قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن والعشرون

فتحت سوار باب الشقة ما أن رأت فريد من ثقبه، كان واقفا بصمت، و على وجهه ابتسامة متزنة، هادئة، هادئة بشكل غريب و تفتقد شقاوة روحه التي تعرفها جيدا...
الا أنها لم تهتم على الفور، بل قالت بسعادة
(ياللسعادة، فريد ابن أمي و أبي عندنا، تفضل)
قال فريد دون أن يتقدم، أو حتى أن يخرج كفيه من جيبي بنطاله الجينز...
(قبل أن أتحرك حركة واحدة، هل تصالحتما؟، لأنني لست في استعداد لتحمل أي مناخ سلبي قاتم).

احمرت وجنتي سوار قليلا حين طاف سؤال فريد العفوي بذهنها و ذكرها بصلحها مع ليث...
لكنها تمالكت نفسها سريعا ثم أبعدت الباب و هي تقول بقوة
(ادخل تعال، و كف عن سخافاتك، ليث ينتظرك)
دخل فريد ببطىء فخرج له ليث ليصافحه بحرارة قائلا
(هل يحتاج الأمر كل مرة الى خلاف بيني و بين أختك كي تقوم بزيارتنا؟)
قال فريد مبتسما بجدية
(لو كانت تتقن الطبخ لكنت أقمت عندكما، لكن بصراحة طعام عمتي أم أمين أفضل).

ضحك ليث بينما ضربته سوار على رأسه و هي تقول بحدة
(طعامي لا يعلى عليه، و إن لم تتوقف عن وقاحتك فلن تأكل اليوم)
ارتمى فريد على أقرب مقعد وهو يقول بصوت باهت
(لا أرجوك، أحتاج الى الطعام، أحتاج الى أكبر قدر من الطعام الدسم عسر الهضم كي يملأ هذا التجويف الغبي بداخلي)
عبست سوار و هي تتأمله مرجعا رأسه للخلف على الأريكة، بدا غريبا، ليس شقيقها الذي تعرفه جيدا...
التفتت سوار الى ليث و قالت برقة.

(هلا أطفئت الموقد يا ليث)
ابتسم ليث لها وهو يشير بإصبعه من عينه اليمنى الى عينه اليسرى، فأطرقت بوجهها كي لا تضحك تلك الضحكات التي ترفض أن تتركها منذ أن وقعا عقد صلحهما، و ما أن انسحب حتى جلست بجوار فريد و ساقيها تحتها ثم وضعت كفها على ركبته و هي تقول بجدية
(ماذا بك؟، هناك شيء)
فتح فريد عينيه وهو ينظر اليها دون أن يرفع رأسه، ثم قال بصوت شديد الهدوء
(الأصح هو، أنه لا شيء هناك).

عقدت سوار حاجبيها و هي تنظر اليه بحدة، ثم قالت أخيرا بنبرة صارمة
(لم أفهم، تكلم مباشرة، فأنت تعرفني، لا أطيق الألغاز)
تنهد فريد بعمق ثم قال أخيرا بخفوت
(عرضت الزواج على ياسمين، و رفضت)
اتسعت عينا سوار بصدمة و هي تراه يميل الى الأمام حتى استند بمرفقيه على ركبتيه، فهتفت بقوة و غضبت
(رفضت؟، كيف ترفض؟، هل جنت أم تتلاعب كي تتمسك بها أكثر؟)
خرج ليث من المطبخ وهو يسألها بدهشة.

(لماذا تصرخين بهذا الشكل؟، ماذا حدث؟)
لوحت سوار بكفيها و هي تقول
(السيدة التي يريد فريد الزواج منها رفضت عرضه، تخيل)
عقد ليث حاجبيه وهو يقول بهدوء
(حقها)
هتفت سوار بذهول
(أي حق هذا؟، لقد سبق لها الزواج بينما فريد لا)
رفع ليث حاجبيه بينما أغمض فريد عينيه، ثم قال ليث أخيرا بهدوء
(سأعتبر أنني لم أسمع هذا)
الا أن سوار أصرت قائلة بإنفعال.

(بلى قلت، كنت غير راضية عن الموضوع من قبل، و مع ذلك حين شعرت برغبة فريد و ميله لها تراجعت عن موقفي، ثم ترفض هي؟)
قال ليث بجدية
(سوار، أنت نفسك كنت أرملة حين تزوجتك، و لم تكوني راضية بالفعل بل شبه مجبرة)
أجفلت سوار من فظاظة كلماته فأغمضت عينيها و هي تهمس بضيق
(رحمة الله عليه، و أنت كنت متزوج، لقد قبلت أنا بأن أكون زوجة ثانية نزولا على مصلحة الجميع، هذا هو ما أقوله، لا تناقض).

ضحك ليث عاليا وهو يقول بسخرية
(نزولا على مصلحة الجميع، أضحكتيني فعلا، لقد أوشكت على تصديقك للحظة، سيدة سوار، أنت لم تقبلي الزواج مني الا رغبة منك في الأخذ بثأرك)
هتفت سوار بحدة قائلة
(ليث توقف عن استفزازي باسلوبك هذا، الوضع مختلف تماما هنا)
كان فريد ينقل عينيه بينهما بصمت، ثم قال أخيرا بهدوء
(هل انتهيتما؟، هل قمتما بنشر غسيلكما القذر أمامي و هدأ بالكما؟، زيجتكما تدعو للفخر بصراحة).

زفرت سوار بحدة و هي تقول
(أنا لست بمثل الشخصية التي يريد ابن خالك أن يظهرني بها، و لدي الدليل القوي على ذلك)
رد ليث هازئا بصوت خافت
(آه، الدليل أنك تسنتكرين على امرأة رفض عرض أخيك لمجرد أنها مطلقة)
قالت سوار بقوة أكبر
(بل لدي دليل قوي لا يقبل الشك، الا أنني لن أقوله، هلا قمت بتحضير أي شيء في المطبخ رجاءا؟)
رفع ليث كفه وهو يقول بصلابة
(أنا مغادر، سأترك لك الساحة كي تبثي أفكارك السوداء في أذنه).

تأفتت سوار بصوت عال، ثم لم تلبث أن نظرت الى فريد قائلة بجمود
(الآن أخبرني، لماذا رفضتك؟)
ارتفع حاجبي فريد وهو يقول بخفوت
(ليس لسبب هام، ربما لا تشعر بي كما شعرت أنا بها)
ظلت سوار تنظر اليه طويلا بتعاطف ثم همست تسأله برقة
(هل أنت متألم حبيبي؟)
نظر اليها فريد، ثم ابتسم دون مرح قائلا
(نعم، لكنني سأتعافى، لا تقلقي، فموروثات وهدة و غانم تفيد جدا في مثل هذه المواقف)
ابتسمت سوار و هي تربت على ركبته برفق...

ثم ظلت صامتة قليلا و هي تنظر اليه بضيق قبل أن تهمس بالدليل على أنها ليست بمثل هذا السوء الذي يعتقدانه...
(فريد، هل فكرت، في، لا حول و لا قوة الا بالله، هل فكرت في بدور ابنة عمك؟)
عقد فريد حاجبيه وهو يسألها بحيرة
(فكرت بها من أي اتجاه تحديدا؟)
زمت سوار شفتيها و هي تنظر جانبا، ثم التفتت اليه و قالت مستاءة
(كزوجة، هل يمكنك التفكير بها على هذا النحو؟).

ارتفع حاجبي فريد للحظة، ثم لم يلبث أن ضحك بخفوت وهو يقول مندهشا
(من أين لك بمثل هذه الفكرة؟، انسي أمر بدور تماما، فهناك مخططات أخرى تنتظرها)
عبست سوار قليلا وسألته بحيرة
(مخططات؟، أي مخططات؟)
قال فريد ببساطة
(ابن عمك أمين معجب بها، و على الأغلب ستكون من نصيبه)
اتسعت عينا سوار و هي تستمع الى شقيقها بعدم فهم، ثم هزت رأسها محاولة الإستيعاب، و قالت
(أمين؟، أمين ابن عمك يريد الزواج ببدور؟، هل، هل يعرف؟).

كان هذا دور فريد كي يسألها بعدم فهم...
(يعرف ماذا؟)
ظلت سوار تنظر اليه بطرف عينيها متعقدة الملامح، ثم همست بصوت خفيض شارد...
(لا شيء، لا شيء)
التفت فريد بعد فترة ينظر الى حيث اختفى ليث، ثم مال الى سوار هامسا
(قمت بزيارة راجح في المشفى)
علي الفور أظلمت ملامحها و اشتعلت نيران الكره بعينيها قبل ان تهمس من بين أسنانها بشراسة
(لماذا؟، لماذا فعلت؟، ألم آمرك الا تفعل؟).

قال فريد بصوت خفيض ناظرا الى كفيه المتشابكين
(أردت رؤيته مصابا، كان هذا هو الشيء الوحيد الذي سيريحني بعد ما فعله)
مطت سوار شفتيها بقسوة و سألته غاضبة
(و هل ارتحت؟)
هز فريد رأسه صمتا دون أن ينظر اليها، ثم قال بخفوت
(حين كنت على وشك الخروج من غرفته، استوقفني، و سأل الله أن أتذوق من نفس الألم الذي عاشه بفقده لك)
تشنج جسد سوار بالكامل نفورا و رفضا، ثم قالت بصوت يرتجف عنفا و قتامة.

(هل هذا هو ما يضايقك؟، اذن دعني أريحك، لن يحدث أن تذوق نفس الألم، لأنك لست مهووسا مريضا بإمرأة تنفر منك، لو رفضتك امرأة فستتابع حياتك و تبحث عن أخرى على الفور، هل سمعتني؟، قل يا فريد، هل سمعتني؟)
نظر فريد اليها و قال بخفوت
(ليس على الفور يا سوار، على الأقل ليس على الفور)
تنهدت بحزن و هي تمد يدها لتمسك بكفه، بينما احتضن كفها بين أصابعه ينظر اليهم...

أما هي فنظرت اليه، مدركة أن جرح القلوب يمكنه أن يكون مؤذيا بشدة...
كانت تعلم أنها لو اعترفت لفريد بحقيقة وضع بدور لكان قبل الزواج منها لسترها و حمايتها من بطش والدها...
لقد ضغطت على نفسها كي تقترح عليه هذا الإقتراح، لكن قلبه مع ياسمين و هذا شيء آخر...
انتابها غضب شديد حين علمت برفض ياسمين له، و أخذت تنظر الى فريد مشدوهة و هي تتسائل
كيف لها أن ترفض شابا مثله؟، ما الذي ينقصه كي تجرح قلبه بهذه الصورة؟

ظلت سوار تربت على كف فريد بشرود، و رغما عنها، راح تفكيرها الى بدور...
كيف ستتزوج من أمين؟، هل أخبرته بوضعها و قبل؟، أم أنه لم يتقدم اليها فعلا؟
نظر فريد اليها فجأة و سألها بصوت خافت مشتد
(ألن تخبريني كيف تم استدراجكما الى شقته؟، كنت أواجهه و أنا أجهل تماما كيف حدث و كانت أختي لديه في بيته، بل كيف سامحك ليث بعد هذا!).

لم ترد سوار، بل ظلت صامتة غير قادرة على النطق و إفشاء سر بدور لمزيد من الأشخاص، حتى إن كان شقيقها الوحيد...

(سيدة ياسمين، شخص ما ترك لك هذا الكيس)
رفعت ياسمين وجهها عن الأوراق التي تعمل عليها و نظرت عبر نظارتها بوجه جامد متصلب الى حيث يقف الساعي و هو يضع أمامها كيس به، علب دواء على ما يبدو...
عقدت حاجبيها قليلا، و فتحت الكيس بأصابعها بحذر، فوجدت عددا من علب دواء أمها كما ظنت، و معها ورقة...
رفعت عينيها الى الساعي مجددا و سألته قائلة بقلق
(هل انصرف؟)
أومأ الساعي قائلا.

(نعم قال لي أعطي هذه للسيدة ياسمين في الطابق الثالث، ثم انصرف من فوره، قبل حتى أن اسأله عن اسمه)
أطرقت ياسمين برأسها تنظر الى الكيس على سطح مكتبها ثم قالت بخفوت
(حسنا، شكرا لك عم جلال)
انصرف الساعي بينما ظلت ياسمين تنظر بعينين مظلمتين الى علب الدواء غالي الثمن، شحيح التوفر...
ثم مدت أصابعها تلتقط الورقة المطوية، ففتحتها لتقرأها بملامح مجهدة.

هذا دواء والدتك كما اعتدت الحصول عليه، و سيصلك دائما بإنتظام، أرجو الا تظنيه محاولة مني في دفعك لأي شيء، سنظل كما كنا و يمكنك اللجوء الى إن احتجت الى أي شيء، فريد، سطرين فقط، ظلت عيناها تقرأهما، بينما ملامحها حزينة شديدة التعب و الإرهاق النفسي و العاطفي...
الورقة البيضاء بين يديها كانت ناصعة، مخطوط عليها تلك الرسالة بطريقة عشوائية خاصة بالأطباء...
لكن المعنى واضح، معنى أتبعه سؤال دار في عقلها...

كم مرة يمكن للحياة أن تمنح فيها لإمرأة بمثل ظروفها، شابا كهذا؟
(بالطبع أرفض، لا أريد طفلا ليس بطفلنا).

للحظات ساد صمت تام بينهما بعد أن نطق بتلك العبارة رافضا دون أي تردد، متجهم الملامح
حتى أن يدها كانت لا تزال على صدره بعد أن كانت تمنعه من محاولة تقبيلها حتى تنهي ما تريد قوله...
و قالت، ووصلها رده...
أبعدت مسك يدها عن صدره بسرعة، ثم بقوة ارادة تشكر عليها، تدبرت أمر ابتسامة أنيقة و هي تهز كتفيها قائلة بهدوء و لا مبالاة
(حسنا، لا بأس).

عقد أمجد حاجبيه بشدة أمام رد فعلها الذي صدمه أكثر من طلبها المفاجىء...
فقال بحذر
(مسك!)
الا أنها قالت متابعة ببساطة
(أنا مضطرة للمغادرة الآن، و أنت تابع يوم عملك، أراك في البيت)
استدارت عنه رافعة رأسها تتحرك بخيلاء و رشاقة الى باب مكتبه...
الا أن صوته قصف أكثر تجهما هذه المرة، محتدا، كي يوقفها مكانها
(مسك)
توقفت مكانها، للحظات لم تبدر عليها أي رد فعل، ثم استدارت اليه مبتسمة و هي تقول
(ماذا؟).

تراجع أمجد حتى استند الى حافة مكتبه وهو ينظر الى وجهها شبه يائس، ملامحها طبيعية تماما و الإبتسامة على شفتيها باردة، باردة لدرجة أنها أرسلت رجفة الى جسده...
ابتسامة لم تصل الى عينيها اللتين تنظران اليه دون ذرة انفعال أو مشاعر...
زفر أمجد بقنوط وهو يهز رأسه قليلا، ثم لم يلبث أن قال بهدوء جاد، حازم
(علينا التحدث يا مسك)
عقدت حاجبيها بطريقة تجعلها تبدو و كأنها لم تفهم، اسلوب تتبعه دائما لحماية نفسها...

ها قد عدنا خطوات للخلف...
و بالفعل رفعت مسك ذقنها و سألته بحيرة مبتسمة ببرود
(نتحدث عن أي شيء؟)
هتف بها فجأة و قد تحكم به إنفعاله على عكسها...
(كما أظن، لقد سمعتك للتو تقترحين أن نتبنى طفلا، ام كنت مخطئا؟)
صححت مسك قوله بهدوء بارد و قد اختفت ابتسامتها و بقى وجهها ساكن مثالي الهدوء
(بل نكفل طفلا في البيت)
قال أمجد مشددا من بين أسنانه
(قلت تريدينه أن يكون ابننا، فهل أنا مخطىء؟).

ساد الصمت بينهما و كل منهما ينظر الى الآخر بإنفعاله الخاص، ثم قالت مسك في النهاية دون اهتمام
(كان مجرد اقتراح، و لك حق رفضه و قد فعلت، لماذا تضيع المزيد من الوقت لمناقشته؟)
اشتعلت عينا أمجد وهو يقول بحدة
(هل يفترض بي أن أترك الأمر عند هذه النقطة و أتظاهر بأنني لم أسمع رغبتك في حصولنا على طفل؟)
ظلت مسك صامتة لبضعة لحظات، ثم رفعت كتفها لتقول بهدوء
(أنت رفضت، ماذا لدينا لنناقشه؟).

هتف بها امجد قائلا بحدة و انفعال
(ألست مهتمة حتى بسؤالي عن سبب رفضي؟)
رفعت كتفها مجددا و قالت ببرود
(لا يهمني السبب، الموضوع كله ليس مهما الى هذه الدرجة)
صرخ فيها أمجد يقول
(كنت تريدين طفلا، ابنا لنا)
رفعت مسك يدها الى فمها و هي تنظر اليه مهددة قائلة بقوة آمرة
(هششششش، هل نسيت أننا في مكتبك؟)
زم أمجد شفتيه وهو ينظر اليها بنظرة يائسة، منهكة، و طال بهما الصمت الى أن قال في النهاية بخفوت.

(لقد رفضت يا مسك لأنني)
الا أن صوت طرقة على الباب قاطعتهما، فزفر أمجد وهو يشتم بصوت خافت، ثم نادى قائلا بصرامة
(ادخل)
دخل أحد الموظفين الى المكتب وهو يقول بتهذيب
(سيد أمجد نحتاجك في الطابق الرابع، لكن أولا هلا قرأت التقرير الذي طلبته سريعا)
أغمض أمجد عينيه للحظة، لحظة واحدة فقط، لحظة كانت كفيلة بأن تمنحها الفرصة للهرب...

و بالفعل ما أن فتح عينيه حتى وجدها تنسحب في صمت، لكن قبل أن تخرج، لم تستطع منع نفسها من الإلتفات و النظر اليه، فالتقت أعينهما الا أن صوت الموظف قاطع تلك اللحظة، فاستدارت و خرجت من المكتب...
جلست مسك خلف مقود سيارته، حاولت تحريكها، حاولت تحريك مفاصلها...
الا أنها كانت تنتفض بقوة، فظلت ساكنة بضعة لحظات و هي ممسكة المقود تتنفس ببطىء و عمق كي تهدىء نفسها...

و ما أن هدأت، حتى أطرقت بوجهها، لتتساقط أولى دموعها، أتبعتها بشهقة مكتومة...

(نسيت شيئا، نسيت أن قبلاتك لم تكفيني).

ظل قاصي مكانه دون حراك و كأنه لم يسمعها، فاستقامت تنظر اليه و هي تقترب منه ببطىء أولا ثم بسرعة، حتى دارت حوله لتقف بينه و بين النافذة، و بنظرة واحدة الى عينيه القاتمتين الحمراوين، رفعت نفسها على أطراف أقدامها لتحيط عنقه بكل قوتها و تسكب قوة لهاثها في الجري اليه عبر قبلة تكفلت بقول ما تريد، بينما غرس أصابعه في ظهرها و كأنه يجرفها كأرض تستعد لتزدهر عما قريب...
كانت قبلة الحياة لهما معا...

قبلة شرسة، وحشية، ليست الشهوة هي محركها، بل الرغبة في الحياة...
دارت تيماء بوجهها يمينا و يسارا بعنف، بينما هو يمنحها من كيانه عنفا مماثلا جعلها تتأوه، لكنها لم تتوقف، لم تمنعه، بل كانت تستحثه للمزيد و المزيد...
يداه تتحركان عليها و تعزفان لحنا قديما، و كأنها جيتاره الخاص...

أما عنقه فقد كان طوق النجاة الوحيد لها، حتى أنها ارتفعت على اطراف أصابعها، تستجدي النفس عبر قبلاته، شبه متطايرة، قدماها لا يلامسان الأرض، فذراعيه كانا الجناحين لها، و كأنها كانت تطير بسرعة خرافية فوق محيطات شاسعة، عمقها غير معلوم أو محسوب...
و بعد وقت طويل، طويل...
حطت تيماء بقدميها على الأرض، و ابتعدت عنه شاهقة تطلب النفس الحقيقي هذه المرة...

وقف كل منهما ينظر الى الآخر بذهول لاهث، و عينين تحترقان بذعر الفراق...
إن كان الوداع الأول صعب، فالوداع الثاني قاتل...
لذا أطرقت تيماء برأسها و هي تهمس بصوت مختنق لاهث
(يجب أن أخرج من هنا حالا)
و دون أن تنتظر رده، كانت قد أطلقت ساقيها لتندفع عبر الغرفة، تريد الخروج من بيتها الحميمي الصغير قبل أن تتهاون آخر قدرتها على المقاومة...

تشوشت الرؤية أمام عينيها بغلالة ثقيلة من الدموع، جعلتها غير قادرة على التحرك بطبيعية...
لكنها لم تفكر الا في الوصول لباب الشقة قبل أن تنهار، و ما أن لاح لها و أمسكت أصابعها بمقبضه و فتحته...
حتى رأت كفا سمراء ضخمة، تتجاوز جانب وجهها لتغلق الباب من جديد و بعنف!
اتسعت عينا تيماء و هي تنظر الى الباب المغلق، بينما شعرت بذراع قوية تحيط بخصرها و تجذبها الى صدر دافىء قوي، يتحرك بصعوبة هبوطا و صعودا...

ثم صوته يقول بقوة بالقرب من تجويف أذنها
(كان رجوعك خطأ، خطأ كبير يا مهلكة، لقد استنفذت قوة احتمالي في المرة الأولى)
فغرت تيماء شفتيها بذهول و اتسعت عيناها دون أن تستدير اليه، بينما كان قلبها يخفق بعنف مؤلم و توقع مثير، الى أن استطاعت النطق أخيرا بصوت غريب مرعوب
(ماذا تعني؟، هل تعني بأنك لن تسمح لي بالخروج؟).

ساد صمت قصير مليء بالتوقعات و آمال القرب، ثم سمعت صوته المتحشرج يهمس في أذنها أخيرا بينما لحيته تلامس جانب وجهها
(هذا خطأك، أنا مرتاح الضمير الآن، فقد أقسمت و أنا أراك بين ذراعي والدك، إن عدت بمعجزة الي، فلن أسمح بذهابك أبدا)
انفتحت قبضته فوق قلبها الذي يخفق بجنون، بينما أفلت النفس المحتجز في صدرها فهمست بصوت مصدوم
(قاصي).

لكن صوت رنين جرس الباب أمامهما مباشرة جعلتهما يتصلبان معا، فقالت تيماء بصوت مرتجف و هي تنظر الى الباب بخوف
(من المؤكد أنها مسك، أو والدي، أو كلاهما)
شعرت بنفسها تتراجع للخلف بقوة وهو يسحبها ملتصقة بصدره الى أن أصبحت بعيدة عن الباب...
حينها فقط تركها ليستدير اليها ويواجهها...

رفعت تيماء وجهها المحتقن و هي تنظر الى ملامحه الخشنة و عينيه المستعرتان، الا أن الثقة الجديدة بهما كانت غريبة، نظرات الإنتصار كانت كاسحة...
نظرة قاصي الروح و الجسد، و قد حظى أخيرا بتيمائه...
فغرت فمها و هي ترى ظل تلك الإبتسامة القاسية على شفتيه، الا أن رنين الباب مجددا جعلها تقفز في مكانها بذعر، أما قاصي فلم تهتز به عضلة، بل استدار عنها و تحرك ببطىء حتى وصل الى الباب...

لكن و قبل أن يفتحه، التفت ينظر اليها، و ابتسم ابتسامة خالية من الرحمة، و على الرغم من ذلك كانت كل الرحمة التي تحتاج اليها، نعم ابتسامته كانت رصاصة الرحمة، كي تموت به للأبد و ترتاح
فتح قاصي الباب، و ساد صمت طويل...
رفعت تيماء يدها الى صدرها و هي تتحرك عن بعد، حتى واجهت الباب خلف قاصي...
فاستطاعت رؤية والدها...
سالم الرافعي، يقف عند باب الشقة، ينظر متجهما الى كلا منهما...

و كأنه قد أدرك ما يحدث، فقال بخشونة
(هيا يا تيماء، موعد طائرتك)
ارتجفت تيماء غير قادرة على الرد، تنقل عينيها بين ظهر قاصي الصلب، ووجه أبيها المتجهم...
و لأول مرة تجد نفسها عاجزة عن المواجهة، غير قادرة على اتخاذ القرار، لكن قاصي لم يمهلها لتفعل...
بل تكلم قائلا بجفاء
(تيماء عادت، و لن ترحل)
شعرت تيماء في تلك اللحظة و كأنها منحت فرصة جديدة للحياة و السعادة...

الا أنها لم تستطع منع نفسها من النظر الى وجه والدها الذي ازداد تجهما حتى بات قاتم اللون بشدة...
و ساد صمت طويل بينهم، ثم قال أخيرا بجفاء
(ما أن صعدت الى هنا، حتى استدارت مسك إلى و قالت ساخرة أنك لن تعودي، لكنني تمسكت بالأمل، الأمل في أن أراك شخصية مختلفة لمرة واحدة في حياتك)
ابتلعت تيماء شيء نابض في حلقها، مؤلم، ثم قالت أخيرا بصوت خافت.

(و أنا أملت طويلا في رؤية نفسي بشخصية مختلفة ولو لمرة واحدة يا أبي، لكن اتضح لي أنني لا املك الا شخصية واحدة، يملكها شخص واحد، هو قاصي، يمكنني السفر الآن لكن القدر سيعيدنا الى بعضنا مجددا، مرة بعد مرة، الى أن تنهكنا الحياة و ندرك بأننا قد ضيعنا الكثير من الوقت الثمين).

ازدادت القتامة في عيني سالم وهو ينظر الى قاصي بغضب، ثم ينظر اليها نظرة خيبة أمل آلمتها...
لكنها لا تملك له شيئا كي تمنحه إياه، الا شيء واحد فقط، فتكلمت قائلة بهدوء
(أعدك بشيء واحد فقط يا أبي، أنني سأنجح، بالقوة سأنجح، سأكون شيئا هاما و كيانا مستقلا عنكما سويا، لكن برفق قاصي، بدونه لست تيماء من الأساس)
ظل والدها ينظر اليها طويلا، ثم سألها أخيرا بخشونة
(هل هذا هو قرارك الأخير؟).

أومأت برأسها ببطىء، لكن عيناها كانتا ثابتتين، حادتين، و كأنها استمدت من قاصي الطاقة التي كانت تحتاج اليها كي تقاوم الطوفان...
تراجع والدها للخلف ثم استدار عنهما دون أن ينطق بكلمة اضافية، الا أنها نادته بسرعة
(أبي)
توقف سالم مكانه دون أن يستدير، فتحركت هي ببطىء و هي تنظر اليه، الى أن وقفت بجوار قاصي...
ثم قالت بخفوت
(هل تغير شعورك تجاهي؟، هل يمكنك يوما أن تشعر بي كابنة لك؟).

انعقد حاجبي قاصي بشدة وهو ينظر جانبا قليلا و كأن صوتها الخافت قد ذبحه...
أما سالم فسألها بجفاء
(و هل يشكل هذا فارقا بالنسبة لك؟، لقد عدت اليه من جديد، فما حاجتك لي؟، انعمي بحياتك التي اخترتها، عسى الا تندمي ككل مرة)
و دون كلمة اضافية كان قد انصرف...
حينها صفق قاصي الباب خلفه، ثم استدار اليها ببطىء، ووقفا متواجهين...

هي تتطلع اليه بحزن، بعينيها الفيروزيتين الطفوليتين، أما هو فكان متجهما، خشن الملامح، غاضبا...
ابتسمت تيماء ببساطة و قالت بصوت مختنق مداعب...
(يمكنك فعل ما تريد، اصرخ، اغضب، أخبرني أنني عديمة الكرامة أو أي من ألفاظك المجنونة، لن توجعني الآن يا قاصي، فمن منح فرصة أخرى للحياة، لن يهتم بتفاهات البشر).

تقدم قاصي منها ببطىء و عيناه المتجهمتان لا تتركان عينيها و ما أن وصل اليها حتى انقض ممسكا بوجهها بين كفيه الخشنتين وهو يقول بصدمة متأخرة
(أنت هنا!)
ضحكت تيماء بينما انسابت دموعها غزيرة من عينيها لكنها أومأت برأسها و هي تقول ضاحكة باكية
(ألم تكن أنت من منعتني من السفر يا أحمق! و تتسائل الآن؟)
لكن قاصي لم يشاركها الضحك، و لم يخف التجهم و الصدمة الذاهلة عن وجهه، بل أعاد مجددا بصدمة أكبر
(أنت هنا!).

ابتسمت من بين دموعها و أومأت برأسها بقوة و قد اختنق الصوت في حلقها، و بدت غير قادره على النطق
أما قاصي فقد تأوه بصوت عالي وهو يسحب رأسها الى أحضانه بقوة، و أصابعه تفك الحجاب من حول رأسها ليلقي به بعيدا، ثم أخذ يشعث شعرها و كأنه يحتاج الى مزيد من الفوضى...
لكنه فعل، قام بصعقه حتى بدت ككرة متوهجة ذات أشعة متناثرة بجنون حول رأسها...

حينها أبعدها عنه كي ينظر اليها، و كأنها عادت ذات الثامنة عشر من عمرها مجددا، لم تتغير كثيرا...
هتف قاصي همسا بصوت أجش
(لامسيني)
ابتسمت تيماء بصمت و الدموع تغرق وجهها بغزارة، بينما الشهقات المكتومة جعلت جسدها الصغير ينتفض في مكانه...
تذكرت عودتها من السفر في المرة الأولى، و لقائهما بعد فراق، و بعد مواجهته لعمران في دار الرافعية، حين خرج هائما على وجهه و هي تلحق به جريا...
الى أن استدار اليها و هتف.

المسيني، يومها هتفت بذعر و أسى
لا أستطيع، أما الآن فلم تحتاج أن يكرر طلبه، فقد رفعت أصابعها برفق و هي تلامس بها لحيته، عينيه فأغمضهما.
الجرح الخفيف بينهما، شفتيه، عنقه...
و ظلت تلامسه نزولا على صدره برفق بينما هو لا يزال مغمضا عينيه و أنفاسه تتحشرج في حلقه فأمرته هامسة بصوت ذو نحيب رقيق خافت
(افتح عينيك).

لكن قاصي لم يمتثل لأمرها على الفور، فاقتربت منه واستطالت على أطراف أصابعها حتى قبلته برفق و هي تهمس مجددا
(افتح عينيك و تأكد بنفسك أنني لم أرحل، و لن أفعل، إنها نهاية المطاف يا قاصي)
فتح قاصي عينيه الحمراوين ببطىء، ينظر اليها و كأنه ينظر الى مخلوق غريب الجمال...
بوجهها المستدير المبلل، و شعرها السلكي المتناثر، و عينيها الشبيهتين بحجرين من الفيروز الندي...
فقال بصوت مختنق
(أنت هنا حقا، آآآآآه يا مهلكة).

و دون كلمة اضافية كان ينحني اليها ليشبعها تقبيلا وهو يحملها بين ذراعيه ليدور بها في جميع أنحاء الشقة الصغيرة هاتفا من بين كل قبلة و أخرى
(أنت هنا، أنت هنا، هنا)
كانت تضحك كالمجنونة و تبكي كالمجنونة أيضا، متشبثة بعنقه بكل قوتها...
الى أن أنزلها على قدميها و أمسك بوجهها مجددا، يرفعه اليه، ثم همس من بين أنفاسه المتسارعة
(أقسم أنني لن أسمح لك بالإبتعاد عني مطلقا، ضعي هذا بعقلك).

أومأت تيماء برأسها و هي تهمس برقة
(تم حفظ الأمر)
ضحك قاصي بصوت متحشرج مختنق، ثم ضمها الى صدره بكل قوته، و ظلا هكذا ما بين دوامة جنون حبهما و ذعر الفراق الذي كان على وشك الحدوث...
الى أن سمعا صوت طفوليا يقول
(ما هذه الجلبة؟)
ابتعدت تيماء عن قاصي و هي تنظر الى عمر الواقف في بداية الرواق، يضغط عينه بقبضته و النوم لا يزال يداعب أجفانه، فابتسمت و قالت مازحة من بين بكائها.

(والدك دائما يحدث جلبة في الصباح الباكر، دائما نحن مفضوحان)
ادعى قاصي الصرامة وهو يقول بخشونة
(نحن لم نبدأ بعد حتى!)
عقدت تيماء حاجبيها و هي تسأله بتوجس...
(ماذا تقصد بالضبط؟، قاصي، قاصي، ماذا تفعل؟)
صرخت بقوة وهو ينحني ليرفعها فوق كتفيه فتمسكت بهما بكلتا قبضتيها، الا أنه أمسك بكفيها يفردهما فصرخت ضاحكة بجنون
(لقد أصابني الدوار، أنزلني، أنزلني)
نظر قاصي الى عمرو و سأله بحزم
(هل أنزلها؟).

هز عمرو رأسه نفيا بقوة وهو يضحك عاليا و يصفق بكفيه، فدار بها قاصي بجنون و هي تصرخ و تضحك و تبكي في آن واحد، الى أن سحبها من فوق كتفيه ليسقطها محمولة بين ذراعيه، و ما أن استقر العالم حولها، و التقت أعينهما، حتى قال بصوت متحشرج و عينين مبللتين
(تيمائي المهلكة، يا أرضا أينعت جمالا، فأهلكت الأعين بسحرها)
فغرت تيماء شفتيها المرتجفتين لتهمس و هي تحيط عنقه بذراعيها قائلة بصوت مختنق.

(أحبك، أحبك يا غريب الدار، و بدونك أنا لا أكون)
و دون أن تخجل بوجود عمرو، كانت تقبله بكل قوتها و بكل سخاء عشقها...

بعد شهر...
واقفة بفستان زفافها، أمام المرآة بغرفة نومهما، غرفة نوم عرسها...
السرير من خلفها مزين بأغطية ذات حرائر و ورود، و تطريز لا يليق الا بعروس تحب كل ما هو مثالي...
تجنبت بدور النظر الى السرير عن قصد، و ركزت عينيها السوداوين على وجهها الشاحب الخمري...
لا تنكر أنها تبدو جميلة، بفستان زفافها الضخم و حجابها الهفهاف حول وجهها المزين بخفة، و خمار طويل مشغول يدويا، كفستانها المشغول بعناية...

ابتسمت بدور على الرغم من الرعب المنتشر في جسدها...
كم كانت تحلم باليوم الذي سترتدي فيه فستان الزفاف الأبيض، و لن يحرمها أحد من سحر تلك اللحظة حتى إن أعقبها الصراخ و العويل...
مسدت بكفيها تنورة الفستان الخشنة من التطريز، و كان ملمسها ثقيلا رائعا، يصدر صوتا أشبه برنين الذهب...
لكنها انتفضت ما أن سمعت صوت طرقا هادئا على الباب فاستدارت بسرعة و هي تقول بصوت المحكوم عليه بالإعدام
(تفضل).

فتح أمين الباب، و أطل بوجهه الوسيم منه ليسألها مداعبا
(هل أدخل؟، أم أنك لست مستعدة بعد؟)
قالت بدور بصوت مرتجف
(تفضل بالطبع، هذه غرفتك)
دخل أمين الى الغرفة مغلقا الباب خلفه بإحكام مما زاد من خوفها فلعقت شفتيها الورديتين، ثم سألته بصوت أجش
(هل انصرف أهلنا؟)
أومأ أمين برأسه وهو ينظر اليها مبتسما دون رد، فقالت بدور بصوت خافت اكثر كي تشغل الوقت بينهما بينما الذعر يملأ كيانها...

(لم يكن على عمتي مغادرة الشقة، هذا بيتها قبل أن يكون بيتي)
ضحك أمين ضحكة رجولية جذابة جعلتها تختلس النظر الى طلته مجددا و كم كان جذابا في حلته السوداء و قميصه الأبيض الناصع، لأول مرة تراه أكثر وسامة من راجح...
أصغر سنا، أكثر شبابا و احتراما، و ابتسامته يمكنها أن تسحر العين...
اقترب منها ببطىء فتشنج جسدها بأكمله، لكنه توقف على بعد خطوتين منها، ثم قال ممازحا برقة
(والدتي تقدر خصوصية ليلة كهذه).

احمرت وجنتا بدور و أخفضت وجهها دون أي اثر لابتسامة الدعابة، لكن أمين أمسك بذقنها يرفعه اليه فرمشت بعينيها و هي تنظر اليه و ينظر اليها، ثم قال أخيرا بخفوت
(تبدين متعبة و ناعسة تماما، هل أتعبك السفر بعد ليلة زفاف طويلة في البلدة؟، لم أشأ أن نقضي ليلة زفافنا الا في شقتنا و لحسن الحظ أن وافق والدك بعد ضغط، و سفرهم معنا كان كرما منهم)
ردت بدور بخفوت و توتر و هي تهز رأسها.

(السفر بالطائرة ليس متعبا، لكن كنت محرجة و أنا أجلس في الطائرة بفستان الزفاف)
ضحك أمين بصوت خافت بينما بدأت أصابعه تداعب أسفل ذقنها برقة مخادعة، ثم قال بنبرة اعجاب
(تبدين رائعة يا بدورة، لقد شعرت بالغيرة من نظرات الجميع اليك و المعجبين برقتك في هذا الفستان الضخم، تبدين كدمية جميلة)
نظرت اليه بدور مصدومة، ثم قالت بغباء
(غيرة! هل تغار علي؟)
ارتفع حاجبي أمين و قال دون تردد.

(بالطبع، هل هذا شيء غريب أو يدعو الى الدهشة؟)
أطرقت بدور برأسها قليلا و هي تبتعد عنه تسحب ذقنها من كفه، مستديرة كدمية راقصة فعلا...
ظل أمين ينظر اليها بإعجاب صارخ، ثم أخذ نفسا ليقول بصوت أجش
(هل أنت مستعدة للصلاة؟)
رفعت وجهها و نظرت اليه بوجه ممتقع الا أنها أومأت براسها في صمت تام، فابتسم لها و قال يمد يده اليها
(اذن هيا بنا).

نظرت بدور الى كفه قبل أن تضع يدها بها فأغلق أصابعه عليها بقوة وهو يسحبها خلفه و هي تتبعه دون مقاومة...
و ما أن انتهيا من الصلاة حتى استدار اليها مبتسما، الا أنها نهضت بسرعة واقفة، فنهض هو الآخر ليسألها قائلا
(هل كنت تحتاجين الى أمك قبل انصرافها؟)
هزت بدور رأسها نفيا بسرعة، فرد عليها مبتسما
(جيد، ليس هناك ما تخشينه يا بدورة).

أغمضت عينيها بينما أفلتت تنهيدة حارة من بين شفتيها، و طال الصمت بينهما بينما بدا أمين مترددا قليلا ثم سألها بعفوية...
(هل تحتاجين الى مساعدة في خلع فستانك؟)
احمر وجه بدور بشدة و كأنها عروس بكر فعلا، الا أنها هزت رأسها نفيا بسرعة دون كلام...
حينها ضحك أمين بخفة و برقت عيناه ببريق عابث ليس له سوى معنى واحد...
فسارعت للقول بإرتباك
(هل، هل يمكنك أن تدير ظهرك قليلا؟).

اتسعت عينا أمين بدهشة، فقد توقع أن تطلب منه مغادرة الغرفة كي تخلع فستانها، الا أنها لم تفعل...
مجرد طلبها البسيط أثار جنون رغبته بعروسه، فاستدار بالفعل وهو يخلع سترته ببطىء، ثم بدأ يفك أزرار قميصه واحدا تلو الآخر، مرهفا السمع لما يحدث خلفه، و كان حفيف فستانها يلهب حواسه أكثر...
فزفر نفسا طويلا وهو يطلب الصبر من الله كي لا يتهور معها...

أما بدور فقد كانت واقفة أمام المرآة، تخلع حجابها بحرص حتى حررت شعرها الذي استطال ووصل الى نهاية ظهرها، ثم بدأت في فك الرباط الفضي المعقود حول خصرها، هذا الرباط كان يغلق السترة المشغولة يدويا لفستان الزفاف، فخلعتها ليبقى الفستان، بصدر عاري دون أكتاف...
كان مصمما كي يتم ارتادؤه بالسترة الضيقة، ثم تخلع ليكون تصميما مكشوفا أكثر...

عادت بدور الى عقد الشريط الفضي حول خصرها، و نظرت الى نفسها نظرة أخيرة في المرآة...
إن كان لابد لهاذا أن يحدث، فليحدث دون علمه أولا، و بعدها ليفعل ما يشاء...
استدارت بدور تنظر الى أمين الذي كان يوليها ظهره، و قد خلع قميصه و بقى ببنطال العرس...
فرمشت بعينيها ثم همست بصوت مبحوح تناديه
(أمين)
تسمر أمين للحظة قبل أن يستدير اليها ببطىء، و ما ان نظر اليها حتى تسمر مكانه مجددا، مشدوها...

كانت بدور تقف أمامه كما لم يراها من قبل، كدمية باربي سمراء، بكتفيها العاريين الخمريين حتى أن عظام الترقوة لديها كانت واضحة تماما...
وجهها البسيط بدا خلابا بشعر أسود طويل يحيط به ناعما...
جسدها متكامل رغم صغر حجمه، نعم بدت كدمية باربي سمراء رقيقة...
أفلت صفير مبحوح من بين شفتيه وهو ينظر اليها متأملا جل جزء فيها، ثم همس باسمها بصوت أجش مما جعل وجهها يحمر أكثر...
قال أمين بخفوت...

(حين طلبت مني أن أدير ظهري ظننتك تودين ارتداء شيئا من أغراض العروس الجديدة، لم أتخيل أن تبقين بفستان الزفاف)
مسدت بدور فستانها برقة و قلق، ثم سألته بإرتباك
(ألم يعجبك فستاني بهذا الشكل؟)
رفع أمين أحد حاجبيه وهو يعيد سؤالها بعدم تصديق
(لم يعجبني؟، أنت خلابة يا بدورة الصغيرة)
مد كفه اليها مجددا و قال يأمرها برفق
(تعالي بجواري).

اقتربت منه بدور ببطىء و الذعر يتزايد و يتضاعف، الى أن أمسك بكفها ثم سحبها معه حتى جلس على حافة الفراش، ثم أجلسها على ركبتيه و استراحت كفه على ساقيها...
كان نفسها يتسارع بقوة فأطرقت برأسها الا أنه قال لها بصوت خافت
(انظري الى بدورة)
رفعت وجهها تنظر اليه بصمت فابتسم لها و قال بصوت أجش
(خلال الشهر الماضي، كدت أن أجن و أنا أعد الأيام حتى أحصل عليك في بيتي)
اتسعت عيناها قليلا بصدمة ثم همست بصوت مختنق.

(حقا يا أمين؟)
أومأ برأسه وهو ينظر الى عينيها مبتسما، ثم سألها بخشونة
(هل أنت خائفة مني؟)
هزت رأسها نفيا و هي تتجنب النظر الى عينيه، فاتسعت ابتسامته و رفع يده ليحيط بها جانب عنقها يجذبها اليه برفق حتى اقترب وجهها من وجهه، فقبلها بنعومة بدت كصدمة ضربت اعماقها...

استمرت قبلته الرقيقة لفترة ذات عذوبة رقيقة، ثم بدأ شغفه يتزايد وهو يميل بها حتى استلقت على الفراش دون أن يتوقف عن تقبيلها و تخلل شعرها بأصابعه...
و ما أن بدأت أصابعه تتجرأ شيئا فشيئا، حتى شهقت بدور بصوت عالي و انتفضت صارخة
(لا، لا أستطيع)
استقام أمين وهو ينظر اليها مذهولا و قد قفزت حتى نهاية الغرفة تنتفض و تضم ذراعيها بقوة، ثم لم يلبث أن قال بهدوء
(هل خفت مني؟، أنا لن أؤذيك مطلقا يا بدور).

الا أن بدور صرخت مجددا
(لا، لن أستطيع)
عقد أمين حاجبيه قليلا، ثم قام من مكانه و اقترب منها و حاول أن يضمها بين ذراعيه كي يهدئها، الا أنها فزعت منه و فرت الى الجهة الأخرى صارخة بعنف و هي تنفجر في البكاء فجأة
(لا يا أمين لا)
حينها بدأ جسده يتوتر و سألها بصوت متحير
(ما الذي حدث لك فجأة؟، لماذا تبكين بمثل هذا العنف؟)
رفعت وجهها المبلل اليه تنظر بإستعطاف و توسل، ثم صرخت بجنون
(أنا، أنا لست بكر).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة