قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع عشر

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع عشر

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع عشر

غاب الظلام عن هذا الليل الذي طالت أحداثه، وسطعت شمس يوماً جديد يصطحب أشعتها بين يديه لتشرق بضيائها المعتاد، فنسخت من خيوطها نقطة التقاء مع أمواج البحر الزرقاء في منظر تقشعر له الأبدان، فراقبها من يتمدد على المقعد المسطح من أمامه بأعينٍ قاتمة خالية من الحياة، يصعب ذاك المنظر النابض بالنشاط والحيوية أن يمس عتمة قلبه بشيءٍ، وكأنه كان ينتظر الصباح ليتمكن من الاتصال بها، فجذب هاتفه ومن ثم مرر اتصالاً هاتفياً يجمعه بها، دقيقة وأتاه صوتها المتوتر حينما قالت باستغرابٍ:.

أيان!
بسمة مغترة تسللت على شفتيه الغليظة، ومن ثم تمرد صوته المحتبس ليجيبها بخبثٍ:
مستغربتش إنك محتفظة برقمي على موبيلك.
غاب عنه صوتها وكأنه لمس حالة الإرتباك التي ابتلعتها، فصمت هو الأخير لقليل من الوقت وعاد ليسترسل قائلاً:
أنا على البلاچ، هستانكي.

وأغلق الهاتف دون أن يستمع لردها على إقتراحه المقدم، ثم اقترب ليقف أمام المياه واضعاً كلتا يديه بجيوب سرواله القصير، ليتأمل المياه الساكنة بنظراتٍ شاردة تسرد له بعض الكلمات التي كانت تختصه بها خالته حتى لا ينسى الماضي.
«وهدان الدهشان هو اللي إغتصب أمك وقتلها، ».

«تارنا منتهاش بموته تارنا مع عيلة الدهاشنة كلتها لازمن يدوقوا الذل والعار اللي هما كان السبب فيه، دهرهم لازمن ينكسر العمر كله، »..
أيان!
نادته روجينا أكثر من مرةٍ وهو ساكن لا يجيبها، فاقتربت منه ثم قربت يدها من ذراعيه بترددٍ لتناديه بارتباكٍ:
أيان.

سلطت نظراته عليها لدقيقة كاملة، استطاع بها رؤية ذاك الإرتباك النابض بين حدقتها، كان من الممتع له أن يرى حبها الأهوج يرفرف كرأية الاستسلام بعينيها، خرج عن صمته المطول بتأملها حينما قال وعينيه تتعمق بالتطلع لعينيها:
النهاردة أخر يوم في رحلتك وأكيد مش هنقدر نشوف بعض تاني.
تلألأت الدموع بعينيها، فاستكمل بنظرةٍ جريئة تغلغلت لأعماقها:.

ممكن يكون اللي حصل معاكِ غريب بس بالنسبالي لا، الحب مش بالعشرة ولا بفترة تعارف، الحب نظرة وبعدها دقة قلب مضطربة بتهمس لصاحبها إن في شيء غريب بيجمعه بالشخص ده أو هيجمعه بيه..
ورفع يديه ليضعها على خديها وهي تتابعه بصدمةٍ وعدم استيعاب:
اللي انتي حسيتي بيه نحيتي ده حب يا روجينا، بس للأسف مش ممكن يستمر لأن العلاقة دي مستحيل تكمل.
وتركها ثم ابتعد عنها، متخذ وجهة الرحيل، فركضت خلفه وهي تتساءل بعدم فهم:.

ليه مش ممكن يكمل، أنا ممكن أسيب خطيبي..
توقف عن المضي قدماً ثم استدار ليمنحها ابتسامة ساخرة، اتبعها قوله الصادم:
اللي بينا صعب بالدرجة اللي تخلي مستحيل حد يقبل بالعلاقة اللي ممكن تجمعنا.
رفعت حاجبيها وهي تتساءل بدهشةٍ:
أنت تقصد أيه؟
أطال التطلع لها، ثم شدد على كل كلمة تخرج على لسانه:
أنا إسمي أيان المغازي يا روجينا، يعني من عيلة المغازية إن مكنتش أساسها وعمودها..
قالت بتشتتٍ:
وفيها أيه؟

كان متفاجئ بعدم معرفتها بما يخص عائلته، ولكن هذا لن يخمد نيران ثورته المشتعلة، عليه أن يخطو تلك الخطوة التي رسمها بخطته ليضمن نجاح ما يود فعله، فقال بغموضٍ:
إسألي حد من عيلتك أيه اللي بين الدهاشنة و المغازية.

وتركها وغادر ولكن تلك المرة لم يستدير للخلف، شعرت بأن هناك أمراً كارثي يضم العائلتين، فانهمرت الدمعات على وجنتها، جلست روجينا على أقرب مقعد قريب منها وهي تحاول استيعاب تلك الصدمات التي تتعرض لها، من سيصدق ما تمر به؟

اي عاقل هذا الذي قد يؤمن بما تعتقده هي، أتت الى هنا برحلة ترفهية لتلتقي بهذا الشخص الغامض، الذي استولى على قلبها منذ أول لقاء في حين أنها مضت أعوام بجوار أحمد صديق طفولتها ومن المفترض بأنه سيصبح زوجها لذا كان عليها ان تحبه هو بدل عن هذا الذي مر بحياتها كظهور ضيوف الشرف بعمل مكتمل أبطاله، ولكنها تجد ذاتها منجذبة اليه بشكلٍ لم تجد له تفسيراً أو تجده منطقي!

شعرت بيديه اللعينة تلامس جسدها بتماديٍ، كادت بالصراخ ولكن فمها مقيد بإحكامٍ، فتحت تسنيم عينيها بفزعٍ وهي تجذب الغطاء على جسدها ومن ثم طوفت بنظراتها المرتعبة الغرفة، بحثت بكل إنشن بها فما أن تأكدت بأنها مجرد أوهام تهاجمها التقطت انفاسها الثقيلة بصورةٍ مسموعة، فلم تستطيع بتلك اللحظة أن توقف دموعها التي هبطت كشلال جف من فرط أحزانه، فجذبت هاتفها لتبحث عن رقم رفيقتها وما ان استمعت لصوتها حتى رددت ببكاءٍ:.

حور، أنا مش قادرة أفضل هنا معاه في بيت واحد.
أجابتها رفيقتها بحزنٍ:
متضغطيش على نفسك يا تسنيم، إتحججي بالمذكرة والامتحانات وانزلي القاهرة في أقرب وقت.
بدى لها بأن صوتها متغير على غير عادتها، فتساءلت بقلقٍ:
ماله صوتك، أنتي فيكي أيه؟
ابتسمت وهي تعلم بأنها ستكشف أمرها مهما حاولت ان تصطنع صوتها المصطنع، فقالت:.

مفيش والله يا حبيبتي، أنا بس غصب عني وقعت الشاي السخن عليا بس الحمد لله مفيش غير رجلي وايدي اللي اتحرقت وحرق بسيط وهيروح مع الادوية ان شاء الله..
هلع قلبها لسماع ما قالته، فصرخت بها بعتابٍ:
كل ده حصل معاكي ومتقوليليش!
=يا تسنيم الموضوع بسيط وبعدين كفايا الضغط النفسي اللي انتي فيه.
أنا مش عايزة اسمع مبرر ممكن يعصبني اكتر، أنا هسافرلك النهاردة بإذن الله..

وأغلقت الهاتف سريعاً ومن ثم نهضت، لتجذب حقيبتها ثم اعدتها، ولجت والدتها بتلك اللحظة لتخبرها بصوتها المرتفع:
يا تسنيم بنادي عليكي من الصبح يا بنتي، يالا الفطار جاهز.
انعقد حاجبيها بذهولٍ حينما رأته تعد حقيبتها، فقالت باستغرابٍ:
أنتي بتعملي أيه؟!
حملت بعض الثياب ثم وضعتها بالحقيبة وهي تجيبها:
لازم انزل القاهرة حالا.
اقتربت منها ثم قالت بصدمةٍ:
انتي لحقتي!، وبعدين لسه على امتحاناتك اسبوع بحاله!

قالت والدموع تسبقها:
حور الشاي وقع عليها وحرق ايدها ورجلها لازم انزل عشان اطمن عليها..
لطمت على صدرها بفزعٍ:
يا خبر، لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم...
ثم استرسلت بسؤالها المتلهف:
طب طمنيني يا بنتي هي عاملة ايه الوقتي.
قالت وهي تغلق حقيبتها الصغيرة:
معرفش يا ماما لما هروح هبقى أطمنك بالتليفون.
أجابتها بتفهمٍ:
ماشي يا حبيبتي، ومتقلقيش عليها ان شاء الله هتبقى كويسة.

تعلم جيداً ماذا تعنى حور بالنسبة لابنتها، الصداقة التي استمرت لثمانية عشر عاماً تجعل من حولها يكن لهما احتراماً وتفهم لمشاعر الخوف والقلق لكلاً منهن، ارتدت تسنيم ثيابها ثم جلست على المقعد وهي تتحدث لذاتها بتوترٍ:
طب المفروض دلوقتي أعرف بشمنهدس آسر أني نازلة القاهرة ولا أعمل أيه؟!.
ثم عادت لتردد:.

مهو أكيد لازم يعرف عشان يتابع شغله بنفسه أو جايز يكون عايز يبعت معايا حاجة لمصطفى السكرتير، اعمل ايه بس يا ربي!
لم تجد حل يخرجها من تفكيرها العميق سوى الذهاب إليه لتخبره بأمر رحيلها، ولتكن صادقة مع نفسها كان هناك شيئاً بداخلها يشجعها على قرار الذهاب لتتمكن من رؤيته، فبرؤياه تشعر بأمان تفتقده حتى وهي وسط عائلتها والأغرب بأنها باتت تؤمن بذلك!

كان من الصعب أن تظل معه بغرفته كسابق، وهو يعلم ذلك جيداً ولم يشعر بالضجر لذلك، يكفي انها تقبلت وجوده لجوارها من جديد، وبالرغم من ذلك شدد يحيى بتعليماته على الهام بمراقبة ماسة جيداً، فما يساور شكوكه جعله يفارق النوم طوال الليل حتى الصباح، خرج يحيى من غرفته ثم طرق على غرفتها ففتحت الخادمة، لتواجه صوته المضطرب:
ماسة كويسة؟
إن تكن تشعر بالغرابة لإهتمامه الزائد بحالتها ولكنها أجابته باحترامٍ:.

كويسة، بحضرلها الحمام وخارجة.
أومأ برأسه بتفهمٍ، ثم عاد ليجلس بالخارج ينتظرها، دقائق محدودة واستمع لدقات قدميها السريعة تقترب منه، فسلطت نظراته تجاه تلك الفاتنة التي تقترب منه بفستانها الأزرق الطويل، وخصلات شعرها التي تتدلى من خلفها بإنسيابٍ، للحظة ظنها زوجته التي فقدها منذ أعوام ولكن حينما هزت رأسها وهي تحدثه بطفولة جعلته يعد لأرض واقعه سريعاً:
هنخرج تاني يا يحيى؟

ابتسم وهو يمسك يدها ليخطو بها تجاه الطاولة التي تضم طعام الفطور والعصائر الطبيعية، ثم جاوبها ويديه تلامس تلك الخصلة المتمردة على عينيها:
لا يا روح قلب يحيى، أنا لازم انزل المصنع النهاردة لكن بكره إن شاء الله هنخرج.
أدلت شفتيها السفلية بحزنٍ، ومن ثم رددت باستياءٍ:
وعد؟
قال بتأكيدٍ:
وعد يا روحي، يالا بقا إفطري عشان تاخدي أدويتك.

هزت رأسها باستسلام ومن ثم التقطت الخبز لتغمسه بالعسل الابيض كما تعشقه، لتتذوقه بابتسامةٍ هادئة، جعلت الراحة تتسلل لأعماقه فذهبت شكوكه للجحيم، وبات الامر منطقي بالنسبة اليه فإن ما حدث لها من دوار وتقيء كان عائد للأرجيحة التي صعدت لمتنها.

رائحة الشاي الساخن عبقت المنزل لتناشد ذاك الصباح النشيط، وخاصة على الطاولة العتيقة المطولة، جلست العائلة تتناول الطعام بجوٍ من السكينة والهدوء، حرصت رواية على اعداد كوب القهوة لزوجها ومن ثم جلست على مقربةٍ منه لتستكمل طعامها، فسألها عمر وهو يبحث بين الوجوه باستغرابٍ:
أمال فين آسر؟
ردت عليه بضيقٍ شديد:
بالاسطبل، مش بيتحرك من هناك خالص يا عمر ومفيش فايدة من الكلام معاه.
تدخل فهد بالحديث قائلاً:.

همليه يقعد مكان مهو حابب ده مضيقك في أيه؟
استدارت تجاهه ثم قالت بعدم تصديق لسؤاله الذي بدى لها غريباً:
مضايقني طبعاً، مهو أغلب وقته بعيد عني حتى لما يجي هنا مستكتر يقعد معايا.
ابتسم سليم وهو يخبرها:
كلتها أيام وكلهم هتلاقيهم اهنه يا مرت أخوي.
همست بحنين:
يارب يعدوا بسرعة نفسي أشوف روجينا وحشتني اوي..

قطع الحديث المتبادل بينهما صوت نادين الباكي، وهي تهم بالهبوط للاسفل مسرعة حتى كادت أن تتعثر، وصوتها يرتفع بندائه:
سليم.
انقبض قلبه وهو يراها بتلك الحالة التي بدت صدمة للجميع الذي اعتاد رؤية الابتسامة لا تفارق وجهها، نهض سليم عن الطاولة ثم أسرع بالاقتراب منها متسائلا بلهفةٍ:
في أيه يا نادين؟
قالت والدموع تلاحق صوتها المذبذب:
انا لازم انزل القاهرة حالا، الشاي وقع على ايد حور وحرقها..

أمسك بيدها وهو يهدء من روعها قائلاً:
يحيى طمني وقالي اصابة بسيطة متقلقيش نفسك.
هزت رأسها بالرفض وهي تردد بإصرار:
انا لازم اشوفها واطمن عليها بنفسي مش هستنى لأخر الاسبوع لما تيجي..
ربتت ريم على ظهرها وهي تخبرها بحزنٍ:
طب اهدي بس يا نادين، لو كانت حاجة كبيرة لا سمح الله كان زمان أحمد أو بدر اتصل وقالنا، هتلاقي الموضوع بسيط.
هزت رأسها بانفعالٍ، فنهض فهد عن الطاولة ثم قال بثباتٍ:.

خد مرتك وانزل مصر يا سليم، مش هترتاح غير لما تطمن عليها..
أومأ برأسه ثم دفعها برفقٍ لتمضي معه للأعلى ليستعد كلاً منهما للسفر، فاقتربت رواية منه ثم قالت:
هنزل معاهم يا فهد عشان اطمن على روجينا ورؤى وريناد..
أجابها بصوتٍ منخفض بعض الشيء:
روجينا ورؤى بسكندرية تبع جامعتها..
عقدت حاجبيها باستغرابٍ:
وأنا معرفش ليه!
حدجها بنظرةٍ مطولة أنهاها ساخراً:
والله أسألي بنتك..

وتركها وصعد للأعلى والأخرى تقف محلها يكاد الحزن يقتلها، مازالت تعاقبها بالابتعاد عنها، فحينما تراسلها لا تجيبها أبداً، تخفت رواية عن الاعين حتى لا يرى أحداً دمعاتها، ولكنها لم تشعر بنواره التي تلاحقها، حتى أصبحوا منفردين بالغرفة، فقالت بحزنٍ:
مالك يا رواية انتي كمان؟
وكأنها كانت بحاجة للحديث، فقالت بانكسارٍ:.

مش عارفة بنتي لسه بتعاقبني على أيه يا نواره ، هو أيه واجب الأم غير أنها تشوف المناسب لمصلحة بنتها، ومصلحتها كانت بجوازها من أحمد.
حينما تحدثت رواية عن ذاك الموضوع السري المرتبط بينهما، أغلقت نواره الباب سريعاً حتى لا يستمع اليهما احداً ومن ثم جلست جوارها على الاريكةٍ الخشبية، فربتت على فخذيها وهي تردد بحكمةٍ:.

مغلطتيش يخيتي اللي عملتيه عين العقل، لو كان أبوها درى باللي هتقوله كانت هتبقى حريقة، وبعدين اني مستغربة ايه اللي غيرها اكده، ما طول عمرهم بيحبوا بعض وعلى طول سوا فجأة اكده تقول مش عايزاه!
هزت رأسها باستياء هي الاخرى وهي تخبرها:
حقيقي مش عارفة انا بقالي ٨شهور بحاول أخليها تقتنع والغريبة كل ما الفرح بيقرب معاده بتصمم اكتر.
تساءلت نواره باهتمامٍ:
طب محاولتيش تسأليها عن السبب اللي مخليها عايزة تسيبه.

ردت على الفور:
سألتها ولو كنت لقيت منها سبب مقنع كنت هتكلم مع فهد وهوقف الجوازة دي، بس اللي قالته سبب تافه انها عايزة تتجوز واحد من القاهرة لانها بتكره العيشة في الصعيد.
ضيقت عينيها بغضبٍ:
ماله الصعيد أهلها وناسها..
منحتها نظرة بائسة قبل أن تردد:
هو أنا بأخد رأيك في اللي قالته يا نواره!.
اشفقت على حالتها، فربتت بيدها على ظهرها وهي تردف بحنان:.

متزعليش يا رواية، يمكن عيشتها وسط اهل البندر خلتها تتعود عليهم، و أن كانت حابة القعدة هناك نخلي احمد ياخدها معاه هناك زي ما يحيى ولدي عمل.

ثبتت تفكيرها بأكمله على تلك النقطة فوجدت ذاتها تائهة ضائعة، لا تعلم إن كانت نقطة البقاء بالصعيد او القاهرة هو ما يهم ابنتها فعلاً أم انها مجرد حجة تتحجج بها لتبتعد عنه، وخاصة بأن أحمد وباقي الشباب ينتقلون بين القاهرة والصعيد، فبات الأمر محيراً بالنسبة لها وكأنها عادت لنفس النقطة من جديد..

وصلت تسنيم أمام البوابة الخارجية ومن ثم ولجت للداخل، مرت من جوار الثرايا، فكادت بأن تصعد على الدرج لتنتبه للصوت الرجولي الخشن القادم من الخلف، مردداً:
يا أهلاً بيكِ يا بنتي، نورتي الدنيا كلتها.

استدارت للخلف ببطءٍ، فوجدت فهد يجلس على أريكة خشبية موضوعة وسط الحشائش الخضراء ومن جواره عدة أرئك يتوسطها طاولة صغيرة دائرية الشكل، موضوع عليها عدد من المشروبات الساخنة، اقتربت منه على استحياء ثم قالت بخجل:
منور بكبيره وأهل بيته.
بدت له لابقة باختيار كلماتها ونال هذا إعجابه كثيراً، فقطع نظراته الثابتة كالسهم الذي يعلم الطريق لمستقره حينما قال باتزانٍ:
عايزة ولدي؟

اربكتها كلمته كثيراً وإن كانت منطقية بعض الشيء لعملها المرتبط به، ولكن رغماً عنها توردت وجنتها، فأومأت برأسها وهي تتابع بارتباكٍ:
أيوه لازم أبلغه حاجة ضروري.
شبح ابتسامة ارتسمت على طرفي شفتيه، فدارت عينيه على نعمة التي تحمل المياه وتقترب لتضعها على الطاولة، كان من الممكن ان يجعلها تستدعي آسر ولكن تعمق تفكيره وضعه بمنطقة حيادية، فقال بمكرٍ مختبئ خلف ثبات نبرته:
بالاسطبل، انتي مش غريبة البيت بيتك..

وأشار لها على الإتجاه الصحيح للاسطبل، بللت شفتيها بلعابها وهي توزع نظراتها بين الاتجاه المشار اليه وبينه، ومن ثم رسمت ابتسامة صغيرة قبل ان تردد بحرجٍ:
عن إذن حضرتك.
قال وهو يتابعها تبتعد بخبثٍ يشمل لهجته:
إذنك معاكِ يا بنتي.

ابتعدت عنه رويداً رويداً وهي تبحث بعينيها حائرة بتلك المساحات الشاسعة، فحينما ذهبت معه للاسطبل سلكوا باب جانبي من مكتبه فما هي الا مسافة صغيرة حتى وصلوا إليه، وهي الآن تخطو بين مساحات كبيرة للغاية لا تعرف طريق قد يودي بها اليه، استمعت لصوت صهيل خيل قادم من الاتجاه الذي تسلكه فتأكدت بأن وجهتها صحيحة، فوجدت من أمامها مساحة شاسعة تحفها سرداب من الخشب ليصنع مساحة خاصة للخيل، رفعت صوتها وهي تتفحص المكان باحثة عنه:.

بشمهندس آسر.

لم يأتيها رده وكيف سيستمع لها وهو بمكانٍ ضخم كهذا، لم تجد تسنيم حلول بديلة الا ولوجها للداخل، ففتحت الباب القصير المنحدر على جنبي السرداب ومن ثم ولجت تقدم قدماً وتؤخر الأخرى بخوفٍ من منظر الخيول المريب بالنسبة إليها أو لأي فتاة قد يرهبها رؤية قط أو فأر فماذا اذا وجدت ذاتها محاصرة بعدد من الخيل الاصيل، ربما لو رأت خيل واحد لا بأس فهي بالطبع تتعامل معه من على بعدٍ تاركة باقي المهام لوالدها، توقفت عن الخطى حينما لمحت فرس صغير على ما يبدو بأنه حديث الولادة، لونه أبيض كبياض الثلج وجبهته ينقرها اللون البني، أعجبت بيها للغاية، فلم تستطيع الا تقترب منها وتلامس جلدها الناعم، فتحت تسنيم الباب الصغير الذي يفصل الفرس الصغير عن باقي الاسطبل ومن ثم مررت يدها على جلده بابتسامةٍ حنونه، راق لها هذا الفرس كثيراً وخاصة بأنه مسالم، ارتعب قلبها فجأة حينما استمعت لصهيل قوي غاضب يأتي من خلفها، ففور ان استدارت وجدت الخيل الذي يلقبه آسر ب همام يرفع قدميه تجاهها غضباً، تراجعت للخلف بخوفٍ وهي تحاول أن تتفاداه ولكنه كان يتبعها، ومازال يرفع قدميه عن الارض بحركاتٍ مندفعة عنيفة، رفعت يديها معاً لتحمي وجهها وهي تصرخ بفزعٍ وحينما استمعت لصوته رفعتهما لتجده يقف أمامه ويتمسك بقدميه ومن ثم دفعه للخلف وهو يصيح بها بانفعالٍ:.

همام اهدى!
تراجع الفرس للخلف قليلاً وكأنه شعر بالأمان على ابنه الصغير لوجود فارسه، فعاد ليقف جوار فرسته الجامحة مهجة وهو بتأمل صغيره عن بعدٍ، أسرع آسر تجاه تسنيم ومن ثم عاونها على الوقوف وهو يتساءل بلهفةٍ:
انتي كويسة؟

أومأت برأسها عدة مرات وعينيها تتابع همام بخوفٍ، والأخر يتابعها بنظراتٍ حائرة لا يعرف كيف أتت الى هنا ولكنه سعيد لرؤياها مجدداً، انتبهت تسنيم لنظرات آسر لها وليديه التي مازالت تتمسك بها خشية من أن تسقط من جديدٍ، فتراجعت للخلف وهي تعدل حقيبتها الصغيرة بخجلٍ، ومن ثم قالت بتوترٍ:.

انا آسفة جداً مكنتش اعرف انه هيضايق كده، آآ، آنا كنت جاية عشان اقول لحضرتك اني لازم انزل القاهرة فلو حابب تبعت حاجة تبع الشغل معايا، او على الاقل تبقى عارف بسفري فآآ، وأنا داخلة شوفت فهد بيه وهو اللي دلني على الاسطبل وانا بدور على حضرتك شوفت الحصان الجميل ده فبعتذر على اللي حصل..

حديثها المرتبك كان غير مرتب، يعكس ما تشعر به من حرجٍ وتوتر، نعم فهم من مغزى حديثها مهمة أبيه الماكرة ولكنه احب ذلك كثيراً، تحرر لسانه ناطقاً باتزانٍ:
محصلش اي حاجة لكل ده، ممكن تهدي بس وتاخدي نفسك وبعدين نكمل كلامنا.
رسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، فرأته يخرج من السرداب الصغير، فقالت بفزعٍ:
حضرتك رايح فين؟
ابتسم على خوفها البادي على وجهها قبل ان يتبع صوتها، فأشار لها:.

هجيب كرسين وأجي متقلقيش همام مش ممكن يهاجمك تاني، كده عرف انك تخصيني.

وتركها وغادر وقلبها يخفق باضطراب من أخر جملته، وإن كانت أسرتها قبل أن تأسر قلبها وروحها، صفنت به وهو يقترب منها حامل المقعدين ومن ثم وضعهما جوار الخيل الصغير لتتمكن هي من رؤياه بعدما صرحت بإعجابها به، أشار لها بالجلوس، فجلست على استحياء ومن ثم حرر لجام الصغير ليدفعه برفقٍ ليقترب منها، فوزعت نظراتها بينه وبين همام بخوفٍ، فتعالت ضحكاته الرجولية وهو يتابع بقوله الشبه حازم:
قولتلك متخافيش!

رفعت يدها ومازالت نظراتها تحوم بين همام ومهجة، فوجدتهما هدئين متقبلين لوجودها برفقة آسر، فمررت يدها على جسد الصغير بفرحةٍ غمرتها، ومن ثم قالت بإعجابٍ شديد:
ما شاء الله جميل اوي.
تعمق بالتطلع لها قبل أن يخرج صوته الرخيم:
إختاريله أسم بقا.
نظرة مرتبكة تقابلت مع نظراته الفاتنة بجمالها، فازدرت ريقها وهي تجيبه بارتباكٍ:
مش عارفة بصراحة.
قال ومازالت نظراته متعلقة بها:
حاولي.

سحبت نظراتها المتعلقة به ومن ثم تأملت الصغير وهي تردد بابتسامة صغيرة:
ممكن برق..
ابتسم وهو يردد:
مش هيكون اسمه غير كده.
اصطبغ وجهها بلون حبات الكرز، وهي تتطلع له بتوترٍ، فنهضت وهي تعدل حقيبتها ثم قالت:
همشي بقا عشان معاد القطر.
تساءل باستغراب:
مش المفروض انك هتسافري بعد يومين؟
اجابته وعينيها منشغلة بتأمل حقيبتها كمحاولة من التهرب من لقاء عينيه:
أيوه، بس لازم أسافر عشان أطمن على حور.

أومأ برأسه بتفهمٍ ثم قال:
طب استني لحظة، هجيب من والدي الملف اللي كان بيوقعه عشان توصليه لبشمهندس يحيى.
هزت رأسها بهدوءٍ ثم وقفت تنتظر عودته جوار ذاك الفرس الصغير الذي سيشهد على قصة عشق ستهز أرجاء الصعيد، قصة ستتحدى عادات وتقاليد الرجل الشرقي ذو العرق الصعيدي، وربما لتوضح للعالم بأن الصعايدة ليس كما يقال عنهم بل هم أصل النُبل والرجولة!

وصل يحيى للمصنع ومن ثم اتجه لغرفة مكتبه، وحينما دلف للداخل انكمشت معالمه بعدم تصديق لما يرأه او ربما عقله لم يستطيع تفسير من انها تتملك كل تلك الجرءة لتقف أمامه من جديد بعد ما ارتكبته من ذنبٍ فاضح لا غفران له!

عاد آسر حاملاً الملف المنشود ثم قدمه لها، فحملته وتوجهت للخروج بعدما ودعته بابتسامةٍ صغيرة، تحمل مغزى يخترق قلبه من دون سابق انذار، تشتت أفكاره التي تخطر له بتلك اللحظة، فلحق بها وقبل أن تصل للبوابة الخارجية اوقفها منادياً:
تسنيم.
استدارت لتقابله وهي تتساءل بدهشةٍ:
نسيت حاجة يا بشمهندس؟
مرر يديه على رقبته وكأنما يحجب تلك الكلمات التي تكاد على التحرر ولكنه فشل بذلك، فقال:
خلي بالك من نفسك.

بقت تتطلع له للحظات لا تعلم بماذا ستجيبه؟، وذاك فكر اخر هاجمها أيحل له قول ذلك لها لانه رب عملها او لا يحل له؟، لطالما كانت جافة بالتعامل مع صنف الرجال جميعاً حتى مع اساتذة الجامعة وغيرهما، ولكنه حالة خاصة وفريدة بالنسبة لها، حالة لا تجد لها تفسيراً منطقي له او لما يحدث لها، بللت شفتيها الجافة بلعابها وهي تجيبه بتوترٍ:
حاضر، عن إذن حضرتك.

وتركته وغادرت بقلبٍ يكاد يتوقف من فرط الارتباك، فتوقفت مرة اخرى حينما وجدت نادين تقترب منها، فسألتها بلهفةٍ:
انتي كنتي عارفة باللي حصل مع حور ومقولتليش؟
قالت بحزنٍ وهي تتأمل تلك السيارة التي تقترب منهن:
لا والله يا طنط انا لسه عارفة من شوية وهسافرلها حالا.
انسدلت دموعها بتأثرٍ، فربتت تسنيم بحنانٍ على كتفيها:
متخافيش ان شاء الله هتبقى كويسة، انا راحلها وهبقى اطمن حضرتك بالموبيل.
ردت عليها مسرعةٍ:.

انا كمان راحلها.
ثم استرسلت حديثها وهي تشير على السيارة التي توقفت أمامهما:
تعالي معانا في العربية بدل ما طريقنا واحد.
قالت بحرجٍ:
لا مفيش داعي أنا هسافر بالقطر كمان ساعة بإذن الله، وكمان شنطتي لسه بالبيت.
بإصرارٍ قالت:
وتركبي قطر ليه واحنا نازلين القاهرة ورايحين نفس المشوار، ثم ان دي مش حجة هنخلي عادل السواق يطلع على بيتك الاول نجيب شنطتك ونمشي، اركبي يالا.
أخبرتها بابتسامةٍ صغيرة:
حاضر..

وبالفعل صعدت تسنيم للخلف جوار نادين، وبقى سليم بالامام جوار السائق الذي تحرك بهما على الفور، وآسر كما هو يودعها بنظراتها امام تلك البوابة الضخمة التي تفصله عن الداخل وحينما استدار عائداً تفاجئ بمن يقف أمامه يحدجه بنظراتٍ قاتمة، وعصاه الانبوسية تحتك بالارض بقسوةٍ وكأنه يود بها أن تمنحه عقوبة يعلمها جيداً فابتسم وهو يقترب منه بخبثٍ!

بأحد منازل كبار الصعيد، وبالاخص بمنزل تابع لكبار الدهاشنة، دلف ذاك الخادم المتنكر بعمامته البيضاء التي تخفي ملامحه، وهو يتلفت من خلفه بخوفٍ من أن يرأه أحداً، ويا ويلته إن رأه أحداً من المغازية بالتحديد، فبالتأكيد سينقطع رأسه حينما ستشهد خيانته لثرايا أيان المغازي، فما ان رأه حارس البيت حتى سمح له بالمرور كالمعتاد لزيارته المتخفية، ومن ثم اتبع الخادمة التي ادخلته مكتب رب هذا المنزل، لتضع له الشهي من المؤكلات والمشروبات كما شدد عليها سيدها، فأكل بنهمٍ وهو يراقب باب المكتب، فما أن ولج صاحب المنزل حتى نهض عن مقعده وهو يردد باحترامٍ وخوف بآنٍ واحد:.

مهران بيه!، آآ، أني جبتلك معلومات المرادي تستحق الحلاوة، والمرادي الضربة هتكون لفهد نفسه!.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة