رواية عذابي الصامت للكاتبة سارة ح ش الفصل الرابع
رحيل
(علياء)
أنا علياء. الاميرة الصامتة. عليائي. اميرتي. ابنة السائق، المجنونة، غريبة الاطوار، الخرساء، هذه هي المواصفات التي عرفتموني بها، لذلك اختاروا ما يعجبكم لتتخيلوني به. تخيلوني ابنة اسرة ياسين النبيلة. او تخيلوني ابنة السائق الثورية، فجميعها لا تهمني، فلطالما تمنيت ان لا ينظر الناس لمن انتمي بل يحكموا على بمن اكون بالفعل عليه. بشخصيتي. بتفكيري. بكياني. ولكنهم لم يفعلوا!
تجاهلوا شكل علياء ليرسموا بمخيلتهم اما حفيدة ياسين العزيزة، او ابنة السائق الذليلة، ولكن الاهم من بينهم كان يوسف والمهم ان يوسف لا ينظر الى هذين الامتدادين المختلفين لنسبي. هو الوحيد الذي اهتم بي لكوني انا. نظر الى اعماقي ليفهمني دون ان اتحدث. - عفواً، قصدي دون اشير، فكما تعلمون انا الخرساء كما قلت لكم-. الوحيد الذي يتطلع بعيني كما يتطلع بلوحة فنية يحاول التشبع من تفاصيلها التي لا يملها ونقشها في مخيلته، انه الوضوح الوحيد في عالمي الضبابي!.
أنفرج جفاني بتثاقل. فتحتهما مرة وأغلفتهما. فتحتهما. أغلفتهما. ثم واخيراً أطاعاني وتخلصا من النوم الملتصق بهما فانفصلا عن بعضهما. كانت الاجواء صامتة لا يخترقها شيء سوى حركة عقارب الساعة فوق المنضدة المجاورة لسريري. قد تظنون انه هدوء اعتيادي في الصباح. اجل. انه كذلك بالنسبة لكم. لكن ليس بالنسبة لي. لاسيما وان الساعة اصبحت العاشرة الان.
انها المرة الاولى منذ سنين التي انام فيها بشكل متواصل الى العاشرة صباحاً. ففي كل يوم هناك تقاليد مقدسة يتبعها الاحفاد معي. كل فرد يستيقظ منهم يأتي لرفس الباب بقوة بقدمه قبل ان يتابع سيره نحو الاسفل. ومع كل رفسة استيقظ فزعة ثم اعود بالكاد لأغط بنوم جديد قبل ان استيقظ فزعة مرة اخرى. حفيد اخر قد استيقظ! وهكذا استمر بالاستيقاظ مفزوعة مرات عديدة على عدد الاحفاد ناقص اثنين. بالطبع ديما ويوسف هما الوحيدان من لا يفعلا هذا! وقد اكون محظوظة احيانا ويستيقظ يوسف قبلهم فيخرج من غرفته مزمجراً بهم ويوبخهم ان سمعهم يرفسون باب غرفتي فيولون هاربين واحظى بنوم اطول قليلاً قبل ان يستغلو عودته للنوم او نزوله للأسفل ليكملوا طقوسهم الصباحية!.
لذلك هل عرفتم لما استغربت هذا الهدوء الصباحي. فلا الباب ضُرب. ولاصوت يوسف زمجر. أيعقل ان جميعهم نائمين؟!
نهضت من فراشي بتكاسل ورأسي يرغب بشدة ان يلتصق بالوسادة مجدداً ليغط بنوم عميق اخر بسبب تلك السهرة الطويلة التي قضيتها بالأمس مع يوسف في الصالة. سهرة رغم متعتها ورغبتي بها ولكن لاانكر انها اثارت استغرابي. فيوسف يرفض بشدة ان اسهر مطولاً فهو يقول دائماً لي ان السهر مضر بالصحة وعلى ان لااعتاد عليه ابداً. ولكن الأمس كان الوضع مختلف. أصر على اطالة السهرة قدر الامكان وكلما انتهينا من مشاهدة فيلم وانوي القيام نحو غرفتي كان يرفض ذلك ويطلب مني البقاء بحجة ان هناك فيلم اجمل سيعرض وعلينا متابعته. وبالطبع كنت اوافق فوراً رغم نعاسي الشديد. فهل انا مجنونة لأرفض وقت اضافي برفقة يوسف؟ لعله يفصح لي عما يقلقه منذ اسبوع؟ عما يحزنه؟ عما يدفع تلك الدموع ان تتجمع بعينيه وهو ينظر لي؟ فبعد تلك الحادثة هناك شيء ما قد حصل لا اعلمه انا. ولكن مااعلمه انه احزن يوسف. حزن يمكنني قرائته بسهولة وانا اغوص داخل عينيه المحدقتان بي. ولكن كلما سألته انكر واخبرني ان كل شيء على مايرام، ولكني اعلم انه ليس كذلك...
ارتديت مئزر المنزلي ففضولي اقوى من ان ينتظر دقائق اضافية ريثما اغير ملابسي واكتفيت فقط بربط شعري للاعلى بشكل عبثي.
نزلت السلم وانا اكتف يدي امام صدري امنع دخول النسمات الباردة اليه وحدقت بالطابق السفلي باستغراب وانا اشاهده بداخل سكون مخيف. لا الخال رامز وجريدته الصباحية. ولا الخالة سوسن مع كوب قهوتها المعتاد. ولا بقية الاحفاد يتمازحون بالقرب من امهاتهم الثرثارات، أهذا هو الهدوء قبل العاصفة ام ماذا؟.
تركت الصالة واتجهت من فوري نحو المطبخ حيث عمتي سمية هناك، دخلت الى المطبخ وطرقت بابه بهدوء كي تنتبه لوجودي واول ما التفتت منحتني ابتسامة عريضة وهي تقول:
- اوه صباح الخير صغيرتي. اراكِ استيقظت مبكراً!
فأشرت لها:
- (صباح الخير عمتي، اجل. ولكن ليس مبكراً لدرجة ان لا احد مستيقظ بعد. أليس كذلك؟! )
تجاهلت العمة سؤالي واشاحت وجهها عني مدعية انشغالها بتقليب البيض في المقلاة وهي تقول بحماس:.
- جيد انكِ استيقظت كي نتناول الفطور معاً. لقد أعددت البيض كما تحبيه تماماً لنرى ما عذركِ اليوم كي لا تنهي صحنكِ.
بقيت ساكنة في مكاني غير مهتمة ابداً بأمر البيض. لقد ازداد فضولي وكبر استغرابي من تجاهل عمتي لسؤالي، التفتت إلى تريد اكمال حديثها عن البيض ولكني قاطعتها بإشارتي فوراً:
- (اين الجميع عمتي؟! )
لاحظت جزء من الابتسامة يختفي عن ثغرها ولكنها اكملت حديثها وكأنها لم تراني اشير:.
- أتريدين العصير مع الفطار ام تفضلي شرب الشاي معه كي تتنشطي قليلاً؟
أهي جادة؟ هل نست فجأة اشاراتي ولم تعد تفهمها ام ماذا؟ حسناً. انها غريبة جداً هذا الصباح. في الحقيقة الجميع اصبح غريب فجأة في الفترة الاخيرة! هناك شيء ما يخفونه عني. بماذا اشك؟ لااعلم بالضبط بماذا اشك ولكن هناك شيء تحاول قدر الامكان اخفائه عني.
تقدمت نحوها بخطوات ثابتة واشرت بإصرار:
- (لااظن اني اسألك عن الفطار عمتي. ).
دعونا نعترف. عنادي شيء لا يمكن لأحد ان يتغلب عليه! اشاحت عمتي وجهها جانباً مني ثم استدارت واطفأت الطباخ وبقيت مستديرة تدير ظهرها الي.
التفتت إلى بعد ثواني وبعض الالتماع كسى عينيها وهي تقول لي بنبرة مشفقة:
- لقد رحلوا صغيرتي.
حسناً. احتاج الى قاموس. الى مترجم. لالا. احتاج الى صفعة. انا لا يمكنني ان استوعب هذه الاحرف التي قيلت لي، ر ح ل و، ماذا قد تعني هذه الاحرف؟ هل ذهبوا في رحلة ما؟ ولكن هل جميعهم رحل؟ وهكذا فجأة؟ حسناً. دعوني لا اتسرع بالاستنتاج.
- (رحلوا الى اين؟! )
اجابتني بحزم:
- الى المدينة.
- (ماذا يفعلون هناك؟! ).
ضمت شفتيها الى بعضهما وهي تستند الى حافة الطباخ ونزلت دمعة بطيئة من جفنها شعرت بروحي تنزل معها كلما نزلت اكثر. ما الذي يحصل بحق السماء؟
- ذهبوا ليعيشوا هناك عزيزتي.
اين ذلك القاموس لو سمحتم؟ انها جملة اخرى لا استوعبها. لحظة. دعوني ارتبها. رحلوا. غادروا. لن يعودوا. ذهبوا ليعيشوا هناك، حسناً. لازلت لا افهم!
تحرك رأسي بالنفي من تلقاء نفسه وكأن جسدي خرج عن سيطرتي ولا يمكنه تقبل كلامها فهو ليس منطقي على الاطلاق. تقدمت بضع خطوات مني وانا ارسم الاستنكار فوق وجهي وقالت ودموع اخرى تلحق بتلك البطيئة:
- اعلم ان الامر صعب حبيبتي. ولكن كان يجب فعل شيء كهذا لتحظي بالراحة هنا. هذا هو قرار جدك الذي سألتني عنه ولم اجيبكِ يومها. لقد قرر ابعاد الجميع عنكِ وابعادكِ عن الجميع...
لحظة. أهي جادة؟ أهناك كاميرا مخفية في مكان ما؟ حسناً، متى سأسمعهم يهتفون خدعناكِ ثم يشرعون بضحك سخيف؟ اووه ربما هذه كذبة ابريل! ولكن اللعنة نحن لسنا في ابريل حتى! ما الذي يحصل بحق السماء؟ كيف للجميع ان يرحلوا؟ وماذا تعني ب الجميع؟
لحظة. أتعني الجميع؟
فجأة بهتت ملامحي واسترخى انقباض وجهي بل استرخى كل جسدي واصبحت اشعر انه اصبح هلامياً غير قادرة على ابقائه متماسكاً مع تلك الفكرة الاخيرة التي غزت عقلي، يوسف! أيعقل؟.
سرت فوراً باستعجال وبخطوات صارمة وصعدت السلم راكضة غير مبالية بهتافات عمتي التي تتبعني. طرقت باب غرفته ووقفت امامه ارتجف واعصر عيني بقوة، ارجوك. اي صوت. حركة. همسة. اي شيء. فقط قل لي انك في الغرفة. ولكن لاشيء، فتحت عيناي وكورت قبضتي وضربت الباب بعنف اكبر ولكن من دون اجابة ايضاً، ففتحت الباب بعنف واقتحمت الغرفة وعمتي تتبعني بدموعها وتوسلاتها بأن اهدأ، كيف اهدأ؟، اي جنون هذا الذي يحصل؟ غرفة يوسف خالية؟ فتحت باب خزانته لعلي اجد بعض الثياب. ولكن كل ما كان هناك هو الخشب فقط.
ما انا متأكدة منه اني لست اعاني من الربو او من اي مرض في الرئة. ولكن الان. وفي هذه اللحظة بالذات عجزت عن التنفس. تسارعت انفاسي وكأني اجاهد في التقاط بعض حبيبات الهواء كي تدخل رئتي. ولكني لازلت اشعر بالموت يسري ببطء في جسدي ويخنقني. لايمكن ان يفعل بي يوسف هذا! هذا مستحيل!
وقعت يداي بجانبي من فوق مقبض الخزانة وتراجعت قدماي نحو الخلف لترمي جسدي فوق حافة سريره وانا احدق بصدمة في خزانته الفارغة. شعرت بمياه ساخنة تحرق وجنتاي. وشيء ما عالق فوق حنجرتي يفرز لي المزيد من هذه المياه. لااملك مرآة ولكني واثقة ان وجهي شديد الاصفرار الان لأن الغرفة تدور بي كعجلة مدينة الملاهي ومعدتي تدور معها ايضاً. من الجيد اني فاقدة القدرة على النطق. لأني كنت سأفقدها بكل الاحوال الان فأنا.
اعجز عن التعبير بأي شيء عما يحصل. فكيف لي ان اعبر عن شيء لم افهمه بعد؟
لحظة. تلك السهرة. أكانت الوداع؟ هل مكانتي لديه بهذا الرخص والبساطة؟ يمنحني بضعة افلام مضحكة وصحن فشار ليتخلى عني بعدها؟ من دون تفسير. من دون نقاش. من دون وداع. ومن دون وعد بالعودة. رحل ببساطة وتركني. لم يحارب من اجلي. ولم يتمسك بي ابداً. ألست
عليائه؟ هل كان كل هذا مجرد. خدعة؟ ولأجل ماذا؟
جلست عمتي القرفصاء امام ركبتي واحاطت وجهي بكفيها لأغرقهما بدموعي وقالت لي بشفقة:
- لقد فعل هذا من اجلك.
قمت بغضب من فوق السرير وابعدت يدا عمتي عني ونظرت اليها بحدة من وسط ودموعي وانفاسي المضطربة، ولأول مرة في حياتي اكره نفسي كوني خرساء. اردت ان اصرخ بحروفي. ازمجر بكلماتي. فقط لأهدأ البراكين المتفجرة بداخلي. ولكن صوتي لم يخرج. واكتفيت بالإشارات فحسب التي لا اشعر ابداً أنها تخمد تلك النيران:.
- (اياكِ ان تقولي هذا عمتي. انه مثلهما تماماً. تخلى عني بحجة ان هذا من اجل مصلحتي)
وبالطبع هنا انا كنت اقصد والداي. احاطت العمة فمها بأطراف اصابعها تكتم صوت بكائها ثم ابعدتهما ونطقت ببضع حروف ولكن لم اسمح لها ان تكمل حتى اشرت لها بحدة:
- (جميعهم متشابهون. انا اكرهكم. انتم دائماً ما تتخلون عني وترحلون. لا احد يريد البقاء قربي، لذلك انا لا اريد احد بعد الان).
امسكتني عمتي من يدي مرة اخرى وهي تبكي وتقول بتوسل:
- نحن لم نتخلى عنكِ حبيبتي الصغيرة ولاحتى يوسف فعل. لقد اراد البقاء ولكني انا من اخبرته انه ان اراد حمايتك عليه ان يرحل للوقت الحالي. ويمكنك ان تقنعي جدكِ لاحقاً لربما وافق على اعادته.
سحبت نفسي بعنف من بين يديها وقطبت حاجبي بحزم واشرت لها:
- (لا، من لا يريد البقاء قربي بإرادته. فلن اعيده بإرادتي)
- لقد اراد ذلك.
(ولكنه لم يحارب. لم يخبرني لنجد حلاً معاً، ظل صامتاً ورحل ليجعلني امام الامر الواقع. لم يخبرني برحيله وفاجئني به كي لا امتلك الفرصة للمعارضة التي ستبقيه معي)
- نعم الامر كذلك ولكن ليس كما تظنين. لم نرد بقائه كي لايطلب احد اخر ذلك. اردنا حمايتكِ منهم حبيبتي كي لا يؤذوكِ.
ارتسمت شبه ابتسامة ساخرة فوق ثغري وانا اشير:.
(اجل. يا له من عذر واهي يقنع به نفسه، لوكنت انا مكانه يا عمتي لما تخليت عنه ابداً. ولكن جميع من احب يستمرون بالتخلي عني)
ثم تركتها وخرجت من الغرفة. لا اريد التواجد مجدداً في غرفته. لا اريد سماع اسمه. ولا اريد تذكره. مع ان هذا مستحيل بالطبع!
عدت نحو غرفتي واغلقت بابي لأنهار خلفه جالسة احتضن ركبتاي الى صدري وابكي بنبرة اقرب الى الصراخ، انا غاضبة. حزينة. وخائبة الظن. هل على ان لا اثق بأي احد مجدداً كي لايتركني ويرحل ويخون ثقتي؟ لابأس ان ضربني الاحفاد. لابأس ان تنمروا علي. المهم ان يوسف كان بجانبي. اراه كل يوم. اسمع صوته. يمازحني. يضحكني. يساعدني بدروسي. يرافقني للتبضع. يكون اخي واختي وابي وامي ورفيقتي وكل شيء اخر. شيء لا ارغب بمشاركته مع اي احد. حتى انني احياناً اشعر بالغيرة من ديما ان رأيته يهتم بها كثيراً. ولكني ارضخ للأمر على مضض كونها اخته. ولكني لن ارضخ له مع الاخريات ابداً. فأنا اريده لي. لي انا فقط. ويوسف قد تخلى عني ورحل. يا لي من حمقاء غبية! كيف لم ألاحظ الامر؟ لقد خدعني بهذه البساطة. ببضع جولات في السيارة. بشرائه لي ما احب. بأفلام وسهرة طويلة. وكأنني طفلة حمقاء يقنعها بهذه السخافات ثم يتركها ويرحل. بل يهرب. يوسف ايها الاحمق الغبي. لن اسامحك ابداً!
مرت ثلاثة ايام على رحيلهم. بالطبع يمكنكم تخيل مااشعر به. اصبحت قليلة الاختلاط مع من في القصر وقليلة الاكل وكثيرة النوم...
خرجت ذات صباح خارج بوابة المزرعة لأقصد نهر جميل كنت متأكدة انه سيضفي بعض التحسن لمزاجي! كان يمر من على بعد مسافة منا مجاور لمزرعة اناس اخرين، جلست قرب حافته واستندت بظهري على شجرة تفاح مثمرة وانا اراقب النهر بملامح تحمل كل معالم الحزن والتعاسة في العالم. وبالطبع شخص واحد فقط يحتل تفكيري يسبب لي هذا القدر من التعاسة، يوسف!.
لم اسمع صوته منذ ثلاثة ايام. لم يتصل احد ولم يأتي. وكأنهم لم يكونوا في حياتنا ابداً. اختفوا بلمح البصر مثل السراب ولم يظهر لهم اثر مجدداً.
حسبما قالت عمتي ان جدي منعهم من الاتصال على اي هاتف اخر سوى هاتفه الشخصي كي لا يحصل اي تواصل بيني وبينهم. ولكن ألم يكن بمقدوره مخالفة هذا القانون سراً؟ ً. ألم يكن باستطاعته الاتصال على عمتي ليحدثني؟ ربما ليبرر لي ذهابه بأي عذر ليقنعني به فحسب؟ ربما ليقدم لي اسفاً قد لن يفيد بشيء ولكنه على الاقل سيشعرني اني لست شيء بسيط في حياته وانه مهتم بما سأشعر وماذا سأظن؟، ولكن لاشيء من هذا قد حصل. لاشيء على الاطلاق!
وسط تخيلاتي ودموعي الصامتة مثلي ارعبني فجأة امتداد تفاحة حمراء امام وجهي. التفتت الى جانبي الايمن بفزع فشاهدت فتى بعمري تماماً يجلس بقربي يقضم بتفاحة ويمد الثانية الي، وكانت تلك هي المرة الاولى التي قابلت فيها فؤاد!.
متى جلس بقربي؟ ومنذ متى وهو هنا؟ وكيف لم اشعر به؟ كلها اشياء لااعرفها. كل مافعلته هو اني حدقت فيه بذهول وبلاهة بينما كان هو يتطلع نحوي بابتسامة لم افهم سببها. في الحقيقة لم يكن لها داعي ابداً!.
قال لي وكأننا اصدقاء مقربين منذ سنين:
- خذي. التفاح دائماً يساعدني في تحسين مزاجي العكر.
أدرت ابصاري المستاءة احدق في النهر غير مبالية بوجوده وكلامه. فماالذي سيجذبه بحديث خرساء سوى انه سيسخر منها ويرحل؟
- ماذا؟ هل ستتجاهلينني هكذا فحسب؟ اوه إذاً ستستخدمين هذه الطريقة معي؟ لا تقلقي لن اطلب رقم هاتفك فأنا لدي حبيبة بالفعل.
التفت اليه بدهشة. ما هذه الجرأة والصراحة التي يتحدث فيها الي؟ منحني ضحكة بلهاء وهو يقدم التفاحة باتجاهي اكثر لدرجة انه كاد ان يدخلها في فمي وقال:
- خذي فيدي تعبت وانا امسكها لكِ.
طرفت بعيني عدة مرات وانا غير مستوعبة هذا النموذج الذي امامي. بينما هو كان يتطلع نحوي ببراءة وكأنه مستغربني انا وليس انا التي اتعجب من تصرفاته الغريبة!
سحب يده اخيراً عني عندما شاهد اصراري على عدم اخذ التفاحة وانا احدق فيه بذلك الجمود. مط شفتيه بملل واخذ يقضم تفاحته بنهم وهو يراقب النهر معي فأعدت ابصاري حيث كانت ولاشيء اسمعه سوى صوت هرس التفاح داخل فمه. اختفى صوت العصافير وصوت جريان المياه ولم تستقبل إذاً اي سوى صوت طعامه. يا له من شخص مستفز. وغريب!
قال بينما ينظر الى النهر:.
- انا احب هذا المكان جداً، دائماً ما آتي اليه. ولكني لم اركِ من قبل هنا. هل هذه هي المرة الاولى لقدومكِ؟
لم التفت اليه ولم اشر بشيء. فبداخلي بركان هائج سأفرغه بأي لحظة في احدهم ولا اريد ان يكون هذا الشخص الغريب ضحية غضبي لاسيما ان اشرت له ولم يفهمني او سخر مني. لذلك تجاهلته وحسب. ويبدو انه احترم رغبتي وترك لي حرية عدم الاجابة، ولكن احترامه هذا لم يدم سوى دقائق مع الاسف!
- ألن تقولي ما الذي يدفعكِ للبكاء؟
قال جملته هذه بعد خمس دقائق من الصمت. لما هو فضولي هكذا؟ واخيراً استسلمت للأمر واحببت ان اوصل له فكرة اني خرساء ولا اتجاهله. فأشرت له وكنت متأكدة انه لن يفهمني لكني احببت ان اجعله يفهم انه لن يفهم اجابتي ان اجبت لذلك افضل الصمت:
- (لاداعي ان اخبرك فأنت لن تفهمني)
اصبت بالذهول عندما وجدته يجيب:
- جربي لتعرفي ان كنت سأفهمك او لا.
وقع فكي السفلي بدهشة عندما فهم اشارتي فعدت اشير اليه بتردد:
- (انت. هل تفهم مااقول؟! )
- وهل تريني احمق كي لاافهم.
ثم اطلق ضحكة خفيفة وهو يرفع حاجبيه بتفهم ويقول:
- اوه لهذا السبب كنتِ تتجاهليني؟ لم تظني اني سأفهم لغة اشارتكِ؟
اومأت برأسي ب نعم ببطء ولازالت عيناي تحمل بعض الاستغراب والاندهاش فقضم من تفاحته قضمة كبيرة قبل ان يجيبني من وسط فمه المليء:.
- قبل سنين اصيب صديقي المقرب بحادث فقد النطق بسببه فتعلمت لغة الاشارة من اجله كي لايشعر بالوحدة. الان استعاد صوته ولكني لازلت افهم تلك اللغة.
نظرت له بدفئ واحترام. فهذا شيء عظيم يفعله احدهم من اجل صديقه. مثلما فعله يوسف من اجلي. فأشرت له:
- (هذا لطف كبير منك)
هز كتفه بعدم مبالاة وهو يقول:.
- وصديقي قال هذا ايضاً. ولكني لم اجده شيء مهم يستحق كل هذا الامتنان. اعني هو صديقي، لابد ان افعل شيء كهذا من اجله.
عدت بأبصاري مجدداً نحو النهر وهذه المرة بابتسامة لم يكن لها مصدر ايضاً ولكني كنت سعيدة فقط اني وجدت شخصاً بعمري ويفهم لغتي. فخارج حدود قصرنا انا اشعر بالفعل اني خرساء فقلما يفهمني احد. فبداخل القصر الجميع يعرف اشارتي وحتى الخدم فالذي يتقدم للعمل ولايعرفها يجبره جدي على تعلمها من اجلي كي لااشعر بالعجز يوماً، اما خارج حدود القصر فأني اجد صعوبة كبيرة في التواصل مع الاخرين وقليل جداً اتعرف على اناس جدد. ولكن اليوم قد فعلت!
عادت التفاحة مرة اخرى لتمتد امامي وهو يبتسم ويقول:
- انا فؤاد بالمناسبة.
اخذت التفاحة من يده بابتسامة واشرت له: - (وانا ع ل ي ا ء)
بالطبع اشرت له بحروف اسمي كي يفهمه فتبسم واشار لي:
- (سعيد بلقائك علياء)
وكم كنت سعيدة بالفعل لأنه اشارها لي ولم ينطقها. فهذا منحني تواصل اكثر فأشرت له وابتسامتي اصبحت اكثر اتساعاً:
- (وانا كذلك).
قضمت من تفاحتي وانا مذهولة من نفسي ومن سرعة التواصل بيننا وكيف بحديثه البسيط والمرح هذا قد ازاح بعض من الغمامة السوداء التي تخيم على سماء قلبي بسبب رحيلهم عني، وبالاخص رحيل يوسف. بل والاهم من بينهم جميعاً. ولكني على الاقل عثرت على صديق. شيء جيد. أليس كذلك؟
استمر جلوسنا مع بعض لمدة ساعة كاملة نتبادل بعض الاحاديث وراحة غريبة تسللت الى قلبي من حديثه ومزاحه. بدأت الشمس تعلن انسحابها امام هيبة الظلام وبدأت تتلاشى وتغوص في جوف الارض. حسناً دقت ساعة الرحيل الان. نهضت عن مكاني ونفضت ذرات التراب الصغيرة العالقة بملابسي واشرت لفؤاد الذي رفع بصره إلى حال وقوفي:
- (يجب ان اذهب الان فعمتي ستقلق علي. )
وقف مبتسماً واتكأ بظهره على جذع الشجرة الطويلة وهو يقول:.
- أسنلتقي هنا غداً ايضاً؟
رفعت كتفي بعدم معرفة ومنحته ابتسامة وانا اشير:
- (لااعلم. ربما. فالمكان قد اعجبني)
فأجابني بحماس:
- إذاً لنجعله مكاننا الخاص نلتقي به دائماً!
- (حسناً. تبدو فكرة جيدة! ).
لوحت له مودعة ولكنه اكتفى بابتسامة هادئة مع منحي نظرات لم استطع فهم معناها ولم يرفع يده ليودعني. فبالنسبة له الوداع لم يحن بعد!
سرت خطوتين مبتعدة عنه. فجأة توقفت. اختفت الابتسامة تدريجياً عن شفتاي وكلما اختفت كلما جحظت بعيني بصدمة اكبر. شعرت وكأن صاعقة رعدية قد ضربتني لتجعل قلبي ينبض بهذه الطريقة وتضطرب انفاسي بهذا الشكل، أتعلمون ما صعقني؟ كانت عبارته وهو ينطقها لي بهدوء:
- قد لا تسكن الحلوى الآمك. ولكنها ستنشط روحك بالتأكيد.
قد تكون عبارة عادية وبسيطة بالنسبة لكم، ولكنها ليست كذلك بالنسبة لي. ليست كذلك على الاطلاق، التفت اليه ببطىء وعيناي مفتوحاتان لأقصى حد ممكن من الذهول. كان ينظر إلى ببساطة وهدوء وشبه ابتسامة تعتلي زاوية فمه، هذا، أيعقل؟
فجأة مر نسيم هواء قوي بعثر خصلات شعري امام وجهي فلم املك القدرة او حتى الانتباه لأبعادها بل استسلمت وابتعدت بمفردها. تجمدت في مكاني وانا احدق فيه بذهول وصدمة وهو يحدق بي ببرود وابتسامة. ازدردت ريقي بصعوبة وحاولت ان التقط بعض حبيبات الهواء كي لاتتوقف رئتي عن العمل ثم تماسكت واشرت له ببطء وتردد كي اتأكد من ظنوني:
- (من اين عساك تحصل على الحلوى هنا؟ ).
لاحظت ابتسامته تزيد وقد ادرك الى ما ارمي فجاراني بما افعله واجابني:
- بالطبع ليس من هنا، كنت قد اشتريتها قبل احضاري ونسيتها في جيب بنطالي والأمس بالصدفة قد شاهدتها.
تقدمت نحوه خطوة وبعض الدموع تجمعت في عيناي جعلتني لا اراه بوضوح وانا اكمل اشارتي له:
- (لو كنت مكانك لأكلتها فور ايجادي لها خشية ان يسلبوها مني)
استعدل بوقفته وهو يجيبني ونبرته اكتست بالشفقة والعطف:.
- نعم. ولكن لااعلم لماذا لم افعل. ربما القدر ارادها لكِ...
عند هذه الجملة لم اتحمل وكتمت فمي بيدي مانعة شهيقي العالي من الخروج وتساقطت دموعي الثقيلة بقوة لتنظف عيناي وتتضح رؤيته امامي لأرى بعض الدموع تغطي عينيه وهو يفتح ذراعيه لي ويقول:
- مرحبا.
حركت رأسي بعدم تصديق وانا ابتسم بسعادة واشير:
- (هل انت 607 حقاً؟! ).
وقبل حتى ان يمنحني اجابة ركضت نحوه بسرعة وارتميت داخل يديه التي يفتحهما من اجلي وعانقته بقوة فبادلني العناق وبدأ يمسح على شعري بلطف يحاول تهدأتي من نوبة البكاء التي اجتاحتني في احضانه، اشعر ان الماضي فتح كل ابوابه بوجهي الان فجأة، وما كنت احاول دفنه طوال سنين انبعث من جديد من بين التراب، فؤاد، أيعقل ان هذا انت حقاً؟!
بقينا نصف ساعة اخرى معاً تارة اضحك وتارة ابكي الى ان غطى الظلام السماء تماما. ولكني لم اشأ ان اعود للمنزل هذه المرة. اردت ان ابقى اطول فترة ممكنة معه. سألته اكثر سؤال يجتاح عقلي ويمنعني من التفكير بغيره:
- (كيف وجدت مكاني؟ وكيف وجدتني؟ )
تبسم وهو يقول لي:.
- انا لم افقدكِ ابداً لًأجدك الان، فمنذ خروجي من هناك وانا اعلم بمكانك. ولكن كان صعب على ان التقي بك في ذلك الوقت وبوجود جميع اسرتكِ. لاسيما يوسف الذي لم يكن يترككِ. لذلك استغللت فرصة رحيلهم لأتي اليكِ.
- (لقد كنت افكر بك دائما. )
منحني نظرة وابتسامة ماكرة وهو يقول:
- أحقاً؟ حتى بوجود يوسف؟
توردت وجنتاي من الخجل واحسست بالحرارة تنبعث من كل تقاسيم وجهي فأرجع رأسه للخلف وهو يقهقه ضاحكا ثًم مسح على شعري وهو يقول:
- أتظنين اني لم اكن اعرف؟
ضربته بخفة وخجل فوق كتفه فأدعى التألم وهو يقول:
- يا إلهي. يا لكِ من قاسية!
ثم وقف وسحبني من يدي ليوقفني معه وقال:
- هيا يا صغيرة. عودي الى المنزل قبل ان تقلق السيدة سمية عليكِ.
فأشرت له فوراً:
- (ولكننا سنلتقي مجدداً، أليس كذلك؟ ).
- بالتأكيد سنفعل بل وكل يوم ايضاً. أًتظنين انه بإمكانك التخلص مني بسهولة؟
- (الجميع يعدوني بالبقاء. ولكن لااحد يلتزم بوعده معي)
وضع يده بلطف فوق خدي وهو يقول:
- انا لست مثل الجميع. ومن المستحيل ان اترككِ.
تبسمت بأمتنان وانا استشعر صدق كلماته ثم ودعته ورحلت بعد ان اطمأننت بقابلية لقائنا مجدداً.
عدت للمنزل بابتسامة عريضة تزين وجهي لااستطيع حتى اخفائها. وبالطبع وجدت العمة سمية تنتظرني عند البوابة الخارجية للمنزل قد اخذ القلق ركناً في قلبها ليثير مخاوفها من تأخري. اول ماوصلت اليها استقبلتني بأسئلة سريعة ومتواصلة لاتعطيني الفرصة لأجيب واحد قبل ان تطرح الاخر:.
- اين كنت عزيزتي؟ ولما تأخرتي هكذا؟ ألا تعلمين اني اقلق بسهولة؟ ولماذا لم تعطيني علم مسبق بمكان تواجدك كي لااقلق ان تأخرت؟ ومنذ متى وانت تتأخري لهذا الوقت؟
تبسمت وانا اشير لها:
- (على رسلكِ عمتي دعيني استوعب أسالتك الواحد تلو الاخر)
ارتفع حاجبا عمتي بدهشة وتبسمت بسعادة عندما لاحظت تغير حالي. فقد خرجت بوجه كئيب وباكي وعدت بابتسامة عريضة ومرحة. احاطت وجهي بيديها وهي تقول لي بحنان:.
- انا لا اقصد مضايقتك حبيبتي او حبسك في المنزل ولكني كنت قلقة عليكِ.
عانقتها بقوة ثم ابتعدت عنها قليلاً وانا اشير لها:
- (لقد تعرفت على صديق جديد. وقد استغرقنا وقتاً طويلاً في الكلام ولم انتبه للوقت)
فأجابتني بفرحة وحماس:
- اه يا إلهي. هل حقاً تعرفتي على احدهم؟ يا إلهي انا سعيدة جداً لذلك حبيبتي بدل حبسك لنفسك طوال الوقت في هذا المنزل. قولي لي. كيف تعرفتي عليه؟ وهل هو من هنا.
- (التقيت به قرب النهر. اسمه فؤاد وهو بعمري تماماً. واظنه ابن احد مالكي المزارع المجاورة لنا. لذلك سألتقي به كثيراً في الفترة القادمة)
- اجل سيكون هذا جيداً. اخرجا معاً لتحسنِ مزاجك للأفضل، وبالتأكيد له اصدقاء سيعرفكِ عليهم. هذا رائع جداً صغيرتي.
ثم قبلتني بقوة فوق جبيني وانا ارى مدى فرحتها لخروجي من صومعة الحزن التي كنت اعيش بداخلها وسيري خطوة بسيطة في عالم من هم في عمري بدل بقائي طوال الوقت وسط جدران هذا المنزل كارهٍة الاختلاط بالأخرين الذين لا ينتمون لأسرتي، بدأت زهور ربيعي تتفتح بعد فصل شتاء طويل، والعمة سمية كشعورها بالأمومة ناحيتي كانت ترى ان هذه خطوة رائعة اتخذها، رغم ادراكي جيداً أنها ستندم لاحقا بسبب هذا الخطوة ولكانت ستتمنى لو انها عزلتني بعيداً عن العالم كله، ولكن الاوان قد فات، وتلك اليرقة الصغيرة ستكبر لتصبح فراشة اخرى ستفرد جناحيها بقوة تتراقص حول النار وهي تعلم جيداً أنها ستحرقها!.