رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل التاسع والخمسون
حرك ماكسيم رأسه نفيًا بطريقةٍ درامية تمثيلية بوضوحٍ ثم هتف يسأله بسخريةٍ: لولا إني عارف إن نادر ابنك كان زماني قولت إن هو، بس الغريب بقى الواد راح فين رغم إني عارف إن عيلة أصحاب البيت راحوا ملقوش الواد هناك، فقولي كدا بصراحة الواد فين يا سامي.
فهم سامي أنهم يعلمون كل شيءٍ عن ماضيه لذا قرر أن يتعامل بنفس الطريقة التي كللتها الصراحة حين هتف بنبرةٍ هادئة نجحت في توتر الأخر وهو يستفسر منه بقولهِ: لو على الواد يا سيدي اعتبره في الحفظ والصون، بس متنساش إنهم كانوا اتنين مش واحد، يعني ابن نَعيم وابن شَوقي أخو نَعيم، فأنتَ قولي فين ابن شَوقي وأنا هقولك فين ابن نَعيم؟ إيه رأيك يا صاحبي؟
العديد والعديد لم يُكشف بعد، والأبواب حتى الآن لم تُفتح على مصراعيها، هي فقط تواربت ليظهر من خلفها فقط إطار الصورة التي لم تظهر بأكملها، لذا نحن فقط في الانتظار لحين تُفتح الأبواب على مصرعيها أو ينفجر الجحيم في وجوهنا، أو لربما يكون انفجر الجحيم في وجه صاحب الجنسية الإنجليزية وهو يستمع لهذه الكلمات وقد ظهرت الدماء في وجهه بعدما تدفقت إليهِ، وجهه الأبيض أصبح خليطًا من الألوانِ فيما ابتسم سامي بتهكنٍ وهتف بأسلوبٍ تمثيلي يماثل طريقة الأخر: إيه؟ اتصدمت ولا اتكهربت؟ فاكرني معرفش حاجة؟ قريبك الله يجحمه مطرح ما راح قالي على كل حاجة، كانت دماغه خفيفة أوي يدوبك كل لقمة حلوة وحبس بازازتين استيلا مصري قالي كل حاجة، راح فين بقى ابن شوقي اللي هو أصلًا مكانش يعرف عنه حاجة؟
لم يُصدق ماكسيم أن يكون هناك من هو الأقوى في شخصهِ منه هو ذات نفسه، لم يتصور أن يكون سامي على هذا القدر من الألاعيب الرخيصة، لذا قرر أن يستعيد صدارة القوة حين هتف: طب وأنتَ يلزمك ابن شوقي في إيه؟
قلب سامي شفتيه بسخريةٍ وهتف ردًا عليهِ: يمكن علشان لما نَعيم ييجي يسألني على ابنه وياخد حقه مني بعدما خليت أخوه يخطفه من حضن أمه، ساعتها أقوله اللي وزك عليا أنا، خاطف ابن أخوك، وأكيد هيستخدم ابن أخوك ضدك، ويخليه لعبة في أيده يقدر يكسرك بيها، أو يمكن علشان أنا اللي دليت صحاب البيت على مكان شوقي لما دبحوه؟
ازدادت دهشة ماكسيم من حديث الأخر الذي أتضح عليه ثباتٌ يقتل أي خيالات قد تسول للأخرين باستغلاله، وسأله مستنكرًا بغرابةٍ كُبرى لم يتوقعها هو: أنتَ! أنتَ اللي بلغت عن صاحبك؟
هز رأسهِ مومئًا ثم أضاف مُفسرًا سبب فعلهِ بقولهِ: آه أنا، علشان كان غبي وهيضيع كل حاجة مننا، عاوز يرجع لأخوه ويحكيله كل حاجة ويتأسفله، قال إيه صعب عليه الواد، علشان كدا روحت عرفت أخوات صاحب البيت طريقه وفهمتهم أنهم لقوا الآثار بجد، ساعتها بقى دبحوه، وقبلها كنت هربت مراته بالواد ابن أخوه اللي زمانه مات من العياط والجوع، أو هي رمته في أي حتة.
كان ماكسيم في أوج لحظات سعادته وهو يرى استرسال الأخر في الحديثِ معه، لذا أقترب منه يسأله بثباتٍ: طب سيبك من كل دا، أنتَ متعرفش الواد فين؟
حرك رأسه نفيًا بأسفٍ وبملامح مصطنعة ثم سأله بنفس الطريقة: سيبك أنتَ من كل دا، الواد ابن شوقي فين؟ وإزاي وصلكم؟ وياترى بقى حد عارف إنكم خدتوه ولا لأ؟
رد عليه يجاوبه بنفس الطريقة الفاترة: الله يرحمه زمانه مع ابن عمه بيلعبوا مع بعض في الجنة، أبوه طلع ندل ومرضاش يتحمل مسئولية أمه بعدما اتجوزها في السر، طبعًا دي غير البت اللي أنتَ هربتها، شوقي اتجوز بنت جارهم في السر ولما حملت مرضاش يعترف بالواد وساعتها قالها أنه ملهوش دعوة وهي فهمته إنها سقطت وخدت منه فلوس وساعتها طلقها وهي جاتلنا، بما إننا كنا كباره وبيسمع كلامنا وخافت تروح لأخوه يفضحها، وواحد من رجالتنا اتجوزها قصاد الفلوس، للأسف ماتت وهي بتولد هو ربى الواد شوية حلوين بعدها رماه.
تصنع سامي المآساة في نظراتهِ وقال بنفس الدراما المصطنعة في أسلوب تحدثه:
ياعيني، الناس بقت وحشة خالص يا ماكسيم يا أخويا، يلا في كشحة، خلينا في المهم، عاوزني في إيه، إحنا مش جايين هنا نفتح حضانة ونفتكر مين ابن مين ومين راح فين، والله لولا الملامة كنت اديتكم يوسف تشغلوه معاكم، قلبه ميت وبيجيب من الأخر.
أبتسم الأخر وقال مؤكدًا على ما تفوه به الأخر:.
هييجي، يوسف وحبايبه واللي يخصوه هييجوا كلهم، بس كله بالهدوء، أنا لو جيبت رجالتي هنا هيتشك فيا، فلازم أكون طبيعي ومكون معاهم صداقات تخلي العيون بعيد عني، وعاوزك معايا، نرجع مع بعض تاني ندور على الآثار قبل ما الحكومة تلاقيها، وقصاد كل دا، هندور على متحف الوادي تحت الأرض، وساعتها التاريخ هيمجد اسامينا لما نعمل اللي أهل مصر فشلوا فيه.
رفع سامي حاجبيه مستنكرًا جملته وقال بنبرةٍ جامدة يوقفه عند حدهِ:.
لأ عندك أهل مصر مين اللي فشلوا دول؟ هما بس مش مقدرين قيمة اللي عندهم، وميقدروش يسكتوا عن حقهم، يعني لو طلعوا عليك وعرفوا إن أنتَ اللي بتسرق تاريخهم وتبيع عيالهم وتتاجر فيهم، هياكلوك بسنانهم أكل.
علي بُعد خطواتٍ منهما وقف مُنذر يتابعهما بعدما راقب خطوات ماكسيم وابتسم بسخريةٍ عند استماعه لحديثهما من خلال الجهاز الذي وضعه في سيارة ماكسيم يرسل له الحديث بينهما، لم يتعجب مما سمعه، لقد كان على علمٍ مُسبقٍ بكل هذا، لكن أن يستمع بنفسهِ هذه نُقطة أخرى فيصلية وقد ابتسم باتساعٍ أكثر وهو يقوم بتسجيل هذه اللحظة، والقادم معهم كثيرًا.
أنا وجناحاي نُحلق في السماء،
أنا قلبي كِدنا أن ننسى العناء، أنا وقلبي نُغني معًا والطير دومًا يميل للغناءِ.
كان هذا قول عهد التي قضت اليوم كاملًا بصحبتهِ، اليوم ترى منه الجانب اللطيف الذي دومًا تشعر هي بهِ عند حاجتها إليه، اليوم أظهر لها الطفل الصغير الذي يحتضنه بداخلهِ وأخرج منها الطفلة الصغيرة التي كادت أن تنساها هي، دارت معه المكان وتجولته ليكتشف منهما الجانب المتوارى الذي يخفيه عنه الأخر، وقد اكتشفت هي حبه للألعاب الإلكترونية وهوسه بها، واكتشف هو حبها للأكواب صاحبة الرسومات الكرتونية، حتى سألها مستنكرًا بسخريةٍ:.
مجات! بتحبي المجات يا عهد؟
طالعته بحنقٍ أرسلتها له نظراتها وهي تسخر منه بقولها:
مش أحسن ما أكون بتاعة ألعاب الفيديو وأقف زي العيل الصغير علشان أكسب؟ محدش أحسن من حد، بعدين أنا مش هشتري هما غاليين أصلًا، أنا بتفرج بس علشان بحب شكلهم أوي.
أبتسم هو بعينيه ثم أمسك كفها ودلف المعرض الخاص بالصناعات اليدوية، كان المكان من الداخل عبارة عن مصنوعات يدوية، حقائب وكتب مراسلات، ورود بُنية، وأفرع زهور صغيرة، إضاءات متنوعة خاصة بالتزيين، كل المكان كان عبارة هدايا ومعروضات، وقفت هي تراقب المكان بعينيها حتى اقترب الشاب الذي يعمل بالمكان وما إن تعرف عليه رحب به بحفاوةٍ شديدة وهو يقول بنبرةٍ عالية:.
أقسم بالله ما كنت مصدق إن دا أنتَ، وحشتني يا يوسف من ساعة ما فتحت المكان وأنتَ غايب ومش بتيجي، دا أنا فتحت واحد تاني أهو.
ربت على كتفهِ وقال بآسفٍ له بعدما ابتعد عن عناقه:
أنا آسف والله، بس الظروف حكمت بكدا عليا، المهم أنا جيت من تاني وهتلاقيني عندك هنا كتير أوي أوي لغاية ما تزهق مني، المهم أنا عاوز حاجات كتير لكذا حد بأعمار مختلفة، بس مش أنا اللي هختار، مراتي هي اللي هتختار.
قام الشاب بإعطاء التوصية عليه ثم ترك لهما حرية الإختيار حتى سألته هي بتعجبٍ وبنبرةٍ خافتة أقرب للهمسِ:
شكلك مشهور هنا، كلهم بيحبوك.
ارتسمت السخرية على ملامحه وجاوبها بنبرةٍ بها ضحكة مكتومة يخفي خلفها ضحكاته الساخرة:
فيه مكان ممكن أخدك عليه وهناك لو لقيتي نملة بتحبني أنا هديكِ فلوس، أنا باخدك المكان اللي أنا بحب نفسي فيه، لو عاوزك تكرهيني هاخدك أنا المكان اللي تكرهيني فيه.
أخفت عينيها عنهِ ثم استعادت ثباتها من جديد وقالت تراوغ هذه المرة بقولها:
بس أنا مش عاوزة أكرهك، خليني كدا متقبلاك، ويلا قبل ما الوقت يتأخر أكتر من كدا لو سمحت، عندي شغل بكرة وشخصيتي دي قربت تخلص.
رفع حاجبيه لها ثم سخر منها بقولهِ وهو يقلد طريقتها:
عندي شغل بكرة! يا خبر الساعة عدت 12 أنا لازم أروح، خارج مع السندريلا أنا! لسه بدري.
قلدت طريقته في التحدث حتى أضافت بضجرٍ تستفسر منه:.
وهي السندريلا أحسن مني يعني؟
حرك رأسه نفيًا ثم أضاف بنبرةٍ ضاحكة ردًا عليها:
لأ هي السندريلا كانت عسولة كدا برضه؟
ضحكت رغمًا عنها فيما وقعت عيناه على أحد الأكواب التي سرقت نظره لذا أشار بعينيه نحوها حتى حركت رأسها هي الأخرى ليقع بصرها على أحد الأكواب يعتلي طرفه زهرة باللون الوردي وحُفِر عليه من الخارج كلمة مُذهلة بنفس لون الزهرة، ابتسم لها ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
دي علامة خدي بالك، ناقص بس اشتريه.
بعد مرور الكثير من الوقت خرج معها من المكان بعدما جلب لها الكوب الذي يُشبهها، وكذلك انتقى لشقيقتها وعد لعبة كبيرة الحجم، وأيضًا لشقيقته حقيبة هدايا و ل ضُحى أيضًا، ثم خرج بصحبتها من المكان يحمل الحقائب ثم قال بنبرةٍ هادئة:
فيه أخر مكان هنروحه سوى، ولا السندريلا حضرت؟
طالعته بسهامٍ حادة تحذره من سخريته عليها فيما قام هو بفتح باب السيارة ثم وضع بها الهدايا وفتح لها الباب المجاور له وهي تقول بغير تصديق:
كمان! بتفتحلي الباب؟
حدثها بطريقته المعتادة التي تخلو من المجاملات:
مرة من نفسك، موعدكيش تتكرر تاني.
لا تعلم كيف صمتت وكيف تغاضت عن ردها عليه وكيف سكتت له حتى جاورها هو ثم قام بربط حزام الأمان لها واعتدل في جلستهِ، تعجبت كثيرًا منه ومن تصرفاته المتناقضة لكنها لم تغفل عن سعادته منذ أن أخبرته باكمالها الطريق معه، لقد تبدل كُليًا، أصبح أكثر مرحًا وأكثر بساطة وكأنها رفعت الحجاب عن الطفل الذي يخفيه بداخلهِ، شردت به وبهدوئه الذي تناقض تمامًا مع الطفل الذي كان معها بالداخل، يبدو أنها فعلت الصواب حينما اختارت طريقه للتكملة ويبدو أنها أجادت الخيار هذه المرة.
أما هو فانتظر القادم على أحر من الجمرِ المُشتعل الذي يحاوطه، يريد مسابقة الزمن إلى هُناك حتى ينتهي من كل مخاوفه، أراد أن يظهر ما يُسره في قلبهِ، أراد أن تكون هذه الليلة هي الأفضل في حياته، لقد اعتاد دومًا على الصراحةِ في كل علاقاته والآن هو أمام العلاقة الأهم في حياتهِ لذا أخذها إلى المكانِ الذي توجب عليه أن يأخذها إليه.
بعد مرور ساعة تقريبًا من القيادة وتعد هذه المسافة هي الأكبر في تحركهما اليوم، حينها أوقف السيارة في مكانهِ المُفضل، أوقفها عند الجنة التي هرب فيها من نار الدنيا، أول مكانٍ يأويه بعد خروجه من المصحة العقلية وأول مكانٍ وجد نفسه فيه مع ذكريات عائلته وأول مكانٍ علم بحبه لها وقد يكون أول مكانٍ يُكلل القادم لأجلها وما فعله لأجلها.
تعجبت هي من الفراغ الذي وقعا فيه ومن المكان الذي أخذها إليه ولم تنكر أن أجراس الخوف دقت على أبواب عقلها لتحذرها من شيءٍ تجهله هي، وجدته ينزل من السيارة وقد خشيت أن تكون بدونهِ هذه اللحظات لذا فتحت باب السيارة ونزلت منها بسرعةٍ كُبرى حتى طمئنها هو بقولهِ:
أنا هنا، متخافيش يا عهد أنتِ معايا.
حركت رأسها تطالع المكان بعينيها التائهتين أو لربما تراقبه وتتفحصه حتى وجدته يقبض على كفها ثم تحرك بها نحو الباب الخشبي القديم الذي يُشبه البيوت القديمة التي لازالت عتيقة الطراز المصري، وقد وضع فوقه الإضاءة التزيينية، وقد كرر كلمته عليها حتى يُطمئنها بقولهِ:
متخافيش، والله ما فيه حاجة ممكن تأذيكِ.
ردت عليه هي بصوتٍ مهتزٍ تُنفي ظنونه تجاه خوفها:
م. مش خايفة. أنا بس مستغربة.
هز رأسه مومئًا ثم فتح الباب وأشار لها أن تتقدمه، وما إن طالت استجابتها لحركته حينها دلف هو أولًا وهو يَجُرها خلفه حتى تأمن للمكانِ كما آمنت له، هنا! وقعت في زمانٍ أخر حرفيًا المكان هنا عبارة عن عالمٍ يوازي العالم الخارجي الذي يعيش فيه سائر البشر، الأثاث تم صنعه من الزجاجات البلاستيكية، ومكتبة الكتب قام بصنعها بالكتب القديمة وزينها بأوراق الزرع، الإضاءات صنعها بالمصابيح القديمة التي زينها وأضاف عليها جُملًا كثيرة، كل التُحف الفنية القديمة وضعها هنا، التلفاز القديم الذي يُشبه ذاك الموجود في المتاحف، الجرامافون الخاص بتشغيل الموسيقى قديمًا، صور الخيل والزهور وكل شيءٍ تُركَ من قبيل الذِكرى قام هو بالاحتفاظ به هُنا.
راقبت كل ذلك بعينيها المذهولتين حتى أقترب منها يقف خلفها وقال بنبرةٍ هادئة رخيمة:
بما إنك هتكملي معايا الطريق يبقى لازم تعرفي حاجات مهمة عني، المكان دا أول مكان أحبه في حياتي، محدش يعرف عنه حاجة غير الحج نَعيم والشباب بس، أنتِ أول واحدة بعدهم، كل حاجة هنا بتاعتي، وكل الحاجات دي أنا اللي عاملها بأيدي، كنت باجي أخرج طاقتي كلها هنا، ولسه فيه حاجات كتير مش باينة ليكِ، تيجي معايا تشوفيها؟
سألها بنبرةٍ لا تعلم هي إن كانت رجاءً أم كانت طلبًا أم إنه يتوسل لها أن توافق، هذه النبرة التي لم تقوْ هي على الرفضِ أمامها بل التفتت له وهزت رأسها موافقةً بدون وعيٍ، هي فقط وافقت على حديثه الهاديء الذي أصابها بالخدرِ محل وقوفها، فيما قام هو بفتح الباب الثاني العازل للجزء الأخر الذي يحمل الصور الملتصقة على الحائط، وقع بصرها أولًا على صورة فيروز وأسفلها الجملة التي سبق وكتبها لها:.
لا تسأليني كيف استهديت كان قلبي لعندي دليلي.
ابتسمت له وتأكدت أنه ربما يكون مهووسًا بها، وقد وقع بصرها على الحائط الأخر الذي حمل صورة وردة وكتب أسفلها كلمات الأغنية التي سبق وغنتها هي، ثم الحائط الأخر الذي حمل صورة ميادة الحناوي واسفلها كلمات الأغنية الخاصة بها، حركت رأسها لتستقر عليه فوجدته يقول بنبرةٍ هادئة خيم عليها الحزن في كلماته حين هتف:.
كنت بشوف نفسي في كلامهم، مرة الحب كان فعلًا مالي بيتنا، ومرة الدنيا اللي غدرت بيا، أول مرة أرسم فيها كانت هما، بعدها الصورة دي اللي فيها أبويا وأمي و قمر، دي كانت آخر حاجة باقية من يوسف.
لمعت عيناها بالعبراتِ الحزينة لأجل الحزن المُتضح في نظراته، حتى حركت رأسها نحو الحائط القبل الأخير لتجد فيه صورة أمه وصورة قمر في كبرهما ومعهما والده قام هو برسم هذه الصورة بالورود الصناعية والأقمار المُضيئة الصغيرة وكتب أسفلها بخط يده:
عاد الونس يا قمرنا الغايب،
رجع بِضَيك ومعاه كل الحبايب.
تعلقت هي كُليًا بهذه الصورة حتى أضاف هو مفسرًا بنبرةٍ عاد لها الأمل من جديدٍ، وقد ظهر ذلك حين قال بنبرةٍ هادئة:
كنت علطول حافظ كلمة الأبنودي لما قال: ضاع الونس يا قمر غايب،
بعدك ماليش أي حبايب.
بس لما لقيت أول الطريق ل قمر لقيت معاها كل حاجة، لقيت أمي ولقيت خالي ولقيت عُدي اللي طول عمره كان صاحبي، ولقيت البيت رغم إن حيطانه ضاعت بس كان موجود في وجودهم هما، ومع كل دا لقيتك أنتِ كمان يا عهد لقيتك وأنتِ شبهي، وساعتها كل الحبايب كانوا معايا بجد.
تلك المرة نزلت دموعها بعدة مشاعر غريبة عليها، لا تعلم إن كان يقصد ألمها بحزنه وما تعرض له أم يقصد أن يخبرها بمشاعره، وفي كل الحالات هي فقط تستمع له، تريد مشاركته في كل شيءٍ، لقد وسبق وفعل كل شيءٍ لأجلها، وعليها هي أن تشاركه أبسط حقوقه، اليوم تراه بصورة طفلٍ صغير يتحرك بحرية في المكانِ.
أقترب منها يقف مقابلًا لها وقال بنبرةٍ أظهرت كل الأسى وكأنه يكشف عن نفسه لها بدون أي خوفٍ أو خجلٍ أو حتى هربًا منها، بل كما اعتادته دومًا، كان صريحًا معها حين قال بصدقٍ أملاه عليه قلبه:
أنا سيبت حُبك يحركني وأشوف هيخرج مني إيه، قولت أسيب نفسي ليكِ وأنا واثق إنك مش هتأذي قلبي، والنتيجة كانت هنا برضه.
أشار برأسه على الحائط الخلفي الذي توليه هي ظهرها، وقد ذُهِلت من حديثه وفرحت، وأرادت أن تستمع إليه كثيرًا حتى تمل هي من كثرة حديثه، لكن كالعادة صمت وتحرك نحو الحائط الذي أخفاه بقماش أسود يشبه ذلك المُستخدم في جلسات التصوير، لم تعلم لما قام باخفاء هذا الحائط ولم تعلم لما هذا الحائط تحديدًا أشار عليه حتى وجدته يزيل القماش عنه وحينها فقط شهقت تلقائيًا وفرغ فاهها بذهولٍ، لم تتوقع أن ترى ما رآته هي، بينما هو وقف بجوار الحائط ثم وزع النظرات بينها وبينه ليفهم ما تشعر هي به.
كان الحائط مطليًا باللون الأسود كُليًا، وقد رسم فوقه صورتها هي بالخيوط البُنية وأضاف معها ورقات الشجر الأخضر، ثم أضاف على خصلات شعرها في الصورة الزهور البيضاء الصغيرة، اللونان الذي سبق وأخبرها أنهما يشبهونها كثيرًا قام بجمعهما في صورتها، كانت لوحة فنية بكافة المقاييس نبعت عن موهبة أخرجها من محجرها الحب وقد أضاف أسفلها يصف مشاعره وحال قلبه حين كَتَبَ:
لَقدْ سَبقَ وقَطع القَلب العَهد،.
لكنه خائنٌ وخَان هذا العَهد؛ ولأجلكِ أنتِ فقط.
ومَنْ غَيركِ لأجلهِ يُخان العهد؟ بل أيضًا يُخان ألف عهد، فحتى وإن لاحقتنا أنا وقلبي من الدنيا الخسائر، فيكفينا أننا حظينا بِكِ أنتِ من كل الدنيا يا عهد.
نزلت دموعها وسألته بنبرةٍ مُحشرجة وكأنها عجزت عن استيعاب ما قام بفعلهِ لأجلها أو لربما يكون هذا المشهد خياليًا من أحد أحلامها:
دي أنا؟ عملتها علشاني أنا؟
هز رأسه مومئًا لها ثم أقترب بخطى ثابتة من وقوفها وقال بنبرةٍ رخيمة يُعبر بكل صراحةٍ عما يحمله في قلبه ويخفيه عنها ويسره عنها، وقد لمعت عيناه ببريقٍ خاصٍ عند الحديث عما يحويه بداخلهِ لها:.
دلوقتي بس فهمت أنا ليه قابلت شهد علشان لما اقابلك أنتِ أفهم اللي بيحصل، أفهم إن اللي بيننا مكانش حب، أنا عاوز دلوقتي أروح أقولها شكرًا يا شهد إنك مشيتي وشكرًا إنك سيبتيني، وعاوز أقولها إنها خدمتني خدمة العمر يوم ما فضت اللي بيننا علشان.
علشان سواء دلوقتي أو بعدين أو حتى في أي زمن هقابلك فيه كنت برضه هحبك
وحاليًا أنا برضه بحبك.
أنا حبيتك يا عهد، أنا وكل الزحمة اللي جوايا اترتبنا بوجودك أنتِ لما لقيناكِ، أنا بحر مراكبه كلها رسيت عندك أنتِ وكركبة ودوشة دماغ دايمًا بتسكت عندك أنتِ
وأنا أنا بحبك أنتِ يا عهد.
اختلطت مشاعرها وتباينت ردود أفعالها مابين البكاء والحزن والحب والضحك والسعادة، كل الأحاسيس التي قد يختبرها المرء في حياتهِ تشعر هي بها في لحظتها هذه، وقفت تبكي أمامه بغير تصديق حتى فرق بين ذراعيه وهو يطلب منها بأملٍ ازداد بداخل قلبه أن قلبها أكرم من أن يُرد طلب قلبه:
تعالي تعالي يا عهد.
ركضت له تحتضنه وهي لازالت تبكي، تبكي بفرحةٍ على عدم خذلانه لها، لقد خشيت أن يأتي اليوم الذي يذهب عنها بعيدًا ويترك مسئوليتها وحمايتها، لم تتوقع منه كل هذا، بينما هو شدد عناقه لها، تلك المرة أخرج أنفاسه المسجونة بقفص صدره، خشى أن ترفضه وتخشى التواجد معه، خشى أن تلحقه الهزيمة الكُبرى منها، لقد كان كتمان حبها بداخل قلبه أثقل من الوفاء بالعهد القديم، لذا ابتعد عنها يحتضن وجهها وهو يقول بنبرةٍ فرحة بعدما زاحمت الضحكة ملامحه:.
أنا دلوقتي بس عندي استعداد أنسى كل حاجة، عندي استعداد أخد الفرحة والقوة مني وأديهم ليكِ أنتِ، قبلك مفارقش معايا حد ودلوقتي أنتِ اللي فارقالي، أنا المرة دي هقطع عهد جديد، هتعهد قدام ربنا على نفسي إني طول ما أنتِ معايا فمفيش حاجة هتخليكِ تزعلي، لا هييجي يوم تمشي فيه ولا هييجي يوم أفلت أيدي من إيدك، قولتي إيه؟
ابتسمت له من بين دموعها وطوقت عنقه بزراعيها تحتضنه، غريبٌ مثله لم يحتاج لأي حديثٍ، بل يحتاج لذراعين يقوما بضمهِ، ذراعان يكونا له مثل الملتحد يحتمي بداخله من قسوة الأيام وما إن حاوطها هو بذراعيهِ وجدها تقول بنبرةٍ كللها الحماس بالرغم من أن صوتها كان مُختنقًا:.
وأنا موافقة أكون معاك في اللي جاي كله، طالما أنتَ مش هتمشي، أنا كمان مش هسيب وأمشي، علشان زي ما قولتلك مبقاش ينفع تمشي وتسيبني، الدنيا مش مضمونة، ولحد دلوقتي مفيش فيها حاجة تطمني غير وجودك يا يوسف.
ردت له نفس الشعور من جديد، السعادة التي أغدقها فيها اليوم، أعطتها هي له على هيئة كلماتٍ جعلت عينيهِ تنطق بكل فرحٍ حتى ضمها من جديد وهو يقول بصوتٍ ظهرت فيه الراحة حين هتف بكل حُبٍ لها:
حبيب عيون يوسف.
استقرت هي بين ذراعيهِ تبتسم بخجلٍ وسعادةٍ، أرادت أن تنطق هي الأخرى لكنها عجزت، لم تقوْ على الرد بل اكتفت أن تبقى هُنا بقربهِ، يحتويها بين ذراعيه بحمايةٍ لم تأخذها من أقرب الأقربين إليها، حماية ثُلثها تلخص في الونس، والثُلث الثاني كان في الإطمئنان، والثلث الثالث كان هو الأمان، الأجساد كانوا لبعض كما الجيران، والقلوب لبعضهما كما الخِلان.
في صبيحة اليوم الموالي لسابقه: اختلفت نهاية اليوم السابق، كل شيءٍ كان يختلف تمامًا على الجميع، منهم من قضى ليله ساهرًا ومنهم من قضاه حائرًا ومنهم من قضاه نادمًا، لكن في نهاية الأمر لقد انتهى وولى، ليأتي الصباح الجديد كما الشمس التي ظهرت بعد الغيوم، كانت حينها قمر تجلس في غرفتها بعدما استيقظت في موعدٍ تأخر عن موعد استيقاظها بسبب تعبها بالأمس في الترحال مع أيوب وقد تذكرت الهدية الفُخارية التي قاما بصنعها معًا وتذكرت أيضًا حديثه معها بالأمسِ وهما يتسامران سويًا في شوارع المُعز، حين قال لها يكشفها أمام نفسها:.
علي فكرة أنتِ شبه الشتا أوي، فيكم من بعض.
انتبهت له تسأله بعينيها عن حديثهِ ومقصده لتجده يُضيف مُفسرًا بنبرةٍ هادئة يُطلق عليها تشبيهًا أكثر من مُصيبًا في إحراز هدفه حين قال:
أنتِ بالظبط زي ونس شمس الخريف، ونفس وجع ضياع قمر الشتا، النهاردة بس خدت بالي من كل دا، إنك الاتنين في بعض، والناس اللي زيك قلبهم أبيض أوي، حلو إني كل يوم بكتشف فيكِ حاجة جديدة، طلعتي اتنين في واحد أهو.
ضحكت على جملتهِ الأخيرة فيما أضاف هو يسألها بمزاحٍ قصده عن عمدٍ:
قوليلي بصحيح هو أنتِ نيسكافيه اتنين في واحد؟
طالعته باستغرابٍ شديد من عينيها تستفسر منه بصمتٍ عن مقصدهِ فوجدته يُضيف بمراوغةٍ ضاحكة تتنافى مع طبيعة شخصهِ:
أصلك اسمك قمر وأنتِ منورانا أنا وقلبي زي الشمس.
رفرفت بأهدابها عدة مراتٍ بصدمةٍ جلية جعلته يضحك رغمًا عنه ثم أضاف ببراءةٍ حقيقية تعبر عن مدى نقاء قلبه:.
أنا حاولت أظبطها والله علشان متبقاش قلشت مني، نبقى نعوضها في حاجة تانية بقى، شكلها صدمتك.
هتفت هي بلهفةٍ ردًا عليه لتمحي ظنونه:
لأ خالص هي خلوة ودمها خفيف بس أنا متوقعتهاش منك بصراحة، بس قولي قصدك إيه أني شمس الخريف وقمر الشتا، حاسة إن الجملة عميقة أوي وأكبر من استيعابي.
توقف عن السير ثم وقف يُطالعها وهو يقول بنبرةٍ هادئة صادقة تبدلت عن الأولى التي مازحها بها حين قال:.
شمس الخريف بتبقى عاملة زي الهدية للناس، رغم إن فيه لسعة برد بس الشمس دي بتظهر قبل الضهر بشوية كدا تحرك أي حد، تلاقي الناس بدأت تتحرك وتنزل وتخرج وتتونس ببعض، وفجأة يظهر الليل بقمره، قمر الشتا دايمًا ضايع وحزين، علشان رغم جماله بس الناس كلها بعيدة عنه، كله مقفل وبيحمي نفسه من البرد وسايبينه لوحده، النهاردة أنا شوفتك الاتنين دول، عمالة تضحكي معايا وتهزري وتتريقي على اللي فات كله، بس هو وجعك، باين إنك زعلانة وباين إنك منسيتيش، بس أوعدك أنا لو ربنا أراد ليا أكمل الطريق دا معاكِ، هخليكِ تنسي كل حاجة مزعلاكي.
خرجت من شرودها مبتسمة الوجه ثم مسحت على وجهها وعينيها ثم قالت بنبرةٍ هادئة تُحدث بها نفسها:
بس والله أنا نسيت كل حاجة لما لقيتك.
دلفت في هذه اللحظة ضُحى لها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
إيه ياعم! محدش خرج مع حبايبه غيرك يعني؟
ضحكت لها قمر ثم اعتدلت في الفراش وهي تقول بنبرةٍ حماسية ضاحكة ردًا عليها:.
لأ بس محدش خرج مع أيوب غيري، دي تفرق لو سمحتي، بعدين أنتِ كنتي فين امبارح؟ قولتي هخرج مع صحابي، روحتي فين يا ضُحى أوعي يكون عريس جديد عاوزة تطفشيه بحركاتك دي.
ابتسمت لها بسخريةٍ ثم أعادت ظهرها للخلف وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة تواري خلفها السخرية:.
لأ خالص، هو فيه حد هيبلي نفسه بيا؟ المهم يعني أنا عملت مصيبة سودا امبارح ومحدش هيغطي عليا غيرك لو عرفوا، لأن مش أي حد فيهم هيستوعب أنه كان غصب عني، وإني اتغابيت، ها؟
سألتها قمر بعينيها وقد ظهر الترقب عليها وكأنها تخشى أن تكون فعلت مصيبة من المصائب العديدة التي تفعلها دون أن تُلقي لها بالًا حتى بدأت ضُحى تسترسل في حديثها عن يوم أمسٍ وعن ذهابها لمكان عمل إسماعيل، لم تخفي عنها أية تفاصيل بل أخبرتها بكل شيءٍ منذ ذهابها إلى هُناك حتى هذه اللحظة، وأضافت من جديد تحذرها بقولها:.
عارفة لو حد يابت أنتِ سأل ولقيتك بتعكي؟ أنا هحرمك من دولابي لمدة شهرين، لما حد يسأل هتقولي إنك أنتِ اللي قولتيلي أروح هناك علشان المكان بتاع يوسف وباين إن الكافيه شيك والصور فيه حلوة، أوعي تعكي يا قمر.
رفعت قمر أحد حاجبيها وهي تسألها بتكهنٍ وكأنها تعلم مُسبقًا بالجواب الذي تخفيه الأخرى عنها وقد استفسرت منها بقولها:.
وهو أنتِ يا ضُحى ملقيتيش في كل الأماكن اللي صورها حلوة غير المكان اللي فيه إسماعيل؟ صُدفة دي يا روح أمك؟ ولا قصداها؟ قولي متكدبيش عليا.
تفاجئت ضُحى من حديث أختها وقالت بطريقةٍ ساخرة تبعد عنها الشُبهات أو لربما أكدتها بهذه الطريقة حينما رفعت كفيها للأعلى وهي تقول بنبرةٍ عالية:.
أنا! إلهي يا رب لو بكدب عليكِ أعدم البت علياء العصفورة اللي بتنقل كل الأخبار في الشغل، إلهي يا رب ميار اللي كانت خطيبة عُدي تترفد من شغلها لو كنت بكدب عليكِ.
ضحكت قمر رغمًا وقد ضحكت الأخرى بوجهِ مُشرقٍ ثم قالت بنبرةٍ أهدأ من السابق:.
بصراحة! كنت قاصدة، معرفش ليه، بس قولت هروح المكان أشوفه يمكن يكون هناك، تفتكري هو فعلًا مُهتم بيا ولا أنا اللي نفسي في كدا؟ أنا مش هقدر أتقبل فكرة إن أكون بديل تاني يا قمر، علاء سايبلي وجع مخليني عندي هلاوس، أنا مبقيتش بصدق حد، بقيت مش عاوزة حد، بس حاجة جوايا كدا مخلياني أركز مع إسماعيل، تحسيه تقيل وراسي كدا وفي نفس الوقت ابن بلد، غير كدا مش بيهمه أي بنت حواليه ويفضل يبص ويركز، يا رب يطلع مهتم مطلعش أنا اللي متخلفة.
أقتربت منها قمر تمسك كفيها وقالت بنبرةٍ رغم وجود المزاح بها والسخرية إلا إنها كانت هادئة وهي تهتف:.
رغم إنك ندلة كنتي علطول بتحبطي فيا ساعة أيوب بس أنا هطلع أجدع منك وقولك صدقي قلبك، طالما حس بحد يبقى أمشي وراه، أصل القلب دا مراية للعين، ساعات العين بتغفل عن الشوفة، بس القلب هو اللي بيقولها، ومين عارف مش يمكن تكون خطوبتك قريب عليه؟ تخيلي من بعد علاء النتن دا تاخدي إسماعيل؟ دا أم علاء نفسها ممكن تتجلط فيها.
ضحكت لها ضُحى ثم احتضنتها وهي تقول بنبرةٍ حماسية وقد عاد لها الأمل من جديد:.
والله لو حصل وطلع نيته خير مش بتاع لعب، هاخده وأعمل الخطوبة في شارع أم علاء وهتصور في حارة ميار المعفنة، اسكتي دا أنا فيه حبة كدا هموت وأكيدهم.
في الأعلى كانت عهد تجلس أمام التلفاز ببسمةٍ بلهاءٍ زينت وجهها، ليلة الأمس كانت الأفضل على الإطلاق، لقد توهمت أنه كان حُلمًا حتى رأت الصور بعينيها في المكانِ، لقد قام بصنع جلسة تصوير لأجلها في المكان بأكملهِ، لم تُصدق نفسها حينما استيقظت صباحًا بدون أي كوابيس مزعجة، بل زار هو أحلامها ليصدق لها حديثه السابق حينما أخبرها أن كوابيسها ستصبح أحلامًا بكل تأكيد، صدح صوت هاتفها برقم الطبيبة مما جعلها تنتفض ثم أخذت أشيائها وقامت بضبط حجاب رأسها ونزلت من البناية بمفردها بعدما ذهب هو صباحًا لعملهِ، وما إن خرجت من البناية وجدت أمامها سعد يظهر من جديد.
تجاهلته في بادئ الأمر وتحركت خارج مدخلها بكل ثقةٍ كأنها تخبره أنه لم يعد يملك التأثير السابق عليها في إيخافها، بل تخطته تمامًا أما هو فتحرك من مكانهِ يقطع عليها الحركة وما إن وقف أمامها رفعت حاجبيها بتأهبٍ حتى وجدته يضيف بنبرةٍ هادئة:.
أنا مش قصدي أزعلك دلوقتي، بس أنا عاوز أقولك أني هسافر، وإني خلاص هبعد عن هنا ومحدش هيشوفني تاني، خلاص أنتِ مش ليا يا عهد ولا نافع تكوني معايا بالعافية، خلاص اتجوزتي حد تاني وشكلك مبسوطة معاه، ربنا يسعدك.
تبدلت ملامحها إلى الاستنكار والتعجبِ معًا، هذه حقًا هي الأحلام، ما يقوله هذا البغيض أقرب إلى الأحلامِ، وحينما رأى هو الاستنكار في نظراتها قال بنبرةٍ هادئة غلفها بالحزن وأتقن دوره حينما أضاف:.
عارف إنك مش مصدقاني، بس خلاص هستفاد إيه يعني؟ ربنا يسعدك ويرزقني ببنت الحلال، وعلى فكرة أنا قربت أخطب برضه، بنت طيبة وغلبانة بس مش زيك يا عهد علشان أنتِ مفيش منك.
توترت وتخبطت أمامه لم تصدق أنه تغير بهذه السهولة ولم تصدق أيضًا أنه يكذب، هل هو برع في إتقان التمثيل لهذه الدرجة؟ أم أن هي التي لازالت تتوهم لكنها لم تُسيء الظن فيه ربما يكون تغير حقًا، فبالأمسِ عاهدت شخصًا جديدًا في شخصية يوسف والآن ربما يكون تغير هذا هو الأخر لذا أضافت بنبرةٍ هادئة ردًا عليهِ:.
والله يبقى كتر خيرك، ربنا يسعدك في حياتك وتراعي ربنا في بنت الناس اللي معاكِ، متستعجلش وربنا هيراضيك، عن إذنك.
تحركت من أمامهِ وهو يبتسم لها حتى أختفى أثرها تمامًا من أمامهِ لتتلاشى بسمته وقال لنفسهِ مُرددًا بتلذذٍ واضحٍ حينما شارف مُراده على الإتيانِ له:
هيراضيني، بس بيكِ أنتِ.
التفت يجلس على المقعد بجوار محلهِ من جديد وهو يعلم في قرارة نفسهِ ما ستقوم هي بفعلهِ، يعلم تمام العلم أنها ستخبر زوجها العزيز بحديثهِ وحينها سيؤكد هو له ما أخبرها عنه، هذا الذي لن يقبل الهزيمة يقوم بتحضير مفاجأة كُبرى ستقوم بقلب كافة الموازيين لصالحهِ حتى أن زوجها بنفسهِ سيبحث عنه لكي يتوسله.
قد تكون حياة المرء متوقفة على لحظةٍ واحدة،.
لحظة فقط يحياها تكون بكل العمر المار عليهِ، الألم يغدو أملًا، والصعب يبقى سهلًا، والأسير يُصبح حُرًا، لحظة واحدة نحياها بكل العهود السابقة علينا، أراد يوسف أن يخبر الناس كيف يكون شعور الفرح وكيف يكون قلب المرء حينما يحب، وكيف كلمة واحدة تُبدل الشعور كُليًا، فسبحان الله واضع الشعور ونازعه من أصلهِ، موافقتها للبقاء معه وقبولها بهِ زوجًا لها جعلته كمن يخرج من سجنهِ بعد سنواتٍ ظُلِمَ فيها وأراد أن يختبر الحُرية، لم تعترف له بصراحةٍ أنها تحبه لكنه قرأها في عينيها واستشفها في تمسكها بعناقهِ.
جلس في الشركة منذ الصباح مع صعود الشمس ولم يعلم من أين أصبح مُلتزمًا بهذه الطريقة؟ أتى قبل الجميع وأنهى عملهِ المتراكم أيضًا؟ وجلس هنا بمللٍ ينتظر قدوم رهف التي دلفت مكتبه تقول بسخريةٍ:
هما إزاي مبخروش مع دخولك هنا! إزاي تخطوا إنك جيت هنا عادي بدري وخلصت شغل قبل الكل، دي مادلين اللي ظابطين عليها الساعة هنا اتأخرت.
رفع عينيه لها يطالعها بملامح مُنبسطة ثم أعادها من جديد على الورق الموضوع أمامه يقوم بترتيبه ثم قال بنبرةٍ هادئة يتجاهل حديثها:
اتفضلي يا آنسة يا عديمة المسئولية، خلصت شغلك كمان أهو، روحي بقى أطبعيه وجهزيه وشوفي ردهم هيكون إمتى، بس خلي بالك ردهم هيكون بِلُغة غالبًا مش مفهومة، يعني الترجمة من جوجل مش هتنفع لأنها هتبقى حرفية، يعني اعتمدي على حد شاطر يترجم لينا، مش ناقصة تلاكيك فارغة.
حركت رأسها موافقةً فيما قالت بلهفةٍ حينما تذكرت:
بقولك إيه؟ ممكن عُدي قريبك هو اللي يترجم؟ هو ما شاء الله ممتاز ومش بياخد وقت، غير كدا ترجمته professional جدًا، يعني كأنه زيهم، ابعتهم ليه يترجمهم؟
رد عليها هو بنبرةٍ هادئة بعدما اقتنع بحديثها:.
أنا أكيد معنديش مانع هنا، بصي الرد هيوصل بليل وأنتِ تترجميه وتوصليه ل مادلين بس أهم حاجة بقى يِترجم صح، هبتعتلك رقم عُدي وتتواصلي معاه، هو مش هيقولك حاجة، وهيكون شاطر كمان، وأي حاجة فيها ترجمة خليها معاه هو أحسن، تمام؟
هزت رأسها مومئةً بإيجابٍ له ثم أخذت الملف منه وتجهزت للرحيلِ وقد تقابلت مع مادلين التي ابتسمت لها تُحييها ثم دلفت مكتبه وهي تقول بنبرةٍ خبيثة لكنها برغم ذلك كانت مرحة كأنها تمازحه:.
صباح الخير؟ أنا مصدقتش لما قالولي إنك هنا، على العموم أنا مش جاية أعصبك بس هقولك إن سامي بيلعب في حاجة خاصة بورق الشركة، والأكيد أنه قاصد الضرر ليك، بس مش مهم هراجع كل حاجة وراه، المهم بقى أنا عاوزة أشوف مراتك.
ضيق جفونه لوهلةٍ بتعجبٍ جعلها تُضيف بحماسٍ:.
عاوزة أشوف البنت اللي قدرت تخليك تغير رأيك، عاوزة أشوف مين القمر اللي ملت عينك أخيرًا بعدما كنت قولت مستحيل يعملها تاني، إن كنت نسيت هفكرك، أفكرك؟
سألته بتكهنٍ وهي تشير للخلفِ باصبعها مما جعله يبتسم رغمًا عنه وأدار وجهه للجهة الأخرى بضيقٍ زائفٍ يتنافى مع سعادته حتى أضافت هي بسخريةٍ الحديث الذي أخبرها بهِ سابقًا:.
خليكِ فاكرة أنا قاطع على نفسي عهد، واتقل حاجة بتمر على القلوب هي الوفاء بالعهد، فمتحطيش أمل أوي في موضوع أني أحب تاني، مش دا كان كلامك؟
حرك رأسه لها من جديد ولازالت ملامحه منبسطة وقد جاوبها بنبرةٍ هادئة ردًا على حديثها الساخر الذي تعمدت هي أن تُذكره به وقد ابتسم حينما عاد طيفها يسري أمامه من جديد:.
كان كلامي صح بس دا قبل ما أشوفها، بس هي بقى خارج المقارنة مع أي حد تاني، مش شبه حد وملهاش شبيه، وحتى لو سبق وقطعت العهد وحتى برضه لو أتقل حاجة هتمر على القلوب هي الوفاء بالعهد، فياريت كل اللي يُمر على قلبي يبقى زي مرور عهد.
ابتسمت له بحماسٍ شديد وظهرت الضحكة على ملامح وجهها، لم تصدق أن هذا هو يوسف ذاته، لم تصدق انبساط ملامحه ولا تصدق حديثه عن أي فتاةٍ بهذه الطريقة، أين جبينه المضموم بعبوسٍ وأين وقاحة حديثه؟ لقد تبدل كُليًا، أما هو فخرج من شروده فيها على صوت عمه الذي صدح في الخارج يوبخ أحد الموظفين وحينها ابتسم بسخريةٍ وهو يقول مشيرًا نحو الخارج:
روحي وطي البوتجاز، جوزك بيشيط برة.
هبت هي من محلها مهرولةً نحو الخارج بقلقٍ من صوتهٍ الذي عبأ المكان بأكملهِ فيما زفر يوسف مُطولًا ثم هتف بنبرةٍ مسموعة حينما أفسد عاصم لحظته بتواجده حتى وإن لم يكن نصب عينيه:
يا أخي مفيش داهية تاخدك عند أمك تريحنا من صوتك.
أمسك حاجته ثم فتح باب مكتبه وما إن وجد عمه يرفع صوته في الخارج وبجواره سامي الذي ابتسم بسخريةٍ وهو يطالع يوسف الذي تجاهل الحشد المُجتمع وقرر أن يلج خارج الشركة لكن صوت عمه أوقفه بقولهِ:
البيه رايح فين؟ هي تِكية ولا إيه؟
توجهت الأبصار نحو يوسف الذي توقف عن السير ثم التفت له يقول بملامحٍ مُبتسمة ومُنبسطة:.
بتكلمني أنا! لو أنا فأحب أقولك أني هنا من قبلك وقبل أنكل سامي وخلصت كل اللي ورايا، إيه هقعد أمسحلكم الشركة ولا إيه؟ فضناها سيرة خلاص يا شباب كل واحد على شغله الراجل مش هيفضل يعصب نفسه هنا، فاكرينها شركة ولاد رقاصة ولا إيه؟ دي شركة محترمة، هنقف نردح لبعض؟
جاهد البقية لكتم ضحكاتهم على سخريته فيما وجه هو حديثه ل سامي الذي بدا وجهه مُحتقنًا بغيظٍ من حديثه المتواري خلف كلماته:.
معلش يا أنكل أبقى وصيله على كوباية لمون على حسابي أنا، بس أوعى تهبط وتشربها أنتَ، شكلك بتهبط بالوراثة زي ماما الله يرحمها.
خرج كما دلف بنفس الراحة المرسومة على ملامحهِ، نفس الثبات ونفس الثقة عادا له من جديد لن يسمح لهما بسرقة راحته منه، هو من الأساس أتى إلى هنا بسبب السعادة التي عاشها بالأمس، هل يسمح لهما بسرقة راحته كما اعتادوا دومًا، لذا قرر أن يذهب إلى عمله الثاني يتابع الكافيهات الخاصة بهِ، المكان الذي يجد راحته فيه ويشعر بالانتماء إليه كونهِ قام بإقامته بنفسهِ.
في منطقة الزمالك تحديدًا ببيت الراوي.
كانت فاتن تجلس في حديقة البيت تتصفح الهاتف الخاص بها بعدما فرغ البيت من الجميع عدا ابنها وزوجتهِ، كالمعتاد لن تخرج الفتاة المُدللة من غرفتها في هذا التوقيت، لذا دلفت من جديد لردهة البيت لتجد ابنها جالسًا على الأريكة يتصفح الحاسوب الخاص به وحينها سألته بتعجبٍ:
أنتَ قاعد هنا ليه؟ وفين مراتك؟
رفع عينيه بمللٍ وقال بفتورٍ ردًا على سؤالها:
فوق في الأوضة.
عقدت حاجبيها باستنكارٍ لطريقته في التحدث عن زوجته واقتربت منه تجاوره وهي تسأله بنبرةٍ هادئة لكن التعجب ظهر بها حينما سألته:
هو أنتوا متخانقين مع بعض ولا إيه؟
أغلق حاسوبه ثم قال بنبرةٍ جامدة يؤكد إيجاب سؤالها:
آه، شدينا شوية امبارح، أنا خلاص زهقت عمال أحايل وأهادي في الأخر أنا مش بلاقي النتيجة اللي عاوزها، علشان كدا اتعصبت عليها شوية إمبارح وجيت على هنا.
ربتت على كتفه وهي تتحدث معه بنبرةٍ هادئة وقالت:
طب هي عملت إيه؟ يمكن تكون فهمتها غلط، أكيد أنتَ اتعصبت من غير أي سبب عليها، قولي بس يمكن يكون فيه حل لزعلكم دا.
سحب نفسًا عميقًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة لكن الحزن لم يُفارقها وهو يقول بأسى:.
مفيش حل، علشان هي معمية بحد تاني، عايشة على كل حياته وذكرياتها معاه، مفيش مكان بتختاره غير لو كان ليها فيه ذِكرى مع يوسف ومفيش حاجة بتختارها غير لو كانت ليها علاقة ب يوسف واضح كدا إن زي ماهو قال، اتكتب على قلوب الحبايب تجمعنا مع بعض، سواء أنتِ أو هي، تصدقي أنا غلطان أني سيبت شغلي وجيت هنا!
قامت هي باحتضانهِ فورًا وهي تقول بنبرةٍ أظهرت لهفتها عليهِ:.
لأ متقولش كدا علشان خاطري، دا أنا ما صدقت جيت تاني، البيت صعب من غيرك، لو فيه حاجة مزعلاك عرفني وأنا أحلهالك، بس بلاش تزعل نفسك كدا، قولي نعمل إيه علشان متكونش زعلان كدا؟
ابتسم رغمًا عنه وقال بيأسٍ من شعوره بالجوع:
أنا جعان بصراحة، بس عاوزك تعملي الفطار بنفسك، لو عملتيه أنا هقف معاكِ، وهساعدك كمان.
ابتسمت له ثم قامت تسحبه معه وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة ردًا على طلبه المُجاب منها قبل إتمامه من الأساس:.
بس كدا! وأحلى فطار لعيونك كمان، كفاية إنك معايا.
دلفت به المطبخ بسعادةٍ قد تكون نستها تمامًا، لو أمكن الأمر لكانت أخذت ابنها وهربت به من هذا البيت الذي قضى على كل أحلامها، البيت الذي جعلها تفقد كل ما تُملك وبما في ذلك قلب يوسف وحُب نادر وبين هذا وذاك فقدت نفسها بينهما، لقد ضاعت من نفسها وضاعت منها أجمل الأوقات التي تأخذها هي بالسرقة من الزمن.
وقفت شهد في الخارج تتابعهما بعينيها وهو يقوم بتجهيز الفطور مع والدتهِ التي كانت تهتم به كما لو كان طفلًا في أول أعوام عمرهِ، زفرت بقوةٍ ثم التفتت حتى تعود من جديد لغرفتها وقد عزمت الأمر على مصالحتهِ، من الأساس هي تشعر بالذنبِ تجاهه وفي نفس التوقيت تنصاع خلف هواها، لم تنكر أن زوجها في كل حينٍ يُفضلها على نفسهِ حتى، وهي تقوم بقيادة دلالها عليه وهي تعلم تأثيرها جيدًا عليه كرجلٍ، لذا جلست في غرفتها من جديد ترتب أمر مصالحته.
في بيت العطار
كان البيت هادئًا وفارغًا بسبب جلوس إياد بجوار نِهال التي بدأت رعايتها به مُبكرًا حيث جلس بحقيبة المدرسة الخاصة به وبدأ يستذكر دروسه معها، لقد أخذ حقه وحق والده فيها، أما هي فكانت تحاول بقدر الإمكان أن تعتاد على البيت وأهلهِ، أرادت أن تكون منهم كما أخبرها عبدالقادر منذ سويعات قليلة وأكدها أيوب الذي أخبرها بهدوءٍ:.
إحنا كلنا هنا مع بعض واحد، أي حاجة تحتاجيها تحت أمرك كلنا، وأنا هنا أخ ليكِ أي حد يزعلك منهم قوليلي، هقف في صفهم أكيد يعني مش محتاجة كلام.
حينها ضحكت له فيما انسحب هو وتركها وذهب لعملهِ، وقد خرجت من شرودها على صوت زوجها الذي نزل لتوهِ من الأعلى بعدما ارتدى ثيابه لكي يذهب إلى عمله هو الأخر، وقد رفعت عينيها له وابتسم هو لهما حينما وجدها بجوار صغيره ترعاه، حينها ابتسم لهما ثم أقترب لثم جبين الصغير ثم لثم جبينها هي الأخرى وألقى عليهما التحية، وبالطبع عجزت عن الرد حينما خجلت بسبب فعلهِ، فيما جلس هو أمامهما يقول بنبرةٍ هادئة:.
أنا استغربت لما صحيت ملقيتش حد منكم فوق، بس إيه الهمة والنشاط دي؟ يا بختك يا ابن المحظوظ بتذاكر ها.
فهمت هي مقصده، فيما قال إياد بنبرةٍ ضاحكة يُعانده:
طب على فكرة بقى لما نخلص هنعمل حاجة حلوة أنا وهي و آيات مع بعض، وجدو عرف هو كمان وهييجي ياكل معانا ولو لحقت مش هديك منها.
فرد أيهم كفيه أمامهما ونطق بسخريةٍ ردًا على صغيرهِ:.
يا فرحة أمي بيا! كنت فاكر نفسي طرف تالت في العلاقة دي طلعت مضروب طرفين في وسطين وطاير مع الأُس!
ضحكت رغمًا عنها على سخريتهِ وضحك إياد وهو يسأله بمزاحٍ تعمده فلم يكن تلقائيًا:
هي دي حاجة في العلوم؟
التفت أيهم يسحب المقعد الخلفي حتى يُهدد ابنه فيما ركض إياد من المكان وهو يضحك بهربٍ من والدهِ الذي ضحك رغمًا عنه، أما هي فانتهزت فرصة تحرك الصغير وقالت بلهفةٍ:.
أنا عاوزة أقولك شكرًا إنك مقدر موقفي، يعني بقالي هنا يومين وأنتَ مش راضي تجبرني على حاجة غصب عني، عارفة أني مليش مُبرر بس والله أنا عارفة إنك.
أوقف استرسال حديثها حينما ابتسم لها بملامح مُنبسطة وراحة اتضحت على ملامحهِ حين هتف:.
مش عاوزك تزعلي نفسك ولا عاوزك تقلقي، فيه أمور مينفعش فيها أي حاجة غير العقل، وأكيد مفيش راجل محترم هيفرض نفسه على ست، أنا عاذرك وعاذر اللغبطة دي، برضه في أسبوعين كل حاجة تمت وأكيد الوضع غريب عليكِ، وأنا مقدر، اعتبرينا في فترة تعارف بس على أوسع شوية، وأنا والله مش زعلان، زي ما قولتلك كفاية إنك معايا هنا، أنا رايح الشغل عن إذنك.
وقف لكي يستعد للرحيل بعدما طمئنها بحديثهِ لتسأله هي بتعجبٍ السؤال الذي خطر ببالها لتوهِ دون أن تخفيه عنه بل أظهرته إليه:
هي إزاي كانت عايشة معاك هنا وجالها قلب تمشي؟
صدمته بسؤالها الذي لم يتوقعه هو ولم ينفك عن عقلها، لقد تحدث معها في فترة التعارف عن طليقتهِ لكنه لم يتخيل أن تفاجئه بالسؤالِ وما إن التفت لها وجدها تحرك كتفيها وهي تُضيف بنبرةٍ ربما تكون تائهة أو متعجبة:.
يعني أنا كان ليا أسباب قوية تخليني ما أصدق الفرصة جاتلي علشان أمشي وممكن أقولك عليها لأني واثقة إني لو عرفتك مش هتلوم عليا زي ما الكل لامني، لكن هي بقى إزاي عندها طفل زي إياد وراجل زيك وقدرت تمشي؟
ابتسم بسخريةٍ حينما هتف بوجعٍ من ألم الذِكرى التي آلمت قلب صغيره قبله هو بذات نفسهِ:.
علشان صوابعك مش زي بعضها، فيه ناس بتعرف قيمة الحاجة لما تروح منها، وترجع تندم وتزعل وتعض أيدها من الندم بس ساعتها بقى كل دا مش هينفع ولا هيرجع اللي فات، لأن وقتها هنكون لقينا نفسنا ولقينا اللي كان ضايع مننا، فهمتي حاجة؟
حركت رأسها موافقةً له فابتسم هو لها ثم رحل من البيت بعدما وجد الطمأنينة تستقر في عينيها، ينجح دومًا في إزالة عبء آلام الأخرين أما هو تسكنه الآلام وتستوطنه الذِكرى، عاش يدفع ثمن أخطاء الماضي ولم يكن فقط ماضيه بل ماضي الآخرين معه، صبرًا يا أيهم لن يدوم ظلامك ولن يطول ليلك، من المؤكد ستشرق شمسك من جديد، لم تسنح لكَ الفرصة حتى الآن ولم تشاء الرياح أن تأتي بما تشتهيه سُفنَك لذا صبرًا.
هكذا حدث نفسه وهو يسير إلى محل عملهِ وقد وجد شقيقته بجوار وداد ومعهن مِهرائيل أيضًا وخلفهن كان يسير بيشوي الذي تحدث في الهاتف لكنه لن يغفل عنهن مما جعل أيهم يسأله بسخريةٍ:
إيه؟ ماسك أمن سوق حارة العطار يا رايق؟
انتبه له الأخر وقال بسخريةٍ ردًا عليهِ:
لأ يا خفيف كان فيه عيل واطي بيعاكس ضربته وقولت أمشي وراهم لحد ما يخلصونا، وبعد كدا ابقوا خرجوا حد تاني غيرهم مش ناقصة مصايب هي.
ضحك أيهم بسخريةٍ وهو يقول بنبرةٍ لازالت ضاحكة:
ألا هي الشهامة دي لله وللوطن؟ ولا علشان شجر الزيتون بتاعك نزل الحارة؟
رفع بيشوي حاجبيه ثم هتف بسخريةٍ هو الأخر:
أنتَ مالك يا حِشري؟ بتتدخل في التفاصيل ليه؟ بعدين إيه اللي نزلك مش البيه عريس برضه؟ فيه عريس يسيب بيته وينزل كدا؟ عيب يا جدع متصغرناش.
أتى تَيام في هذه اللحظة وهو يقول مُهللًا بنبرةٍ ضاحكة:.
إيه دا! عريسنا بنفسه؟ دا أنا قولت فيها أسبوع لحد ما نشوفك تاني، طلعت راجل مجدع مش بتاع قعدة في البيت.
ظهر الغموض على الأخر وطفق يعلن عن نفسهِ على نظراته وهو يقول بهدوءٍ غريب:
أسكت دا أنا محضرلك مفاجأة! أقسم بالله لا تخليك تطير من الفرحة لدرجة إنك هتشيل من راسك أي حاجة مهما كانت في بالك، وأولها بقى! الرحرحة يا ابن نجلاء.
لاحظت آيات وقوفه بجوار شقيقها وتلقائيًا ابتسمت له حينما استقر هو ببصرهِ عليها، كانت الشمس تتعامد عليها وهي ترتدي الخِمار البيج الذي لائم هدوء ملامحها، البسمة التي أرسلتها له جعلته يسافر عبر الزمن إلى زمانٍ أخر يبعد عن سائر البشر حتى أنه لم ينتبه لحديث شقيقها إلى أن وجد مِهرائيل أمامه تصد عنه الرؤية وهي تسأله بسخريةٍ:
فيه يا حج يا أستاذ؟ بص قدامك.
ضحك أيهم وكذلك بيشوي أيضًا فيما نطق هو بضجرٍ يعبر عن مدى استيائه منها:
قولت الحمد لله معنديش حماة، أقوم ألاقي في وشي دي وأختها عليا، باصينلي في العلاقة الوحيدة في حياتي؟
في وسط النهار بعدما تحركت الشمس وشارف الليل على القدوم، وقف إسماعيل في الخارج أمام الكافيه يتابع مع عربة البضائع القدوم إلى المكانِ، يسأل الرجل بضجرٍ الذي تأخر عن موعد قدومه:
يا باشا أنا عارف بس ليه العطلة دي للكل وأنتَ قبلنا، اديني سايب حالي وواقف مستني سيادتك، اتفضل يا ريس ربنا يستر طريقك متجيبلناش الكلام بقى.
أغلق الهاتف في وجه الرجل وقد أتى إيهاب عند ارتفاع صوتهِ وقال بنبرةٍ هادئة يطلب منه التريث بقولهِ:
ما تهدا يا عم معصب نفسك ليه كدا، ما يوسف اتصرف وحل الدنيا و سراج قال فيه مشكلة بيحلوها، مش عارف أنتَ خلقك ضيق ليه ياض أنتَ؟
زفر إسماعيل مُطولًا بضيقٍ ثم هتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:.
أنا بتوتر لما حاجة في الشغل تمشي غلط، ومش عاوز حد يتكلم يا إيهاب، بحب كل حاجة تبقى مظبوطة بالمللي، خير إيه اللي جابك وسايب شغلك، فيه حاجة؟
حرك رأسه موافقًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة يشير خلف حديثه إلى حال شقيقه:
آه أنتَ حالك مش عاجبني، حاسس إنك بتعاند مع نفسك وخلاص، من الصبح زعيق وعصبية وصوت عالي رغم إنك مش كدا وطبعك علطول هادي، مالك يا إسماعيل؟ قولي إيه مزعلك كدا ومخليك متضايق.
كيف غفل عن قدرة أخيه في قراءة طريقته؟ كيف نسى أن إيهاب دومًا يعلم ما يُخفيه حتى وإن كان عن نفسهِ؟ لذا هرب منه ومن نظراته التي أكدت حديثه وقد أقترب سراج الذي أتضحا عليه الضيق والملل من انتظار عربة البضائع، حسنًا هذا هو السبب الظاهر لكن ما خفى بالطبع الجميع يعلمه، لاحظ إيهاب ملامحه المقتضبة فسأله بتعجبٍ:
خير؟ مالك أنتَ كمان ومتقوليش الشغل.
حرك رأسه نفيًا ثم وضع السيجارة بين شفتيه يسحب هوائها داخل رئتيهِ ثم هتف بنبرةٍ جامدة:
الشغل وحياتي ودماغي ومصاريف مدرسة جودي و نور اللي هتسافر تاني، أهي مطحنة عايشين فيها بنتداس كأننا تراب على الأرض، على العموم أنا هقعد هنا مش هروح شقة المعادي ولا بيتي، وزي ما تيجي تيجي بقى، خلي جودي عندكم بقى، ياكش حد ييجي يموتني ونخلص.
خرج في هذه اللحظة يوسف لهم وهو يتحدث في الهاتف وما إن أتفق مع محدثه حينها قال بنبرةٍ هادئة ردًا عليهِ:
تمام زي ما أنتَ ماشي كدا كمل طريقك، وتعالى.
نظروا له مع بعضهم في نفس اللحظة وقد أتى مُحي في هذه اللحظة يقول بنبرةٍ عالية ومرحة عند رؤيته لهم مع بعضهم:
فرسان الخريطة واقفين مع بعض؟ مين دا اللي أمه داعية ويفكر ييجي عليكم؟ بالصلاة على النبي أربعة عالجد ياكلوا أي حد، وأي حد بعدكم يقف في وش السد.
ضحكوا على طريقتهِ فيما وصل أيوب في هذه اللحظة يُلقي عليهم التحية بقولهِ بنبرةٍ هادئة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ازيكم يا شباب؟
انتبهوا مع بعضهم لمصدر الصوتِ وردوا عليهِ التحية بعدما ونظروا لبعضهم بعضًا فيما قال مُحي من جديد بنفسِ المرح مرةً أخرى لينفي به سابق حديثه خشيةً من تواجد أيوب معهم:
نقطة من أول السطر، انزلولنا باللبن والتمر ترحيبًا بالراجل الوحيد المحترم في الوقفة دي.
جلس في شقتهِ يستمع للمحادثة التي دارت بين سامي و ماكسيم من جديد وهو يبتسم بسخريةٍ، لقد تأكدت كل ظنونه وتيقن مما وصله قبل قدومه إلى مصر، تحديدًا أتى إلى هنا لهذا السبب، أتى إلى هُنا لتحقيق هدفه الغير معلوم من الجميع عداه هو، لذا أخرج هاتفه يتحدث مع نَعيم بقولهِ الذي كان هادئًا إلى حدٍ كبير:.
أيوة يا حج، أنا هقابلك الليلة دي بس لما اتأكد إني في أمان، زي المرة اللي فاتت هعرفك، كدا كدا هو جاب بيت جديد وشاغل نفسه بيه، استنى مني مكالمة.
وافقه نَعيم في الحديث ثم أغلق معه المكالمة، بينما مُنذر ترك هاتفه ثم أمسك الدفتر والقلم اللاذي وضعهما هو بجواره ثم توجه ناحية الغرفة الموجودة في نهاية الرواق، وضع بداخلها كافة الأوراق والملفات والدلائل والصور أيضًا وفي وسطهم صورته، وحينها أخرج ورقة يكتب فيها بخطٍ كبيرٍ توسط هذه الورقة:
مُنذر شوقي محمد الحُصري.
وضع الورقة على اللوحِ وسط الصور والورقات ووقف يتابعها بعينيه، ابتسم بسخريةٍ موجعة يسخر من حالهِ على الدنيا وحالها، من يُصدق أن مثله كُتُبتْ له النجاة مرة واحدة، ليموت بعدها ألف مرة في اليوم الواحد، من يُصدق أن زمن الرقيق والعبيد لازال مستمرًا حتى في وقتنا هذا، وهو! لقد حدث فيه ما حدث لابن عمه والمتسبب الوحيد رجلٌ يُدعى والده، حسنًا هو هنا، لكن.
لكن من سيفتح الأبواب الموصدة غيره، إن لم يكن هو المفتاح الوحيد لكل بابٍ منهم؟