قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية سفراء الشيطان الجزء الأول للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثامن عشر

رواية سفراء الشيطان الجزء الأول للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثامن عشر

رواية سفراء الشيطان الجزء الأول للكاتبة ياسمين عادل الفصل الثامن عشر

مضى الكثير من الوقت و بدر جالسًا على مكتبه أمام هذا الملف الذي جهزه بنفسه ورقة ورقة، لا يصدق إنه فعل ذلك، أعد كافة الأوراق اللازمة لبيع أملاك وتين المسلوبة منها من نائل ل وتين مرة أخرى.
يفكر في صحة ما قام به، يقنع نفسه إن ذلك حقها ويساعدها في استرداده، يكفي إنه سيستعيد صورته لدى كاميليا ويثبت برائته مما نُسب له من تشبيه ب نائل.

أغلق الملف ووقف منتويًا الذهاب إلى نائل ونبضات قلبه تسابق بعضها البعض، إنه يُقدم على فعله خطيرة، فعله قد تجعله يخسر نائل وللأبد.

(في غرفة مكتب نائل )
كان يجلس ممدًا على الأريكة المواجهة للمكتب على الجانب الآخر، عقله في هذا الأمر الذي لم يجعله ينام منذ أمس، ف الأمر ليس هينًا عليه.

طفل س يولد له من أم قد افتعل معها أبشع جريمة إنسانية، خدعها متصنعًا الحب وسلبها كل ما تملك، ثم تركها مذلولة هكذا، بجانب كمّ الفضائح والشائعات الكاذبة التي طالتها. ماذا بعد؟!، حياتها مستحيلة معه، كما إنه اعتبرها منذ اليوم الأول عدو له وعليه إستئصال حقه منها.
انتشله بدر من حالة الشرود العميقة تلك وهو يسأله: - سرحان في إيه يانائل؟ خبط كذا مرة قبل ما ادخل وانت ولا رديت!

نهض منتقلًا نحو مكتبه و: - مخدتش بالي، قولي عملت إيه في موضوع المعرض؟
فكانت إجابة بدر حازمة: - ماليش علاقة بأي حاجه تخص وتين يانائل
نفخ نائل بتذمر وهو ينطق ب: - أنا دماغي مش رايقة خالص يابدر، ماشي؟، ولو على المعرض انا هتصرف فيه بنفسي
وقبل أن يتحرك نائل لمغادرة المكتب، رفع بدر هذا الملف عاليًا وردد مترقبًا: - مش هتمضي عقد الموديلات الجديدة؟
- مش وقته، عندي مشوار.

وخرج، سيتأخر موعد لقائه بها مرة أخرى بعض الوقت، ولكنه أحس بعضًا من الراحة، ف هذه الخيانة كما يسميها ليست قليلة.

بحثت داليدا عنه كثيرًا ولكنه غير موجود، منذ أن فعل فعلته بباقة الورود وقلبه گالحديد الساخن الملتهب لا تقوَ على لمسه، لم يتفهم معنى ما قام به، هل يبعث رسالة ضمنية بمعرفته بالأمر أم ماذا؟

كان يرتشف فنجان القهوة ب مقهى المشفى الخارجي عندما وجدته أخيرًا، مضت نحوه بينما كان هو شاردًا بعالم آخر، حتى لم يشعر بجلوسها قبالته إلا عندما ربتت على كفه الممسك بالفنجان، ف رفع بصره إليها، أجفلت جفونها بندم وهي تقول: - شكرًا على وجودك جمب وتين، لولاك كان زمانها ضاعت
لم يعقب، وإنما سلط تركيزه وبصره عليها وهي تتحدث متابعة: - يمكن اكون ظلمتك زمان، بس في الآخر انا أم ميهمهاش غير راحة بنتها.

ابتسم من زاوية فمه بسخرية وهو يقول: - انتي محسساني ان انتي اتقدملك عريسين واحد فقير والتاني غني أضطريتي تختاري الغني عشان تريحي بنتك وتأمني مستقبلها
- مش مسألة غنى وف...
أشار لها بكفه كي تتوقف عن الحديث، ثم قال: - أنا مش عايز افتح مواضيع قديمة ولا افتكر اللي عملتيه لما جيتلك بعد وفاة عمي سامي وقولتيلي متقفش في طريق وتين، انا سيبتها تعيش اختيارها.

ونظر للمحيط الذي يحاوطه متابعًا: - والنتيجة كانت إننا في المستشفى وقاعدين بنفكر ياترى المحروس جوزها عرف بحملها ولا لأ!

أضجر ووقف على وجهه علامات الإنزعاج بادية وهو يقول: - أنا مش عايز اتكلم معاكي في أي مواضيع عدت
وتركها، قرر العودة لرؤية وتين قبل أن يذهب لقضاء بعض حوائجه، كانت هي ممدة على جانبها محاولة تفادي ألم عمودها الفقري، لتجده فتح الباب ودلف، حاولت الإعتدال ولكنه استوقفها: - خليكي زي ماانتي، انا جاي اطمن عليكي قبل ماامشي
تنغض جبينها وهي تتسائل: - هتمشي دلوقتي؟
- آه
- طب انا كمان عايزة امشي.

جلس على المقعد القريب منها وهي تنظر إليه عن قرب هكذا، ليستطرد هو: - مينفعش، انتي لسه هتخرجي بكرة ولازم راحة تامة
تنقل بصرها على الفراغ وهي تردد بتعجب: - بس انا مش فاكرة إني وقعت على السلم! معقولة مجرد وقعة تعمل كل ده؟
توجس من بحثها بشأن هذا الموضوع، وأخفى عيناه عنها وهو يجيب بدون تردد: - المهم إنك بخير
راقبت ملامحه المتغيرة وهي تقول: - طبعًا كان نفسك إنه ينزل!
- أكيد.

لم يخفي عنها رغبته، بل قالها وهو ينظر لعينيها مباشرة وهو يتابع مقهورًا: - مكنش نفسي تربي إبن من راجل زي ده، ياعالم رد فعله هيكون إيه لما يعرف!
رمشت أولًا، ثم أطبقت جفونها و: - أنت اللي هتكون أبوه
حملق فيها لمجرد تفكيرها هذا، وتابعت من بعد ذلك: - مش هيعرف إنه إبنه، حتى بفكر اسافر لحد ما أولد وبعدها هشوف أعمل إيه.

ف قال بسخرية: - مينفعش يامدام، اللي بتقوليه مش منطقي بالمرة، وأنا مش هربي إبن الحيوان ده ولا هيتنسب ليا، أنسي ياوتين.

وبدأت نبرته تحتدم أكثر: - أنا وصلت لآخري ومش مستعد أعمل عشانك أكتر من اللي بعمله وهعمله، كفاية، أختاري وشيلي تمن اختيارك، إنما أنا؟!، لأ لأ لأ.

تشنجت وهي تستقيم في جلستها متجاهلة الألم الذي اعتراها فجأة، وصاحت فيه بنبرة مكتومة: - خلاص، ده إبني وانا اللي هربيه، مش مستنية منك تتبناه
- ياريت متستنيش، عشان هتستني كتير أوي.

نهض، ثم أنحنى لدفع كتفها دفعة هادئة لتتمد بظهرها على الفراش من جديد، علق على نظراتها وهذا الأرق المتجلي على وجهها، على طرف لسانه تقف كلمات كُثر يود لو يبوح بها فيتخلص، ولكنه سحب شهيقًا عميقًا كتمه وهو يقول: - حمدالله على سلامتك
ثم اعتدل وهمّ للخروج: - هتتأخر؟
فتوقف ليجيب ومازال ظهره لها: - مش عارف
وغادر، بالرغم من رغبة قلبه الشديدة بالإنتظار.
ولكن هناك ما هو أهم...

كانت تقرأ بتعمق وتركيز، تقرأ والسعادة تنبثق من نظراتها لهذا الخبر الذي كانت تنتظره.
ابتسمت ثريا ملء شدقيها وهي تهمس بخفوت: - كنت هزعل أوي لو مكنش ده حصل، كويس إنها جت منك
- خير؟ مبسوطة كدا ليه!
تركت ثريا جهاز ال التابلت الخاص بها ونزعت نظارتها قائلة: - وتين باعت الأتيلية بتاعها اللي كانت فرحانة وطالعة السما بيه، تخيل قهرتها عاملة ازاي دلوقتي هي وامها؟، أكيد مش لاقيين يصرفوا حتى.

ألقى نائل ب سُترته غير عابئًا بما قالت وتسائل: - أمتى ده؟
- مش عارفه، بس الأتيلية هتفتتحه واحدة اسمها نهلة بكرة وعاملة حفلة افتتاح كبيرة
ثم ضحكت و: - أكيد حاجه كبيرة أوي اللي تخليها تبيع الأتيلية اللي جايبه أبوها بفلوسي
تأفف نائل ب انزعاج وهو يرفع رأسه مستندًا بها للخلف وهو يقول: - قفلي على السيرة دي بقى، مش خلاص جبناها هي وأمها الأرض وارتاحتي، أنسيها ياماما.

تبدلت ملامح ثريا لأخرى وتجهمت قائلة: - مالك يانائل؟، حالك مش عاجبني!
- مفيش
ونهض، لم تكترث ثريا به كثيرًا، فهي الآن تعيش أسعد لحظات حياتها بعد عناء سنين طويلة من الأنتظار، سئمت من حساب الأيام التي تمر عليها وهي تتمنى اللحظة التي سترى فيها ثأرها الذي ستحصل عليه..
من الآثم ومن الذي ظلم لا تهتم، الأهم إنها حققت إنتقامها المزعوم، وقد ارتوى صدرها اليابس منذ سنوات بهذا الثأر.

يومان ودموعها لم تجف، منذ احتجاز ابنتها من قبل زوجها وهي لم تتذوق طعم النوم، كانت تمسح دموعها وهي تتحدث ل فضل تشحذه بأن يتصرف لاستعادتها: - انت أبوها وهي كانت في بيتك، يعني إيه جوزها ياخدها وانت متعملش حاجه!؟
- يعني أعمل إيه!، أروح آخد مراته منه بالعافية
تعالت شهقاتها وهي تردف باعتراض: - أمال تسيبها كدا الله أعلم بيعمل إيه معاها؟!

تنهد فضل وهو يقول: - هشام بيحب بنتك وانا عارف إنه مش هيأذيها، عشان كدا صابر عليه لحد ما يعقل وبنتك كمان تعقل وترجع عن الطلاق.

ضربت شريفة الطاولة بقدمها ف انقلبت على الأرضية، وصرخت وهي تقوم من مكانها: - أنا بقى مش موافقة يكملو مع بعض، بنتي متستاهلش تكون مع راجل زي ده
وأوفضت نحو الداخل حينما تمتم هو بسخط: - فاكراني بلطجي عشان اقف في وش الغبي ده!، ربنا يهدي بنتك وتخلصنا من القرف ده.

كان رحيم مسرعًا في خطواته وهو يدفع المقعد المتحرك الجالسة عليه وتين ليخرج بها من المشفى، حينما كانت داليدا تسير بسرعة من خلفهم وهي تقول ب امتعاض: - مش عارفه ازاي يارحيم تطاوعها وتخرجها من المستشفى وتمضي على مسؤليتك كمان!
فأجاب ب اقتضاب: - طالما هي مش مرتاحة وعايزة تروح خلاص، اللي هي عيزاه يحصل.

كانت وتين مغمضة العينين، تتنفس بعمق هذا الهواء الذي يرتطم بوجهها وعنقها، تحس براحة عقب أن حققت مبتغاها وستذهب لمنزلها بعد إلحاح شديد على رحيم، خرج بها من بوابة المشفى حتى وصل أمام سيارته حيث كانت تنتظر سوسن ممسكة بأشيائها الخاصة وحقيبة أدويتها..

فتح رحيم الباب الخلفي، ثم التفت إليها، حاوط جسمها بذراعه وهو يرفعها عن المقعد، ليلمس بوجهه وجهها ويلتصق به، أنحنى ليضعها بالداخل برفق عجيب، ضاعف آلام فوق آلامها وأوجاعها الجسمية والنفسية، ولا يشعرها بتفاقم آلامه هو أيضًا.
حتى محاولاتهُ للتخلص من هذا الطفل لم تتم بنجاح، شعور فقده لها هو الذي زرع الصبر في قلبه، وكأن القدر جعله يختار بين موتهما معًا أو حياتهما معًا هي وطفلها.

ترك المقعد ليسحبه فرد الأمن للداخل مرة أخرى، ثم أغلق رحيم الباب عليها ووقف في مواجهة داليدا ليقول بغير لطف: - خدي تاكسي من على الشارع ياداليدا هانم
حملقت فيه وهو يلتفت حول سيارته ليستقر خلف المقود وهي واقفة هكذا، تنظر لها وتين نظرات متأسفة، ف أومأت داليدا بتفهم وهي ترى السيارة تبتعد عنهم، لم تصمت سوسن طويلًا، حيث رددت: - قليل الذوق، متزعليش نفسك ياداليدا هانم
- عادي، يلا احنا نمشي.

وصل بها أخيرًا، ولحسن الحظ احتفاظ وتين بنسخة من مفتاح الشُقة، فتح رحيم الباب وأفسح لها المجال لتعبر، ف تحركت متهادية في خطاها يداها على أسفل بطنها، تسير ببطء ممل وهو من خلفها، حتى ضجر من انتظارها والسير خلفها هكذا، ف أسرع بحملها فجأة لتجد عيناها تصطدم بالسقف، شهقت مصدومة وهي تتشبث به بخوف، فنظر إليها وهو يخطو قائلًا: - متخافيش مش هوقعك.

وضعها على الفراش وسحب عليها الغطاء ليستمع إلى صوتها الخافت الذي تغلغل لمسامعه مُسببًا قشعريرة: - شكرًا
ضبط قميصه وهو ينتصب واقفًا و: - العفو، هبقى اكلمك الصبح
وهمّ للخروج حينما سألته: - لسه زعلان مني يارحيم؟
وقف بهدوء هكذا للحظات، ثم ضحك بصوت خافت وخرج بدون رد، فأجابت هي: - حقك.

استمعت لصوت الباب ينغلق، ف أدركت إنه ذهب، ضميرها المستيقظ هذه الآونة يلومها وبشدة على الخطأ الذي ارتكبته، تحسست مكان ألمها وقد تنغض جبينها، ثم مسحت على بطنها بلطف وهي تردد: - يارب تكون انت العوض بتاعي.

واستندت برأسها للخلف، أشياء كثيرة تأتي تباعًا على ذاكرتها تستعيدها الآن خلف بعضها البعض، أبيها، دلاله لها وحنوه عليها وتفضيلها على الجميع، حبيبها وزوجها، أب طفلها الذي لم يرى النور، ذاك الذي تعيش نهارها وليلها تحاول أن تكرهه وتنساه، وهذا الذي ظلمته والآن يعاني بجوارها عقب أن تركته بدون أي شفقة على حاله من بعدها، هجوم ذاكري عنيف على عقلها، جعل الآلم يتسرب لرأسها أيضًا، فلم تجد سوى النوم منقذًا لها.

كانت العيادة النسائية تعج بالمرضى من النساء والفتيات وبعض الأزواج الذين ينتظرون أدوارهم في الكشف.
ولج رحيم بوجه گجدار من الخشب الجامد، نظر في وجه الجميع قبل أن يهتف بصوت مرتفع: - كله يطلع برا
نظر الجميع لبعضهم البعض وتعالت الهمهمات فيما بينهم، ف أخرج رحيم سلاحه من خلف ظهره والمخبئ بسترته الرمادية القاتمة وصاح فيهم: - أطلعوا برا.

بدأ الجميع ينسحب بهدوء للخارج بينما ركضت الممرضة للداخل لتخبر الطبيبة بما يحدث..
أغلق رحيم باب الشُقة ودلف للداخل، حاول فتح باب غرفتها، ولكنه كان مغلقًا، ف قال بهدوء مريب: - لو واقفة ورا الباب أنصحك تبعدي عشان هضرب نار.

لم يستمع لأي رد فعل، ف عاد خطوة للخلف وأطلق على القرص المعدني لينفجر، وهنا دوت أصوات صرخات جماعية نسائية من الداخل، دفع رحيم الباب بعنف، وما أن رآها ووقع بصره المشتط عليها سألها: - أنا قولتلك إيه؟!
أزدردت ريقها مستجمعة شجاعتها وهي تجيب: - قولت إيه؟ مش فاهمة!
تقدم خطوتين من مكتبها ف ارتجفت أوصالها وهي تنظر لسلاحه بفزع: - مش قولت مش هرحمك لو غلطتي غلطة!؟
- آ، أأ، آن، معملتش حاجه؟
- أخرسي.

ارتعشت خشية أن يصيبها بمكروه، بينما ركضت الممرضة المساعدة للخارج وقد نجت بنفسها من بين مخالبه المفترسة، في اللحظة التي كان فيها رحيم يطيح بكل شئ من على سطح المكتب، وهشم الخزانة الزجاجية بسلاحه لتسقط قطع صغيره مبعثرة كل ما بداخلها، الأجهزة والمعدات الطبية المستخدمة في الإشاعات، أفسد كل شئ وحطم جميعهم بثورة هائجة لم يكن عليها من قبل، نهج وهو ينظر لحالة عيادتها التي تدمرت فعليًا، ثم نظر نحوها ليجدها تحتمي بالعمود البارز من الحائط والفزع ينطلق من بين نظراتها..

وصوته بدا خطيرًا وهو يحذرها: - انتي مشوفتنيش ومعرفتنيش، سامعاني؟
هزت رأسها عدة مرات بدون أن يصدر صوتها، فعاد يكرر: - ده تحذير ليكي، صلي شكر لربنا إني معملتش فيكي اللي اتعمل في عيادتك
ثم أضاف: - أبقي صلحي العيادة بالفلوس اللي خدتيها.

ودس سلاحه بخلفية بنطاله، خرج وصفع الباب من خلفه، فسقطت آخر قطعة زجاج كانت عالقة به، نظرت الطبيبة لعيادتها بتحسر، وحكت عنقها الذي جف فجأة من فرط الخوف، لقد نفذ وعده لها وبدد عيادتها مقابل ما فعلت من خطأ فادح كاد يودي بحياة غاليته..
وهذا ضمنيًا يعني إنه لم ولن يتسامح في سوء يخصها، إنها الخط الأحمر، المنطقة المحظورة التي لن يتخطاها الجميع، طالما إنه على سطح هذه الأرض.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة