قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية شهد الأفاعي (سنابل الحب ج3) للكاتبة منال سالم الفصل السادس عشر والأخير

رواية شهد الأفاعي (سنابل الحب ج3) للكاتبة منال سالم الفصل السادس عشر والأخير

رواية شهد الأفاعي (سنابل الحب ج3) للكاتبة منال سالم الفصل السادس عشر والأخير

سار الأمير عقاب بخطوات أقرب للركض وهو يحمل أميرته الشقراء بين ذراعيه ضاما إياها بقوة إلى صدره نحو جناحه الخاص.

لم يبعد عينيه المحترقتين شوقا إليها عن وجهها الشاحب ولو لحظة.
لقد بات مدركا بكامل إرادته أنها بالفعل من سلبت لبه وأوقعته في أسر حبها.
كذلك لم يكف عن الصياح طوال ركضه مستدعيا كل الأطباء بالقلعة لمداواة حبيبته وإنقاذها من طعنة الغدر.

تلك الطعنة الغائرة التي اخترقت فؤاده أيضا.
ولج إلى داخل جناحه، واقترب من فراشه، وأسند برفق آنيا عليه. ثم جلس إلى جوارها وهو في حالة يحسد عليها.

تأمل جرحها الغائر في صدرها بنظرات مرعوبة. لقد كانت الطعنة قريبة جدا من قلبها.

جاهد لمنع دمائها من التدفق. ووضع يديه على قلبها، فشعر بنبضاته الضعيفة، فقفز قلبه في صدره فزعا عليها.

ولكن هيهات، فها هي تغرق يديه بدمائها الساخنة، وهو جالس أمامها عاجزا عن فعل أي شيء ليمنع الموت عنها.

لم يتصور عقاب أن رؤيته لهذه الدماء تحديدا ستصيبه بالهلع الرهيب.
لقد كانت قديما أكسيره المفضل.
نعم. كان يجد نشوته المهوسة في رؤية عروق أعدائه تذبح بلا ذرة ندم، فتتفجر منها الدماء أنهرا لتزيد من لذة انتصاره.

وها هو اليوم يختبر أقسى تجاربه. مع تلك التي قلبت حياته رأسا على عقب.
تساءل مع نفسه بمرارة ممزوجة بالخوف، ونظراته لم تفارق ملامحها: -أي عقاب أشد وأقسى من هذا يا عقاب؟
كانت أنفاسها تتثاقل. شحوبها يزداد خطورة بمرور اللحظات عليها.
صرخ مجددا بهيسترية مهددا بقساوة: -أين الطبيب؟ سأقتله ببطء إن لم يأت فورا.

لم يكمل باقي تهديداته المميتة فقد اندفع إلى داخل جناحه عدد من الأشخاص، والذين أحاطوا بفراشه، وتسابقوا فيما بينهم على انقاذ تلك الشقراء.

تراجع عقاب للخلف، وتابع ما يفعلوه بترقب شديد وقلبه يكاد يخرج من بين ضلوعه صارخا بإسمها.

اشتعلت عينيه بحمرة محتقنة، وصرخ متوسلا بداخل نفسه الملتاعة: -أفيقي حبيبتي، أنا لن أتركك، سأكون معك دوما، لا يمكن أن أخسرك، فأنا أحبك، نعم أحبك كما لم أحب أحد من قبل، أنت دائي ودوائي، أنت عشقي الممنوع، أنت ك ( شهد الأفاعي )!

لم يدرك أن عبراته قد انهمرت رغما عنه وهو يتنهد بحرارة تكاد تحرق من يقف في وجهه...

لم يشعر الأمير عقاب بتلك الأعين التي تراقبه في ذهول عجيب.
رمش السلطان أسيد بعينيه غير مصدقا أن من يقف هناك هو ابنه، عديم الرحمة، متحجر القلب، قاتله الأول.

هو نفس الشخص الذي يبكي بحرقة واضحة، وبروح معذبة كرجل عادي يمتلك مشاعرا وأحاسيسا تضاهي الشعراء في أوج محافلهم.

هز رأسه مستنكرا وحدث نفسه بصدمة: -لا يمكن أن يفعل هذا؟
خشى أن يبوح لنفسه بذلك الأمر الخطير، ولكن لا تفسير أخر لديه. فتابع متوجسا:
-أيعقل أن يكون قد سقط في حبها؟
ارتفع حاجبيه مصدوما بذهول أكبر. لقد صدق حدسه، هو بالفعل غارق في حبها حتى أخمص قدميه.

قاوم الملك شيروان انهياره الوشيك. فابنته الصغيرة – قرة عينه - هي من افتدته بحياتها.

لم يكن قد استوعب بعد صدمة بقائها على قيد الحياة ليتلاشى ذلك الأمل برؤيته إياها غارقة في دمائها العذبة.

كم يقتله عجزه وضعفه وخزلانه إياها.
هو كان سندها الأول، حاميها، وقبل أي شيء أبيها الذي يحبها بكل جوارحه.
وقف على مقربة من فراشها يطالعها بنظرات متحسرة.
لقد تسبب في فقدانها.
هو من أرسلها لحتفها.
هو من اختار إقصائها عن مملكته ظنا منه أنه يحميها.
إنسابت دمعاته المقهورة على وجهه وهو ينظر بندم شديد على قراره الذي أضاع ابنته.

إقتاد الحراس القائد جاد نيجرفان إلى زنزانة فردية بعد أن تمكنوا بصعوبة من إبعاده عن القاعة.

لم يتوقف عن الصراخ للحظة مناديا باسم أميرته. وكأنه قد أصيب بمس شيطاني في عقله.

تحول وجهه للإظلام، ونظراته للقتامة الشديدة.
وأي ذنب يمكن أن يغتفر وهو من اغتال بيديه المجردتين روحها.
لقد قتلها في حين غفلة منه.
لقد سلب روحها دون أن يدرك هذا.
إصراره على تنفيذ انتقامه الأعمى لم يجعله يتأنى ليلاحظ وجودها. هو بات قاتلها.

أمسك بقضبان سجنه الحديدية، وهز جسده بعنف وهو يصرخ مهتاجا: -آآآآه يا حبيبتي، أخرجوني من هنا، يا ليتني مت قبل أن أفعل بك هذا، أنا دونا عن الجميع من أزهق روحك، يا لفاجعة قلبي. آآآه يا أميرتي!

مر الوقت بطيئا على الجميع.
الثواني باتت ثقيلة للغاية. والكل مترقب لما سيقوله الأطباء بين لحظة وأخرى.

لم يتمكن الملك شيروان من الوقوف على قدميه، فقد أرهقه هاجس التفكير أن أحدهم سيعلن عن موتها بين لحظة وأخرى.

جاهد ليبدو متماسكا، صلبا، ولكن كيف يمكن أن يكون بذلك التماسك وروحه معلقة بين الحياة والموت.

ترنح جسده قليلا فبادر السلطان أسيد بإسناده من ذراعه. فرفع الملك رأسه نحوه، وهمس بصوت مختنق وهو يرمقه بنظرات تحمل اللوم:
-جئت لأسلم لك مملكتي على طبق من ذهب من أجل حياة ابنتي، وأنت. أنت من سلبتني إياها!

رد عليه السلطان أسيد بجمود دون أن تطرف عيناه: -لم أعرف بتلك المؤامرة!
ثم زادت ملامحه قسوة وهو يضيف بصوت خبيث: -كما أن من حاول قتلي هو قائدك؟ ألا تظن أنها مكيدة منك؟
ضغط الملك على شفتيه بقوة، وهتف مدافعا من بين أسنانه: -قائدي لم يفعل إلا ما تدرب عليه حتى وإن أخطأ، ولكن أعدائك كثر يا أسيد، وإن نجوت مرة فلن تنجو من الأخرى!

ثم صمت للحظة قبل أن يتابع بسخرية مريرة وهو يغمض عينيه قهرا: -آه يا إلهي، ومن أنقذتك هي. هي ابنتي، أسيرتك!
اضطرب السلطان أسيد للحظة، وأجابه: -لم. لم أتوقع أن تفعل هذا
تحسر الملك شيروان قائلا بحزن جلي: -يا لتعاستي وشقائي! فاجعتي في ابنتي لا تعوض
رمقه السلطان أسيد بنظرات باردة، وزادت نبرته قسوة وهو يتابع قائلا: -لقد خسرت من قبل ولدي، ذبحوا على يد قائدك، أم أنك تناسيت هذا؟!

حدجه الملك شيروان بنظرات ساخطة، أيقارن أبنائه القتلة الذين استباحوا الدماء والأرض والعرض بابنته البريئة طاهرة القلب والروح. أي سخرية هذه.

لذا بلا تردد هتف بنزق دون أن يعبأ بردة فعله: -أنت من دفعتنا للحرب، أنت من ألقيت بهم في ساحات القتال من أجل جشعك وطمعك اللا محدود!

التوى ثغر السلطان أسيد قائلا بجمود: -الحرب هكذا!
رد عليه الملك شيروان بحدة وقد اشتعلت عينيه بنيران واضحة: -والآن خسرتهم، ولم يبق لك سوى ابنك، قاتل أخر سيذبح يوما ما على يد ابن أحدهم!

تحداه السلطان أسيد قائلا بصلابة: -عقاب ليس كإخوته
هتف فيه الملك شيروان بصوت هادر يحمل الغضب والمرارة في آن واحد: -لقد أصبح وحيدك، ليس لديك غيره، صدقني إن فقدته لن تستطع النهوض! سينحني ظهرك بخسارته، وستنكسر روحك بضياعه.

لقد تعمد أن يضغط على جراحه، أن يوضح له معاناته بكل صراحة.
لم يعد بحاجة للخوف أو التراجع عن الإفصاح عن مشاعره الأبوية.
لم يتحمل الأخير كلماته الموجعة، فصاح بغلظة وهو يشير بإصبعه محذرا: -لا تتدخل في علاقتي بابني الأمير!
ساد الصمت بينهما للحظات بدت كالدهر، لكن قطعها الملك شيروان قائلة بإبتسامة ساخرة وهو يتعمد رمق عدوه بنظرات مواسية:.

-أتعلم يا أسيد، أنا الآن أشفق عليك، وأعذر تصرفات أبناءك، فأنت لم تكن أبا حقيقيا لهم من قبل، أنت أرسلت أبناءك للجحيم وذبحتهم قبل أن تترك لهم حرية تقرير مصيرهم فقط من أجل أحلامك في امتلاك الأرض وما عليها، فإن خسرتهم لن يشكل الأمر فارقا معك، ستأتي بغيرهم ليحققوا حلمك المزعوم.

رد عليه السلطان أسيد بتهكم وهو يرمقه بنظرات مستهزأة: -انظروا من يتكلم الآن، وأنت لم تكن أقل شأنا مني، فأنت مثلي!
احتج الملك شيروان قائلا بصلابة: -لا، أنا كنت أحمي مملكتي من أمثالك الحاقدين الطامعين
تفاجيء السلطان أسيد من ردود غريمه القوية على الرغم من هزيمته المتكررة، إلا أنه في ذلك الظرف بدى أقوى منه حتى وإن كان ظاهريا، وكأنه يتكلم بلسان حال المنتصر، وليس من جاء خاضعا يرفع رايات الإستسلام.

وقف هو قبالته، وعمق نظراته المهددة وهو يسأله بفحيح هامس: -ألا تخشى على حياتك؟ أتملك الجرأة لتحدثني هكذا؟ أنت في قلعتي، ووسط مقاتليني، وفي لحظة يمكن أن أسلبك حياتي؟!

رد عليه الملك شيروان بتهور دون أن يأخذ لحظة للتفكير: -لم أعد أخشى أي شيء، فبعد ابنتي كل شيء يهون!
ثم أخذ نفسا عميقا ليسيطر على نوبة انفعالاته المستعرة بداخله، وتابع بحزن واضح:
-لو أدركت حقا معنى فقدان قطعة منك ستشعر حقا بما أعانيه، ولكني أحدث حجرا أصم، لا يملك أدني إحساس!

هدر فيه الأخير مغتاظا: -احذر لسانك معي يا شيروان!
تشنجت تعابير وجه الملك شيروان، وأكمل ببرود عجيب: -أتدري يا أسيد، أنت اليوم قد خسرت أهم معاركك
انعقد حاجبي السلطان أسيد متساءلا بإستغراب: -عن أي شيء تتحدث؟ أنا أتعجب من طريقتك الغريبة، فإبنتك على مشارف الموت، وأنت هنا تحدثني عن حماقات لم تحدث؟!

لاح على ثغر الملك شيروان ابتسامة ساخرة وهو يجيبه بهدوء متعمدا الضغط على كل كلمة يقولها:
-لا بل أحدثك عن عقاب، لقد تحداك، وخرج عن طوعك، أتدري لقد لان قلبه لأنه، لأنه أحب بصدق!

اتسعت حدقتي السلطان أسيد بصدمة كبيرة، فغريمه الأخر رأى بوضوح ما حاول أن ينكره، لذا هتف محتجا وقد تصلبت تعابير وجهه:
-هذه ترهات، ابني متأثر فقط ب آآآ...
قاطعه الملك شيروان بهدوء واثق دون أن يرتد له طرف: -ليست ترهات، ولن تستطيع خداعي، فأنا متأكد مما رأيت وسمعت، ابنك الأمير أعلنها صراحة دون أن ينطق بها. هو لم يعد تحت إمرتك! وقد خسرته!

خفق قلب السلطان أسيد بقوة من تلك الحقيقة المريرة. وتملكه الرعب مما سمعه فإبنه لم يعد كما كان. هو عشق وإن حاول إخفاء هذا أو حتى إنكاره. وحينما يعشق المرء يتخلى عن كل شيء. حتى عن حياته من أجل معشوقته.

استدار أحد الأطباء برأسه للخلف بعد أن انتقوا من سيتحدث بالنيابة عنهم، واقترب هو بحذر من الأمير عقاب الذي بدى متأهبا لذبح من ينبئه بأي خبر سيء عنها فقط بنظراته المخيفة.

ابتلع الطبيب ريقه، وأردف قائلا بحذر: -أدعو لها مولاي، لقد بذلنا ما في وسعنا معها
أطبق عقاب على عنقه، وحدج فيه بنظرات مميتة، وخنقه بقساوة وهو يصرخ بإنفعال من بين أسنانه الشرسة:
-أخبرني أنها ستعيش؟
حاول الطبيب الإجابة عليه وهو يكافح لإلتقاط أنفاسه. وهمس بصوت متحشرج ومتلعثم:
-س. ستعيش! إن. قدر لها هذا!

دفعه عقاب بعنف أقوى للخلف وهو يحرره من قبضته، ثم تحرك في اتجاه حبيبته المسجاة على فراشه، وتأملها بنظرات مرتاعة خائفة...

ابتعد بقية الأطباء عن الفراش بعد أن جمعوا أشيائهم لينصرفوا تاركين أياه معها...

دثرتها الوصيفة داليدا جيدا وهي تبكي حزنا عليها. وما إن رأت أميرها مقبلا حتى تنحت متراجعة للخلف وهي تكتم شهقاتها بيدها.

لم تنتظر أمره لتنصرف، بل ابتعدت بكل هدوء وهي تدعو لها بالنجاة...
عجيب أمر البشر. في لحظة يبدون كالجبال في صلابتها وشموخها، وفي لحظة أخرى يتهاوون كما تتهاوى الحصون عقب هزيمتها.

هكذا كان عقاب ذو الملامح الشرسة يتساقط من فرط خوفه.
ربما لو كان يعلم ما سيصيبها ما كان تركها، كان أخذها قسرا معه.
جثى على ركبتيه أمامها، ومد كفه المرتجف ليتلمس بشرتها الناعمة التي بدت أقرب للموتى بسكونها وشحوبها المخيف.

دار في خلده ذكرى أول لقاء لهما.
نفس الشحوب.
نفس الهلع.
نفس الحالة المربكة.
نفس النظرات المطولة.
هي لديها هالة ملائكية خاصة بها.
انحنى برأسه عليها ليلمس شفتيها بشفتيه كما حدث أول مرة.
مع فارق أنه هنا أحبها. وباتت كل ذرة في كيانه تنطق بإسمها.
وضع شفتيه على جبينها، وقبله مطولا بعمق.
ثم أغمض عينيه مقاوما تجربة إحساس فقد شيء ثمين. شيء لا يمكن تعويضه.

انفلتت عبراته من مقلتيه لتبلل وجنتيها وهو يتنهد بحرارة على وجهها، وهمس لها بصعوبة متوسلا إياها لعلها تلبي ندائه:
-لا تتركيني حبيبتي! لا ترحلي عني بعد أن تغلغلت روحك في روحي، وبت مدموغا بعشقك الأذلي!

اختنق صوته أكثر، وهو يتابع بصدق: -لقد حطمتي حصوني، واقتحمت قلبي لتتربعي على عرشه، فأين أنت الآن؟ لا تفارقيني!

استعطفها متوسلا وهو يمسح على جبينها بأنامله الخشنة: -لا تذهبي، عودي إلي، فأنا بت أسيرك يا شقرائي!
ترك عقاب العنان لمشاعره بالظهور. وحدثها كما لم يجرؤ على الحديث من قبل.
أفضى بمشاعر لم يكن يظن أنه سيمتلكها يوما.
لقد حولته تلك الشقراء الجميلة من وحش كاسر إلى حمل وديع يبكي عند أقدامها.
ظل هو على تلك الحالة لفترة طويلة، لم يعرف إن كانت مرت عليه ساعات أو أيام أو حتى أزمنة بحالها.

فهو لم يفارقها للحظة واحدة. بل أصبح كظلها الملتصق.
. تمدد إلى جوارها، وتغلغل بذراعه أسفل جسدها الهزيل ليرفعها إلى صدره، وأحاطها بهما وكأنه يحميها حتى من نفسه الهوجاء.

وكأن صوته الأجش قد وجد الطريق إليها في ظلماتها البعيدة. فبات ضوئها الذي يرشدها في غياباتها.

نعم. إستشعرت ما فاض عليها به من مشاعر مرهفة، بحثت عنها حولها. لكنها لم تجد السبيل بعد إليها، فاستسلمت بيأس للغرق في بحارها المظلمة.

مرت الأيام، ولم يطرأ جديد عليها.
فأميرته آنيا ساكنة، هادئة، وديعة، مستكينة في فراشه الذي احتواها هي فقط دونا عن سائر النساء.

لم تظهر أي إشارة للحياة سوى أنفاسها المنتظمة.
لكنه أبى الإستسلام للواقع، وتمسك بأمل عودتها إليه من جديد. ونفذ ما وعدها به.

لم يسمح لأحد بالمساس بأبيها، ولا بقائده جاد نيجرفان. وشدد على وجود حراسة خاصة بهما، وأبقاهما في جناح خاص بالضيوف.

وحافظ على حياة الأخير رغم صعوبة الأمر عليه، فقاتلها هو قاتله. وقاتلها هو خصمه الأول وعدوه الأخير.

ورغم حدوث صدام كبير مع والده السلطان إلا أنه استمد قوته من شقراءه. ولم يخنع لأوامره الصارمة بالتخلص من الإثنين أو الرحيل.

وأصغى فقط لنداء الحب وقواعده التي لا تقهر. وفعل ما أرادته أميرته وكأنها أوامر نافذة. غير قابلة للنقاش.

استصعب الملك شيروان مسألة رحيله دون ابنته. ورفض رفضا قاطعا التحرك بدونها، وأصر على البقاء حتى لو كلفته المسألة حياته التعيسة.

وتابع حالتها الصحية بمشاعر أبوية فياضة...

على الجانب الأخر، كان القائد جاد نيجرفان أسيرا لأحزانه. ومقهورا من هول عذابه.

لم يتوقف لحظة عن لوم نفسه وتأنيبها على فعلته القاتلة.
كان في دوامة لا تنتهي من العذاب المتواصل.
وخزات صدره، وآلام قلبه لم تزد إلا من احتراقه بنيران الذنب
أراد أن يراها بشدة، توسل لأبيها ليجعله يلقي نظرة واحدة عليها فيطمئن قلبه المحترق شوقا. وينحنى راكعا أمامها يطلب منها الغفران على جريمته في حقها.

لكن الملك لم يسمح له بهذا، ورفض بتاتا طلبه. فيكفي بقائه على قيد الحياة وهي في عالم أخر.

إذلال، ومهانة وإنكسار لم يعرف طعمه إلا حينما بات يستجدي عطف الجميع ليسمحوا له برؤيتها ولو من بعيد.

-لولا وعدي لها، لما أبقيت على حياتك!
قالها عقاب بنبرة مهددة وهو يقف عند باب غرفة سجنه محدجا إياه بنظرات مميتة.

التفت نحوه جاد نيجرفان مصدوما من رؤيته. وبدت تعابير وجهه غير مقروءة وهو يحاول إظهار خشونته وصلابته أمامه.

تحرك عقاب خطوتين في اتجاهه، ولم تخف حدة نظراته المخيفة، وتابع بصوت قاسي: -أنفاسك محسوبة بأنفاسها، وحينما تفيق، سأنفيك عن هنا
جاهد جاد نيجرفان ليبدو صلبا أمامه رغم حالة الخواء والتخبط بداخله.
جل ما يشغل تفكيره الآن هو رؤيتها، هو التمتع بالنظر إلى ملامحها التي حفرت في قلبه قبل عقله.

وبجرأة خطيرة، تساءل بجموح: -لما لا تدعني أراها؟
استشاط عقاب غضبا من سؤاله المستفز، ود لو يقتنص روحه فورا، ولكنه قاوم تلك الرغبة المميتة، ورد عليه بفحيح يحمل الوعيد:
-ولما لا أقتلك فأريح نفسي من جحيم رؤيتك تحيا أمامي!
رد عليه جاد متحديا: -افعلها واقتلني! ولكن دعني أراها أولا
هدر به عقاب بصوت جهوري مخيف: -لن تقترب منها!

أغمض جاد نيجرفان عينيه للحظة، عليه أن يعترف الآن بحقيقة حبه لها، وبالرغم من تحذيرات الملك شيروان له من عدم الإفصاح عن تلك المسألة بعد إقرار الأمير عقاب للزواج بها، وحتى لو أصبح الأمر مهددا لحياته، فهو لن يتراجع، لقد حسم أمره، رؤيتها فقط ستريح عذابه الدائم.

لذا استجمع شجاعته ليقول لخصمه بصراحة: -أنا. أح.
وكأن قلبه استشعر ما يريد قوله، فقاطعه مهددا بنبرة عدائية وقد توحشت نظراته: -لا تتجرأ على قولها، أنا أحذرك!
خشي جاد نيجرفان أن يتهور أكثر من هذا في إعترافه، وتراجع مضطرا عن نيته بعد أن رأى في نظرات عقاب فتيل إشعال حرب جديدة ستأتي على الأخضر واليابس إن أصر على المضي قدما، لذا بإحباط واضح ويأس جلي تراجع عنه.

رمقه الأمير عقاب بنظرات أكثر شراسة، وهمس لنفسه بإنفعال: -أحمق، لن تحبها حتى في أحلامك!
وبصوت خفيض شبه متردد، هتف جاد متسائلا: -هل. هل يمكن أن تدعني أراها؟!
هدر عقاب قائلا بغلظة صارمة وقد استشاطت عيناه: -لن يحدث أبدا، زوجتي خط أحمر!
تفوه جاد قائلا بحماقة دون أن يدري: -لم توافق عليك بعد لتصير زوجتك، وإحقاقا للحق، أنا خطبتها قبلك بكثير.

صدم عقاب من ذلك التصريح الجريء، وتحول وجهه للإظلام التام، واحتقنت عيناه بشدة، وهدر بغضب جم بعد أن أمسك به من تلابيبه ليهزه بعنف:
-أتجرؤ على قول هذا أمامي، لولا عهدي لها لكان سيفي شق صدرك إلى نصفين! وخلعت بيدي قلبك، والتهمته حيا.

كان القائد جاد نيجرفان على وشك الرد عليه، لكن باغتهما صوت الوصيفة داليدا وهي تصرخ بسعادة:
-مولاي عقاب، أفاقت الأميرة، سيدي لقد عادت للحياة!
تسمر الاثنين في مكانهما لثوان غير مصدقين ما صاحت به توا.
كان عقاب الأسرع في إدراك وفهم كلماتها التي أعادت لقلبه الميت الحياة، فأرخى قبضتيه عن جاد وركض مسرعا وهو يصيح بصرامة لحراسه:
-أوصدوا الأبواب عليه!

اندفع جاد كالمغيب نحو الباب ليخرج منه لكن تصدى له الحرس، ومنعوه من الخروج، فقاومهم بشراسة، ولكنهم تكالبوا عليه، وألقوا به للداخل ثم أغلقوا البال خلفه، فظل يطرق عليه كالمجنون بدقات عنيفة حتى كاد أن يخلعه.

لم يعرف عقاب كيف وصل إلى جناحه.
توقف ليلتقط أنفاسه عند عتبة بابه.
ثم بخطوات حذرة ومرتجفة ولج إلى الداخل.
سبقه قلبه في رؤيتها قبل عينيه المتلهفتان عليها.
كانت آنيا تئن بآلم واضح حتى في تعابير وجهها المشدودة وهي تحرك رأسها للجانبين
ارتسم على ثغره ابتسامة من نوع غريب. ولمعت عينيه بشغف لا يمكن وصف حدوده وهو يرى شقرائه البرية تتحرك أمامه بعد أن كانت ساكنة لوقت طويل.

رمشت بعينيها عدة مرات لتستوعب أنها في مكان أخر غير مخدعها.
لم يأت بمخيلتها أن تكون على فراش أخر من تتوقع رؤيته.
همست بصوت واهن: -آآ. أنت!
اقترب منها وصدره يعلو ويهبط بوضوح.
همس لها بصوت عاشق: -حبيبتي
تعجبت مما سمعته أذنيها، وظنت أنها أوهام المرض، لكنه فاجئها بتكرارها مرة أخرى على مسامعها وهو يجثو على ركبتيه أمامها:
-أحبك كثيرا
ثم جذب كفيها وضمهما إلى فمه ليقبلهما بعمق.

حدقت فيه مشدوهة، غير مصدقة مشاعره المتطرفة، وسألته بإرتجافة في نبرتها: -ك. كيف؟
أجابها بنبرة عاشق حقيقي: -لا أعرف كيف أو متى حدث هذا، ولكني أذوب في عشقك حتى النخاع!
ازدردت ريقها بتوتر. هل ذلك الوحش الكاسر يحبها هي؟ لا يمكن أن يحدث، هي مجرد أكاذيب.

استنكرت ما قاله بإرتباك بائن في نبرتها: -أنت. أنت واهم!
هز رأسه نافيا وهو يرفع كفيها إلى وجهه، ثم ألصق صدغه بهما، وهمس لها بتنهيدة شعرت بحرارتها على يديها المضمومتين:
-ليس وهما، بل حقيقة!
سحبت كفيها من راحتيه، وحركت رأسها غير مصدقة، ثم هتفت معترضة: -لا أصدق ما تقول، أي حب يمكن أن يحدث بيننا!
برر لها قائلا بهدوء آسر: -لقد حدث رغما عنا
صمتت لتستوعب ما قاله، وأغمضت عينيها بقوة.

هي تقاوم شيئا ما يحاول الظهور والطفو.
هي متخبطة في إحساسها نحوه.
فرغم شراسته إلا أنها شعرت معه بأمان غريب. بإرتياح عجيب وهي تستكين إلى صدره.

كانت تفيق بين الفنية والأخرى لترى نفسها في أحضانه دون وعي منه. فتحدق فيه للحظات قبل أن تستسلم مجددا لتغفو مطمئنة بين ذراعيه. وكأنهما جناحي السلام.

أنكرت بشدة ما يحاول قلبها فرضه عليها، وهتفت بهدوء زائف: -ولكني لا أشعر بشيء نحوك
ابتسم لها بنعومة جاذبة. واعتدل ليجلس على طرف الفراش إلى جوارها لتكون هي تحت أنظاره مباشرة. ثم أكمل بتريث:
-لا يهم الآن، يكفيني أن تعرفي مشاعري نحوك!
فتحت شفتيها لترد عليه، ولكنها رأت والدها مقبلا عليها، فتشكلت إبتسامة عريضة على ثغرها، ولمعت عيناها بسعادة...

احتضنها الملك شيروان بقوة، وضمها إليه بحنان كبير وهو يقول بمشاعر أبوية: -ابنتي آنيا
نهض عقاب عن الفراش، ولوى ثغره متذمرا، وحك مؤخرة رأسه بإنزعاج بائن على تعابير وجهه وتصرفاته. وغمغم مع نفسه:
-أوه، لا يمكن أن أحظى بأي وقت معها!
اختنق صوت آنيا قليلا وهي تمسح على ظهر أبيها لتقول برقة: -أبي، أنت هنا.

أبعدها قليلا عنه، وأمسك بذراعيها، وطالعها بنظرات مطولة وهو يهز رأسه ليقول: -نعم غاليتي، لم أرحل أبدا، بل لم أقو على الرحيل بدونك
أدمعت عيناها وهي تهمس بتنهيدة حارة: -كم اشتقت إليك يا أبي
رد عليها بمشاعر واضحة: -وأنا كذلك صغيرتي
بدت نظراتها حائرة، واضطربت إلى حد ما وهي تحاول سؤاله عن شخص ما: -وماذا عن. عن آ.
قاطعهما عقاب قائلا بهدوء دون أن تطرف عيناه: -ان كنت تتحدثين عن جاد، فهو لا يزال حيا. إلى الآن.

أدارت آنيا رأسها لتنظر نحوه، وسأله بتعجب وقد تشكلت تعابير الإندهاش على قسمات وجهها:
-لم تقتله؟!
حرك رأسه بالإيجاب وهو يرد بجمود: -نعم، لقد وفيت بوعدي لك
ضغطت على شفتيها لتهمس ممتنة: -أشكرك!
ابتسم لها ليقول بمكر: -لا شكر بين الرجل وامرأته
فغرت شفتيها مشدوهة مما قاله، وبدت مصدومة لوهلة، فقد تسربت كلماته كالمخدر في ثنايا جسدها.

تابع هو قائلا بثقة: -لقد طلبتك للزواج
سألته بتلعثم وهي تحاول الحفاظ على هدوئها: -ماذا؟
ثم التفتت برأسها نحو والدها، وسألته بنزق: -هل ما يقوله صحيح يا أبي؟
أومأ برأسه بحركة خفيفة وهو يقول: -نعم
اعترضت قائلة بغضب مصطنع: -ولم تأخذ رأيي في هذا؟
أشار عقاب بذراعه للملك شيروان وهو يقول بهدوء: -اسمح لي أيها الملك
هز الأخير رأسه متفهما، وانحنى ليقبل رأس ابنته، ثم نهض واقفا وهو يقول بحذر:
-سأترككما معا.

ثم سار مبتعدا بخطوات متمهلة، فهتفت فيه آنيا بنبرة حادة: -أبي انتظر
التفت نحوها برأسه نصف إلتفاتة، واكتفى بالإبتسام لها ليطمئنها ثم أكمل طريقه للخارج.

جلس عقاب على طرف الفراش، وزحف نحوها، فتراجعت للخلف كردة فعل. فبادلها بإبتسامة ودودة وهو يقول:
-آنيا!
ثم صمت بعدها لثوان ليأخذ نفسا عميقا، ومن ثم إستأنف حديثه قائلا بهمس: -أنا أحبك، وأنت لي
خفق قلبها لكلماته. ورأت في نظراته تلك المشاعر الغريبة التي تتراقص فيهما. فأشاحت بوجهها بعيدا لتتجنب سحرهما، وهتفت معترضة بجمود قاسي:
-أنا لم أحبك بعد لأوافق على طلبك بالزواج!

شعر عقاب بغصة ما في قلبه. وظن أنها مازالت عاشقة لأحد ما. وإن كان يعلم هويته مسبقا، لكنه أراد أن يتأكد بنفسه. فبصعوبة رهيبة سألها:
-هل مازلت تحبينه؟
التفتت فجأة نحوه لتسأله بنبرة مصدومة: -من تقصد؟
كانت المفاجأة غير متوقعة، هو مصدق لكونها عاشقة لحبيب ما. وهي التي لم تعرف سوى حب أبيها.

ولكنها تذكرت ادعائها الزائف بأنها تعشق شخصا ما، وتشتاقه بشدة.
طال صمتها، فظن عقاب أنها شردت في حبيبها، فهتف بقسوة: -أهو ذلك الغبي؟
ردت متساءلة بتعجب وقد بدت أكثر منه إندهاشا من كونه واثقا في ظنه: -من؟
أجابها بإمتعاض واضح في نبرته: -القائد جاد
هتفت مشدوهة وقد إرتفع حاجبها للأعلى: -نعم!
ثم تابعت متساءلة بتعجب: -ومن قال لك اني احبه؟

رد عليها بيأس ظاهر في نبرته بعد أن تهدل كتفيه: -أنت، أخبرتيني من قبل عن حبيبك الغامض
هزت رأسها نافية وكأن اعترافها بحب أبيها جريمة نكراء، فهتفت مبررة: -لا، لم أقصده، كنت أتحدث عن أبي
أشرقت نظراته، وتحولت تعابير وجهه للإرتخاء وهو يسألها: -حقا؟
ردت عليه بثقة وهي قاطبة لجبينها: -نعم، فأبي هو حبيبي الأول، وفارسي المغوار!
تنهد بإرتياح، وهمس لها: -كم أرحتي صدري يا آنيا.

أكملت قائلة لتنفي تهمة الحب عن نفسها بجدية: -لم أحب غيره، ولم يدق قلبي لأحد. بعد!
سألها بمكر وهو يميل بجسده نحوها: -وهل لي فرصة معك؟
ارتبكت من إضطرابه الخطير، وهمست بتوتر: -صدقا لا أعرف
مد عقاب يده ليتحسس وجنتها، فإقشعر بدنها من لمسته الناعمة.
أيعقل أن يسبب ذلك المتهور هذا التأثير المثير فيها.
كيف يحدث هذا ببساطة.
كيف تتوتر في حضرته، وينتابها أحاسيس مزعجة لا تريدها، وتقاومها قدر إستطاعتها.

شعر بإرتجافتها الخفية، وهمس لها بإستعطاف صادق: -آنيا، أعطيني الفرصة لأحبك!
سألته بخفوت وهي تنظر في عينيه مباشرة بنظرات غامضة: -أتريدني أن أحبك بعد الذي كان؟
حمل سؤالها ملخصا لأوجاع الماضي كلها.
ذكريات الحرب وما تبعها من خسائر جلية.
ابتلع ريقه ليجيبها بهدوء: -نعم، ولما لا؟
أخفضت عينيها، وتابعت بغصة: -لأني لم أثق بك بعد. لم أعرفك جيدا، أنت خصمي، بل الأحرى عدوي، فكيف تطلب مني أن أحبك وأتزوجك؟

اقترب بشفتيه من وجهها، وهمس بحرارة وهو يطبع قبلة عميقة على وجنتها: -اسمعي لصوت قلبي، هو لم يعرف الحب إلا على يديك
همست بإستجداء وهي تقاوم تيار المشاعر المتدفق في جسدها: -أرجوك، أنا آآ.
قاطعها متابعا بصوت خافت وهو يتلمس وجنتها بشفاهه: -آنيا. سأمهلك الفرصة لتفكري في الأمر. ولكن اعلمي أني تغيرت لأجلك، وسأتغير اكثر إن أعطيتي الفرصة لحبنا.

وضع إصبعه على شفتيها ليمنعها عن الكلام، وهمس لها بتنهيدة حارة: -لا تقولي شيئا!
ثم أخفض إصبعه، وأشار إلى صدرها، وتابع بهمس خفيض: -فقط انظري بقلبك، وستعرفين!

وبالفعل لم يتوان الأمير عقاب عن إظهار صدق نواياه في كل تصرفاته اللاحقة سواء في قلعته، أو حتى في غمار المعارك.

لم يحارب في جانب الظالم، بل وقف نصيرا للمظلومين حتى كاد السلطان أسيد أن يفقد عقله من تصرفات ابنه التي باتت على النقيض.

عاد الملك شيروان إلى مملكته، واصطحب معه قائده - جريح الفؤاد - جاد نيجرفان. الذي انخرط في أحزان فقدانه لحبيبته للأبد. تلك التي تخلى عنها مرغما لتحيا من جديد.

عبر عقاب عن مشاعره الصادقة لحبيبته بإغداقها في بحور العشق التي جعلتها لأول مرة تعرف ما هو الحب العميق، الحب الذي يبدل حال البشر للنقيض.

لقد ولد على يدها من جديد. وتأنى بصبر طالت معه لياله حتى يحصل على حبها وثقتها...

كانت تراقبه دوما من الشرفة وهو يقاتل بشراسة المتدربين في ساحة المعركة.
كان قلبها يضطرب بخوف غير مبرر حينما ترى أحدهم يباغته بضربة مفاجئة، وسرعان ما يرقص طربا حينما تراه يهاجم بضراوة ليطرحه أرضا ويلحق به الهزيمة.

فزعها الحقيقي يتجسد مع وجود ذلك الليث البري الذي يلهو معه من وقت لأخر وكأنها قطته الأليفة.

لمح هو امتعاض وجهها من عبثه الخطر مع أشرس الحيوانات، فإمتلأ صدره بسعادة غامرة وهو يشعر بخوفها عليه.

كم انتظر بشوق لحظة اعترافها بحبها له.
لحظة تخيلها في كل الأوقات وفي كل الأماكن بصور مختلفة.
نعم هو عرف معنى الحياة بوجودها فيها. ولم يتب عن ذنب عشقه لها حتى أتت الليلة الموعودة التي نشدها منذ فترة طويلة...

ليلة اختلف فيها كل شيء...
كانت تقف عند الشرفة تطالع القمر بعينيها الخضراوتين.
تستعيد ذكريات حياتها الصغيرة ومغامراتها القليلة.
هي لم تحظ بأي تجربة مختلفة تحمل الشجاعة مع الخوف، الجرأة مع الرهبة سوى معه. أميرها المتحجر الذي لان و رق بفعل سحرها الفطري.

التوى ثغرها بإبتسامة ناعمة وهي تتنهد مطولا. بينما أحاطها من خصرها بذراعيه ليلتصق ظهرها بصدره.

مال على عنقه ليقبله بعمق قبل أن يهمس بأنفاسه الحارة في أذنها: -ألم يحن الوقت بعد؟
ارتجف جسدها من لمسته القوية، وعاد تيار المشاعر للتدفق بقوة أكبر ليزلزل كيانها فباتت قاب قوسين أو أدنى من الإنهيار. وتساءلت بهدوء مصطنع:
-ولما العجلة؟
رد عليها بتنهيدة وهو يقبل عنقها: -لقد بت مجنونك شقرائي البرية
تشنجت بجسدها وحاولت إبعاد قبضتيه عنها وهي تهتف بتذمر: -توقفك عن نعتي بهذا اللقب!

سألها بعبث وهو يحكم ذراعيه حولها مستمتعا بمقاومتها الضعيفة في أحضانه
-لماذا؟
ردت بعبوس: -تشعرني أني جئت من أحضان الغابة
قهقه عاليا من ردها، وأجابها بعد لحظات: -هذا حقيقي
زادت عصبيتها وهي تقول: -ماذا؟
أجابها بنعومة لتزيد من إذابة حصونها الجليدية: -نعم، فيوم أبصرتك عيناي، كنت في الغابة
التوى ثغرها بإبتسامة خفيفة، وهمست بصعوبة: -أها. أمازلت تذكر؟

استنشق عبير شعرها الأشقر بأنفه وهو يجيبها بنبرة والهة: -أنا لم أنس للحظة أي شيء يخصك
أرخى قبضتيه عنها ليديرها برفق ناحيته، ثم أحاطها من خصرها، وقربها إليه، فالتصق صدره بصدرها، واحنى رأسه للأمام قليلا ليهمس بود وهو يتأملها بنظرات رومانسية:
-آنيا، حبيبتي، ألن تحني علي، وتسلميني قلبك؟
وكأن سهام الحب تنطلق من نظراته المشرقة لتهدم أخر قلاعها. فعضت على شفتها السفلى بتوتر. وهمست متساءلة وقد توردت وجنتيها:.

-ولماذا أفعل هذا؟
أجابها بصوت خفيض آسر: -أصبحت مدمنا حبك، ألا تشعري بنبضات قلبي التي تهتف بإسمك فقط
لقد كانت دقات قلبه تضرب على صدرها بلا هوداة. ولم يختلف حالها كثيرا عنه. فقلبها يعدو سريعا. ويهتف من داخل أعماقه متوسلا لها أن تستسلم. أن ترفع الراية، وتعلن عن مشاعرها...

طال صمتها، فتنهد بعمق وهو يسألها بهمس خطير ونظراته لم تفارقها لوهلة: -ألم يحن الوقت بعد؟
أخفضت عينيها لتحدق في صدره الذي ينهج علوا وهبوطا، فتلمسته بأصابعها الناعمة لتشعر بحرارة جسده وبنيران شوقه إليها.

ضمها أكثر إليه، وهمس بوله واضح في صوته ومقلتيه اللامعتين: -أه يا شقرائي! أنت كشهد الأفاعي، تقتليني بسمك بالبطيء
رفعت بصرها لتنظر إليه معاتبة، وسأله بخفوت: -أتراني هكذا؟
استجداها برجاء أكبر وقد زاد لمعان عينيه المتعطشة لفيضان حبها: -كفاكي تعذيبا لي، فقط ثقي بحبي لك!
أغرته شفتيها المنفرجتين لتقبيلهما بشراهة. فمال عليها، وتذوق بإستمتاع من شهدهما.

تفاجئت بفعلته، وتلوت بجسدها محتجة. لكنه زاد من تعميق قبلته ليبث إليها أشواقه خاصة أنه لم يجد منها مقاومة كبيرة. فقد استسلمت إلى حد ما إليه.

تراجع لشعيرات معدودة برأسه للخلف، وهمس بصوت شبه لاهث: -اسمحي لحبي أن يغزو قلبك ولو قليلا، فتلك هي أهم وأخطر معاركي معك!
وكأنها انهارت مع دفق تيار حبه الجارف، فهمست بصعوبة وأنفاسها تتلاحق: -ولكنك غزوته بالفعل
لمعت عيناه بأمل غريب، وهتف متساءلا بعدم تصديق: -ماذا تقولين؟
أسبلت عينيه لتجيبه بصوت رقيق: -لم أعرف أني أحبك إلا حينما كنت بين ذراعيك على وشك الموت!

لم يصدق أذنيه، ها هي حبيبته تعترف بحبها له بعد أن طال انتظاره حتى يأس أنه من حدوثه.

تابعت بنعومة مثيرة: -كان صوتك هو المسكن لأوجاعي، هو السبيل في ضلالاتي!
شدد من قبضتيه عليها، وسألها بصوت لاهث وقلبه يقفز من فرط السعادة: -كيف؟ ولماذا تركتيني أعاني كل هذا؟
عضت على شفتها السفلى، ثم أجابته برقة: -لم أكن متأكدة منك، خوفت أن يكون إحساسي مجرد أوهام
أرجع رأسه للخلف، وتلاحقت أنفاسه وهو يردد بحماس: -يا إلهي، لقد كنت أحترق موتا لأسمع منك كلمة رضا واحدة، والأن أكتشف كل هذا!

اشتعلت وجنتيها أكثر وهي ترى نظراته الشغوفة نحوها، وهمست بحرج: -لم يكن وقتها قد أذن بعد
اقترب برأسه منها، ولامس شفتيها وهو يسألها بصوت مغري: -والآن؟
شعر بتوترها الرهيب، فأصر قائلا وهو يمسد على ظهرها بقبضته: -أتخجلين مني؟ قوليها فقط، أروي ظمأ حبي بسماعها!
همست بتعلثم وهي تجاهد لضبط مشاعرها الثائرة: -أنا. أنا أحبك
هتف بنزق وقد زاد بريق عينيه: -وأنا وقعت في شباك عشقك كالطريدة الشاردة.

ضربته في صدره وهي تقول بعتاب: -كفاك تشبيهات مزعجة!
رد عليه مازحا وهو يضمها إليه: -حسنا، سأكتفي بشهد الأفاعي!
همست من بين أسنانها: -ثقيل
التقطت أذنيه ما قالته، فحذرها قائلا بعبث: -لا تعبثي معي هكذا
نظرت له متحدية وهي تسألها بشجاعة: -وإلا؟
رد عليها بمزاح: -وإلا سأحضر ليثي ونمرح سويا كالسابق
هزت رأسها مستنكرة وهي تقول بإبتسامة أججت المشاعر في جسده أكثر: -لن تتغير أبدا يا عقاب.

نظر لها بإغراء جريء في نبرته وهو يهمس قائلا: -كم أعشقك أسمي من بين شفتيكي!
همست بمرح وهي تسبل عينيها قليلا: -يا إلهي، أنت حقا غريب، تارة تحدثني بغرابة وتطلق تشبيهات حيوانية عني، وفي لحظة تصبح كالشعراء.

تنهد بأنفاس ألهبت وجنتها وهو يطبع قبلة عميقة عليها: -ألا ترين تأثيرك علي!
ارتجف جسدها بإثارة جلية من تأثير مشاعره عليها، وردت هامسة بخجل: -نعم أراه
وضع إصبعيه أسفل ذقنها ليرفع وجهها إليه، وطالعها بنظراته المتيمة وهو يحني رأسه ليدنو من شفتيها الساحرتين، وهمس بنعومة آسرة:
-أحبك. شقرائي البرية!

ثم أطبق على شفتيها ليبث بعمق أشواقه المشتعلة بحبها، و ليتذوق ذلك الشهد الذي أرداه قتيلا في محراب عشقها الأبدي...

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة