قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس عشر

سألاحق أمجد حتى آخر يوم في عمري، حصلت على قلبه مرة و لن يكون هذا مستحيلا أن أحصل عليه مجددا، سبق و تركك رجل و اختراني و لن يكون مستحيلا أن يتكرر الأمر، استوعبي كلامي جيدا لأنني لن ألقيه جزافا، كانت تلك الكلمات تبدو كلحن رتيب، يأبى أن يغادر أذنيها، و كأنه تعويذة سوداء ألقيت عليها...
رفعت مسك وجهها عن كوب الشاي الذي كانت تعده بشرود و تقلبه طويلا على الرغم من أنها لم تضع أي سكر من الأساس...

محدقة في جدران المطبخ بصمت، بملامح باهتة، و عينين شديدتي العمق...
ثم لم تلبث أن همست بصوت غريب
(ليذهب، إن أراد فليذهب، سيكون هذا هو عقابه الأفضل على الإطلاق، بل و سأرسل له أجمل بطاقة تهنئة بنفسي، بخطي، لست أنا من تحارب لإستعادة، رجل)
(هل تحدثين نفسك؟، همممم)
انتفضت مسك حين سمعت هذا الصوت الرجولي من خلفها و كما فعل ليلة أمس كان قد تسلل من خلفها، ليحيط خصرها بذراعيه وهو يداعب عنقها بشفتيه...

لم تكن قد شعرت بإستيقاظه، أو دخوله حافي القدمين الى المطبخ، فأطاحت يدها بكوب الشاي خلال إجفالها ليسقط على الأرض بجوار قدميها الحافيتين كذلك، متهشما الى شظايا...
هتف بها أمجد محذرا بقلق
(احذري)
الا أنها كانت تتحرك بعشوائية و هي تقول ببرود
(لقد أجفلتني، ابتعد لأنظف ال)
الا أن كفي أمجد أمسكتا بكتفيها ليبعدها بالقوة وهو يقول حازما...
(ابتعدي عن الزجاج و الشاي الساخن، ستؤذين قدميك).

نظرت اليه نظرة طويلة، خالية الشعور وهو يجلسها على أحد الكراسي الطويلة، غافلا عن شرودها الباهت به، بينما اهتم هو بمسح الأرض و تجميع قطع الزجاج المكسور...
أخذت مسك في تلك الأثناء تتأمله بنفس العينين العميقتين، تنظر الى هاتين الذراعين اللتين ضمتاها طوال الليل الى صدره...

كانت كلما تتذمر و تحاول الإستدارة بعيدا عنه كي تنساق الى نوم عميق، كان يشدد من ضمها اليه رافضا وهو يهمس في أذنها بصوت خشن شديد الخفوت
(لا، ستبقين هنا)
حتى يئست من إصراره و تغلب النعاس عليها، لكن و قبل أن يغلبها تماما، شعرت بأصابعه و هي تداعب شعرها حول وجهها، و بشفتيه تنخفضان حتى لامستا جبهتها وهو يهمس و كأنه يهمس لنفسه.

هذا الشعر يفتنني، كيف لحفنة من الشعر الناعم أن تأسرني بهذا الشكل؟، ربما لأنه ليس مجرد شعر عادي، بل هو، بعدها لا تتذكر بقية كلماته، لأنها كانت قد ذهبت الى عالم بعيد مريح، بعد ساعات من التوتر العصبي و النفسي، ثم العاطفي معه...
أما الآن و هي تنظر اليه، فكانت تشتم نفسها على النوم قبل أن تسمع ما كان يقول...
ضيقت عينيها و هي تتأمل فكه الذي فتنت به مؤخرا، ثم هزت رأسها و هي تسأل نفسها بغباء.

أي فك الذي تفكرين به الآن؟، الرجل على وشك تركك لأجل امرأة أخرى و ها أنت تتغزلين في فكه ذي اللحية الشقراء و غمازة سخيفة! كان أمجد قد انتهى مما يفعل، ثم استدار اليها، الا أنه توقف مكانه وهو ينظر الى ملامحها بدهشة...

كانت حيث تركها، الا أن شكلها كان غريبا، بأصابع قدميها الملتفة حول القضيب المستدير للكرسي الذي تجلس عليه، و ملامح وجهها العابسة المتجهمة و التي تنظر اليه كمن تريد أن تضربه بأقذر شيء تصل اليه أصابعها...
رفع أمجد حاجبه وهو يسألها قائلا
(ترى أي طريقة تشغل بالك حاليا، كي تنتقمين بها مني؟)
أجفلت مسك مجددا على صوته الهادىء، الا أنها سيطرت على ملامحها و سألته بعد لحظات ببرود.

(هل فعلت شيئا يستحق أن أنتقم منك لأجله؟)
تحرك أمجد ليستند الى طاولة المطبخ أمامها وهو يكتف ذراعيه، ينظر اليها بدقة، ثم قال أخيرا بجدية
(ربما بدئا من افسادي لتلك الأمسية العاطفية التي سبق و أعددتها لي، الا أنني قابلتها بقسوة)
شعرت مسك بشيء ما أوجع قلبها، تلك الذكرى تؤلمها...
من بين كل التفاهات في العالم، تظل معاملته لها تلك الليلة و الكلام الذي رماها به، كسلاح حفر بها شيء لن تنساه مطلقا...

الا انها تمكنت من الإبتسام بسخرية و هي تسأله بلامبالاة قائلة
(ألا زال هذا الأمر يشغللك؟)
لم يتراجع بسبب طريقتها الساخرة الباردة، الا أنه أجابها مباشرة وهو ينظر الى عينيها
(لقد بكيت)
أظلمت عينا مسك و قست ملامحها، الا أنها رفعت ذقنها و نظرت اليه قائلة بهدوء
(هذا يظهر لنا، الى أي حد يمكنك أن تكون فظا، عديم الأخلاق و التهذيب، أرجو أن تكون قد سعدت بهذه الدموع التي لطالما تمنيتها).

لم يرد أمجد على الفور، الا أن بعض الشحوب طفا على ملامحه، ثم اختفى سريعا، فقال بخفوت أجش
(ليست تلك الدموع التي أتمنى رؤيتها، سبق و أخبرتك بذلك)
استطاعت مسك اجبار نفسها على ارجاع رأسها للخلف لتضحك عاليا، ضحكة تبدو ساخرة في ظاهرة، الا أنها جوفاء، تخفي بعض الألم...
ثم سألته بقسوة
(و تمتلك الجرأة على تصنيف دموعي؟، الا تظن نفسك تتمادى قليلا يا حسيني؟).

أجاب سؤالها بسؤال مباشر وهو يتجه اليها حتى وقف أمامها مباشرة، ليمسك بذقنها يرفع وجهها اليه
(لماذا لم تهجريني؟)
تصلبت ملامح مسك، و شحبت، ثم شعرت ببرودة تسري في عمودها الفقري، قبل أن تتحول الى سخونة و تعرق، كل هذا خلال لحظات، كانت تجلس فيها امامه، وذقنها في كفه الدافىء...
بينما عينيها و كأنه ربطهما به للأبد...
عقدت مسك حاجبيها و ضحكت بعصبية، و هزت رأسها قائلة بتوتر
(ماذا؟)
قال أمجد دون أن يبتسم أو يتراجع.

(لماذا لم تهجريني بعد ما فعلته؟، كان هذا أقل ما أتوقعه من مسك الرافعي عقابا لي على معاملتي لك بتلك الطريقة)
بدت مسك تتنفس بسرعة أكبر، الا أنها تماسكت و سألته ببرود قاس
(هل هذا ما تتمناه؟)
رفع أمجد حاجبيه و قال بفظاظة وقحة
(ربما تجيبك ليلة أمس مثلا عن سؤالك الغبي هذا، الآن دورك في الإجابة، لماذا لم تهجريني؟)
ظلت النظرات بينهما تتواجه في حرب صامتة متحدية، الى أن قالت بإختصار.

(لم أعتد إعلان الفشل سريعا، لمجرد أن أحدهم تصرف بطريقة رجعية متخلفة)
ارتفع حاجبي أمجد ببطىء، و لمعت عيناه، مما جعل أعماقها ترتبك و تتشابك و تتعقد، الا أنه قال بعد فترة طويلة بصوت بطىء يحمل بعض الرضا...
(حقا! على القول أن هذا كان منتهى الكرم منك حبيبتي، لقد ظننت بعد خروجي من البيت تلك الليلة، أنك ستلحقين بي و لن تعودي مطلقا)
لا تعلم ما الذي هزها أكثر...

كلمة حبيبتي التي خرجت من فمه بعفوية و كأنهما حبيبين منذ زمن طويل، أم تلك النبرة في صوته و كأنه يحدد شيء ما، هي ترفض الإعتراف به...
أرادت الصراخ به كي لا يتأمل كثيرا، الا أن الكلمات وقفت في حلقها و رفضت الخروج بينما هي تنظر اليه، وهو ينظر اليها، قبل أن يهز رأسه قائلا بصوت متأوه
(ياللهي، كم سأشتاق اليك!)
ضربتها العبارة المبحوحة في مقتل، للحظات شعرت بأنها تهتز و تكاد أن تسقط من فوق الكرسي المرتفع...

لكنها أمسكت بحافتي المقعد تحت ساقيها و هي تنظر اليه بنظرات لا معنى لها، ثم سألته بنبرة مبهمة
(س، تشتاق الي؟)
أومأ أمجد برأسه قبل أن يترك وجهها قبل أن يمسك بخصرها يسحبها اليه حتى أوقفها على قدميها ثم ضمها بشدة متأوها بصوت متشدق مداعب حتى رفعها عن الأرض وهو يقول بصوت مدفون في عنقها
(كيف لي أن أتركك بهذه السرعة؟)
اتسعت عينا مسك و هي تتشبث بذراعيه المحيطتين بها و هي تشعر بالعالم يدور من حولها.

بماذا يهذي؟، كيف، و لماذا، هل...
هناك شيء خاطىء، لذا أبعدت وجهها عنه و نظرت اليه طويلا قبل أن تسأله بصوت مهتز النبرات
(لست، لست أفهم)
تنهد أمجد بصوت قاتم وهو ينظر الى عينيها دون أن ينزلها أرضا، بل ظلت معلقة بين ذراعيه...
ثم قال بصوت ثقيل آسف
(أنا مضطر للسفر لمدة أسبوع، مهمة تخص العمل، ).

رمشت مسك بعينيها و هي تفلت نفسا مضطربا من بين شفتيها الباهتتين، بينما بقت ملامحها على نفس الثبات و الهدوء، و ما أن وجدت صوتها حتى قالت بخفوت و هي ترفع شعرها عن عينيها بحركة واهية
(لم تخبرني عن تلك السفرة من قبل!)
أنزلها أمجد أرضا، الا أنه أبقاها بين ذراعيه، ثم قال بصوت أجش.

(الأيام الأخيرة كانت مرتبكة بيننا، الكثير من الأحداث و المشاكل، لم أرد أن تظني بأنني سأبتعد بسبب غضبي منك، لذا انتظرت الى أن تحل المشكلة بيننا)
كانت مسك تنظر الى ملامحه القريبة منها و هي تحاول استيعاب كلامه، مع تلك النبضات المضطربة التي اختلت فجأة منذ لحظات، الا أنها تمكنت من القول بنبرة غريبة
(و هل حلت المشكلة بيننا؟)
بادلها النظر بدقة، ثم سألها بجدية قائلا
(أنت أخبريني).

ساد الصمت بينهما و كل منهما ينظر الى الآخر، و خلال تلك اللحظات الغريبة، ضربتها الحقيقة الصادمة...
لقد نست أشرف تماما خلال الساعات الماضية، نست تشفيها منه، و نظراته المراقبة المتحسرة لها عن بعد، بدا و كأنه قد تبخر تماما من ذاكرتها، بعد اتصال غدير...
تبخر خلافها مع أمجد، و تبخر أشرف بوجوده الباهت و بقت عبارتها...

سألاحق زوجك، نعم، سألاحق أمجد حتى آخر يوم في عمري، حصلت على قلبه مرة و لن يكون هذا مستحيلا أن أحصل عليه مجددا، سبق و تركك رجل و اختراني و لن يكون مستحيلا أن يتكرر الأمر، استوعبي كلامي جيدا لأنني لن ألقيه جزافا، كانت مسك تهز رأسها و هي تنظر الى أمجد فاغرة شفتيها قليلا و كأنها تنفي شيئا ما...
عبارة واحدة بصوت غدير أنستها كل شيء، أنستها الإنتصار الذي تمنته طويلا...
و أحلت الخوف محل الإنتصار...

نعم، هذا هو الإعتراف الذي كانت تأبى أن تنطق به لنفسها منذ ساعات...
مسك الرافعي خائفة، لمجرد أنها سمعت تهديدا أحمقا من صديقة جشعة!
هل هي خائفة لإدراكها أن غدير محقة و أنها تستطيع سرقة أي رجل منها؟
ام خائفة من، تلك الصدمة التي ستضربها بوحشية إن سمح أمجد لنفسه بأن تسرقه امرأة!
ستدعه يرحل، و ستكتب له بطاقة تهنئة بخطها...
نعم ستفعل، و بصدر رحب، ليس هناك من يستحق...

أطرقت برأسها و هي تدعم نفسها فجأة ممسكة بذراعي أمجد الذي تشبث بها و هو يعقد حاجبيه قائلا بقلق
(مسك، ماذا بك؟، هل انت بخير؟)
رفعت وجهها تنظر اليه بنفس العينين الواسعتين و الشفتين المفتوحتين، و كأنها، ذاهلة
تسرقه منها؟، تأخذه منها؟، أيقبل؟، هل ينصاع؟
لقد سبق و فعلها أشرف بعد قصة حب دامت لسنوات...
بينما حب أمجد لها لم يكمل العام حتى، لا يزال يحبو بخجل...

ابتلعت شيء مؤلم في حلقها و هي تنظر الى عينيه القلقتين، و كأنها تعاتبه سلفا...
و كأنها تخبره بصوت مرتجف سري
ألم أخبرك؟، ألم أخبرك أنه لا شيء اسمه حب دائم؟، ليس من حقك، ليس من حقك بعد أن غمرتني في موجات تضحياتك و شغفك، لن أسمح لك، لم تدري بأنها الكلمة أفلتت من بين شفتيها دون أن تستطيع منعها
(ليس من حقك، لن أسمح لك)
ازداد انعقاد حاجبيه بشدة و فتح فمه قليلا، قبل أن يقول مصدوما.

(لن تسمحي لي، بالسفر؟، هل أزعجك سفري الى هذه الدرجة؟)
انتفضت مسك و هي تنظر اليه بهلع، ثم لم تلبث ان هزت رأسها بقوة و هي تعقد حاجبيها ضاحكة بعصبية قائلة
(لا، بالطبع لا، لقد كنت شاردة في شيء آخر، بالطبع ستسافر لإنجاز عملك، لا مشكلة)
الا أن أمجد كان ينظر اليها بشك غير مقتنع، و كأنه يحاول التسلل عبر عينيها ليخترق روحها و كيانها و يعرف ما تفكر به...
ثم سألها بصوت خشن.

(هل أنت واثقة؟، يمكنني الإعتذار عن تلك السفرة)
هزت رأسها مجددا و هي تقول بحدة بدت أشد من طبيعتها
(بالطبع لن تعتذر، ما هذه السخافة؟ أنا لست طفلة غير قادرة على البقاء بمفردها في البيت)
رد عليها أمجد بجدية قائلا
(لم أنظر لك يوما كطفلة، لكن إن كنت غير راضية عن سفري فبإمكاني أن)
قاطعته مسك بصرامة قائلة
(بإمكانك السفر يا حسيني، كفاك تدليلا في، أنا لا أفضل هذا التدليل المائع)
رفع امجد حاجبيه و سألها ببرود.

(تدليل مائع! أنت حقا امراة لا تستحق)
زمت شفتيها و هي تسأل نفسها عن سر تلك الدبشات التي تلقيها بوجهه كلما حاول معاملتها برفق...
قالت مسك أخيرا بنبرة أقل صلفا
(كل ما قصدته هو أنه بإمكانك السفر مطمئنا، سأكون بخير)
ظل أمجد ينظر اليها طويلا، ثم قال بهدوء
(كنت أتمنى لو اصطحبتك معي، لكن عملك الجديد)
قاطعته مسك مبتسمة بصورة متكلفة
(لن يمكنني أخذ إجازة، قبل أن أبدا حتى، تفكيرك سليم، متى ستسافر؟ ).

رد أمجد بصوت أكثر خفوتا وهو ينظر الى عينيها
(غدا ان شاء الله)
رفعت مسك حاجبيها و هي تهمس لنفسها
(بهذه السرعة؟)
أومأ أمجد برأسه ببطىء متطلعا اليها ثم لم يلبث أن رفع أصابعه يداعب بها خصلات شعرها...
فتذكرت عبارته التي همس لها بها قبل أن تغفو ليلة أمس...

هذا الشعر يفتنني، كيف لحفنة من الشعر الناعم أن تأسرني بهذا الشكل؟، ربما لأنه ليس مجرد شعر عادي، بل هو،
لولا أنها سبق أن أرته صورتها بشعرها الطويل الكثيف من قبل و لم يبد اهتمامه أو انجذابه بها، لظنت أنه يفتن بشعور النساء الجميلة الناعمة...
ثم قال أخيرا بصوت هادىء
(هل ستكونين بخير؟)
أومأت مسك برأسها و هي غير قادرة على الكلام أكثر دون أن يتحشرج صوتها و يختنق...

فاكتفت بأن ابتسمت له ابتسامة أنيقة باردة، فربت على وجنتها، قبل أن يخفض رأسه ليقبل شفتيها برفق متمهل
تنهدت مسك عبر قبلته الطيبة الحنونة، ذات العذوبة الدافئة...
وودت لو تعلقت بعنقه، تترجاه كي لا يغادر...
لكنه أبعد وجهه عنها أخيرا وهو يبلل شفتيه، ثم أراح جبهته فوق جبهتها هامسا
(على الذهاب الى العمل الآن)
أومأت برأسها دون أن تجيب مجددا، ثم ابتعد عنها ليقول بجدية و اتزان محاولا قدر الإمكان.

(مهجة ستمكث مع أمي خلال سفري، لكن هلا قمت بزيارتها كل يوم ولو لدقائق؟)
أخفضت رأسها غير قادرة على مواجهة عينيه، فسألها بصوت أجش خافت
(هل الأمر صعب الى هذه الدرجة و يحتاج الى كل هذا القدر من التفكير؟)
كيف تخبره؟
كيف تخبره أن مواجهتها لوالدته و أخته توجعها، تشعرها بأنها ليست سوى زوجة من الدرجة الثانية و أنها مجرد تضحية قام بها ابنهما...

كيف تخبره أن وجود أطفال مهجة يشعرها بالشوق لل، للأمومة رغما عنها، وهو شعور كانت تحاول التأقلم على دفنه منذ زمن...
الا أنه لا وقت كي تفضي اليه بكل ما يؤلمها، حتى لو كانت تمتلك الوقت، ما كانت لتفضح آلامها أمام أي مخلوق، مطلقا...
لذا رفعت وجهها و ابتسمت له قائلة بصوت باهت
(ليس صعبا، سأمر بها كل يوم لأطمئن عليها)
ابتسم أمجد ابتسامة أظهرت غمازته، الا أنه لم يجبها، بل انحنى اليها يضمها الى صدره بقوة...

قبل أن يتركها وهو يتجه الى باب المطبخ قائلا بصوت مداعب
(لو بقيت أكثر فلن أتمكن من تركك و الذهاب الى العمل، لكن الليلة سأشبع بك شوقا مستقبليا طويلا فكوني مستعدة لي يا ألمظ)
أوشك على الخروج الا أنها نادته فجأة قائلة
(حسيني)
التفت ينظر اليها متسائلا، فسألته بنبرة عارضة و هي تتلاعب بحافة الطاولة ماطة شفتيها
(هل ستسافر بمفردك؟)
رد أمجد قائلا ببساطة
(لا، بل مجموعة).

أبعدت مسك خصلات شعرها خلف أذنيها و هي تتعمد القول ببساطة
(من هم؟، من سيسافر معك؟، لقد اشتقت، للجميع، نوعا ما. )
أملى أمجد عليها بضعة أسماء تعرفهم جيدا و تتذكر اسمائهم، و لم يكن اسم غدير بينهم...
فابتسمت و أومأت الى أمجد دون رد، لكن الإبتسامة لم تصل الى عينيها، لكن أمجد لوح لها بكفه، ثم استدار ليجهز نفسه كي يذهب الى العمل...

حينها اختفت الإبتسامة عن وجهها تماما، و ظلت تنظر أمامها بنظرات قاسية و نفس حاد...
و أجبرت نفسها على تحمل قبلته الشهية قبل خروجه من البيت، دقائق طويلة استغرقها خروجه حتى فعل...
و حينها و دون انتظار أسرعت جريا الى هاتفها، فطلبت رقم والدها و انتظرت و هي تعض على شفتها بتوتر، يشاركها اهتزاز ساقها بعصبية...
الى أن أجابها سالم قائلا
(صباح الخير يا مسك، خيرا؟ مبكرة أنت في الإتصال اليوم).

قالت مسك بتردد و هي تحاول جاهدة المحافظة على نبرتها الثقيلة التي يعرفها عنها الجميع
(صباح الخير يا أبي، كيف حالك و أخبارك و)
قاطعها سالم قائلا بصوت صلب
(ادخلي في الموضوع يا ابنة سالم، أنت تريدين شيئا)
ردت مسك بعصبية قائلة
(الا يمكنني الإستيقاظ في يوم و أنا أشعر بالرغبة في مكالمة أبي)
قال سالم بنبرة قاطعة
(جيد اذن، انا بخير و الحمد لله، أكلمك لاحقا لأنني مشغول الآن و متأخر في الخروج).

لكن مسك قاطعته بحدة و ترجي
(أبي)
توقف سالم أمام تلك النبرة المترجية و التي ذكرته بمسك القديمة...
تلك الأميرة التي كانت تتدلل عليه بمشاغبة كي تطلب المزيد و المزيد، وهو لم يكن ليؤخر عنها رجاءا أو طلبا...
كم شعر في تلك اللحظة الى تلك الفتاة ذات العينين البراقتين و التي تبتزه بدلالها عليه، عوضا عن مسك المستقلة تماما في كل ما يخصها...
لذا ابتسم بحنين وهو يقول بصوت أجش
(نعم يا مدللة أبيك، طلباتك أوامر).

ابتسمت مسك رغم عنها و سألته
(الا تزال تتذكر هذا اللقب؟)
رد عليها سالم بصوت جاف متألم
(و هل أنساه يا مدللة أبيك؟)
ارتسم الحزن على ملامح مسك و هي تتذكر تلك الايام التي جمعت بين ثلاثتهما، والدها و أمها و هي...
كانت تظن أنها الأوفر حظا بين الجميع...
حين كانت ترى نظرات العشق في عيني والدها وهو ينظر الى امها، كانت تظن أنهم الأسرة التي لامسها سهم من الجمال و الحب...
كم كانت أفكار طفولية تافهة!

الى أين انتهى حب والدها و أمها؟، بزواجه من أخرى في مجرد نزوة...
ليته أحبها لكانت أعطته بعض العذر، لكنها لم تكن سوى نزوة، أسفرت عن وجود انسانة مستقلة بعيدة...
شديدة البعد، و هي تيماء...
و على الرغم من محاولاته لتصحيح الخطأ طوال المتبقي من سنوات في حياة أمها، الا أن الصدع كان قد حدث و انتهى الامر، و راحت أمها و لم يتبقى منها سوى ذكرى محزنة لها في أيامها الأخيرة و المرض ينهشها نهشا...

ابتلعت مسك تلك المشاعر القاتمة التي لا جدوى منها و قالت بصوت خافت
(أنا اتصلت كي أسألك عن شيء، أمجد مسافر في مهمة خاصة بالعمل لمدة أسبوع، هل لديك فكرة على الأمر؟)
رد سالم قائلا
(نعم، هو نوع من تدريب، سيسافر به عدد من الموظفين و اثنين من الرؤساء، أحدهما أمجد)
أومأت مسك برأسها متفهمة، ثم سألته بنبرة حاولت أن تكون حيادية
(من سيسافر معه؟)
ساد صمت على الجانب الآخر، ثم سألها والدها بصوت متوتر متحفز.

(لم تكوني لتسألي سؤال كهذا من وراء ظهره الا اذا كان هناك خطب بينكما، أخبريني يا مسك، هل فعل لك شيئا؟، لأنني أنتظر اليوم الذي تشكين منه كي)
ردت مسك بنبرة قوية مقاطعة و نافذة الصبر
(ليس هناك من خطب يا أبي، حتى و إن كان، فأي بيت يحتوي على خلافات عادية، لماذا تشعر بالتحفز الدائم ضده، بينما يفترض بك أن تكون ممتنا له؟)
هتف سالم مستاءا
(ممتنا له؟، هل أنت مسك ابنتي التي تتكلم؟).

ردت مسك بنبرة تشبه نبرته في التسلط و السطوة ورثتها منه
(نعم أنا هي يا أبي، و أنا أقول ما عليك الإعتراف به، أمجد الحسيني رجل ممتاز ضحى بأبوته كي يتزوج مني مع تعهد على الا يتزوج غيري يوما، من من أبناء أعمامي أقدم على خطوة مماثلة، بها احترام و تضحية من أجل ابنتك يا أبي؟، حتى أنت لم تقدم لأمي المثل على الرغم من حبك لها!)
صرخ فيها سالم مهددا
(مسك، لا تنسي أنني والدك).

زفرت مسك بعنف و هي تحك جبهتها ثم لم تلبث أن قالت بخفوت
(أبي، لا داعي لكل هذا، فقط أخبرني بما أريد معرفته، من سيسافر مع أمجد؟)
ظل سالم صامتا لبضعة لحظات ثم قال أخيرا بصوت مستاء...
(لم أهتم بمعرفة الأسماء جميعها، لكن تلك الوضيعة زوجة ابن عمك ستسافر معه، هل هي من كنت تريدين السؤال عنها؟، ماذا فعلت مجددا؟)
شعرت مسك و كأن شيء ما قد صفعها بقوة، فظلت واقفة مكانها تنظر للبعيد بملامح غير مقروءة.

بينما والدها يناديها قائلا
(مسك، أجيبيني، لقد أقلقتني)
رمشت مسك بعينيها و هي تقول بنبرة باهتة
(أنا هنا، لا عليك، لا أحتاج لمعرفة المزيد)
الا أن سالم قال بحدة.

(صوتك لا يطمئنن، أخبريني يا ابنتي ان ضايقتك تلك الصعلوكة، فأنا أستطيع سحقها، و لن أهتم لأشرف أو والده هذه المرة، لا أفهم لماذا لا تعطيني الإشارة فقط بصرفها عن العمل بعد كل ما فعلته، أستطيع تدبير الأمر، و من المؤكد سأجد ما لا يدينني أمام شقيقي و ابنه الوغد)
قالت مسك بنبرة باردة شاردة.

(لا يا أبي، أنا أكبر من هذا، دعها تتخيل أنها تبني لنفسها كيان خاص، بينما هي في الحقيقة، لا تفعل شيئا سوى ان تكون عالة على زوجها، و هذا العمل الذي سعيت لها كي تحصل عليه بنفسي، سأتركه لها عن طيب خاطر، على أن تلتزم حدودها)
عقد سالم حاجبيه وهو يسألها قائلا بغضب
(كيف تجاوزت حدودها؟، أخبريني فقط)
ردت مسك بنبرة أكثر حزما...

(لا عليك، أنا قادرة على ردعها، فرغم العشرة و الصداقة، هي على ما يبدو لا تعرف مسك الرافعي جيدا)
صمتت قليلا، ثم قالت بخفوت
(فحصي الدوري كان بالأمس يا أبي، أردت اخبارك أنني)
قاطعها والدها قائلا بنبرة خفيضة مثقلة
(أعرف يا حبيبتي، اتصلت بطبيبك و عرفت، على الرغم من اتصال أمجد بي و طلبه مني أن أرافقكما، الا أن قدماي لم تحملاني، لم أستطع)
ارتجفت شفتي مسك قليلا و هي تهمس بصوت متهدج
(هل اتصل بك أمجد؟).

أومأ سالم وهو يقول
(فعل، الا أنني كنت أنتظر النتيجة أن تصلني من طبيبك قبل أن تذهبي حتي)
ابتسمت مسك و قالت بصوت غريب
(ألن تهنئني؟)
تحشرج صوت والدها وهو يقول بصعوبة
(أنا، غير قادر، غير قادر على تهنئتك، و اعترافي بأنك)
صمت و قد اختفى صوته، فقالت مسك بهدوء
(بأنني بخير يا أبي، أنا بخير، ربما تستطيع المرة المقبلة، و أنا سأكون في انتظارك).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة