قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صفقة حب للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول

رواية صفقة حب للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول

رواية صفقة حب للكاتبة رضوى جاويش الفصل الأول

كان ينظر من عليائه، عبر تلك النوافذ الزجاجية لمكتبه، على رزاز الأمطار، الذى بدأت زخاته، تحجب الرؤية، عن العالم الخارجى..
كان يقف فى ثبات، يضع يده فى جيب بنطاله، وباليد الاخرى، يستند على ظهر كرسى مكتبه، وهو يراقب، ما يحدث، بالأسفل، حيث الطريق المكتظ، والكثير من الأشخاص، الذين يهرولون، رغبة فى اتقاء المطر..

الا خيالاً، لم يميزه، فاقترب قليلا يلتصق بالزجاج، ليشاهد تلك الفتاة، وهى تتقافز بفرحة تحت زخات المطر التى، يهرول منها الكثيرين، هى فقط من كانت تحتضن الأمطار مرحبة، وتقفز مهللة لقطراتها، ابتسم فى حبور، لمرأها، وظل يتابعها، وهى تمرح بكل أريحية، ترفع وجهها للسماء، كطقس مقدس، تتبعه لنيل بركات المطر...

أفاق من شروده، على صوت قرعات سريعة على باب مكتبه، ثم دخول الطارق، دون ان يأذن له، هاتفاً: -صباح الخير، محسن
-صباح الخير، منير..
-الجو بالخارج ممطر وموحل، ما كان لك ان تأتى اليوم، قالها منير، وهو يضع بعض الأوراق على المكتب، ورغم عفوية حديثه، الا انه مس وترا حساسا فى داخل محسن، جعله يهتف فى غضب: -
الم اخبرك الف مرة، ألا تأتى، على ذكر تلك السيرة!؟.
-أى سيرة..!؟، سأل منير متعجباً..

-سيرة مرضى، وما يجب ان افعل، ولا أفعل..
-انا لم أتى على ذكرها، ولن افعل، انا فقط أشفق عليك من جو كهذا ليس اكثر، وأتأسف لو ضايقتك
كلماتى، قالها بصدق شاعرا بالذنب، مما جعل نادر يتراجع عن غضبه، ويقول فى هدوء، : - لا عليك..
يبدو ان حساسيتى المفرطة تجاه هذا الموضوع، تجعلنى دائما فى حالة تحفز للشجار..
اقترب منير منه، واخذ يربت على كتفه متفهماً..

فمنير ليس فقط، المسؤول القانوني عن مجموعة شركاته التى يديرها، لكنه صديق طفولته، وكاتم أسراره، انه بالنسبة له، توأمه، الذى لا يفارقه أبداً
استدرك محسن قائلا، : - فعلا الطقس اليوم، ممطر..
لكن يبدو ان هناك من يستمتع بطقس كهذا، قالها مستديرا مرة اخرى للنافذة الزجاجية، ليشير لفتاة المطر المرحة تلك، الا انه لم يرى فى مكانها سوى الفراغ.

يبدو انها رحلت بعد ان ابتلت تماما جراء، مكوثها تحت المطر لفترة طويلة، يا لها من مجنونة..
-ماذا قلت..!؟، تسأل منير الذى انشغل ببعض الأوراق..
-لا عليك، هات ما عندك فى تلك الأوراق..

دخلت مودة الى حجرة المكتب، حيث تعمل، تنتفض فى سعادة وهى تخلع عنها معطفها المشرب تماما بالماء.

وتنفضه فى قوة لعله يتخلص من بعض القطرات التى علقت به قبل ان يتشربها نسيجه، ثم ابتسمت فى سخرية وهى تراه، وقد تشرب المياه حتى الثمالة، يا لها من متهورة، لا تستطيع أبداً مقاومة الترحيب بزخات المطر الاولى، انها متعتها التى لازالت تحتفظ بها منذ ايام الطفولة الاولى، وشردت عندما تذكرت ابيها الراحل، وهو يختطفها من بين ذراعىّ امها، ليمرحا سويا تحت زخات المطر، كانت طفلتهما الوحيدة لفترة طويلة، تخطت العشر سنوات قبل ان يرزقهما الله بأخيها، يوسف...

ان المكوث تحت تلك الزخات، يعيد لها ذكريات مضت، ولن تعود، ذكريات تحمل عبق الماضى
الجميل، وروائح الراحلين..
-رقصتِ تحت المطر من جديد!؟، كان سؤالا من رفيقتها، وشريكتها فى نفس المكتب، فى تلك الشركة التى عملت بها، كمتدربة، منذ ما يقارب الشهرين..
-بالطبع، أجابت فى مرح، كيف يهطل المطر ولا أكون فى شرف استقباله..
-لا يمكن ان تكونِ فتاة ناضجة فى الخامسة والعشرين من عمرها، فتلك افعال صبية صغار..

-انا اعشق افعال الصبية، قالتها وهى تنفجر ضاحكة
-الناس تهرول مختبأة من الأمطار، وتحتمى بها تحت مظلاتها، وانت تهرعين اليها، كيف تفعلين ذلك!؟.، سألتها فى استنكار..
-أفعله بكل بساطة، ردت باسمة
-بكل بساطة!؟، استفهمت رفيقتها، متعجبة..

فوقفت مودة واستدارت من خلف مكتبها، وهى وتفتح ذراعيها، وتغمض عينيها فى خشوع، وهى تقول: - نعم بكل بساطة، هكذا، وفردت ذراعيها عن آخرهما، وهى تهمس فى قدسية، هكذا تستقبلين المطر مرحبة، وفجأة..
اصطدمت بجدار بشرى، جعلها تشهق وتفتح عيونها مسرعة، وتتراجع خطوات للخلف، لتصطدم بأحد المقاعد، لتتعثر من جديد، فتعود بفعل قوة جذب قوية، لتصطدم بذاك الجدار البشرى من جديد، وكأنها شريط مطاطى، قبل سقوطها المرتقب...

كان هو من جذبها اليه، هذه المرة..
كانت الان، تستند على صدر ما، لا تعرف صاحبه
ولا من أين ظهر فجأة، رفعت هامتها، فهى بطولها
المتوسط، بالكاد ناهزت صدره طولا، لتصدم عيونها...
بذقن مدبب حليق، وأنف اغريقى، وعيون حازمة صارمة، كان وجهه عبارة عن لوحة، تعكس كلمة واحدة، مخيف..
انتفضت هذه المرة مبتعدة عن مجال هذا الرجل الخطر.

مع حرصها، كى لا تصطدم باى مقعد كان، فيكفيها تجربة واحدة، كانت فيها هناك، حيث اللا زمان، بين ذراعيه..
تراجعت بضع خطوات حتى تفسح له المجال ليمر فى هدوء، لحال سبيله، الا انه لم يتحرك قيد انملة، بل نظر لرفيقتها فى الغرفة التى انتصبت واقفة فى احترام بالغ، وهى ترحب به فى قداسة: - مرحبا سيدى..
كيف يمكننى خدمتك..!؟..

-مرحبا أنسة هناء، من هذه!؟، وهو يشيرلخلف ظهره لمودة، والتى تقف خلفه تقريبا، دون حتى ان يستدير...
-انها الانسة مودة، المتدربة الجديدة، هنا فى مكتب السيد منير، أعتقد انه أخبرك سيدى، فهى هنا منذ ما يقرب من الشهرين..
قال ساخرا: - مودة، أهااا، ظهر ذلك فى الترحيب
المفرط عند دخولى...
وقفت مودة تغلى، انه يسخر من اسمها، حسنا، ومن يكون هذا على ايه حال!؟، ذاك المتغطرس..

والآن، يتحدثان عنها، وهى تقف هكذا مثل احد الأنتيكات على المكتب، لا ترد بكلمة، كادت تصيح بهما، هاى، أنا هنا، تشرفت بمعرفتكما، لكنها آثرت الصمت، خاصة انها لا تعلم من هذا، المتعجرف الذى يتحدث مع هناء بكل تلك الغطرسة، وثانيا، يكفيها موقف محرج واحد اليوم..

خاصة مع شخص كهذا، وثالثا، وهو الأهم، انها لا تريد ان تفقد وظيفتها، التى تحصلت عليها بشق الانفس، فما تحمله من مسؤليات جسام تجاه اخيها الصغير، لايحتمل التفريط فى وظيفة كهذه، مهما كان الثمن، ثم استطرد فى حديثه الموجه لهناء، وقد نسى امرها تماما: -
- أخبرينى، بالمناسبة، هل منير موجود..!؟.
-بالطبع سيدى، تفضل، واندفعت تطرق باب مكتب.

منير، ثم تفتحه فى هدوء، وتتنحى جانبا، ليمر محسن فى ثقة، فتغلق الباب خلفه..
وتندفع لطلب القهوة، فى عجالة، متناسية مودة التى لا تزال مكانها، لم تتحرك، خاصة بعد سخريته منها
-من هذا المتغطرس..!؟، سألت مودة بتأفف
ابتسمت هناء، وهى ترى حال مودة، فقالت: - ألا تعلمين من هذا..!؟، فليرحمك الله..
-لماذا!؟، سألت فى سذاجة..

-ألا تعرفين من هذا!، والذى كدت تطيحين به، وانت تستقبلين أمطارك المزعومة!؟، وقهقهت فجأة، ثم أمسكت ضحكاتها، وأخفضت صوتها..
-من يا ترى!؟، سألت مودة فى فضول
-انه السيد محسن ضرغام، صاحب المجموعة ايتها التعيسة...
ارتبكت، وفركت كفيها فى توتر، وهى تسأل هناء فى ترقب: - أتعتقدين، انه يمكنه، أن..

ردت هناء فى سرعة مقاطعة إياها، : - بل يمكنه، ما لا تتخيليه، الله معكِ، أدع الله ان ينسى أمركِ، ولا يستغنى عن خدماتك، فهو معروف بالحزم والشدة، وانه لا يتهاون مع أى خطأ مهما كان بسيطاً، وهذا ما جعل مجموعته الاقتصادية تلك التى ورثها عن ابيه، من أقوى الشركات، فالكل يقيم له ألف حساب..

أزدرت مودة ريقها بصعوبة، بعد تلك الكلمات الغير مطمئنة بالمرة، وظلت تدعو الله سراً، ان يتناسى أمرها، فى خضم أعماله الجسام، ويتركها لحالها..
فهى لا قدرة لديها، لتفقد عملها، وتعود من جديد لدوامة البحث عن غيره، وما يستتبعها من مسؤوليات
وإحباطات كذلك، يا الله، فلتدعه ينسى أمرى..
لكن دعاءها جاء متأخراً، فها هو محسن ضرغام، يسأل عنها، رئيسها المباشر، السيد منير..

-من تلك الموظفة الجديدة التى لمحتها، فى دخولى للغرفة..!؟، سأل محسن فى فضول حاول مداراته لكن ليس على منير الذى يحفظه ككف يده، والذى ابتسم بدوره، وهو يرد فى خبث محبب: - أها، محسن ضرغام، يعود من جديد، على يد متدربتنا الصغيرة..

-أعود إلى أين!؟، هتف محسن متصنعا الحنق، مجرد سؤال برئ، فأنا لم أرها من قبل، ثم تغيرت نبرة صوته، لتكسوها الجدية، ثم انك تعلم جيداً يا منير، ان ذاك الباب، أغلقته بألف مفتاح، ولا عودة من جديد..، خاصة بعد أن...
وصمت قليلا، وما كان فى حاجة ليكمل كلماته..

فقد أدرك منير ما كان يريد ان يقوله، وتلك الإشارة الغير مباشرة لمرضه، الذى ما يحب ان يذكرها، أو أن يذكره بها، أى من كان، لذا قرر منير، تغيير دفة الحوار لوجهة أخرى حينما قال: - المتدربة الجديدة
اسمها مودة شكرى، فتاة مجتهدة، تقدمت لشغل الوظيفة الشاغرة، التى أعلنا عنها منذ أكثر من شهرين
والصراحة، هى تملك كل المؤهلات، التى تميزها، وهى تتعلم بسرعة ملحوظة، و.

فقاطعه محسن: - لكنها، بدت لى، قليلة الخبرة، وطائشة إلى حد كبير..
-هذا جائز جدااا، وخاصة انها شابة صغيرة، فهى لا تتعدى الخامسة والعشرين من عمرها، وكلنا كنّا اكثر من طائشين على ما أعتقد فى مثل هذا العمر، قالها منير مبتسماً، وهو يتذكر ذكرياته الماجنة مع محسن فى ذاك السن، فكلمة طائشين، لم تكن كافية، لتصف تهورهما، ورعونتهما، كان ذاك، منذ ما يزيد عن عشر سنوات، مرا فيها بالكثير معا..

-حسنا، قالها محسن، وهو يهم بالخروج، فى هدوء من باب الغرفة، الذى ما أن فُتح، حتى صمتت تلك الهمهمات التى كان يسمعها، ليحل محلها الصمت المطبق، ويرى هناء، ثم تلك المتدربة، واقفين فى ثبات تام..
مر بهما، ثم ألقى التحية فى تعال، وتوجه للخروج من باب الحجرة، فتنفست مودة الصعداء، أخيرا..

لكنها، كتمت انفاسها من جديد، عندما عاد أدراجه، مولياً وجهه لها خصيصاً، وهو يقول بنبرة حازمة، وصوت عميق رخيم: - أنتبهى لعملك جيداً، ولا تنسى انك لازلت تحت التمرين، وأشار بيده، دلالة على سهولة الاستغناء عنها فى أية لحظة..
لم يسعها أمام هذا الوجه الصارم وتلك العينين القاتمتين
بلون الفحم، الا أن، تومئ برأسها إيجاباً، وهى تكتم انفاسها، وقلبها يدق كالطبول فى صدرها..

انصرف فى هدوء، وأخيرا استطاعت ألتقاط أنفاسها
فى تسارع، تجلب لنفسها بعض الأكسجين من خلال تحريك بعض الأوراق أمام وجهها الذى أصبح فى لون حبات الفراولة الناضجة...
استعادت توازنها أخيرا، و هناء تهتف فى سعادة: - يا لكِ من محظوظة، فلقد تغاضى عن فعلتك...

لكن هى لم ترد، على الرغم من شعورها بالفرحة لانه تركها تكمل تدربها، فى مجموعته، الا أن، هاتفاً داخلياً، يلح عليها الان، بان هذا، ليس نهاية المطاف، مع ذاك المتغطرس...

دخلت مسرعة، لشقتها المتواضعة فى ذاك الحى الشعبى العريق، حيث ترعرع أبويها، وأحب كل منهما الاخر، ليتزوجا فى نهاية المطاف فى تلك الشقة العتيقة، التى لم يبقى لها، هى وأخيها، من حطام الدنيا، غيرها، وبعض ذكريات، هنا وهناك، تطل من بعض الصور الفوتوغرافية التى تحتل جدران الشقة، التى كستها الرطوبة بفعل عوامل الزمن..

دخلت، تنادى على أخيها مدللة أياه، بلفظة الدلال التى يمقتها، امعانا فى أغاظته: - يويو، أين أنت!؟، لا تخبرنى بأنك لازلت نائما...!؟.
-ظهر صبيا فى الثانية عشرة من عمره، يجلس على كرسى مدولب، يشبها الى حد كبير، نفس الوجه القمحى الطفولى، والعيون التى بلون العسل، بخلاف واحد هو لون الشعر، فهو يملك شعرا كستنائياً، يشبه شعر أمها الراحلة كثيرا، أما هى، فقد ورثت شعر ابيها، الحالك السواد...

ظهر يوسف عابساً، خاصة بعد نعتة ب يويو، والذى يكرهه كثيرا..
-لما الجميل عابساً..!؟، سالت بمرح
-لقد تأخرتِ كثيراً اليوم، وأنا وحيداً النهار بطوله، قالها بحنق تام، وهو يضرب على أحدى ذراعىّ كرسيه المدولب...

كانت تعلم انها تتركه معظم النهار وحيداً، الا من بعض المرات التى يجود فيها أحد أبناء الجيران متطوعاً، للبقاء معه، لتسليته والترفيه عنه، الا انهم اطفال ايضا، ويملون بسرعة، لذا فسرعان ما يتركوه وحيدا، متحججين، ليذهبوا للعب الكرة..
ليبقى هو بعدها، وحيدا متحسرا...

يوسف، هو كل ما بقى لها، بعد تلك الحادثة التى أودت بحياة أبويهما، وكانت السبب فى ما يعانيه أخيها الأن، فبعد تلك الحادثة المشؤومة، فقد يوسف قدرته
على المشى بشكل طبيعى، والكثير من الأطباء أكدوا.

إمكانية استعادته لتلك القدرة من جديد، اذا خضع، لعملية جراحية ضخمة، تتكلف الكثير مع، علاج طبيعى مكمل، لكن من أين لها، بمصاريف العملية الجراحية وما يتبعها، فهى لا تملك الا معاش ابيها الذى يكفيهما بالكاد، وخاصة مع ما تبتاعه من أدوية وعقاقير قد تساعد فى تحسين حالة أخيها، وتلك الشقة العتيقة، واخيرا عملها، والذى حتى الأن، ليس مضموناً..

فهى لازالت متدربة، يمكنهم الاستغناء عنها فى أية لحظة، وما عاشته اليوم، كان كفيلاً جداً، ليؤكد لها تلك الحقيقة المؤلمة...
ربتت على كتف أخيها، والحزن يعتصر قلبها، حزنا على حاله، ثم تنحنى، لتجلس على ركبتيها امام كرسيه وترفع ذقنه بكفها، لتنظر لعمق عينيه الدامعتين.

-أعرف أنى أتركك لفترة طويلة، من النهار، لكن انه عملى الجديد، والذى سيحسن من حالنا، وعن طريقه يمكننى الادخار من أجل عمليتك الجراحية، كى تعود، لتجرى وتمرح مع أصدقاءك من جديد، فهل تسامحنى، أومأ برأسه إيجاباً، فقالت متصنعة المرح
وهى تندفع لبعض الأغراض التى أحضرتها من أجله.

-انظر ماذا جلبت لك!؟، وأخرجت قميصاً وبنطالاً من أحد الاكياس، لتضعهما عليه، وهى تقول: - ما أروعهما، أنهما مناسبان لك تماما، يا يويو..
-كفى عن مناداتى ب يويو هذه، اسمى يوسف..
-حاااضر يا، يويو، قالتها ضاحكة راغبة فى إغاظته، الا انه ابتسم، عندما ادرك، مقصدها..

وقال مستدركاً. : -، جميل جدا ما أحضرتيه، انهما باللون الذى أحب، لكن عليك بالادخار، كما وعدتينى أليس كذلك!؟، الا أتحمل بعدك عنى، وبقائى وحيداً، حتى تجمعى المال المطلوب للجراحة..
وضعت هديتها جانبا، و طوقت رأسه بين ذراعيها، تشعر بالالم يعتصرها عصرا، على حال اخيها، ورغبته، وأمله فى تحقيق معجزة، لتحصل على المال المطلوب، ليسير على قدميه من جديد..

ولكن رغم ذلك كله، قالت فى ثقة: - لا تخف، سأحصل على المال، وستعود للسير والركض مع أصدقاءك من جديد، أقسم لك، بان ذلك سيحدث..
ولن أدعك فى تلك الحالة طويلا..

وقف ينظر من النافذة كعادته الايام الماضية، لعله يلمح تلك الفتاة التى تعشق المطر، لا يعرف لما رؤيتها تشعره بالسعادة، وانه لازال هناك من يستمتعون ببعض النعم البسيطة التى يغدقها علينا المولى سبحانه وتعالى، ولا نعيها، ولا ندرك
حاجتنا للاستمتاع بها، الا عند علمنا، بأننا سنحرم منها عما قريب..
يشعر الان ان نظرته للامور، كل الامور، قد اختلفت تماماً، حد التناقض، عندما علم بمرضه.

بدأ ينظر الى الامور التى كان يتجاهلها، ويجد لها
بريقاً أخر مختلف تماماً، وبدأ يدرك ان ما اضاع فيه
ايام شبابه، وسنواته الاولى، كان قبض ريح، لا يسمن ولا يغنى من جوع، لم يضف اليه، سوى
حسرات، وندم...
تطلع من جديد، الى الطريق، لعله يلمحها، بعد ان
مرت الايام الثلاثة الماضية، دون ان يجد لها أثراً..
وكأنها لا تظهر الا مع ظهور أولى قطرات المطر
معلنة عن نفسها، حورية المطر، انها مثل حورية.

الأمطار، تظهر وتختفى، وفقاً لها...
وها هو، منذ لمح قطرات المطر الاولى تدق بفرحة على زجاج نافذته، حتى قفز فى شوق إلى النافذة متطلعاً للطريق فى لهفة، وعيونه تتعلق بموضع
تواجدها فى المرة السابقة، لكن هل ستأتى!؟.
ربما كانت تمر بالصدفة من هذا الطريق فى المرة
السابقة والوحيدة، التى رأها فيها، أزدادت قطرات المطر دقاً على نافذته، تحجب الرؤية بعض الشئ..
وكاد ان يفقد الأمل، فى ان يراها مجدداً...

حتى ظهر معطفها الوردي، من بعيد، فألتصق بالنافذة ليجدها تقف فى نفس مكانها السابق، فى الرصيف المقابل لمدخل شركته، يبدو انها تنتظر الإشارة لتسمح لها بالمرور للرصيف الاخر، وها هى تقف تلاعب قطرات المطر، كعادتها..
ولمعت فى عقله فكرة مجنونة، لما لا يذهب ليراها..
نعم يراها عن قرب، فقط يراها، تلك العاشقة للأمطار، التى بهرته، بذاك العشق، لم ينتظر ليقرر.

بل وضع أفكاره تلك حيذ التنفيذ، فاندفع من مكتبه، فى سرعة، جعلت سكرتيرته الحسناء تجفل، وتقفز فى فزع، لكنه لم يعبأ بها، واستمر فى ركضه، طالما هو وحيداً، فى الممر المؤدى للمصعد، فاذا ما ظهر بعض الموظفين، يتأنى فى مشيته، ويلقى التحية فى وقار، وأخيراً، وصل المصعد، وضغط
زر الطابق الأرضى، ثوانى مرت، حتى وصل..
لكنها ثقيلة، تعدت الدقائق، فى توقيته المتلهف...

خرج، بوقار، حتى وصل لخارج الشركة، مندفع من بابها، ليصدم بأحدهم، وعيونه على الرصيف المقابل حيث كانت تقف، وللأسف، فقد فقدها..
لم تكن هناك، لقد رحلت، زفر فى ضيق، وتنبه
للكائن الذى يأسره الأن، ممسكاً بذراعيه، عندما اصطدم به، اخفض رأسه فى حسرة يتطلع لتلك الرأس.

المنكسة فى اضطراب، وهو، ينطق بعبارات الأسف، والاعتذار، لترتفع تلك الهامة فى بطء، لتقابل نظراته، فتوقفت الكلمات فى حلقه، معطف وردى، انها هى ذات المعطف الوردي، لكن أين رأها من قبل يا ترى...!؟.
لقد اصطدم بتلك النظرات من قبل..!؟، لكن أين يا ترى..!؟، ذم شفتيه، وانعقد ما بين حاجبيه، وهو يحاول التذكر، وقد اعتراه بعض الصداع، جراء توتره، واندفاعه، مما شوش قليلا على تفكيره..

وذاكرته، حتى هتفت هى فى ندم: - أسفة، أسفة سيدى، أعذرنى بحق، فلم أقصد أن...
ابعدها عنه قليلا، وتذكر، انها المتدربة الجديدة..
نظر اليها، من قمة رأسها، حتى أخمص قدميها..
هل حقاً، متدربته الجديدة، هى حورية المطر تلك.!؟
نعم، انها هى..
-أنتِ، المتدربة الجديدة، على ما اتذكر..!.
-نعم، أنا هى يا سيدى، قالتها بصوت يحمل نبرة منكسرة، وهى تومئ برأسها إيجاباً..

-هل من عاداتك الاندفاع لتسحقى الناس فى طريقك دوما..!؟، على الرغم من علمه انه خطاه هو، وان الاندفاع جاء منه، لا منها، لكن لا يعلم لما شعر برغبة ساحقة، فى تقريعها..
-أنا، أنا، ترددت لا تعرف كيف تجيب، فله الحق فيما يدعى، فهى المرة الثانية، التى تصطدم به..

ولعلها الاخيرة، هكذا خطر لها، فلابد انه يفكر فى التخلص منها الان، فهو ذاك الحازم الذى لا يقبل بمتهورين قليلى الخبرة تحت سقف مؤسسته، يا الله ساعدنى، هكذا هتفت، وهى تغمض عينيها تضرعاً، ولكنها تفاجأت، عندما أخذ يهزها بقلق، متسائلا: - هل أنتِ بخير..!؟، أجيبى، هل حدث لكِ، أى مكروه..!؟..
أضاءت فى عقلها فكرة مجنونة، لعلها منقذها الوحيد.

فأنهارت فجأة، تتظاهر بفقدان الوعى، لكنه ألتقطها سريعاً، بين ذراعيه، وهو يهتف، فى أفراد الأمن..
عند البوابة، والذين هرعوا، فى ثوان، لنجدتها..
لكنه، حملها دونهم، صارخاً فيهم، بطلب طبيب
الشركة، والذى لسوء حظه، وحسن حظها لم يحضر بعد، مما ساعدها ولو قليلا، لتتقن دورها..
فَلَو حضر الطبيب، فسيكتشف بسهولة، إغماءها المدبر، يا لها من محظوظة، هتفت لنفسها، وهو يضعها، على أحد الأرائك، أخيراً الحظ فى صالحها.

انه يصالحها، بعد مرات عديدة، من مخاصمته لها..
انتفضت عندما قرب من انفها بعض من العطر، بشكل فجائي، فقررت الإفاقة، فتحت عينيها فى بطء، لتفاجئ بعيون فحمية، تتطلع اليها من عليائها، فأنتفضت فى سرعة، لتقف، لكنه امسك بكتفيها ليعيدها، لمكانها من جديد، وهو يقول بلهجة تحمل بعض من اهتمام، استغربته، : - ابقى حيث انتِ، حتى تصبحى قادرة بشكل تام على النهوض..
-أشكركِ، وأسفة مرة أخرى، فلم..

قاطعها قائلاً فى شرود: - لا عَلَيْكِ، يا حورية المطر
-عفواً، قالت متسائلة عندما لم تدرك ما قال..
-لا شئ، قالها فى سرعة، هل انت بخير الان!؟.
-نعم، نعم، ووقفت فى عجالة..
-حسنا، فلنعود لعملنا..
انتظرت حتى يذهب هو ويتركها، تذهب لحالها، لكنه أشار لها، حتى تتبعه، ليقفا معاً فى انتظار المصعد..
وصل المصعد الخاص به اولا، فقال فى حزم، وقد عاد لطبيعته، يمكنكِ ان تستقلى معى مصعدى..

كادت ان ترفض، فى إشارة شكر مهذبة، فهى لن ترتاح، حتى تكون ابعد ما يكون عن تلك العيون الصارمة، لكنه لم يمهلها وقتا، ليفسح لها الطريق.

أمرا أياها بالدخول، فتنفذ أمره منصاعة، ليقفا متقاربان، فى ذاك الصندوق المربع، تشعر هى بالاختناق.، لا يفصله عنها الا بضعه أشبار، أما هو، بلامبالاة، ضغط على ذَر الرقم الخاص بالدور الذى تعمل فيه، وأخذ ينظر لها، بجانب عينه، نظرات متقطعة، وهو يمسك بمنديله، يمسح به بعض من مياه، ألتصقت به، عند اصطدامه بها، وهى ترتدى ذاك المعطف المبلل..
-أسفة مرة ثالثة، على تلك الفوضى..

هز رأسه متفهماً، دون ان ينبس بحرف واحد، و
قد استعاد غطرسته المعتادة..
وصل المصعد، فخرجت وهى تلقى التحية..
وينغلق باب المصعد ليكمل رحلته، قبل ان يعيرها اهتماماً..
أو حتى، يرد تحيتها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة