قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأول

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأول

رواية صراع السلطة والكبرياء (الدهاشنة 2) للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأول

كسر ضوء الشمس النافذ عتمة الليل وسكونه المخيف، فتسللت أشعتها بخفةٍ لتداعب أوراق الأشجار الكثيفة التي تطوف بالاراضي الزراعية، وكأنها بانتظار ذاك الإشراق الذي يحتضنها كل صباح، ازدحام تلك الاماكن معتاد فالاستيقاظ باكراً من أسمى صفات أهالي الصعيد، الأغلب يتجول بائعاً والبعض يذهب لعمله، ومن بين المارة تجد مجموعة من الأشخاص مجتمعون على صينية دائرية الشكل يتوسطها الفطير الشهي والعسل الصافي وقطع الجُبن القريش، يجلس عليها أهل هذا المنزل البعيد عن تلك الارض التي يجتمع بها رجال البيت والاصدقاء، الطعام بين أهل الصعيد قلة ما يتناوله أهله بمفردهما، فالجود والكرم مدفون بالعروق، ومن بين كل تلك المنازل منزل كبير الدهاشنة، وبالاخص بحديقة منزله الشاسعة، يجتمع المزارعون حول عدد من الطاولات لتناول الفطور الشهي، وبالقرب منهما وبالاخص على تلك الاريكة الخشبية كان يجلس كبيرهما بوقارٍ، العصا التي يحملها بين يديه تمنحه عظمة تليق بجلبابه الاسود، يجلس بسكونٍ وعينيه تراقب الجميع باهتمامٍ، ليشير بعينيه لخادمه للطاولة التي قل الطعام منها ليزيده بالخير، انتهى الجميع من تناول الطعام فنهضوا تباعاً ليردد احداهم:.

دايماً سباق بالخير يا كبيرنا..
وأضاف الأخر بامتنانٍ:
ربنا يزيدك من وسع..
ابتسامة صغيرة تشكلت على طرفي شفتي فهد، فنهض عن الأريكةٍ وهو يردد باستحسانٍ:
الف هنا وشفا يا رجالة، تقدروا ترجعوا لشغلكم..
أشاروا بايديهم بطاعة ومن ثم انصرفوا لاعمالهم بالحقول التابعة لعائلة فزاع دهشان، أسرع إليه الخادم ليخبره على عجلة من أمره:
الست راوية عايزة جنابك جوه..

صعد الدرج القصير حتى أصبح بداخل المنزل، يبحث عنها بعينيه المتلهفة لرؤياها فرغم تقدمهم بالعمر سوياً الا انه مازال يشعر برؤياها وكأنه لقائهما لاول!، نفس ذاك الشعور الذي يسيطر على قلبه المرهف مازال يتلبسه وكأنه ذاك الصبي الذي يبلغ خمسة وعشرون عاماً، بل تمكن العشق منه ليجعله يلتاع لرؤياها وحتى إن رأها يسكره حد الرغبة فيدق قلبه بعنفٍ وكأن هناك من يضرم نيران الشوق عمداً ليفتك بهيبته التي يخشاها الجميع، طلت من أمامه بردائها الابيض الفضفاض وحجابها الذي يتدلى من خلفها، فأقترب لتقف هي مقابله ببسمتها المشرقة:.

كده تفطر بره معاهم زي كل يوم، نفسي مرة تفطر معانا زي زمان..
أسرع باجابتها:
هو أنا اقدر على زعلك، محطتش لقمة في بوقي من الصبح..
اتسعت ابتسامتها وهي تردد في رضا:
كنت هزعل لو عملتها يا فهد.
تطلع من حوله بترقبٍ وحينما وجد الساحة خالية من حوله، همس بغزلٍ:
يابوي على كلمة فهد اللي بتطلع تشرح الجلب دي..
تعالت ضحكاتها حتى أصبحت مسموعة لمن يهبط الدرج، فقال بسخريةٍ:
وبعدهالك يا فهد لساك عايش في دور سي روميو.

ردد بحزمٍ مصطنع:
سليم!
دنا منه حتى صار قريباً:
الحق عليا بنبهك أننا تحت بدل ما حد من الأولاد يطب عليك وصورتك تهتز قدامهم!
جلس فهد على المقعد الذي يترأس مائدة الطعام الكبيرة قائلاً:
متخافش عليا محدش يقدر يوقعني.
أكد له مازحاً:
خبرك زين يا واد عمي..
أستاذنت راوية بخجلٍ:
هجيب بقية الاكل..
وتركتهم واسرعت للمطبخ حرجاً مما حدث، ولجت للداخل لتشير للسيدة التي تعاون نواره و ريم:
طلعي باقي الأكل يام نعمات..

أومأت برأسها في طاعة:
أمرك يا مرت الغالي..
ثم حملت الاطباق وأسرعت للخارج، حملت ريم الاطباق المتبقية لتناولها لراوية وهي تتساءل باستغرابٍ:
مالك وشك احمر إكده!
مررت يدها على وجهها وكأنها تخبرها بأن وجهها متسخ فتحاول تنظيفه، تعالت ضحكات نواره وهي تشير إليها ساخرة:
كفياكي يا ريم هتلاجيها شافت فهد بره بس..
ذمت راوية شفتيها بعدم رضا لتصيح بهم بانزعاجٍ:
اه ده انتوا فضيتوا ليا بقا..

حملت نواره الخبز الطازج لتسرع بالخروج قائلة:
لا انا الحق نفسي قبل ما المدبحة تقوم..
قالت راوية من وسط سيل ضحكاتها:
كبرنا ومكبرناش!
شاركتها ريم الابتسامة بحزنٍ ظهر على وجهها حينما تذكرت ابنتها، يقال أن لكل منا نقاط ضعف أو ربما جانب معتم يستحوذ على المرء حينما تزوره السعادة، فالابتسامة يتخلالها تذكار لما يؤلم، وكأنها تتعهد على تذكارك دوماً بما يؤلمك حتى تقتل أي ابتسامة قد تتسلل لشفتيك!

شعرت بها راوية فاحتضنتها بذراعيها قائلة بحزنٍ:
لسه مش قادرة تتقبلي اللي حصل لماسة؟
تدفقت الدموع من عينيها كالمطر المحتبس، لتجيبها بقهرٍ:
ياريت اقدر يا راوية، انا مش قادرة أستوعب اللي حصل معاها!
ربتت بيدها على كتفيها وهي تخبرها بثقةٍ:
جوزها جنبها وعمره ما هيتخلى عنها، أنا عندي ثقة كبيرة في ربنا أنها هترجع أحسن من الأول..
أغلقت عينيها وهي تردد بتمني:
يارررب يا راوية يارب..

أخفت حزنها وهي تشير لها بابتسامةٍ ترسمها بالكد:
طيب يلا قومي عشان نفطر من زمان مفطرناش مع بعض..
أزاحت دمعاتها وهي تحمل باقي الأطباق:
بينا..
وبالفعل خرجن سوياً لتنضم إليهم بالخارج، تبدل حزن ريم لسعادةٍ كبيرة حينما وجدت عمر يجلس بالخارج، فجلست مقابله تتأمله بحنينٍ، تود لو أن يحتضنها بقوةٍ حتى تحاول الخروج من تلك المشحنات المقبضة، شعر بها فأشار بيديه وهو يهمس لها:
أنتي كويسة؟

إكتفت بإيماءة رأسها بأنها على ما يرام، ثم انتبهوا جميعاً لصوت نادين الذي إخترق القاعة كالصوت الرنان:
أيه ده من غيري!
غمس سليم الفطير بالعسل الأبيض وتناولها بتلذذٍ:
عارفين أنك هتنزلي من نفسك لما تشمي ريحة الوكل..
جلست جوار راوية ثم شرعت بتناول طعامها لتردد بإعجابٍ:
الله على الفطير البلدي من ايدك يا ريمة.
ابتسمت وهي تخبرها باستحسانٍ:
ألف هنا على قلبك يا نودي..
علق عمر هو الأخر:
تسلم أيدك يام أحمد..

منحته بسمة رقيقة، فقال سليم باستغراب:
هو محدش من الولاد نزلوا من القاهرة الأجازة دي ولا أيه؟
أجابته راوية:
مفيش غير آسر و أحمد البنات عندهم امتحانات..
تساءلت نادين بدهشةٍ:
طيب هما فين يفطروا معانا..
أجابها فهد بثباتٍ:
شيعتهم الأرض يبصوا على العمال يشوفوا لو كانوا محتاجين حاجة.
رددت راوية بضيقٍ:
هما لحقوا يستريحوا يا فهد، مش كفايا المصانع والمزارع اللي بيدروها!
نظرة حادة حانت منه فقال بجفاءٍ:.

مخلف عيل صغير هنخاف عليه ولا أيه؟.
رددت في توتر:
لا مقصدش بس بقول على الاقل كان فطر معانا مهو طول الشهر بيبقى بالقاهرة مع الشباب وحتى في اليومين اللي بينزلوهم بتخليهم يشتغلوا بالارض!.
استنزفت كلماتها غضبه بأكمله، فضرب بعصاه الارض بقوةٍ:
مفيش اهنه دلع يا راوية، الولد لو مشالش الحمل عن اهله مبيقاش راجل..
امتلأت عينيها بالدموعٍ لتعصبه المبالغ به، فتدخل سليم بالحديث قائلاً:.

محصلش حاجة يا فهد، هي خايفة على ولدها وده حقها بالنهاية هي أم..
هدأت تعابير وجهه قليلاً، فقال بهدوءٍ:
أنا هادي يا سليم بحاول بس أخليها تستوعب أنه في يوم من الايام ولدها هيبقى كبير الدهاشنة ولازمن أقرص عليه عشان عضمه يبقى ناشف ومحدش يقدر يقف قصاده..

حدجته بنظرةٍ ساكنة ولكنها تحوى سهام متخفية تعرف طريقها لاختراق قلبه بحرافيةٍ، نهضت راوية عن مقعدها ثم كادت بالابتعاد عن الطاولةٍ، فتوقفت قداميها حينما استمعت لأمره الصارم:
كملي وكلك قبل ما تقومي.
عادت لتجلس على مقعدها من جديدٍ، وهي توزع نظراتها بينه وبين طبقها بغيظٍ..

مساحة شاسعة يملأها الرجال العاملين من كل صوب وإتجاه، بعضهما يحملون المحاصيل الزراعية للشاحنة والاخرون يكدون عملاً بزرع المحاصيل، الجميع يعلم بأن تلك المنطقة تخص عائلة فزاع الدهشان فباتت تخص أحفاده وبالأخص كبيرهم فهد الدهشان، ومن بين هؤلاء العمال كان ينحني بقامته الطويلة ليحرر السكين الملتوي حتى يتمكن من قطع الحشائش الخضراء ليجمعها فوق بعضها في تناغم وإنسيابية، ومن ثم يكوم حزمة أخرى فوق بعضهما ليحملهما ثم يضعها على العربة التي يجرها الفرس الاصيل ليشير بيديه التي تتصبب عرقاً:.

خد الحمولة دي وإرجع أنت يا حسان..
ومن ثم إنحنى ليحمل حزمة أخرى فأسرع إليه حسان العامل، قائلاً:
عنك أنت يا بشمهندس آسر، أني اللي هحملهم..
ابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيه القاسية، ومن ثم أجابه بمحبةٍ كبيرة:
لا أنا اللي هحملهم، اسمع أنت بس الكلام وأرجع المزرعة أهتم بالفرس..
سحب اللجام ليجلس على طرف العربة وهو يشير له بطاعةٍ:
اللي تؤمر بيه يا بشمهندس..

مرر آسر أصابعه على رأس الفرس الأبيض بحنانٍ، ثم رفع عينيه ليشير للأخر بالتحركٍ فأنصاع إليه، اتجه آسر للشجرة القريبة منه، فاستلى من فروعها قميصه الأبيض الذي تركه على أحد فروعها حتى لا يتسخ بأعمال الحقول الشاقة، فلم يتسنى له الوقت ليبدل ملابسه فما أن وصل من القاهرةٍ حتى أمره والده بالذهاب لمتابعة العمال، فما كان منه الا أن خلع قميصه ليعاونهم اليد باليد رافضاً مباشرة عمله المتوقع بمعاينة الحسابات فترك تلك المهامة لاحمد، دس يديه بجيب بنطاله الأسود ليخرج منديله الورقي، ثم ازاح العرق النابض على بشرته الخمرية، ومن ثم فتح عينيه البنية الداكنة ليتأمل إن كانت ملابسه مازالت متسخة بعد، ثم مرر اصابعه بين خصلات شعره الفحمي ليمشطه جيداً، ثم جلس على الأريكةٍ الخشبية، المتهالكة، القريبة منه ليرفع هاتفه بانتظار رد الطرف الأخر، فقال:.

أيوه يا بدر، أنت لسه نايم ولا أيه؟
طيب فوق كده وإسمعني، شحنة الفاكهة في طريقها للمصانع لازم تكون موجود هناك أنت و يحيى فهمت؟
طيب تمام، بعد بكره هنكون عندكم أنا و أحمد بأمر الله..
وأغلق هاتفه ومن ثم وضعه بجيب بنطاله، ليتجه بخطواته المتزنة تجاه المبنى القريب من الأراضي الزراعية، ليجد أحمد منهمك بالعمل على عدد من الملفات، ليتحرر لسانه الصامت ناطقاً بتعصبٍ واضح:.

الشغل ده ميرضيش ربنا أبداً، كل ده غلط دي فلوس ناس يا ريس!
أجابه المحاسب بتوترٍ:
يا بشمهندس راجع حساباتك تاني جايز تكون غلطان..
نهض عن مقعده ليحدجه بنظرةٍ قاتلة:
أنت اللي هتعلمني شغلي ولا أيه؟
والقى الاوراق بوجهه قائلا بحدةٍ:
راجع شغلك وشوف باقي المبلغ الناقص من الحسابات ده فين والا الكبير بنفسه اللي هيعرف..

وترك المكتب الصغير المتدلي بأحد أطراف المبنى المتوسط، ثم خرج ليجد آسر من أمامه، يضع يديه معاً بجيوب بنطاله ويتطلع له بصمتٍ قاتل، ليبتره حينما قال:
الانفعال مش طريقة لاستعادة الحقوق يا بشمهندس، مينفعش تقول للحرامي في وشه أنت حرامي لا تلعب عليه وتخليه يرجعلك حقك وفوقه بوسة...
زفر أحمد بانفعالٍ:
ده بني آدم بجح بيغلطني عشان يزوغ من المبلغ اللي عكشه في كرشه.
تعالت ضحكات آسر الرجولية، ليردد بعدم تصديق:.

هدي نفسك بس يا عريس ده أنت على وش جواز..
سكنت نظراته وهو يردد بفتورٍ:
عريس أيه بس ده أنا بقالي سنتين خاطب ومستنى أختك تخلص الجامعة بتاعتها وكل مرة الكبير بيطلعلي بحجة شكله مش عايز يتخلى عن بنته..
رد عليه بمزحٍ:
روجينا أكلة بعقله حلاوة، وبعدين أنت مستعجل على الجواز كدا ليه مش قولت عايز تأسس المصنع ويبقى ليك مالك الخاص استغل الوقت ده لنفسك الجواز فقر يا ابني صدقني..
ضحك أحمد وهو يجيبه بمشاكسةٍ:.

يعني أنت مش عايز تتجوز يا كبيرنا..
أعدل من ياقة قميصه وهو يجيبه بفخرٍ:
لا، مبفكرش بالمواضيع المنحرفة دي...
ثم جذبه بقوةٍ كادت باسقاطه:
يلا عشان نرجع..
تأوه أحمد بألمٍ:
بالراحة علينا احنا مش قدك يا كابتن..
أجابه ساخراً:
طول ما أنت بتأكل وتنام وبتكنسل الجيم عمرك ما هتبقى قد أي حد..
تعالت ضحكاته فقال بصعوبةٍ بالحديث:
لا يا عم كفايا الشغل اللي طالع عينا فيه!
بسخريةٍ قال:
طيب يلا ياخويا..

مشى لجواره حتى مروا من أمام أحد الأراضي الزراعية التابعة لأحد العاملين المخلصين لأبيه سابقاً، فمن يسوقه الحظ للعمل بمزارع عائلة الدهشان قد يحظى بمالٍ وفير يتمكن من بعدها شراء الأرض الخاصة به كحال هذا العامل المحبب لقلب آسر، فأشار لأحمد قائلاً:
اسبقني أنت على العربية وأنا دقايق وهحصلك..

أومأ برأسه بهدوءٍ ثم أكمل طريقه سيراً للسيارة التي تبعد عنه بمسافةٍ ليست ببعيدةٍ، بينما إقترب آسر من كومة القش الملقاة أرضاً حيث كان يجلس هذا الرجل المسن، فألقى عليه التحية ثم قال ببسمةٍ بشوشة:
عامل أيه يا راجل يا طيب، أنت ما صدقت تسبنا ولا أيه؟
أجابه الاخير بابتسامةٍ واسعة:
أستاذ آسر، كيفك يا ولدي، والله وليك شوقة..

وحاول النهوض على قدميه الملفوفة بشاشٍ أبيض، مستنداً على عكازه الصلد، سانده آسر سريعاً ليردد بخوفٍ:
خليك مكانك..
ثم تساءل بحزنٍ:
الف سلامة عليك يا عم فضل، مالك أيه اللي حصل؟
وصف بألمٍ ما حدث له:
مفيش يا ولدي كنت بحمل الربة على العربية فتكعبلت ووجعت على رجلي ولما روحت المستوصف جبسوهالي..
عاونه على الجلوس مجدداً ثم قال:
الف سلامة عليك، طيب جاي ليه الأرض وأنت تعبان أوي كده؟

كاد بأن يجيبه؛ ولكنه انتبه لصوت صخب يأتي من خلفه من أرض العم فضل بالتحديد، فاستدار ليجد أحداً يحاول رفع أكوام القش الضخمة ليضعها على العربة القريبة منهم، فأسرع تجاهه تلقائياً، كان يرتدي جلباباً أسود اللون، يلف حول وجهه شال أبيض اللون يخفي به رأسه ووجهه المغطى بأكمله، لم يكن سوى عينيه الخضراء الساحرة بارزة من خلفه، تعجب آسر مما يرتديه هذا الرجل الغامض؛ ولكنه ظن بأنه يحتمي من أشعة الشمس القاتلة، فانحنى ليجذب الحبال الغليظة من حول كومة القش الضخمة ليردد بثباتٍ:.

هات الطرف التاني يا ريس..
انحنى الرجل ذو الجلباب ليناوله الطرف الأخر، فتلامست أيديهم فشعر بنعومةٍ ملامسها، رفع آسر عينيه تجاه هذا المقنع باستغرابٍ، ثم نهض ليزيح قميصه الابيض عنه فاستدار الرجل سريعاً ابتسم آسر وهو يخبره بمرحٍ:
لا مواخذة يا عمهم بس الحاجة مش هتدخلني البيت لو وسخت الابيض..

ومن ثم انحنى ليحمل كومة القش ببراعةٍ تنساق مع جسده المصفح بالعضلات القاسية، ليضعها على متن العربة، ثم عاد ليحمل الكومة الأخرى فوضعها لجوار الاخرى، فاستدار ليشير له قائلاً:
لسه في حاجة تانية عايز تحملها على العربية!
هز رأسه فتعجب آسر من صمته المبالغ به، أتاه الرد من خلفه حينما إقترب منهما فضل ليثني على ما فعله:
الف شكر يا ولدي، مننحرمش منيك.
ربت على كتفيه بابتسامةٍ صغيرة:.

على أيه يا عم فضل، خد بالك انت بس من نفسك ولو إحتاجت أي حاجة كلمني من غير ما تتردد..
ثم جذب قميصه، ليشير للرجل الغامض:
سلام يا ريس، شكلك عندك دور برد صعب في الحنجرة أبقى عالجه يا عم فضل..
تعالت ضحكات العجوز، ليجيبه بصعوبة:
حاضر يا ولدي..

وصل للسيارة فهبط احمد مسرعاً ليشير له بصدمةٍ:
أنت فاكر نفسك في إنجلترا ألبس بسرعة قبل ما يقتلونا..
ارتدى آسر قميصه ثم تحرك تجاه الباب الايسر من السيارة ليردد بخبثٍ:
ما تنشف يا عم، حد يقدر يبصلنا بس!.
تحرك أحمد بالسيارة ليسأله باهتمامٍ:
عامل أيه عم فضل؟
أغلق عينيه ثم استرخى على المقعد ليضع القبعة على رأسه، فعاد أحمد ليسأله مجدداً فقال بخفوتٍ:.

رجله مكسورة وجايب ابنه يساعده وهو أصلاً شكله مالوش لا في الطور ولا في الطحين..
رفع حاجبيه بتعجبٍ:
ابنه!، عم فضل معندوش غير بنت وحيدة بتدرس بالقاهرة..
أزاح آسر القبعة عن وجهه ليردد باستغرابٍ:
أمال مين ده..
معرفش، جايز مأجر حد..
نفى آسر ذاك الإقتراح:
لأ، معتقدش حالته المادية متسمحش بكده..
قال أحمد:
جايز حد من قرايبه، لان زي ما قولتلك معندوش غير بنت واحدة بتدرس بالقاهرة بنفس جامعة حور بنت عمك سليم..

عاد ليتمدد على المقعد من جديدٍ ثم وضع القبعة لينعم ببعض الراحة..

بأرض العم فضل..
إحتدت نظارتها المتخفية من حول قناعها الخفي، فما أن تأكدت من ابتعاده حتى رددت بغضبٍ:
ماله ده كمان، شايف نفسه على خلق الله..
أجابها العم فضل ببسمته البشوشة:
مالكيش حق يا بتي، ده البشمهندس آسر أطيب خلق الله..
قالت بتأففٍ:
مهو واضح، ده خايف من مامته!، هو ده كبير عيلة الدهاشنة اللي هيكون بعد أبوه!
بملامحٍ جادة للغاية أجابها:.

أنتي متعرفهوش زين يا بتي، البشمهندس آسر غريب عن ولاد عمامه، بيحب خلطة الناس بالصعيد لكن وقت الجد يبيقى غول عيلة الدهاشنة، الكل إهنه بيعمله الف حساب ومحدش يقدر يعيب فيه زي ما أنتي بتعملي كده، خلينا في حالنا يا بتي..
وتحامل على ذاته ليصعد على العربة، ثم أشار لها بالصعود:
يلا نروح قبل ما الظهر يأذن..

ظلت محلها شاردة الذهن، تتطلع على الطريق الذي سلكه بالعودةٍ بشرودٍ، ظنها الشخص الغامض ورأته هو ماكر وخبيث، نعم لم يكن أمامها خيار أخر حينما مرض ابيها، فارادت أن تساعده بعمله الشاق حتى لا يكون بمفرده، من البداية وهي تناضل الأفكار اللعينة التي تنصف المرأة بأنها ضعيفة وغير قادرة على ممارسة عمل الرجل فاردت أن تكد عملاً بالأرض علها تثبت لذاتها بأنها قادرة على ذلك، انتبهت لصوت والدها حينما نادها مجدداً:.

تسنيم!
التفتت تجاهه ثم صعدت لجواره وهي تردد بضيقٍ شديد:
بعدهالك يابوي، مش قولتلك متنادنيش باسمي..
رد عليها بابتسامةٍ واسعة:
حاضر يا ولدي، كده زين؟
ابتسمت وهي تجيبه بحبٍ:
زين..

بالقاهرة وبالأخص بالعمارة التابعة لأبناء عائلة فهد ، كان الطابق الأرضي فارغ يشغله مساحة كبيرة من الحشائش الصناعية، وعدد لا بأس به من الطاولات البلاستكية، أما الطابق الثاني فكان يحوي شقتين كبيرتين للغاية، بابهما مقابل بعضهم البعض، احدهما تخص الفتيات والأخرى تخص الشباب لمتابعة الأعمال المشيدة بالقاهرة، أما الفتيات لمتابعة الدراسة والجامعة، يعلوه الطابق الثالث الذي يخص ماسة بشكل كبير لأنها بالنهاية امرأة متزوجة..

بالشقة الخاصة بالفتيات..
انتهت حور من أداء فريضتها ثم رفعت يدها البيضاء لتدعو الله بتحقق أمانيها، ومن ثم نهضت لتطوي سجادة الصلاة لتضعها برفقٍ على مسند المقعد، ثم جذبت خمارها الطويل ليتدلل خصلات شعرها القصير ذو اللون الأسود المميز، فحانت منها نظرة جانبيه تجاه طاولة الطعام التي اعددتها لابنة عمها، لتردد بسئم:
مفيش فايدة فيكِ..
ومن ثم اتجهت لغرفتها لتزيح الغطاء السميك عنها وهي تصرخ بانفعالٍ:.

يا خم النوم الجامعة هتفوتك!.
فردت روجينا ذراعيها بالهواء وهي تحيبها بدلالٍ:
سبيني الله يكرمك يا حور هو أنا أسيب بابا بالبلد ألقيكي هنا..
ثم جذبت الأغطية مجدداً وهي تشير لها:
خمسة كمان وتعالي صحيني..
رمقتها بنظرةٍ مغتاظة وهي تضيف:
بقالك ساعة بتقولي كده ولما بجي بتكون مش أخر مرة..
ثم أضافت بمكرٍ:
أنتي هتقومي بالذوق ولا أنادي آسر يشوفله حل..
انتفضت من على الفراش بفزعٍ:
أوعي والله أزعلك..

ضحكت وهي تشير لها ساخرة:
كده مش هتنامي تاني، غيري هدومك وتعالي افطري الأكل برد من زمان..
زمت شفتيها بغيظٍ:
في قفاكي، هتلاقيني في قفاكي..
وما أن تأكدت بخروجها حتى جذبت الغطاء مجدداً وهي تهمس بسخطٍ:
عيلة هم..
أتاها صوتها المنادي بحزمٍ:
روجينا!.
نهضت سريعاً فتعثرت أرضاً لتتعالى ضحكات حور بتسلية..

ركضت خلفه مسرعة، لتتفادي تلك المزهرية التي كادت بأن تحتضن الأرض باشلائها، شعرها الطويل يترنح من خلفها بخفةٍ ودلال، نجحت أخيراً بالوصول إليه فقبضت على راسخه ثم لوت ذراعيه لتنتشل اللعبة الصغيرة من يديه، بكى طارق البالغ من العمر اثنا عشر عاماً، فصاح بها بغضبٍ شديد:
أنتي كل لعبة تاخديها مني بالعافية، أنتي بجد بقيتي وحشة أوي!
هزت ماسة رأسها بطفوليةٍ وهي تجيبه:.

ماسة مش وحشة طارق هو اللي وحش عشان مش بيرضى يلعب ماسة معاه..
دفعها بعيداً عنه بكرهٍ:
مش هلعبك معايا لاني مبحبكيش..
لمعت الدموع بعينيها فقالت بطفولية:
والله لأقول ليحيى يضربك عشان أنت بتضرب ماسة..
في أيه؟..
سؤال متلهف سأله ذو العين السوداء، بعدما أسرع بالوقوف أمامهما، فأشارت ماسة بيدها ببكاءٍ:
طارق ببضرب ماسة..

وتركتهما وركضت للأعلى سريعاً حتى ولجت لغرفة يحيى، أما بالأسفل انحنى بدر ليكون مقابله، فمرر يديه على شعره بحنانٍ:
مش احنا اتكلمنا أكتر من مرة يا طارق في الموضوع ده!.
أجابه الصغير ببكاءٍ:
هي اللي بتاخد كل لعبي يا بدر، ويعدين هي المفروض كبيرة ومش طفلة ليه بتعمل كده..
ارتسم الحزن على تعابير وجهه ومع ذلك حافظ على ابتسامته:.

مش أحنا قولنلك أكتر من مرة يا طارق أن ماسة تعبانة ولازم ناخدها على قد عقلها، هي بقت دلوقتي طفلة في سنك ومش فاكرة حاجة عن سنها وهي كبيرة، دلوقتي يحيى أخوك هيزعل منك..
حدجه بنظرةٍ مغتاظة قبل أن يقول:
يطلقها ويتجوز واحدة كبيرة..
بلهجةٍ صارمة صاح:
عيب يا طارق الكلام ده، ماسة مهما كان تبقى بنت خالك عمر ومرات أخوك الكبير..
احنى رأسه بالأرض حرجاً فاحتضنه بدر بحنانٍ..
أما بالأعلى..

إنتهى من ارتداء بذلته السوداء الأنيقة، ثم نثر البرفنيوم الخاص به ليتأكد بذاته من تصفيف خصلات شعره الأسود الطويل بانتظامٍ، عينيه الرمادية يحتلها قوقع غائم من الحزن، بشرته الداكنة تمنحه وسامة طاغية، انتهى من عقد جرفاته الخاص، ثم انحنى ليعقد رباط حذائه فتفاجئ بزوجته تدلف للغرفة باكية، نهض ليدنو منها سريعاً ثم تساءل بقلقٍ:
في أيه يا حبيبتي؟.
فركت عينيها ببكاءٍ وهي تشير له على الباب قائلة:.

طارق ضرب ماسة..
سكن الغضب ملامحه فكادت عينيه بالانخراط بموجةٍ عاصفة، يحاول قدر الامكان أن يجعل أخيه ومن حوله يستعب الحادث المؤلم الذي أصاب معشوقة دربه ليحولها من مرأة كاملة الانوثة لفتاة لا يتعدى عمرها الحادية عشر عاماً ورغم وجع قلبه لتلك الذكرى القاتلة الا انه يجاهد ليكن جوارها، رفع يحيى أصابعه ليزيح دمعاتها، ثم حضنها برفقٍ:.

متزعليش يا روح قلبي، أنا هنزل حالاً أطلع عينه وأقوله ميرفعش أيده على ماسة تاني..
تحول بكائها لضحكة مشرقة، فجذبت يديه وهي تردد بسعادةٍ:
يلا نضرب طارق..
ابتسم وهو يتأمل ضحكتها التي أنعشت قلبه، فجذب حقيبته السوداء من على سطح مكتبه:
يلا يا ستي..
وهبط معها للأسفل، فما أن رأه طارق حتى تخبئ خلف بدر بخوفٍ، فأشار له بدر سريعاً:
مفيش داعي تزعقله يا يحيى أنا خلاص فهمته غلطه..
سحبت ماسة جاكيت يحيى قائلة:.

طارق بيقول مش هيلعب ماسة معاه تاني أضربه يا يحيى..
اكتاظ غيظ الصغير فقال بعنفٍ:
مش هلعبك عشان انتي وحشة وأنانية..
أطرقت بقدميها الارض لتغوص بنوبة من البكاء كاد بأن يؤثر بحالتها النفسية المتدهورة، فأمسك يحيى ساعديها معاً وهو يصيح بغضبٍ فتاك:
قسماً بالله يا طارق لو محترمت نفسك لأكون قسمك نصين، أنت مفيش فايدة فيك أبداً، غور من وشي..
ركض الصغير للخارج باكياً، فأسرع بدر للدرج ليتفحص وضعها، قال يحيى بقلقٍ:.

شوفتي يا ماسة زعقتله ازاي، متزعليش عشان خاطري..
ادلت شفتيها السفلية وجسدها ينتفض، فحملها يحيى ليضعها برفقٍ على الأريكة بالأسفل، ثم أشار بيديه لبدر على مكان الادوية، ليستكمل حديثه المهدأ لها:
لو ماسة معيطتش هجي بدري من المصنع النهاردة وأخرجها الملاهي زي ما تحب..
اتسعت بسمتها وهي تردد بحماسٍ:
يحيى خرج ماسة؟
ابتسم وهو يجيبها:
هخرجك وأجبلك البسبوسة اللي بتحبيها..

كفت عن البكاء واتسعت ابتسامتها، فاحتضنها بلهفةٍ بعدما تمكن من تخطي المرحلة الخطرة من علاجها المتزمن، ابتعد عنها برفقٍ حينما انتبه لهبوط بدر فناوله الحقيبة الصغيرة، أخرج منها يحيى الدواء فكادت ماسة بالركض، فرفع بدر يديه حاجزاً من أمامها قائلاً:
خدي الدوا عشان يحيى يخرجك زي ما قالك..

لوت فمها بتقزز، فجذبها يحيى لتجلس جواره من جديد ثم مد يديه بالدواء، فوزعت عينيها بينه وبين الدواء بغضب ومن ثم تناولته جرعة واحدة، مرر يحيى يديه على خصلات شعرها وهو يردد باعجابٍ:
شطورة يا روح قلبي..
ابتسمت وهي تهز رأسها بفرحةٍ، فرفع صوته منادياً:
إلهام..
أتت مهرولة إليه، فأردف:
خدي ماسة أوضتها وخلي بالك منها..
أمسكت بيدها وهي تردد بابتسامة:
دي في عنيا يا أستاذ يحيى..

حملت عروستها الصغيرة، ثم لحقت بالخادمة وهي تشير له بعفويةٍ:
باي يا يحيى..
ابتسم وهو يودعها:
مع السلامة يا حبيبتي..
صعدت ماسة للأعلى بصحبة الخادمة، فجلس بدر جواره ليتنحنح قائلاً باستياءٍ:
انا مش معاك خالص باللي عملته مع طارق يا يحيى..
رفع رأسه اليه ليجيبه بحزنٍ: .
أديك شايف يا بدر بحاول أخليه يستوعب حالة ماسة وهو رافض..
قال بهدوءٍ:
مش قادر لانه عيل صغير المفروض تكلمه بهدوء..

هز رأسه باقتناعٍ، فربت بدر على كتفيه:
عارف أن اللي بتمر بيه صعب حد يتحمله، بس لازم تكون صبور زي ما أنت يا يحيى..
ثم جذب حقيبته ليشير له:
شوفه وهستناك بالعربية..

منحه ابتسامة مصطنعة يخفي بها آلآمه، بداخله وجعاً يكاد يبتلعه، ومع ذلك عليه التحلي بالصبر، نهض ليتجه لغرفة أخيه الصغير، طرق الباب بطرقاتٍ متتالية ليجدها مستلقي على الفراش بحزنٍ، فما أن رأه حتى جلس مكتف ساعديه أمام صدره بزعلٍ، ولج يحيى ثم جلس لجواره على حافة الفراش ليردد بنبرةٍ صوت حزينة:
أنا عارف أني مكنش ينفع أتعصب عليك ولا اكلمك بالأسلوب ده بس أنت مش قادر تفهمني يا طارق، وبعدين انت مش كنت بتحبها!

استمع لما قاله جيداً ثم أخبره بعفويةٍ:
كنت بحبها لما كانت دايماً بتشتريلي لعب وبتخرجني معاها، بس لما بقت تأخد العابي وبتعمل كده مبقتش أحبها..
زفر الهواء العالق برئتيه على مهلٍ، ثم عاد ليسترسل حديثه الهادئ:
ما أنا قولتلك يا حبيبي ماسة تعبانه والتعب اللي عندها ده خلاها تبقى زي العيلة الصغيرة وأحنا لازم ناخدها على قد عقلها..
قال بسخريةٍ واضحة:
يعني أنا لما هتعب هبقى طفل عنده ٥سنين!.
بتعصبٍ شديد نطق:.

وبعدين معاك بقى يا طارق!.
ثم نهض عن الفراش وإتجه للخروج ليوقف حينما ناده طارق ليخبره بحزنٍ على حاله:
خلاص هلعبها معايا ومش هضايقها تاني..
منحه ابتسامة صافية ثم استكمل طريقه للخارج ليستقر جوار بدر منطلقاً للمصانع الخاصة بتحويل الفواكه المنعشة لعصير طبيعي يحمل رمز عائلة الدهاشنة..

بسيارة أحمد
مرت جموع من الأغنام من خلف أحد الفلاحين من أمام السيارة فتفادهم بصعوبةٍ، ليصطدم رغماً عنه بأحدى السيارات التي كانت من أمامه، توقفت السيارة ليهبط منها السائق ثم فتح الباب لسيده فهبط هو الأخير بغضبٍ شديد، تابع أحمد ما يحدث بمعالمٍ منصدمة:
هاشم المغازي!
انتبه آسر لما يقوله ابن عمه فتطلع للأمام ليرى من لا يتمنى رؤياه بهذا الصباح المتناغم، ردد أحمد بخفوتٍ:
الدم هيبقى للركب!

إقترب هاشم من السيارة فما ان رأى سائقها ومن جواره حتى تملكه الحقد والغضب، فرفع صوته بجراءةٍ:
ابقى خلى كبيركم يعلمكم السواقة يا واد منك له، ولحد ما ده يحصل ابقي اقعد في بيتك كيف الحرمة اللي بتستنى عدلها..
إحتدت عينيه بنظراتٍ تزوره وقت الغضب، فسيان ما يصدق بأنه نفس الشخص العطوف الذي يساعد العاجز ويكرم ضيفه، فتح باب السيارة وهو يتحدث بصرامةٍ:
خليك بالعربية يا أحمد..
جذب معصمه ليتساءل بخوفٍ:
بلاش يا آسر.

أبعد يديه الممسكة به ثم أغلق الباب ليكون أمام الأخير وجهاً لوجه، نطاحه هاشم النظرات بكره شديد، فتحرك فكيه قائلاً:
انتوا الادرى بقعدة الحريم بالبيوت ما كبير الدهاشنة خلكم تتداروا فيها ٢٢سنة.
غلت الدماء بعروق هاشم فأطرق بعصاه الأرض وهو يردد بحدةٍ:
معتش اللي أنت يابن فهد اللي تتحدت مع كبار البلد إكده..
تعالت ضحكات آسر فقال وهو يحك مقدمة أنفه:.

كبار أيه؟، لا باين عليك لما كبرت في السن خرفت، البلد ملهاش غير كبير واحد فهد الدهشان ومن بعده بعد عمر طويل اللي واقف قدامك وش لوش..
ابتسم ساخراً:
القوالب نامت والأنصاص قامت ولا أيه؟
كسى وجهه غيمة قاتلة، فاقترب منه ثم مرر يديه على الشال الذي يضعه حول رقبته، فضغط به على جلد رقبته بقوةٍ كادت بخنقه وهو يردد بشراسةٍ وتحدٍ:.

لو مش عايزني أقل بكرامتك صحيح خد الجردة دي وغور من هنا، يكفيك شر غضب راجل عرق الدهاشنة بيجري في عروقه..
ابتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ، فدفعه آسر أرضاً ليسرع إليه سائقه، فطرق بيديه على مقدمة سيارته قائلاً بحزمٍ:
يلا يالا خد معلمك وغور من هنا قبل ما أعلم عليه وأخليه عبرة للمغازية كلهم.

صعد هاشم لسيارته سريعاً ومن ثم لحق به السائق ليغادر بسرعة الرياح التي حملتهم سريعاً بمنتصف ثرايا عتمان المغازي، أما آسر فصعد لسيارته ليخبره احمد ببسمةٍ واسعة:
حطيت عليه بالجامد يا كبيرنا..
عاد ليستلقي على مقعده وهو يردد بمرحٍ:
جرجرني للرزيلة وأنا راجل محترم وابن ناس..
تعالت ضحكات أحمد ليكمل قيادته حتى أصبح أمام المنزل..

بمنزل عتمان المغازي..
كالرعد الذي طرق السماء، أشعل هاشم النيران بأعمدة المنزل بأكمله، وخاصة بعد قصه ما حدث معه من ابن فهد الدهشان العائلة التي يمقتها كل بني المغازي بأكملهم، هاجت الدماء بعروق شقيقته التي تستمع لما يسرده على مسمعها بجوار ابنها الوحيد، فصاحت بعصبيةٍ بالغة:
أهو ده اللي ناقص، معتش غير العيال اللي يمشوا كلمتهم علينا..
حمسها هاشم بغضبه الطائش:.

قولتلك قبل سابق ياخيتي فهد وولده مش هيجبوها لبر، لازمن نقطع عرق ونسيح دم..
خرج ابنها عن صمته المطبق أخيراً حينما قال بصرامةٍ وجفاء قاتل:
ورحمة أبويا لأكسر مناخيرهم وأجبها الارض..
وأشار لوالدته بوعداً قاطع يصاحبه نبرة شيطانية مخيفة:
بكره ياما هجبلك بنت فهد الدهشان خدامة تحت رجليكِ ولو ده محصلش مبقاش أيان المغازي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة