قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع والتسعون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع والتسعون

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع والتسعون

منذ الثامنة صباحًا ومازال على والشباب بمكان الحادث، وها هي تمضي للثالثة فجرًا، صباح يومًا أخرًا دون أي جدوى.

وباصرارٍ من الجوكر عاد الجميع مهمومًا لمنازلهم، فتقاسمت العائلات الحزن الشديد معهم، وعلى رأسهم الشيخ مهران، الذي كان يدعو له في كل صلاة جماعة، ويستمع بآذنيه صوت بكاء الأناس من حوله، الجميع كان يحبون هذا الشاب، ذو الصوت العذب، الذي كان يبتهل قبل آذان الفجر، ربما ليس بشكلٍ دائم ولكن اليوم الذي ينطلق صوته بحارة الشيخ مهران، كان الاطفال يخرجون بهواتفهم ليسجلون صوته.

لم يترك حبه صغيرًا ولا كبيرًا، ليس لأنه وسيمًا ولا لثرائه، فكم من ثري يهتم بلياقته وجماله، ولكن ليس فيهم ذلك الذي يمتلك قلبًا رحيمًا، لا يمتلك حنان عُمران ورحمته بغيره!

انعزل جمال بغرفته، تاركًا زوجته ووالدته تدقان بابه ببكاءٍ شديد، وبالأخص آشرقت التي جن جنونها فور أن استمعت للخبر، تقاسمت الخوف على ابنها وعلى ذلك الشاب البار بها وبابنها، بينما انقبض قلب صبا رعبًا على زوجها، لحبه الشديد لعمران.

اما يوسف فما أن أغلق باب شقته حتى تهاوى من خلفه يبكي بانهيار، ومن خارج باب منزله يستند سيف على باب شقة أخيه، يستمع لصوت بكائه ودموعه تنساب قهرًا وشفقة عليه، يمد اصبعيه للجرس حتى يدقه ويكون جواره، ولكنه تراجع حينما استمع لصوت ليلى، فاطمئن حينما وجدها تساند أخيه بكل حب، لذا ترك لهما مساحتهما وغادر لشقته مهمومًا.

أما آيوب ففور أن غادر المسجد جميع المصلين، حتى تمدد واضعًا رأسه على ساق الشيخ مهران، الذي يحاول جاهدًا التربيت على قلبه الجريح، فمضى يرقيه ويدعو له بصمتٍ، ومن جواره يجلس يونس الذي لمعت عينيه بالدمع تأثرًا بحالة ابن عمه ورفيقه إيثان.

بينما يجلس ايثان على درج الجيم الخاص به، يتطلع لكل تفصيلة وضعها عُمران بلمسته الخاصة، فتنسكب دمعاته ويُوخز قلبه بقوة، كأنما خسر شقيقًا لم يمتلكه أبدًا، بالرغم من مشاكستهما المعتادة الا أنه بات صديقًا هامًا له.

تدارك الحزن قلوب أعتى الرجال، فاستشف فيهم الحزن والبكاء، فأشفقوا جميعًا على حال النساء، وخاصة والدته وزوجته التي لم تعلم بعد، فكان لهم نصيب مضاعف من الوجع، فلقد ترك عمران بصمة تذكارية للجميع، بداية من سدن التي أسلمت على يده هو دونًا عن الاخرين، ونهاية بصبا التي حماها من غضب زوجها في تلك الليلة، والا كان سيقتلها هي وزوجها.

حتى زينب قدم لها حماية كاملة حينما ألقن يمان درسًا قاسيًا، ويتدارج كل تلك الأدوار البسيطة أمام فاطيما، التي كان لها ونعم الأخ والسند، فباتت بغرفتها تطول بسجودها وتدعو له ببكاءٍ ورم عينيها، تتمسك بقرآنها وتقرأ له، وحينما استدار لفراشها وجدت على يتمدد من فوقه، يضم ساقيه لوجهه بشكلٍ قبض صدرها.

ركضت إليه تناديه بهلعٍ: علي!

شهدت ضعفه للمرة الأولى، فاذا بدموعه تغرق وجهه، وصوته المبحوح يهمس لها: احضنيني يا فاطمة!

تدفقت دموعها بتأثرٍ، وبدون أي تردد تمددت جواره وتدفنه بين ذراعيها، فوجدته ينتفض من الحين والآخر حتى أغلق عينيه باستسلام لنومٍ لم يشهده منذ ثمانية وأربعون ساعة!

وقف آدهم أمام باب غرفتها التي اعتصرت داخلها كل آلامها حينما رأت ما فعله أخيها بداخلها لتكن باستقبالها بأي وقتًا تحتاج فيه للراحة.

يصل لمسمعه صوت بكائها، فاستند بجبينه على الباب وهو يغلق عينيه في وجعٍ، أرشده أحمد لغرفتها وطلب منه أن يظل برفقتها هنا، بينما يغادى الطبيب جناح فريدة بعد ان طمن أحمد وآدهم عليها.

حرر آدهم مقبض الباب، وولج يتلمس الطريق من أمامه، لم تستمع شمس لصوت الباب من كثرة بكائها وصرخاتها المتآلمة.

كانت الغرفة شاسعة لدرجة جعلته بفشل بتحديد مصدر صوتها، فناداها بلهفة: شمس.

استقامت بجلستها على الفراش الوثير، تراقب وجوده بعدم تصديق، وببسمة ارتسمت رغمًا عنها همست: آدهم!

قالتها ونهضت تركض صوبه، اندفعت لأحضانه فتراجع بها خطوتين من قوة ارتطامها به، فكبت صوت وجعه الذي عصف باصاباته، ومع ذلك رحب بها بضمته القوية داخله، بينما تتمسح هي بصدره وهي تشكو له: عُمران إتخلى عننا يا آدهم، عُمران سابنا ومشي!

وتابعت وجسدها ينتفض من فرط البكاء: لما بابي مات كنت صغيرة ومش فاهمه حاجة، وكل ما كنت بشتاقله وبحتاج لوجوده كان على وعُمران جانبي، عمرهم ما حسسوني إني يتيمة الأب، أنا دلوقتي بقيت يتيمة يا آدهم.

أدمعت عينيه تأثرًا بحديثها، رفع يده يمررها على طول خصلاتها، وقال بحزن: عارف إني مهما اتكلمت ومهما حاولت أطمنك وأعوضك مش هعرف، لأن عُمران ما يتعوضش ولا يسكن وجع فراقه أي كلام، بس أنا مش قادر أشوفك بالحالة دي يا شمس، فريدة هانم تعبانه ومحتاجاكِ جنبها.

تمسكت بقميصه وتعالى صوت شهقاتها، بينما تخبره بانكسار: أنا اللي محتاجاها جنبي، آدهم أنا أول مرة أشوف مامي في الحالة دي، مامي عمر ما في حاجة كسرتها.

ورفعت رأسها إليه تتفقده بحبٍ، فاذا بها تبتعد عن ذراعيه وهي تبتسم بألمٍ ساخر: إنت عيونك ورامة من البكى! للدرجادي عُمران فارقالك أنت كمان؟

زوى حاجبيه وهو يجيبها بدهشة: أكيد فارقلي يا شمس، عُمران طوب الأرض بيحبه وبيحترمه، إنتِ عندك شك إني مش هكون أول واحد زعلان عليه؟

هزت رأسها بالنفي، وعادت لأحضانه تخبره ببكاء: لأ. معنديش أي شك في حبك تجاهه، بس استغربت من الحالة اللي إنت فيها.

واسترسلت ببكاءٍ: خليك جانبي يا آدهم، أنا محتاجالك أوي، خليك معايا هنا، بلاش ترجع البيت.

قبل جبينها وخصلاتها بحبٍ: أنا مش رايح لأي مكان. أنا هنا جانبك يا شمس.

ابتسمت من بين دموع عينيها، ومالت على صدره تجاهد الا تغفو، شعر بها آدهم فضمها وخطى برفقتها، حتى أوصلته للفراش، تمدد برفقتها واحتواها بحنانٍ، جعلها تستسلم بين ذراعيه للنوم سريعًا.

كان أثقل ليلًا يمر على الجميع، حتى أتى صباح يومًا جديدًا، فتح علي عينيه المُسلطة على الفراغ بشرود، وببطءٍ انتقل ببصره لمن تغفو على كتفه، انسلت من الفراش وخرج بنفس ملابسه الذي إرتداها يوم حادث أخيه وبقى بها حتى تلك اللحظة.

خرج يتجه لجناح والدته بالطابق الأول، وقف أمام الباب مترددًا بالطرق، ولكنه استجمع كل قوته وطرق الباب، فاذا بأحمد يقف من أمامه، وفور أن رآه حتى سحبه للخارج ويسأله بكل لهفة: طمني، لقيتوه؟

غامت رماديتاه بعاصفة كبت فيها الدمع وإنهارت حصونه، فاكتفى بإيماءة بسيطة من رأسه، ضم أحمد شفتيه بألمٍ، وارتكن على الحائط المجاور له يحرر بكائه المحتبس، وهو يواجهه: يعني أيه؟

قبض على كفه يمنعه من السقوط، وتوسل له ببكاء: أبوس ايدك يا عمي أنا مش متحمل، إرحمني بالله عليك.

رفع عينيه له يطالعه بشفقةٍ، من سيساند في تلك العائلة، نصب أحمد عوده وضمه إلى صدره بكل قوته، هاتفًا بشهقاتٍ تئن وجعًا: هيرجع يا علي، هيرجع وبكره هتشوف.

اعتصر عينيه يحرر نزيفهما، وهو يتمنى من داخل أعماقه أن يعود في تلك اللحظة، يتخيل بكل دقيقة تمر عليه أنه سيفتح باب جناحه ويركض لأحضانه معتذرًا عما فعله به، ولكن الدقائق والساعات مرت ولم يعود أخيه، لم يعود ابنه البكري!

استمد على القليل من قوته، وسأل احمد بصوته الشاحب: ماما عامله أيه؟

رد يجيبه بتأثرٍ: نايمه من ساعة ما عرفت، الدكتور قال إن كده أحسن ليها بالوقت الراهن.

منحه نظرة غائرة، احتشدت فيها أوجاعه، كم من نزيف سيخترق قلبه الضعيف، نزيف أخيه أم والدته أم شقيقته أم زوجة أخيه، أم أصدقائه؟ كم وجعًا عليه احتماله؟

ولج على للداخل، يراقب والدته الراقدة على فراشها لا حول لها ولا قوة، أزاح دموعه ووقف ينظم أنفاسه، حتى يهدأ عنه ذلك الوجع الذي يشعر به داخل صدره، والذي بات على علمًا كاملًا أنه إن لم يخف من حدته سيُصاب بجلطة فورية، كونه طبيبًا يعلم بوادرها.

مال على الكومود يفرك صدره وهو يهمس بوجعًا: لو وقعت إنت كمان يا على مين هيساندهم غيرك!

وأغلق عينيه يهتف بألمٍ: اللهم ارحمني برحمتك، ولطفك، وأيدني بالصبر وإصرف عني الهم والغم والسخط، اللهم أصلح لي أمري كله، وصبرني على ما أصابني، وإرضى عني يا لطيف، اللهم اشدد أزري، وثبتني وأرزقني الصبر.

ومال يتطلع لوالدته، فبكى رغمًا عنه وهو يتابع: اللهم إني أسألك لطفك بي وبمن أحب اللهم ارزقهم الصبر والثبات.

ونهض عن الكومود ينحني تجاه يدها المنغرز بها المحلول، يقبلها ودموعه تتساقط على كف فريدة، فتحركت أصابعها كأنما تشعر بكسرته وإنهياره.

نصب عوده ومال على رأسها يقبلها بعمقٍ، ومن بين دموعه يهمس لها: هيرجع والله، هيرجع لحضنك لأنه ميقدرش يبعد عنك ولا عني، مهما بعد هيرجع!

مال على كتفها يبكي كالصغير، يسترد معنى جملته، وسؤاله يحير باله، ماذا لو لم يكن على قيد الحياة!

ولج احمد الجناح بعد أن ترك له الوقت برفقتها، فوجده يميل على كتفها ويبكي دون أي صوت، يحتبس صوت صراخها بينما تفضحه دموعه، امتد كف أحمد يشدد على كتفه، يجدد فيه قوته، فرفع نفسه عنها وأزاح دموعه، ثم انتصب بعوده وغادر على الفور.

مضى للطابق العلوي، وما كاد بالتوجه لجناحه حتى توقف على صوتًا باكي يأتي من خلفه، يناديه: علي!

قبض معصمه وضم شفتيه بقوة أدمتهم، يحاول الآن أن يستحضر ثباته الهادر لتلك المواجهة، استدار للخلف ببطء فوجدها تقابله بعينيها المتورمة، ووجهها المجهد، تقف على بعدٍ منه وتبكي بانهيارٍ، صوت وجعها يصل له من محله، تدفقت دمعاته وهو يتطلع لها بعجزٍ تام، وبدون أي كلمة تقال فرق ذراعيه لها.

هرولت إليه شمس، حتى استقرت بين ذراعيه تبكي بصوتٍ تعالى عن مجمله الطبيعي، تلاشت الكلمات عنهما، فأي كلمة ستُقال الآن!

ربت عليها بضعفٍ، وتركها تخرج ما بها دون أن يصدر عنه حرفًا، بينما تهتف بانهيارٍ: أنا مش مصدقة يا علي، ده كان لسه عندي قبل ما يسافر، حضني وقالي أنا جانبك وسندك، وفجأة كده يتخلى عني يا علي؟

اعتصر دموعه ويديه ترتخي بضعفٍ عنها، تثاقلت أنفاسه وحجم أوجاعه تتضاعف، اهتزت الصورة من حوله، ومال على شقيقته.

انتفضت شمس بفزعٍ من رؤية أخيها بتلك الحالة، لفت ذراعيها حول خصره تدعم وقفته، وهي تناديه بفزعٍ: علي!

مال عليها يستند بذقنه على رأسها، فهدرت برعب: مالك يا حبيبي؟ إنت هتتخلى عني انت كمانيا علي!

وصرخت بجنون: آدهم!

فتح عينيه بصعوبة، والدوار يتمكن منه كليًا، فشد عليها قائلًا: انا كويس يا شمس، إهدي.

صرخت به وبكائها يزداد: لا إنت مش كويس، إنت مش قادر تقف على رجلك!

منحها ابتسامة مؤلمة، وقال: ولو فضلتوا بحالتكم دي هموت من عجزي قدامكم.

تعلقت به بخوفٍ، وهدرت بانفعال: بعد الشر عليك يا حبيبي، إحنا مبقاش لينا غيرك يا على متتخلاش عني ولا عن مامي بليز!

ضمها وربت على ظهرها بحنانٍ، فابتعدت تزيح دموعها وتحاول قدر المستطاع السيطرة على حزنها، ستفقد أخيها الآخر إن تركت الاحزان تتمرد عليها، كانت تظن أن على سيمدها بالدعم الكامل حتى تتخطى ما تمر، به مثلما إعتاد أن يفعل، ولكنها تفاجآت بمدى ألمه الغير محتمل على فراق عُمران وعلى حزنهم الشديد عليه.

ابتعدت عنه ورددت بابتسامة رسمتها بالكد: أنا هنزل اجبلك سندوتش خفيف وكوباية عصير، لو فطرت هتتحسن شوية.

وتركته وهرولت للاسفل، فما أن تأكد من ابتعادها حتى سقط على المقعد القريب منه يعتصر رأسه وهو يتآوه بخفوت تام، فإذا بفاطمة تخرج للبحث عنه بعدما ارتدت حجابها، فصعقت حينما وجدته يجلس على المقعد ويتآوه بصوتٍ مذبوح.

انحنت قبالته تناديه ببكاء: مالك يا علي؟

تعمق بعينيها الباكية، وحجم ألمه يتضاعف، مد يده لها وقال بانكسارٍ: امسكي إيدي وفوقيني من اللي أنا فيه، قوليلي إنه حلم وهينتهي، أو كابوس وهيعدي، لو دي الحقيقة اللي هعشها مش عايز أكون فيها.

وأضاف وهو يميل برأسه للخلف: أنا كنت بعلم الناس الصبر، بأخد بايدهم لحد ما يمروا بالمطب اللي حولهم لمرضى نفسيين، ودلوقتي أنا اللي محتاج لحد يعديني، أنا مش كويس ولا بخير نهائي، قلبي مش متحمل كل ده، كل ما بقوي نفسي وبصلب طولي انتوا كلكم بتكسروني.

انهارت باكية من شدة ألمه، بينما تنهمر دموع أحمد القريب منه وآدهم الذي خرج منذ لحظة نداء شمس، واختار البقاء جانبًا يستمع لعلي ودموعه تنساق دون ارادة منه!

اقترب منه أحمد وناداه بتأثرٍ: علي، قوم يا حبيبي، إحنا كلنا بنقوى بيك!

منحه نظرة منكسرة وسأله: وأنا مين يقويني يا عمي؟

ظهر آدهم من خلف الحائط يهتف باستنكارٍ: معقول يا علي، أنا توقعتك هتقدر تتعامل مع فريدة هانم وشمس، بالشكل ده هتضعفهم أكتر، لازم تفوق عشانهم على الأقل.

كاد أن يجيبه ولكنه صعق حينما انفتح باب جناح أخيه، وخرجت منه مايا، علامات القلق والتوتر يشكلان على ملامحها، احاطت الجميع بنظرة ذهول، ولكنها تجاهلت كل شيء في سبيل الاقتراب من علي، تناديه بارتباك: علي، إنت كلمت عُمران؟ مرجعش من امبارح لحد الوقتي، ومبيردش على مكالماتي! انا قلقانه عليه أوي.

ارتبكت الوجوه جميعًا، وخاصة على الذي لم ينقصه الا تلك اللحظة لتقضي عليه، عادت شمس حاملة للطعام والعصير، فتفاجئت مايا بوجودها: شمس أنتِ جيتي أمته؟

ارتبكت قبالتها بشكلٍ دفعها لتتساءل وعينيها تجوب بين الجميع: هو في أيه؟ مالكم؟

اقتربت منها فاطمة تجاهد لرسم ابتسامة صغيرة: مفيش حاجة يا حبيبتي، دي شمس وحضرة الظابط بينهم مشكلة بسيطة بس وآ.

دعمها آدهم كليًا حينما استكمل عنها الحديث: فريدة هانم وأحمد باشا حلوا الموضوع امبارح بس زي مانتِ شايفة كده يا مدام مايا، دكتور على مزود العيار عليا ومش عايز شمس ترجع معايا البيت يرضيكِ؟

نجحوا باستمالتها إلى مجرى الحديث، فاقتربت من على الذي يدفن وجهه أرضًا من شدة الدوار، وعاتبته برقةٍ: من أمته وإنت قاسي كده يا علي، وأنا اللي بقول لعمران إنك اللي هتربي الولد عشان يطلع عاقل ومتفاهم زيك كده، وميطلعش في وقاحته!

رفع رماديتاه إليها وعاصفة من ألمه تجتاحه دون رحمة، انهمرت دموعه رغمًا عنه بشكلٍ أحزن مايا وجعلها عاجزة عن استيعاب أن من أمامها هو علي، نغزه أحمد ومال يهمس له برجاءٍ: فوق يا علي، مايا هتأخد بالها.

الجميع يودنه قويًا، شامخًا، وقد إنكسرت فقارات ظهره بأكملها للتو، وكلما تندرج الأحداث يزداد الأمر سوءًا.

كسرت مايا صمته المطول، وسألت في ريبة: على إنت كويس؟

هز رأسه وأجلى أحباله الصوتية بصعوبة: آآ. أنا بس مش عاجبني اللي عمله آدهم بسفرهم، وزاد الأمر بالمشكلة اللي بينهم دي.

تدفقت دموع شمس مستغلة الوضع، بالطبع لن يُلتفت لها بعد أن صرحوا أن ثمة خطب ما بينها وبين زوجها، فأسرع آدهم اليها يضمها وهو يترجاها بالصمود حتى لا ينكشف الامر لمايا التي.

تركت محلها ودنت من المقعد الذي يحتله، ويلتف من حوله الجميع، تأكدت من ابتعاد شمس وآدهم عنها، : على إنت بتتكلم جد! إنت بنفسك كنت بتنبه عُمران إنه ميتكلمش بالموضوع ده، وبعدين إنت طول عمرك شخص عظيم وبتتعامل برقي جدًا، فازاي سمحت لنفسك تتدخل في حياتهم الشخصية.

وتابعت ببسمة مرح: هو إنت إتعديت من عُمران ولا أيه؟

رفع بصره نحوها، ثم اندرج رغمًا عنه لبطنها المنتفخ، لا يرى سوى ابن أخيه الذي بات يتيمًا قبل ولادته، أغلق عينيه بقوةٍ يجلد دموعه داخل جفنيه، ورسم بسمة باهتة كحال حياته القادمة، ثم قال: عندك حق، إنتِ عارفة إن غلاوتك عندي زي غلاوة شمس بالظبط، عشان كده أنا هسامحه وهخليه يرجع بيها.

اتسعت ابتسامة مايا بسعادة، واستدارت تراقب شمس المندثة بين احضان زوجها تختبئ وتنهار من سماع حديثهما، حتى أحمد وفاطمة أدمعت عينيهما شفقة على طيبة قلب مايا.

زاعها بسمة حماس وهي ترنو إليهما قائلة: متعيطيش يا شمس، إنتِ مسمعتيش على قال أيه! يلا روحي اغسلي وشك وانزلي نفطر مع بعض قبل ما ترجعي مع آدهم.

هزت رأسها بخفة ودون أي كلمة تُضاف اقتربت تضمها باحتواء وشفقة تمزقها، تنحنح أحمد يفك عقدة حاجبي مايا المندهشة من أمر الجميع وقال: طيب يلا يا جماعة ننزل نفطر مع بعض، يلا يا مايا.

اتبعته مايا وهي تحوذو بجواره، بينما تميل برأسها للخلف تجاه على بالتحديد، ثم سلطت نظرها على أحمد تسأله بعدما ولجت برفقته المصعد: هو على تعبان يا أنكل؟

حفه التوتر من كل جانب، فضغط على زر المصعد وقال: لا يا حبيبتي هو بس اتضايق من حوار شمس وآدهم، وكان منشف دماغه جدًا قدامهم بس الحمد لله بشمهندستنا الذكية حلت الموضوع بمنتهى السهولة.

ضحكت وهي تخبره بمزحٍ: لا الموضوع مش مستاهل المجاملات دي كلها، على عاقل ويفهم اللي قدامه من كلمة، على عكس عُمران اللي مطلع عيني ده.

ورددت بحزن وهي تخبره: عارف إني بقلق عليه لما يكون على طريق سفر، وقافل موبيله.

خرجت برفقته للقاعة، وهي تجذب هاتفها الاحتياطي بعدما فشلت بايجاد الاخر، تحاول التواصل معه عبر الماسنجر، فاذا برسالة تصل لها عن طريق حسابه
«أنا كويس يا مايا هتأخر بس في الرجوع، ورايا كذه حاجة لازم أخلصها. ».

قلبت الهاتف لاحمد وهي تخبره في سخط: شوفت بالنهاية باعتلي أيه، وقفل على طول، بني آدم مستفز.

تعالت ضحكات أحمد بينما يميل كفه ليزيح دموعه خشية من أن تراها، وأشار لها ببسمته المزيفة: طيب يلا نلحق الأكل وهو سخن عما الجماعة اللي فوق دول يخلصوا نقاش ويحصلونا.

وضعت الهاتف بجيب فستانها الأبيض، وأشارت له: يلا يا باشا، أنا واقعه من الجوع أصلًا.

ترك على الهاتف بعدما أرسل الرسالة من هاتف أخيه، ودموعه تنزف على وجهه دون توقف، ربت آدهم على كفه وقال يشد آزره: كنت مضطر تعمل كده يا علي.

أحاطه بنظرة غائرة بدموعٍ جديدة تكونت برماديتاه، وقال: أنا هتجبر أعمل حاجات كتيرة خارجه عن ارادتي يا آدهم، بس أنا واثق أننا مش هننجح معاها كتير، بالنهاية هتعرف.

خيم عليه الحزن بمظلته السوداء، وهتف قائلًا: ربنا يصبرها ويصبرك يا علي، أنا صحيح مش شايفك بس صوتك المكسور موصلي الحالة اللي إنت فيها، ربنا يهونها عليك.

مسد على على ساقه، وقال بامتنانٍ: شكرًا على وقفتك جنبي بالرغم من ظروفك دي، ولو حابب تخدمني بجد استغل كلام مايا قدام شمس واقنعها إنكم لازم ترجعوا البيت عشان مايا متشكش في حاجة، وخليك إنت جنبها يا آدهم أنا مش متحمل أشوفها بالحالة دي.

حرك رأسه بتفهمٍ، وقال: متقلقش شمس جوه قلبي وعنيا.

منحه ابتسامة لم تصل لعينيه، وتركه يهبط للاسفل بعد عودة شمس، بينما تقترب منه فاطمة متسائلة بقلق: بقيت أحسن يا حبيبي؟

رفع عينيه لها، وقال بتعبٍ شديد وهو يمد كفه لها: رجعيني الجناح يا فطيمة.

ساندته على الفور والهلع يختلج قلبها عليه، بينما كان يسرع بكل قوته حتى لا يشعر به أحدٌ فور أن يغيب عن الوعي، يشعر بكل حركة تصدر عن حالته.

ولج برفقتها الجناح، فأغلقه ومال على كتفها يهمس لها بتعبٍ شديد: مهما يحصلي أوعي تعرفي حد يا فاطمة.

ارتابت لأمره وهتفت باستنكارٍ: تقصد أيه؟

لمحت شحوب ملامحه، وارتخاء جسده من فوقها، فصرخت بفزعٍ: على مالك؟

ارتكن عليها وقال بتعبٍ: هبقى كويس، بس مش عايز حد يعرف بحاجة.

قالها وهو يلقي بذاته على الفراش، وعينيه تستجيب لفقدان وعيه، بينما تراقبه فاطمة بصدمة، صعدت فوق الفراش تخبط وجنته برفقٍ، وتناديه ببكاء: علي!، سامعني!، رد عليا يا علي!

سقط جسده الذي ظنه سيصمد للنهاية، كان يشعر بأن لحظة إنهياره تقترب، وها هي تتلقفه إليها ص
بصدرٍ رحيمًا.

ركضت فاطمة للطابق الرابع حيث خصصه عُمران لغرف الضيوف، فتحت الغرفة التي قضت بها شقيقتها ليلتها بالامس، أيقظتها وهرولت بها للجناح مجددًا، وهي تدعو الله ألا يراها أحدٌ، لا تريد أن تخالف رغبته.

اسرعت زينب تجاه علي، ترفع جفن عينيه تتفحص عينيه بقلقٍ، بينما تتفحص نبضه، راقبتها فاطمة وهي تكبت شهقاتها بصعوبة وتحدثت بارتباكٍ: طمنيني يا زينب.

استدارت لها تخبرها وهي تجذب هاتفها: متقلقيش يا فاطمة، أنا هخلي سيف يكلم دكتور تبع المركز يستفسر بيها عن حالته ويجبله العلاج المناسب من غير ما حد يحس، هو في الطريق وزمانه جاي.

وأضافت تطمنها: متقلقيش انا مبلاغاه ميتكلمش عن حاجة قدام مايا.

أمأت برأسها ودموعها لا تتوقف عن وجهها، فتركتها تتحدث بالهاتف مع زوجها، وصعدت على الفراش جوار علي، تتمسك بكفه الدافئ وتراقبه بقلبٍ مفطور.

بينما هو غارق بعالمٍ ولج فيه بارادته، وإن أراد الخروج منه سيكون بارادته، كونه طبيبًا يعلم كيف يعالج ذاته ولكنه يرغب بالبقاء داخله ليتمكن من رؤية شقيقه ولو لمرة!

وجده يركض لغرفته، والخوف يتمكن من ملامح وجهه الصغير، يزيح عنه الغطاء وهو يناديه ببكاءٍ: علي!

فتح عينيه بانزعاجٍ، فتفاجئ به بغرفته، استقام بجلسته وسأله بنومٍ: عُمران إنت لسه صاحي لحد دلوقتي؟

ترك الصغير لعبته وجلس على الفراش يخبره ببكاء: I m so scared، Ali
(أنا خايف جدًا يا علي! ).

عبس بحاجبيه باستغرابٍ، وسأله: من أيه؟

أجابه ذلك الصغير البالغ من عمره خمسة أعوام: مامي مش بتبطل عياط من وقت ما Papi died (بابي مات)، وشمس كمان بتعيط كتير، أنا بخاف من أصوات العياط، وخايف أنام في أوضتي، طلبت من الناني تفضل معايا بس. She refused to stay with me (رفضت تفضل معايا).

وأضاف برجاءٍ وهو يتعمق بعيني أخيه: Can I sleep next to you tonight
(هل يمكنني النوم جوارك الليلة؟ ).

وخز قلبه ألمًا، وبالرغم من أنه يكبره بأعوامٍ بسيطة، الا أنه كان يفوقه عمرًا، وكأنه الأب الحامي إليه، أزاح علي الغطاء وتزحزح للخلف حتى يترك له مساحة، فاندث عُمران جواره يرتجف من الخوف، لطالما كان يكره رؤية أحدًت يبكي، وأكثر ما يزعجه أن يرى والدته حزينة، فاختلط عليه أمر حزنها وبكاء شمس الرضيعة، فبات برتجف رعبًا، والوحيد الذي يشعر به هو أخيه!

مسد علي على ظهره بحنانٍ، ولم يرغب من ان يديره إليه، تركه كما أحب أن يكون، بل همس له بالانجليزية ليتفهمه، فشقيقه الصغير مازال متأثرًا باجواء لندن ومعلماته الاجنبيات: Don t be afraid Imran، I am with you، I will never leave you
(لا تخف عمران أنا معك، لن أتركك أبدًا! ).

هدأ الصغير رويدًا، واستدار لأخيه يتطلع له بامتنانٍ، فضمه على لصدره ومازال يربت على ظهره ويهدأ من روعه، حتى استسلم للنوم أخيرًا، راقبه ببسمة هادئة ومال يقبل جبينه ووجنته الحمراء، بينما يجذب الغطاء ليداثره بحنانٍ.

منذ تلك الليلة التي إلتمس بها عُمران حنان أبيه الراحل، بات يقضي ليله رفقة علي، بل ولمس فيه كل ما يخص أبيه، كان يراه المسؤول عنه، ولي أمره حينما تمنحه المدرسة برقية الحضور للحفلات، منحه المسؤولية وتلاقاها على بصدرٍ رحب رغم ان فرق العمر بينهما لم يكن كبيرًا.

انهمرت الدموع من عيني علي، وفاطمة تراها بوضوحٍ، قبضت على كفه تناديه ببكاء: افتح عينك يا علي، متسبنيش بالله عليك!

اقتحم صوتها بقعته التي يضم فيها جسده تاركًا الدماء تنسدل من موضع قلبه، بعدما إفترق كفه عن كف أخيه، يرى حبل غليظ نثرت من فوقه صور مضغوطه لكل ذكرى جمعته به، يرى أخيه بمراحل متفرقة من عمره، يركض لاحضانه ويشاكسه بضحكته وألفاظه التي تثير، جنونه، يراه وهو يتجه ليغفو على ساقه مثلما يحب، حتى بعد أن اشتد عوده وبات يزن حجم على مرتين رغم أن على يفوقه طولًا، وبالرغم من ذلك كان يستقل ساقيه وصدره موطنًا له، حتى بعد أن تزوج وعلى وشك أن يصبح أبًا.

ازداد حدة الصوت ليصبح مسموعًا لعلي، فوجدها زوجته تترجاه أن يعود، بينما استمع لصوتٍ يجاورها وعلى ما يبدو بأنه صوت سيف يقول بآسف: أنا حقنته بالآبرة اللي حضرهالي دكتور عبد المنعم، ودلوقتي زي ما قال إن على اللي بإيده يفوق نفسه، كل ده عرض نفسي لازم يفوق منه بمساعدة دكتور نفسي، ومفيش دكتور أشطر منه عشان يعملها!

عادت فاطمة للفراش تركض إليه، فسحب سيف زينب وخرج للصالون المنحدر بالجناح تاركًا لها مساحتها الخاصة، مالت على صدره تبكي وهي تعاتبه بوجعٍ: كده يا علي، عايز تتخلى عني! طيب قولي أنا هعمل أيه من غيرك؟ ده أنت السبب اللي خلتني أتقبل الدنيا دي بعد ما كنت خلاص عايشة فيها ميتة، انا بستقوى بيك، جاي دلوقتي تضعفني!

واستطردت ودموعها تنساب على قميصه الأبيض: أنا عمري ما شوفتك بالضعف ده، عارفة إن عُمران مش مجرد أخ ليك، عُمران حياتك كلها. بس هو مش هيكون مبسوط بحالتك دي.

ورفعت نفسها إليه تتطلع لوجهه بانكسار: إنت اللي بتقويني، وبتقوينا كلنا يا علي، قوم عشان خاطري أنا محتاجالك جنبي، أنا خايفة من غيرك يا علي!

قالتها ومالت على صدره تبكي بانهيارٍ، فاذا بذراعه يلتف من حولها بقوةٍ، جعلتها ترفع رأسها إليه تلقائيًا بعينين متسعتان من الدهشة، فوجدته يطالعها بنظرة طال بها الغرام وعبر بها بين الأمواج العاتية، كفه يضم وجنتها وابتسامة ألم تشكلت وهو يهمس لها بصوته المبحوح: إيدي إنفلتت منه والتانية لسه ماسكاكِ، أنا بينكم مقسوم لا قادر أفارقه ولا أفارقك.

مالت على كتفه تبكي وتتوسل له: لو ليا غلاوة فوق، أنا مش قادرة أشوفك كده يا علي!

قبل رأسها بحبٍ، بينما يميل تجاهها: إنتِ أغلى من حياتي كلها يا فطيمة.

ورفعها إليه يتطلع لوجهها بابتسامة صغيرة وذهول: سبحان من ألهمك القوة عشان تقدري ترجعيني عن اللي كنت فيه، وبتقولي إني بقويكِ!

أزاحت دموعها وهتفت، وعينيها تغرق برماديتاه: حبك يا علي، أنا حياتي كلها معتمدة عليك، يوم ما تفكر تسحب إيدك وتتخلى عني هتخلى انا عن حياتي وهختار الموت أهون ليا، سامع!

ضمها إليه بخوفٍ، ووجع من سماع ما قالت، بل هدر بانفعالٍ جنوني: متعديش اللي قولتيه ده تاني، كفايا تزيدي وجعي يا فاطمة، كفايا.

اعتدلت بجلستها تتطلع إليه، وهي تجاهد لرسم ابتسامة صغيرة: يبقى هتقوم تنزل معايا، تأكل وتشرب قهوتك وتأخد الادوية اللي جابها سيف.

استند على جذعيه، ونهض يجلس قبالتها، متسائلًا: سيف! هو هنا؟

أكدت له قائلة: زينب شرحتله حالتك وهو كلم دكتور متخصص من المركز عندك فكتبله على الدوا اللي ادهولك، بس لسه نصه.

وتابعت وهي تتطلع لعينيه بعتاب: وقالوا إنك بايدك تفوق نفسك وبايدك تفضل في حالتك دي، يعني أنت اللي اخترت تسبني وتسيبنا كلنا!

اكتسى الحزن معالمه، قبل أن يردف: غصب عني يا فاطمة، غصب عني.

غمست أصابعها بين أصابعه، خشية من أن يعود لحالته: طيب قوم يلا غير هدومك عشان ننزل.

أومأ لها ونهض عن الفراش يجذب ملابسه، ويتجه لحمام الجناح بآليةٍ تامة.

جلست جواره بالخلف، بينما يقود السائق السيارة، ازاحت دموعها واستدارت له تعاتبه بضيقٍ: انا مكنتش عايزة أسيب مامي وهي في الحالة دي يا آدهم!

أحاطها وقربها منه، يضمها بقوةٍ يود بها احتباس كل الوجع، فينتقل منها إليه: شمس حبيبتي، إحنا قولنا أيه؟

مالت أسفل ذقنه، تتلمس الدفء من حنان ضمته، وقالت: يعني أنا وجودي هو اللي هيكشفلها اللي حصل يعني!

رفع رأسه للأعلى لتتمكن من الاسترخاء داخل أحضانه، بينما يجيب سؤالها: وجودنا هيخليها تشك أن في شيء مش طبيعي يا شمس، متنسيش إننا عرسان جداد ده أولًا، ثانيًا إني لسه تعبان ومتصاب، فأيه اللي يجبرنا نكون هنا الا لو في حاجة تانية، كده أحسن بلاش نضغط على على أكتر من كده، كفايا اللي هو بيمر بيه.

تمسكت به ورددت ببكاء: أنا مكنتش متخيلة إن على هيكون بالحالة دي، أنا مقهورة عليه أوي يا آدهم.

وأضافت وهي تحبس شهقاتها: حاسة إن عُمران عامل فينا مقلب، وشوية وهيظهر من تاني، عايز يختبر معزته ومكانته عند كل واحد فينا.

ابتعدت عنه تخفي وجهها بين يديها وتبكي بانهيارٍ: ياريته يشوف ويعرف إنه غالي، يا ريته يعرف إن حياتنا كلها وقفت من بعده، لدرجة اننا كلنا بنتمنى نحصله.

سحبها آدهم إليه بكل قوته، وصاح فيها: كفايا يا شمس، حرام اللي بتعمليه في نفسك ده، هيجرالك حاجة لو فضلتي كده.

مازالت تعزل نفسها بين كفيها المنسنودان لصدره الآن، وأنفاسها تختلج بينهما، بينما صوتها يتحرر شاحبًا: يارب معاناتي تخلص وتنتهي بموتي، أنا عايزة أرتاح من الاحساس البشع اللي أنا حساه دلوقتي.

وسحبت كفيها عنها تطالعه بغضب، فتفاجئ بها تضربه على صدره وهي تصرخ بجنون: انتوا ليه بتعملوا فيا كده! مرة إنت ومرة هو، حرام عليكم أنا مبقتش حمل اللي بشوفه ده، أنا حياتي كلها اتحولت لجحيم من لحظة ما اتجوزتك، وقفت نفس الواقفة دي وأنا كنت هتجنن عشان أطمن عليك، ودلوقتي عمران بيكمل عليا!

تآوه بألمٍ من ضرباتها التي لامست جرحه، كبت تآويهاته قدر ما تمكن، تجمدت ذراعيها على صدره حينما قرأت تعابيره المتألمة من فعلتها، فاذا بهت تكمم فمها من فرط صدمتها مما فعلته وتفوهت به.

فتحت نافذة السيارة تتنفس الهواء البارد، بينما تستعيد السيطرة على انهيارها، وبحرجٍ مالت له: أنا آسفة.

منحها ابتسامة ساخرة، وقال: على أيه؟ إنتِ مقولتيش غير الحقيقة، أنا حولت حياتك لجحيم فعلًا.

وضعت يدها على كفه وترجته ببكاء: آدهم أنا مش عارفة أنا بقول أيه، متزعلش مني عشان خاطري، أنا مش في حالتي الطبيعية.

ودنت إليه مجددًا تهمس على استحياء: أنا بحبك ومقدرش أعيش من غيرك، إنت عارف ده ولا لأ؟

رفع كفه يبحث عن وجهها، فمالت تجاه كفه المفرود، فتحرر صوته الرخيم: عارف، وأنا بعشقك يا شمس هانم.

ضحكت رغمًا عنها على كلمته الاخيرة، فقطعت ضحكاتها بكاء بصوت مسموع، تألم لاجلها فعاد يقربها منه مجددًا، وتلك المرة اغلقت عينيها على صدره وتركته يحاول أن يمحو ما بها.

قلب على بالطعام من أمامه بشرودٍ، بينما يجلس برفقته سيف وزينب، وفاطمة، وأحمد، الجميع يراقبه بحزنٍ، وتأثر به.

توقف المصعد وخرجت منه مايا، تنادي على الخادمة التي أتت إليها تركض صوبها، فقالت بانزعاج: موبيلي اختفى من إمبارح، قالبة عليه الدنيا، من فضلك ممكن تدوري عليه في جناحي.

هزت رأسها باحترام وغادرت تبحث عنه، بينما ارتبكت فاطمة وهي تتطلع لأحمد وعلي، فلقد كانت تخفيه بفستانها.

سألتها زينب وهي تتطلع لما تحمله باستغراب: امال أيه اللي في إيدك ده يا مايا؟

جذبت احد مقاعد السفرة الضخمة وجلست تجيبها: ده موبيل احتياطي، مفيش عليه أي حاجه غير رقم عُمران.

واستطردت بضيق: معرفش موبيلي اختفى فين!

وأضافت وهي تعبث به: هحاول أطلبه من هنا، يمكن صوفيا تسمعه لو في الجناح.

ارتبكت فاطمة وتشبثت بعلي الذي أفاق من شروده بفضل لمسة كفها، تحرر رنين هاتف مايا من تجاه فاطمة، وساد التوتر والارتباك جميع الوجوه، التي لدت لمايا بعلمهم لما فعلته فاطمة.

ابتلعت فاطمة ريقها بصعوبة بالغة، بينما تتطلع لها مايا بدهشةٍ، اتبعت سؤالها: موبيلي معاكِ يا فاطيما!

انتابتها شكوك استجمعتها من حالة علي، وحالة الجميع، لذا قالت بارتباكٍ: هاتي الموبيل.

سقطت دموع فاطمة وهزت رأسها ترفض منحها إياه، وخز قلب مايا وهدرت بانفعالٍ ونظراتها تحوم تجاههم: انتوا بتحاولوا تخبوا عني أيه من الصبح! وليه فاطمة تاخد تليفوني وتخبيه بالشكل ده؟ أنا عايزة أفهم وحالًا.

كان أحمد أول من رد عليها: هيكون في أيه بس يا بنتي، فاطمة تلاقيها بتهزر معاكِ بس.

تطلعت تجاهه ونفت ما قال: لا فاطمة متعملش كده الا لو عايزة تخبي عني حاجة.

قالت زينب وهي تراقب شقيقتها: هتخبي عنك أيه بس يا ميسان، مفيش الكلام ده!

تركت الجميع وتابعت على الذي ينظر أرضًا بصمت، تجمع لها المشاهد التي التقطتها حدقتيها منذ الصبح، على يعيش حالة لم تراه بها يومًا قط، فاذا بها تناديه بثبات رغم استجماع دموعها: علي!

أغلق عينيه بقوةٍ يعتصرهما ألمًا، يعلم أن تلك اللحظة قادمة لا محالة، شحذ قوته الواهية وتطلع لها، فاذا بها تردد بلسانٍ مرتجف: عُمران حصله حاجة؟

خذلته دمعاته المحتبسة، وتدفقت على خده، هزت مايا رأسها بصدمة: لأ.

أسرعت فاطمة إليها تحيط مقعدها ببكاء: اهدي يا مايا عشان اللي في بطنك.

استغلت قرب فاطمة منها، وانتشلت الهاتف من جيب فستانها، لحقت بها فاطمة وهي تحاول جذبه منها ولكنها ما ان فتحت الهاتف حتى تفاجئت بعدد مهول من الرسائل الخاصة بأقاربها وصديقاتها، الجميع يقدم تعازيه الحارة لها، والاغلب يرسل لها لينكات خاصة بالجرائد التي نشرت خبر وفاة زوجها ويرسلون معه سؤالًا طعنها حتى استنزف دمائها«الخبر ده صحيح؟ ».

سقط الهاتف من يدها والعالم يدور بها، كأنها تركب على منطاد يقسم بأن يقتلها من شدة الدوار، وفاطمة تحيط بكفها وتبكي بانهيار، بينما أحمد يحاول السيطرة عليها.

مالت برأسها تجاه احمد ورددت بصعوبة بالحديث: هما بيعزوني في مين يا عمي؟ آآ. قصدهم مين!

تساقطت دموع أحمد وهو يرى حالتها التي لا تنذر بأي خير: اهدي يا بنتي، ده كلام فارغ مالوش أي أساس، اهدي بس وإسمعيني عُمران كويس وهيرجع.

وضعت كفها على بطنها من الاسفل، تحاول السيطرة على ذلك الوجع المقبض الذي اعترلها، فتمسكت بها فاطمة وسألتها بهلعٍ: مالك يا مايا؟ إنتِ كويسة؟

اتجه بصرها تجاه علي، الذي مال على كفيه يبكي دون أن يصدر عنه أي صوت، دفعت عنها فاطمة واتجهت إليه بسرعة كادت بأن تسقط أسفل قدميه، ولكنه كان الاسرع لها، أمسكها جيدًا بينما تتطلع بعينيه تتلمس الحقيقة، وبحروفٍ بطيئة قالت: عُمران عايش؟

أطبق على يدها وخطى بها تجاه الأريكة، ساعدها بالجلوس ومازالت تترقب سماع اجابته، راقب سيف ما يحدث بتأثرٍ، الجميع يحملون الشفقة تجاه زوجته، إن كانت تلك حالتهم فماذا ستكون حالتها؟

انتظرت أن ينفي حديثها، ولكنه بقى صامتًا، حتى بعدما جلست على الاريكة وجلس هو قبالتها على المقعد البعيد مسافة عنها، مالت تجاهه تنتظر سماع اجابة سؤالها، كان يحاول الحديث ولكنه فشل، تساقطت دموعه ولم يأتي من قلبه نطقها، هزت مايا رأسها بوجعٍ، وقالت: على إتكلم، إنت ساكت ليه؟ أنا عمري ما شوفتك كده!

وتابعت بتوسل ودموعها أغرفت وجهها: عُمران عايش صح! رد وقولي إنه كويس.

رفع رماديتاه لها، وحرر صوته الذي احتبس داخله فترة: إنتِ قلبك بيقولك أيه؟

رمشت بعدم استبعاب وقالت باستنكار: يعني أيه قلبي بيقولي أيه؟ متردش على سؤالي بسؤال، فهمني أيه الاخبار دي، عُمران فعلا عمل حادثة ولحد الإن مش لاقينه.

خلصها مما تعاني منه قائلًا: هنلاقيه يا مايا، أنا كلفت سباحين محترفين ينزلوا يدوروا عليه تاني، وأن شاء الله هيلاقوه.

أكد لها حقيقة الحادث بما قال، فاذا بها تضحك بصوت مسموع رغم بكاء عينيها: يلاقوه! تقصد يلاقوا جثته صح؟

وتابعت وهي تبرق فيه بغضب: جالك قلب تقول كده؟ جالك قلب تتكلم عنه كده!

أحاطتها فاطمة وزينب، يحاولن تهدئتها ولكنها صرخت بجنون وتشنج جسدها بشكلٍ جعلهم لم يستطيعون الامساك بها، صراخها أبكى الحجر، اصرار كلماتها وتصريحها القوي: عُمران عايش وهيرجع، كل ده كدب يا علي، إنت كداب سامعني، كلكم كدابين، عُمران عايش، ميقدرش يعمل فيا ولا في ابنه كده، كلكم كدابين.

بكى الجميع تأثرًا بها، بينما تستطرد بانهيار تام: طول ما قلبي بينبض يبقى هو عايش وبخير، مش هيجي من قلبه يكسرني بعد كل اللي عملته عشانه! أنا استحملت اللي مفيش واحدة ست تستحمله على كرامتها عشان بحبه، استحملت خيانته وكل اللي عمله ببداية جوازنا عشان بحبه، مش بعد كل ده هيمشي ويسيبني بالسهولة دي!

سحبتها فاطمة لاحضانها، تحاول تهدئتها قائلة: اهدي عشان اللي في بطنك مالوش ذنب يا مايا.

تمسكت بفاطمة وانهارت داخل ذراعيها تجيبها بحسرة: وهو ليه مفكرش فيه ولا فيا يا فاطمة، أنا مش هستنى لحظة واحدة من غيره.

قالتها ودفعت عنها فاطمة، ثم نهضت تجذب على بقوة فجأته: قوم يا علي، إنت قاعد ليه! روح ومترجعش الا وعُمران معاك، يلا!

تلاشى عنه الدموع والحزن، وبدأ بستعيد ثباته كليًا، لقد أدرك حالة زوجة أخيه ببراعة، وعليه الآن التعامل مع الوضع، فقال يهدئها: حاضر يا مايا، هعملك اللي إنتِ عايزاه بس اهدي كده وإرتاحي.

هزت رأسها بجنون وقالت: مش ههدى الا لما تجبهولي، أقولك كلم جمال أو يوسف ممكن يكون سهران مع حد فيهم، استنى ممكن يكون في مسجد الشيخ مهران هو بيرتاح أوي هناك، أو ممكن يكون في الجيم بتاع اللي اسمه إيثان ده، روح شوفه هناك وبلغني، أو استنى أنا هغير هدومي وجاية معاك.

قالتها وهرولت لتبدل ثيابها، وبعد أقل من خمسة عشر دقيقة كانت تهبط للأسفل مشيرة له: يلا يا على أنا جاهزة.

اعترض أحمد طريقها وقال: هتروحي فين بس يا بنتي، إهدي بس وعلى هيروح هو يدور عليه.

أزاحت دموعها وقالت: لا انا هروح معاه أحسن.

أحاطت على بقيود العجز والألم، وتركته يعاني، إتجهت إليه تشير له بأن يرافقها، ولكن وقبل أن تتحرك من محلها وجدت المصعد يُفتح من أمامها وتخرج لها فريدة، بملابس سوداء ووجههًا شاحب، غادرت عنه مظاهر البهجة.

صعقت مايا من رؤيتها لخالتها بتلك الحالة، تلك التي عُهد عنها كل مظاهر الآناقة، والاهتمام بما ترتديه تظهر في حالة لم تراها من قبل!

دنت منها مايا تراقبها بصدمة وذهول اتبع قولها: أيه اللي إنتِ عملاه في نفسك ده! ليه لابسه أسود!

تساقطت دموع فريدة تأثرًا بابنتها، فربتت على كتفها وقالت بنبرة مرتعشة: خليكِ أقوى مني يا مايا، قلبي موجوع عشان فراق ابني وعشان وجعك عليه يا حبيبتي.

صرخت بوجهها وهي تنفي جملتها: لأ متقوليش كده، عُمران عايش وبخير، وهنروح أنا وعلى نرجعه.

كبتت بكفها بكائها بينما يضمها أحمد بحزن، التمست بنظراتها الانكسار والألم، بل نظرات الجميع، موت عمران كان حقيقة مصدقة بجميع الأعين، وكأنها الوحيدة التي تحارب لتلك الحقيقة.

تراجعت للخلف وهي تهمس بصدمة: يعني أيه؟

صمت بطنها الذي يحتد فيه الألم، وانصاع ركبتيها لاحتضان الارض وهي تبكي بجنون: لأ، لأ، انتوا كدابين، عمران عايش وهيرجع.

وفجاة صرخت وهي تحتضن بطنها بوجع، جعلهم يركضون تجاهها، فاذا بفاطمة ترى الدماء الذي لطخت فستانها الزهري، فنادت زوجها بذعرٍ: علي!

ركض إليهم يحملها ويهرول بها تجاه سيارة سيف، الذي فتح الباب الخلفي له، وصعد بالامام وزوجته جواره.

صاح به على بخوف: كلم يوسف وخليه يقابلنا في المركز حالا يا سيف!

فتحت باب الغرفة، فاستقبلت من خلفه عتمة مُظلمة، ولجت تبحث عنه، فوجدته يجلس أرضًا ومازال يضم جسده، ودموعه تتساقط دون توقف.

جلست جواره تراقبه ببكاء، لم تكن تتخيل مدى قربه الشديد إليه، حملت صغيرها، ووضعته على ساقيه المرفوعة، قائلة بصوتها الشاحب: عُمران موحشكش؟

خطف جمال نظرة لابنه الذي يتطلع له ببراءة، بينما مال برأسه تجاه زوجته، يمنحه نظرة شملت سخطه وسخريته منها، الآن وبعد موته تتحرر من عقدتها وتنطق اسم صغيره الحقيقي لأول مرة.

تألمت لألمه، فحملت صغيره ووضعته جانبًا، ثم احاطت وجهه بكفيه وقالت ببكاء: متعملش في نفسك كده يا جمال، أنا هموت من وجعي عليك.

وضمته إليها وهي تستكمل بوجع: ادعيله بالرحمة يا حبيبي، ربنا يصبر قلبك ويهونها عليك.

اعتصر أهدابه ليحرر دموعه، وبدون أي كلمة منه رفع يديه يتمسك بها، ومال إليها يغفو على ساقيها، استقبلته بكل ترحاب وتركته يغمض جفنيه حتى لو دقائق، يرتاح بهما عن حزنه العميق!

بذلت ليلى قصارى جهدها حتى تمكنت من إرغام يوسف على الذهاب للمركز، لولا أنها أخبرته بأن تلك الحالة التي تحتاج له هي مايا زوجة حبيب قلبه لما خرج من غرفته أبدًا.

قادت ليلى السيارة حينما أخبرها بأنه لن يستطيع القيادة، جلس جوارها بوجهًا منطفئ، يرتكن على النافذة بصمتٍ.

وما أن توقفت السيارة حتى هبط يتحرك برفقتها بآلية تامة.

وصل لغرف العمليات الخاصة بقسم النساء والتوليد، فوجد على بانتظاره، وما أن اقترب منه يخبره: مايا بتنزف، والدكتورة بتحاول توقف النزيف مش عارفة.

وأمسك كفه يهتف بألمٍ: دي الحاجة الوحيدة اللي بقيالي منه، اعمل أي حاجة وإنقذه أرجوك يا يوسف.

ربت على كتفه وانطلق لغرف العمليات دون أي كلمة، بينما جلس على يميل بجسده للأمام مستندًا على كفيه، يجابه همومه بكل ما اعتراه من قوة، ولكنه بالنهاية بشرًا.

حمل الملف الموضوع به مواصفات الحالتين المتبقيان بالعناية، واتجه للاستقبال، يقدم ما بيده، فسألته احدى الممرضات: مفيش حد سأل عن الحالة اللي في العناية بردو؟

رد عليها صاير ومعالم الشفقة تحتل ملامحه: لا خالص، مع إن الحالات كلها يعتبر أهاليهم وصلوا ليهم.

ذمت شفتيها بحزن وقالت: آن شاء الله يوصلوله، أو حتى هو يفوق ويكلم حد فيهم، متنساش كمان أن مش كل الحالات هنا، اللي بيروح المستشفى العام يسأل وميلاقيش بيجوا هنا، فممكن يكونوا بيلفوا عليه في باقي المستشفيات.

واضافت بابتسامة صغيرة: ربنا يشفيه ويرده لأهله يارب.

إكتفى بتحريك رأسه، وغادر ينتهي من عمله، ومازال هذا الشاب يشغل عقله وتفكيره.

خرج يوسف بعد ساعة كاملة، فأسرع على إليه يسأله بقلقٍ: طمني يا يوسف؟

نزع الكمامة عنه، وقال بحزن: انا قدرت أوقف النزيف، بس للاسف مؤقتًا، فمفيش قدامنا أي حل تاني غير إنك تديها مهدأ بنسبة بسيطة، لحد ما نقدر نسيطر على الحالة.

ردد على بدهشة: مهدأ! بس ده غلط عليها وهي في الحالة دي.

هز رأسه بخفة، واضاف: هحددلك الكمية اللي هتخدها، ده وضع مؤقت، لازم تتقبل الامر والا آ.

ابتلع باقي جملته بنغزة تحجرت على لسانه، وأشار له باتباعه بغرفة الافاقة، رفع على رأسه للاعلى وهمس بالم: اللهم لا إعتراض على قضائك ولكني أسالك اللطف فيه.

أزاح دمعاته وانطلق خلف يوسف للداخل، وجدها تغفو على الفراش، بعدما أبدلت لها الممرضة لرداء خاص بالمركز، منح يوسف لعلي الآبرة الطبية بعدما صرح له عن الكمية المحددة لها.

جذب ما بيده واتجه للفراش، فوجدها تفتح عينيها المتورمة بتعبٍ، بدى من يقف امامها مشوشًا للغاية، فابتسمت ورفعت يدها تشير له بهمسٍ مزق قلب على ويوسف: عُمران!

أزاحت الغشاوة عنها، وخاصة حينما جلس على جوارها على الفراش ليتمكن من حقنها بما بيده، اتضحت ملامحها إليه، فانكمش جبينها، وهتفت باستنكارٍ: علي! ده إنت!

ومالت برأسها تبحث بالغرفة: عُمران فين؟ مجاش ليه؟ هو معرفش اللي حصلي؟

تدفقت دموعه رغمًا عنه، وقال: مايا اهدي، اللي بتعمليه ده فيه خطورة على الولد.

تطلعت لعينيه بصدمة، وهتفت باستنكارٍ: معقول يعرف إني في المستشفى وميجيش! يبقى كلامهم صح وعُمران جراله حاجة!

اقترب منهما يوسف مشيرًا لعلي: اديها المهدأ يا علي، كده خطر عليها وعلى الجنين.

سحب على الآبرة، يدسها بوريدها ودموعه لا تتوقف على الانهمار بينما تناديه مايا وتترجاه: علي، رجعلي عُمران بالله عليك كلمه وخليه يجي، آآآ، أنا مقدرش أعيش من غيره والله العظيم ما هقدر، كلمه...

قالت كلماتها الاخيرة واستجاب جسدها للمهدأ، فاغلقت عينينها وأخر ما نطقته: كلمه يا علي.

ألقى على المحقن أرضًا وانحنى عن الفراش يجلس أرضًا، يضع كلتا يديه فوق رأسه، جاوره يوسف بجلسته، يمسد عليه ودموعه هو الاخر بحاجه لمن يزيحها.

رفق بحالته وقال ليلهيه: قوم يلا عشان نشوف السباحين اللي كلمتهم عملوا أيه؟

ذكره بما نساه، فرفع رأسه إليه وقال: أنا مديهم رقمي لو في حاجه هيبلغوني، بس إنت صح انا هروح وأشوف بنفسي لو في جديد.

نزع البلطو الطبي عنه وقال باصرار: وأنا جاي معاك.

جلست فريدة رفقة أحمد بالحديقة، تبتعد عن القصر قدر ما تمكنت، تتطلع لهاتفها في انتظار مكالمة من على ليطمنها على ابنتها، وتنتظر أي مكالمة من فريق الاتقاذ الذي كلف بالبحث عن عمران مرة أخيرة.

فتفاجئت بنعمان يركض صوبها، يصيح بجنون وعدم تصديق: أيه اللي الاخبار منزلاه ده يا فريدة، إزاي ينزلوا الاخبار الكاذبة دي ومتخديش ضدهم موقف؟

وتابع وهو يتطلع لما ترتديه بصدمة: وليه عاملة في نفسك كده؟

وبصعوبة رفع بصره تجاه أحمد الذي يجاور مقعد فريدة، يتفوه بخوف: اتكلم إنت يا أحمد، قولي إن الاخبار دي مش صح، وإن عمران محصلوش حاجة؟

منحه بسمة ساخرة، ونزع عنه نظارته الشمسية السوداء: من أمته الحنان ده كله يا نعمان؟ مش ده عُمران اللي مكنتش طايقه وطول عمرك بتغل من نحيته، خلاص إطمن مات وخلالك الساحة تجتهد فيها براحتك.

تهاوت دموعه وبكي بجنون، بينما يتمتم بارتباك: لا متقولش كده، حرام عليك يا أحمد، متفولش على الولد، انتوا بتهرجوا ولا أيه؟

تمايل حتى جلس على الاريكة من خلفه، ينهار تدريجيًا، حتى انسحبت أنفاسه، وفريدة وأحمد يراقبان ردة فعله بدهشة.

تحرر عن بكائه وهو يهتف بندم: انا عمري ما قدمتله غير الشر والأذية، عملت كل اللي أقدر عليه عشان اوقعه وهو مردش على أي فعل من أفعالي، بعد كل اللي عملته معاه رجعلي أملاكي وسابني! أنا اترجيته يسامحني ومقبلش، يقوم يموت وذنبه متعلق في رقبتي.

وأضاف ودموعه تنساب دون توقف: طيب ليه؟

بكت فريدة بألم وهي ترى العدو يبكي على صغيرها قبل الصديق، رأت زوجها يتزحزح عنها ويتجه لشقيقها ذو القلب المتحجر، يربت عليه بتأثرٍ: خلاص يا نعمان استهدى بالله، سبحان من غير حالك!

تطلع له بخجل من افعاله، وقال ببكاء: عُمران مينفعش تكون دي نهايته يا أحمد، النهاية دي تليق لشخص بسواد قلبي، وجُرم أفعالي مش بشخص بطيبة قلبه.

انهمرت دموع أحمد تأثرًا به، فربت مجددًا عليه وقال بصوت مختنق بالدموع: هنعترض على قضاء ربنا يعني يا نعمان ولا أيه؟ ده بدل ما تعقل وتصبر اختك على اللي بتمر بيه بتزيدها عليها!

خطف نظرة لفريدة التي تتطلع له ودموعها لا تتوقف، ثم رد عليه بانكسار: ليها حق تنكسر وتبكي عليه العمر كله، يا ريته كان سامحني واديني فرصة أكفر عن اللي عملته، أنا كنت بكرهه عشان كان لامس وس، هو الوحيد اللي كان بيقف في وشي ومبيهمهوش، انا حتى بعد ما بعدت عن الطريق ده كنت خايف أرجعلكم واطلب السماح، كنت خايف منه يا أحمد حتى بعد اللي عمله معايا.

ونهض عن الاريكة وهو يصيح ببكاء: انا مش هقعد زيكم وهحط ايدي على خدي، أنا هشوف حد ينزل ويدور عليه، على الاقل نأخد عزاه، ده أقل شيء ممكن نقدمه ليه.

وتركهما مندهشان من حديثه وحالته، وغادر على الفور.

مالت فريدة على كتف أحمد تبكي وهي تهتف ببسمة وجع: ده حال عدو ابني عليه، ما بالك بحالنا كلنا عليه!

وصلت سيارة سيف للجسر، فهبط على برفقة يوسف، كاد بأن يتجهان للمسؤول عن السباحين، ولكن استوقفهما جمال الذي يجلس على نهاية الجسر ومن جواره آيوب.

اتجهوا معًا إليهما، فما ان رآهما آيوب حتى نهض يمسح دموعه ويخبرهما: جيت لقيت البشمهندس جمال قاعد كده، وباين عليه مش في واعيه، أنا خايف يرمي نفسه ولا يعمل حاجة، بقالي فترة بكلمه مش بيرد عليا!

ضم يوسف صدره قاصدًا الضغط على وجع قلبه، يكاد أن يخسر رفيقه الآخر، وهو يعلم بأنه قد فقده بعد خسارة الآخر بالفعل.

رأى على يقترب منه فأشار لاخيه ولايوب: تعالوا نرجع العربية، سيبوا على معاه لوحدهم.

هز آيوب رأسه واتبع سيف للسيارة، بينما دنى على من محل جمال، كان يجلس على حافة الجسر وقدميه ممدودة للخارج، يتطلع للمياه بشرودٍ.

جاور على جلسته، وناداه بصوتٍ هادئ: جمال!

بقى كما هو يتطلع للمياه بتركيزٍ وإمعان، وكأنه يتوقع خروج عُمران بين لحظة وضحاها، سقطت دموع على رغمًا عنه، رفع كفه يهز جسد جمال وهو يناديه: جمال.

استدار يتطلع له بنظرة قسمت على وقضت عليه وخاصة بعد سماع حديثه: زقني وراه يا علي، هعتبرها خدمة منك ملهاش مكافاة، عُمران غدر بيا وحدفني من العربية، لحد اللحظة دي ضايع ومش لاقي نفسي، في حاجة منعاني أقتل نفسي، بس إنت ممكن تعملها وترحمني من عذابي ده.

نهض على يجذبه بخوف من أن يفعله ويلقي بذاته في المياه: قوم معايا يا جمال، قوم.

نجح بجذبه بعيدًا عن نهاية الجسر، وسانده حتى نصب عوده، يطالعه بسخرية: متخافش لو كنت عايز أموت نفسي كنت عملتها، أنا بس بحاول أقنع نفسي إن هنا كان أخر مشهد جمعنا مع بعض.

واسترسل ببسمة نازفة بوجع قلبه: أنا صمدت في لندن أربع أيام من غيره وجيتله جري على مصر، مش عارف المرادي هصمد من غيره كام يوم!

وعاد يتطلع للمياه ويبكي بحسرة: الا لو رأف هو بحالي وطلع منها حي!

ومال له يسأله: تفتكر ممكن تحصل ويطلع حي بعد المدة دي كلها؟

سحبه على يخطو به لسيارة يوسف، ولم يمتلك اجابة صريحة غير بكائه المكبوت، يود أن يختلي به المكان ليصرخ بملء ما فيه.

أشار ليوسف الذي هرول إليه يدعم مساندة جمال من الجانب الاخر، استدعى على صوته المبحوح وقال: خده البيت يريح يا يوسف.

اعترض هادرًا: مش هتنقل لاي مكان.

رد عليه يوسف بغضب: كفايا يا جمال، حرام عليك أنا مش مستحمل، ولا مستعد أخسرك انت التاني، كفايا أرجوك.

وسحبه بقوة من يد علي، مطلقًا أمره القاطع: امشي معايا.

أوقفه وهو يميل تجاه علي، يتطلع بعينيه بشكلٍ أثار استغراب الجميع، بينما يحاول سحب كفه قائلًا: طيب هاجي معاك بس استنى.

أشار على ليوسف بأن يتركه، فاتجه جمال بخطوات متخبطة إليه، وقف قبالته يتطلع له بآعين دامعة بينما يتمزق قلب علي، يعلم بأن جمال يلتمس فيه الشبه البسيط بينه وبين أخيه، وفجأة تعلق بعنقه يحتضنه، يود أن يشعر بأن رفيقه حي داخل شقيقه الوحيد!

بكى جمال وهو يحتضنه، متنفسًا رائحة البرفيوم الذي قدمه عُمران سابقًا لعلي ولم يهتم أبدًا ان يضعه الا قبل خروجه في صباح هذا اليوم، وكأنه يود أن يلتمس وجوده، فشعر به جمال منذ جلوسه بقربه.

تساقطت دموع آيوب وسيف، حتى يوسف استدار حتى لا يرى أحدٌ بكائه، ربت على بحزن على كتف جمال، ولم يبتعد حتى ابتعد هو، وانسحب بهدوء تجاه يوسف الذي فتح له باب السيارة بآلية تامة، بينما يخبره جمال وهو يصعد للسيارة: وديني شقة عُمران اللي بحارة الشيخ مهران.

اغلق يوسف الباب ومال يرتكن عليه باكيًا، سيعاني من أجل رفيقه الراحل ورفيقه الاخر الذي يبدو وكأنه ينازع للبقاء حيًا.

منع سيف، يوسف من الصعود لمقعد القيادة، وقال بتهذبٍ: مش هتقدر تسوق وإنت في الحالة دي، اركب ورا جنب آيوب، انا هسوق أنا.

تحرك دون أي جدال وصعد بالخلف، بينما رفض آيوب الصعود وقال: انا هفضل مع دكتور علي.

لم يجادله أحدٌ، فليتركوا أحدٌ رفقة على المجروح، ليشد أزره، غادرت سيارة سيف، في نفس لحظة وصول سيارة إيثان الذي يقودها برفقة يونس والشيخ مهران.

هبط الشيخ يقترب من علي، يربت على كتفه والدموع تتلألأ بمُقلتيه تأثرًا بوفاة عُمران: ربنا يصبر قلبك يابني.

منحه على ابتسامة هادئة، وقال: مش عايز غير الدعوة دي، ادعيلي ربنا يهونها عليا، عشان حاسس إني هحصله من كتر وجعي.

عشرة أيام مرت ثقيلة على الجميع بدون أي استثناء، الجميع قلوبهم تنزف، وحياتهم توقفت منذ رحيل الغالي عنهم، يحاولون أن يمدون العون لاحدهم الاخر، وجميعهم بحاجه للدعم النفسي قبل الجسدي.

ومازالت تلك الحالة المتبقية من حادث الزفاف تثير الجدل والغموض بالمشفى، وتثير الشفقة والحزن بقلب صابر، الممرض الشاب الذي يود أن يطمئن قلبه المفطور على شابًا مثله، فمازال غائب عن الوعي، تلتهمه الغيبوبة بجوفها.

ولج لغرفة العناية، يدث محقن الأدوية بالمحلول المتصل بوريده، ووقف يتطلع له بحزنٍ، ثم همس بشفقة: كل الحالات اللي دخلت معاك خرجوا مع أهاليهم الا أنت، معقول مالكش أهل يسألوا عنك، مع إنك سبحان الله من لبسك والدولارات اللي كانت بجيب البنطلون بتاعك بيبنوا إنك ابن ناس!

صدر عن ذاك الغافي تآويهات منخفضة، بينما يجاهد لفتح عينيه، استقام قبالته صابر بلهفة، ومال إليه يتساءل: إنت فوقت؟ سامعني؟

هز رأسه ومازال يجاهد لفتح عينيه، فركض صابر يستدعي الطبيب مناديًا بحماسٍ: يا دكتور ممدوح الحالة فاقت يا دكتور.

ترك الطبيب الاربعيني الشطائر وكوب القهوة بانزعاجٍ، بينما يطالعه بتذمر: ومالك يا اخويا داخل متسرسع وكأنك بتزف ليا مكافاة نهاية الخدمة، اتنيل على عينك.

ابتلع صابر حديثه الملعون بالنسبة له، وقال: إن شاء الله يتحقق حلمك ويرفدوك باذن الله.

صاح بغضب: بتقول أيه؟

عدل من حديثه وهو يخفي كرهه وبغضه منه: بقول يرقوك ويعينوك مدير المستشفى بحالها كده قول إن شاء الله.

مر الطبيب من أمامه، بينما يلحق به صابر وهو يسبه بداخله، ولج من خلفه لغرف العناية المشددة، بينما يسحب كشافه ويميل تجاهه بنفور من مهنته، رفع جفنيه يتفحصه، ويعاونه على استرداد وعيه، حتى فتح عينيه.

وزع عمران نظراته بين ذلك الطبيب والممرض بذهولٍ، بينما يتآوه بوجعٍ، حينما حاول أن يرفع رأسه، هدر فيه ممدوح برعونة: ريح إنت جرحك لسه طاري.

واسترسل بعملية باحتة، لصابر: سيبه النهاردة تحت الملاحظة وبكره انقله أوضة عادية.

وتابع وهو يمر من جواره متفحصًا للجهاز: وخليه يطلب أهله يشيلوه من هنا أخره يومين عشان يسيب مكان لمريض غيره.

حدقه صابر بنفور، ومال يبتسم لمن يراقبهما بذهول: حمد لله على سلامتك، انا مصدقت أنك فوقت عشان أطلب ليك حد من أهلك، انت بقالك هنا 12 يوم ومحدش قدر يوصلك.

وتابع وهو يسحب هاتفه: مليني رقم أي حد من قرايبك وانا هبلغهم باسم المستشفى واطمنهم عليك.

وبفضولٍ سأله: انت اسمك أيه؟

رفع بصره إليه، وقال بتخبطٍ: معرفش!

وتابع وهو يضم كتفه بوجعٍ: أنا مش فاكر حاجة!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة