة فيكم بقى تطلب تفرح بعيالي.
خرج من المطبخ بل من الشقة بأكملها بعد حديثه الحانق بينما سمارة ضحكت عليه بنبرةٍ عالية جعلته يرجع من جديد وهو يقول محذرًا لها بقوله:.
وقفي ضحكتك يا حلوة بدل ما أجي أبوسك قدامها.
ضربت تحية كفيها ببعضهما وهي تضحك عليه وكذلك سمارة التي ابتسمت بحبٍ ثم رفعت أناملها تتلمس وجنته تحديدًا موضع قبلته لها.
نسمات الهواء الباردة مع رائحة الورد وورقات النعناع الخضراء والضوء الخافت فوق السطح كل هذه الأشياء راقبتها عهد بنظراتها وهي تجلس فوق سطح البيت فوجدت نفسها تحن إلى والدها وبيت والدها والذكريات التي تركها لها والدها، فرفعت صوتها تُدندن كما عادتها:
لينالينا، ليالينا
وتاهت بينا ليالينا،
ليالينا ليالينا
وتاهت بينا ليالينا،
وتاهت بينا تاهت ليالينا ليالينا
وقولنا نرسى نرسى على مينا، مشينا.
وأدينا من غير أهالينا
مشينا وأدينا من غير أهالينا ولا حد بيسأل فينا.
توقفت تأخذ نفسًا تدخله إلى رئتيها ثم استأنفت الغناء من جديد بعدما ظهر البكاء في صوتها:
وأتاري الدنيا غدارة، غدارة
بتغدر كل يوم بينا، غدارة
وأتاري الدنيا غدارة، غدارة
بتغدر كل يوم بينا،
والله وجيتي علينا يا دنيا
جيتي علينا وجيتي كتير على ناس قبلينا.
هنا وصل يوسف إلى سطح البيت بعد عودته من منطقة نزلة السمان لكنه لم يرد إفساد هذه اللحظة عليها خاصةً وهي تغني كلمات إحدى أغنياته المُفضلة وكأنها تتفنن في اختيار الكلمات التي تعبر عن وجعه، وقد تسمر في محله حينما تحركت هي من مكانها نحو اللوح الخشبي المُعلق وسحبت مقعدًا خشبيًا تجلس عليه وهي تستأنف الغناء من جديد:
جيتي علينا وجُم وياكِ بعدما جابوا الحق علينا
عيني علينا يا دنيا يا عيني علينا.
بيعي يا دنيا واشتري فينا
جيتي علينا وجُم وياكِ بعدما جابوا الحق علينا.
هنا بكت وهي تتذكر قسوة عائلتها وعنفوانهم معها هي وأسرتها في أكثر الأوقات التي كانت تحتاجهم حصنًا لها، ولم يختلف عنها هذا الغريب بل كان يشعر بما تشعر هي به ويعلم كيف يكون مذاق القسوة حينما تخرج من كؤوس الأقارب، وازداد شعوره حزنًا حينما قالت هي بنبرةٍ تبدو شاكية أكثر من كونها تغني:
آه يا قلوب مفيهاش حنية
آه يا دموع جرحتي عنيا،.
آه يا قلوب مفيهاش حنية
آه يا دموع جرحتي عنيا
توهتينا وجرحتينا وضيعتينا
مشينا وأدينا من غير أهالينا ولا حد بيسأل فينا
مشينا وأدينا من غير أهالينا ولا حد بيسأل فينا
وأتاري الدنيا غدارة، غدارة
بتغدر كل يوم بينا، غدارة.
أوقفت الغناء ثم زفرت بعمقٍ فوصلها صوت تصفيقات عالية جعلتها تلتف للخلف فوجدته يقول بسخريةٍ هروبًا من الألم الذي حيا من جديد بداخله:.
هايل يا فنانة هايل، المرة الجاية نيجي بقطر ونقطع شرايينا علشان نبقى خلصنا خالص.
ضحكت رغمًا عنها من سخريته فسحب هو المقعد الثاني ثم جلس بجوارها وهو يقول بمعاتبةٍ طفيفة:
إيه يا عهد؟ إيه يا عسولة؟ فيه أغاني كتير تانية معبرة وحزينة بس أنتِ مصممة تجرحينا كلنا كدا.
زفرت بقوةٍ ثم أمسكت القلم تكتب على اللوح جملة خطرت ببالها حالًا وهي تتذكر أحلامها ودراستها السابقة كل شيءٍ حلمت به وأضطرت آسفةً أن تتركه لكي تتناسب مع واقعها:
كان نفسي أنور زي الشمس بعد الغيوم
بس الحياة والناس أكدولي أني موهوم.
سحبت نفسًا عميقًا من جديد ولمعت عيناها بعبراتٍ موجعة فلاحظها يوسف حينها نظر للجملة المكتوبة على اللوح ونظر في وجهها فوجدها تهرب من النظر إليه وكأنها تتحاشى التقاء عينيها بعينيه، فسحب هو منها القلم ثم كتب أسفل جملتها بتناسقٍ لا يليق بسواهما سويًا وسحبان من جعل التناغم جليًا بينهما بهذه الطريقة التي اتضحت حين كتب:
اقنعوني أني فاشل وكُلي هموم
بس أنا بليل ببقى شاطر واطلع السما ألمس النجوم.
أشار لها بعدما كتب هذه الجُملة فاستقرت بعينيها على ما خطته أنامله هو، أما يوسف فترك مقعده ثم وقف خلفها بعدها جلس على عاقبيه وهتف بنبرةٍ هادئة يرفع من روحها المعنوية:.
كدا أحلى على فكرة، ومتسمعيش كلامهم هما مش مُهمين، محدش فيهم عاش حاجة مكان حد تاني، كلهم ناس ضعيفة علشان بيقولوا الكلام بلسان حال غيرهم، والشاطر اللي ميسمعلهمش ويفوتلهم، ولو الدنيا دي بتمشي برأي الناس كان زمان فلسطين اتحررت من اليوم اللي الكل قال رأيه إنها مُحتلة، أنتِ شاطرة أوي وجدعة أوي إنك مكملة كل دا لوحدك.
كان يخبرها بالحديث الذي يحتاج هو سماعه، يخبرها بما كان يتوجب على الآخرين أن يخبرونه به، يخبرها باكثر الكلمات التي يتتوق المرء لسماعها حتى ترتفع بسمو قدراته، أما هي فوقعت هُنا آسيرة عند هذه اللحظة خاصةً حينما تحرك هو يجلس مقابلًا لها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
الدنيا مبتديش اللي بيقف يشتكي، بس بتقدر اللي بيحاول، وأنتِ بتحاولي حتى لو لوحدك ومحدش شايف دا، توعديني إنك تفضلي تحاولي؟ حتى لو لوحدك من غيري؟
حركت رأسها موافقةً بعينين دامعتين دون أن تدرك على ماذا حركت رأسها فيما ابتسم هو لها ثم أمسك وجنتيها وهو يقول بنبرةٍ مرحة:
حبيب عيوني.
ضحكت من جديد له وضحك هو أيضًا ثم عاد لموضعه بجوارها فسحبت هي نفسًا عميقًا ثم قال بامتنانٍ التقطه هو وفهم أنها تقصد به كل شيءٍ فعله لأجلها حتى الآن:
شكرًا يا يوسف.
ابتسم لها ثم حرك كتفيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
لا شكر على واجب دا واجبي يا عسولة.
خجلت هي من هذا اللقب ثم نظرت على اللوح الخشبي المُعلق ليقع بصرها على جملته هو ورددت هي بنبرةٍ خافتة:
بطلع السما وألمس النجوم.
استمع يوسف لجملتها ونظر لها واستقر ببصره عليها، أراد أن يخبرها أنه يقصد نفسه بهذه الجملة وأن السماء هنا يقصد بها هذا السطح وهي! هي ربما تكون النجوم المقصودة في جملته، كل شيءٍ هنا وارد، وكل شيءٍ بجوارها آمن، حتى رأسه هادئة من ضجيجها المُزعج، كل شيءٍ وكافة شيءٍ وكأن خير ما حدث في يومه أنه أتى مع موجات الرياح إلى هُنا، فيبدو أن الرياح تشتهي طُرق السفن.
علمت قمر أن شقيقها وزجها آتيا مع بعضهما من مشوارهما فأخرجت هاتفها تطلب رقم أيوب الذي كان يتجه إلى محل عمله، وما إن هاتفته جاوب على المكالمة بنبرةٍ مرحة وهو يقول:
أهلًا يا كُل ناس الأسطى، عامل إيه يا قمر؟
ضحكت من طريقته بصوتٍ عالٍ ثم أوقفته عن هذه الطريقة بقولها:
لو سمحت أنا بكلمك وأنا متضايقة متضحكنيش وتضعف موقفي، جاي رايق أهو يعني، كنت بتخوني يا أيوب؟
رد عليها بسخريةٍ وهو يجلس أمام محله على المقعد الخشبي:
أخونك! طب اتجوزك الأول علشان يبقى عندي مبرر للخيانة، إنما من الباب للطق كدا علطول؟ مالك بس.
سحبت نفسًا عميقًا ثم قالت بيأسٍ حينما عاد الحزن لها من جديد:.
دلوقتي أنا شوفت الحاجات اللي المفروض المسلم يعملها في يومه، يعني الصلاة وورد القرآن والأذكار والقيام والدعاء والنية وسورة البقرة كل يوم، أنا معملتش حاجة من دي قبل كدا خالص، واللي ضاع من عمري كان كتير، ثانيًا بقى لما أعمل كل دا هيكون صعب، طب بلاش ربنا هيقبل مني ويسامحني على اللي فات؟
كانت تسأله بترددٍ وكأنها تخشى جوابه لربما يكون مُحبطًا لها، لكنه فهم ما تشعر هي به، فسحب نفسًا عميقًا ثم قال بنبرةٍ هادئة رخيمة:.
بصي يا قمر الحياة دي بتمشي فيها درجات، محدش بياخد الطريق كله نط مرة واحدة، يعني أنا مش هصحى الصبح أكون ملتزم وحافظ القرآن والأحاديث والأذكار وبصلي السُنن والفروض كمان، كل حاجة بتيجي واحدة واحدة، يعني نبدأ ننتظم في الصلاة ومنأخرش الفروض بعدها الورد اليومي بعدها السُنن، قليلٌ دائم خيرًا من كثيرٍ منقطع، يعني لو أنا بعمل حاجة قليلة باستمرار ومواظب عليها أفضل من الكتير اللي بعمله كل فترة.
أخرجت هي أنفاسها المحبوسة داخل رئتيها بعدما طمئنها بحديثه، فيما قال هو من جديد مُكملًا على حديثه السابق:
تاني حاجة بقى لو الإنسان عزم النية للتقرب من الله سبحانه وتعالى يبقى كل الطُرق هتتهيأله، ازاي؟
إِذَا عَزمَ العَبدُ على تركِ الآثامِ أتَتْهُ الفُتُوح.
سَلمَة بُن دِينَار قال كدا في توضيح منه إن لو الإنسان قرر وعزم النية من داخله على ترك المعاصي والآثام، هيلاقي إن الطرق كله ظهرت وكذلك الأبواب التي يظنها مغلقة هتتفتح له، علشان كدا واجب على المسلم يقوي عزيمة نفسه قدام شيطانه.
امتنت هي لحديثهِ وأرادت أن تخبره بصراحةٍ عما يجول ويثور بخاطرها:.
بصراحة! أنا بقيت بخاف في مرة تحس إن مش أنا اللي كنت عاوزها أو أني مقارنةً بيك بعيدة عن طريقك، بس بتطمن إنك معايا، مش هتسسيني صح؟ أكيد يعني هتاخدني لطريقك أنتَ، رغم إنك خلصته وأنا لسه في بدايته والفكرة تقلق، بس كفاية إحساس إنك صاحب كل جواب لأي سؤال عندي.
أبتسم هو عند جهته ثم قال بنبرةٍ رخيمة يؤكد لها صدق ما تفوهت هي به:.
بصي أنا ممكن أكون بالنسبة ليكِ شيخ أو حتى راجل بيفهم في الدين و بيجاوبك على كل الأسئلة، بس أنا زيي زيك، لسه في أول الطريق وبخطي واحدة واحدة، طريقي مخلصش زي ما أنتِ فاكرة، بالعكس دا بيبدأ لسه، لسه أهم مرحلة في حياتي، وهي إننا نوصل للجنة مع بعض، وإني أكون صاحب بيت مسلم، يعني التحدي الأكبر ظهر دلوقتي وأنا عليا أكون قد التحدي دا وأثبت أني راجل مقتدي بسيدنا محمد.
تنهدت قمر بسعادةٍ ولم تنكر أنه طمئنها وأراح ذهنها من التفكير وأنه دومًا يؤكد لها أنها تستحقه على الرغم أن قلبها وعقلها يتفقان على عكس هذا لكنه خُلق لأجلها وخلقت هي منه وجمعت طرقاتهما سويًا الرياح.
كانت مهرائيل تقف خلف الستائر الموضوعة على مقدمة الرواق من جهة الداخل تستمع لهذه الجلسة التي انتظرتها ببالغ صبرها، كانت ترتدي فستانًا باللون الأسود ذي أكمام منتصفة الطول تصل لمرفقيها وقامت بفرد خصلاتها الشقراء لتكون لوحة رقيقة هي مبدعتها وهي اللوحة بذاتها في أنٍ واحدٍ.
في الخارج جلس بيشوي وجاوره تَيام فنطق الأول شارحًا للموقفِ بقوله بنبرةٍ هادئة:.
أنا جيبت تَيام معايا علشان عيب أدخل لوحدي، والمرة الجاية هييجي معايا أخواتي كلهم وأمي وكبيري الحج عبدالقادر.
رد عليه ملاك مُستحسنًا فعله بقوله:
فيك الخير والواجب عمره ما يفوتك، على البركة.
تحدث جابر بثقةٍ وكأنه لم يرضخ للهزيمة بهذه السهولة:
طب ندخل في الموضوع علطول، أنتَ جاي تطلب أيد بنتي، وأنا موافق بصراحة.
ظهر التعجب على ملامح الجميع حتى مهرائيل التي نظرت ل مارينا بحيرةٍ فحركت الأخرى كتفيها، لكن التعجب تلاشى فورًا حينما قال جابر بإصرارٍ وكأنه يتحدى بيشوي بهذه الطريقة أو لربما يقصد معاندته:
ليا شرط وهو إنك تسحب كل شغلك اللي تحت إيد عبدالقادر وكل حاجة ليها علاقة بيهم تبقى باسم بنتي، وتشاركني، واعتبره زي ما أخواتنا المسلمين بيقولوا كدا مهرها.
حلت الصدمة عليهم جميعًا وخاصةً ملاك الذي تسبب ابنة شقيقته في إحراجه وكذلك تَيام الذي رمقه بسخطٍ على عكس بيشوي الذي أنصدم وكأن المسافات التي ظنها تتلاشى، تزداد عليه.