قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السادس

دخل عاصم للقاعة التي يقبع بها جده. منحنيا نحو هامته مقبلا في إجلال. وما أن هم جده ليخبره بما كان من أمر رغبة الدكتور محمد عزام في الزواج من زهرة حتى استبقه عاصم ليزيح عنه الحرج: عرفت يا چدي. عرفت. ربنا يهنيها.
هتف عاصم الجد: بس أنت رايدها يا ولدي!
ابتسم عاصم مؤكدا في نبرة حاول أن لا تظهر بها تلك الوجيعة التي ترتع بصدره رأفة بجده: بس هي جلبها رايد غيري يا چدي. إيه هخدها غصب!؟

واتسعت ابتسامته يحاول أن يظهر عدم اكتراثه بالأمر حتى لا يحمل جده هم قلبه الموجوع: مش كل الغصب ينفع يا چدي!
انت وستي زهرة حكاية مش هتتكرر.
ربت عاصم الجد على كتف حفيده وساد الصمت ليهتف عاصم مؤكدا: چدي. مش عايز حد يعرف إني كنت طالب يد زهرة. وخصوصي أبويا وأمي.
تطلع إليه جده متعجبا: ليه يا ولدي هي عيبة! ما اللي يعرف يعرف.

أكد عاصم متضرعا: عشان خاطري يا چدي بلاش. أصلك أنا عارف أبويا وأمي ممكن يضايجوا على رفضها. وده ممكن يعمل حساسيات بين أبويا وعمي. أو بين أمي وعمتي إيمان. طب ليه من أساسه! مش عايز اللي ما بينهم يتعكرعلى موضوع ملوش عازة.
هتف به جده في إكبار: ربنا يكملك بعجلك يا عاصم. ويريح جلبك يا ولدي.

نهض عاصم مقبلا هامة جده من جديد مغادرا القاعة لحجرته، التي ما أن دلفها حتى توجه حيث يقبع حاسوبه اللوحي فتحه وبدأ يخط عليه خواطر قلبه المعذب في إحدى منشوراته خاطا في وجع: أجهدتني أحلامي الحبلى بحبك فقد استهلكني غثيانها الصباحي واشتهائها لنظرة عشق من عينيكِ أبصرتها يوما وما كانت لقلبي. فعلمت ان أحلامي حملت سفاحا فقررت وأدها والتخلص من عاري.

وزيلها في ثقة. شيخ العاشقين. ثم اغلق حاسوبه وتمدد على فراشه يتطلع لسقف غرفته التي ضاقت حتى أطبقت على أنفاسه. لكنه استعاذ ونهض ليتوضأ هامسا وهو يتوجه للقبلة على مصلاه: فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين.
مذكرا نفسه أن العبد يكون أقرب ما يكون لربه وهو ساجد. راغبا في الوصول بقلبه لحالة الطمأنينة التي بحث عنها طويلا. فهل يجدها وفؤاده مثقل بهكذا عشق!

طرقات على باب شقة المعلم خميس والكل مجتمع في مثل هذه الساعة قرب المغرب. جعلت نعمة تنهض في عجالة لتفتح. طالعتها صورة حُسن التي كانت قسمات وجهها تنم عن حزن عميق جراء مرض والدها. جذبتها نعمة لتدخل على استحياء بعد أن تمنعت قليلا.
ألقت التحية في حياء: السلام عليكم.
هتف الجميع مجيبا تحيتها مستطردا خميس في اهتمام: عامل ايه أبوكِ دلوقتي يا ببنتي!؟

أدارت رأسها نحو موضعه مجيبة: بقى أحسن الحمد لله يا معلم. مطلعتش إلا بعد ما اطمنت إنه نام بعد ما صدره هدّي شوية من الكحة اللي مكنتش بتنيمه.
هتف ناصر: طب الحمد لله. ربنا يطمنا عليه ويخليهولك يا بنتي.

جلست حُسن وهي تحاول أن تقنع نفسها أنها جاءت من أجل المحاضرات لا من أجله. وخاصة وعيونها تحاول البحث عن محياه بين الجالسين. هتفت وهي تتلعثم موجهة حديثها لخميس من جديد: أنا عارفة يا معلم إنك بتعتبر أبويا أخوك. بس أنا عايزة أعرف الباشمهندس نادر دفع كام للدكتور اللي جابه!؟ والدوا اللي اشتراه كمان بكام!؟ دول دين عليا وبإذن الله ها.

هتف خميس في تعجب: فلوس إيه ودين إيه اللي بتقولي عليهم!؟ أنتِ هتخليتي أزعل منك ولا إيه!؟
هتفت نعمة في تعجب: هو فيه بين الأهل ديون ولا حساب!؟ أخس عليكِ يا بت يا حُسن. طلعتي خايبة وأنا اللي كنت فكراكِ جدعة!
همست حُسن على استحياء: بس أصله ميحصحش يعني.

هتفت شوشو وهي قادمة من داخل المطبخ حيث كانت تحضر العشاء: اللي ميصحش هو اللي بتقوليه ده يا خايبة. على رأى أمي. تعالي بقى أنتِ والخايبة التانية. وأشارت لنعمة ابنتها مستطردة. وساعدوني في عمايل العشا. هموا ياللاه. عشان تلحقي تتعشي معانا.
امتعضت نعمة بينما هتفت حسن في اعتراض: لا مش هينفع يا خالتي والله. أصل لازم أنزل بسرعة لحسن بابا يصحى ويحتاج حاجة وميلاقنيش.

هتف خميس: انتِ مش بتقولي لسه مدياله الدوا. يبقى قدامه شوية على بال ما يقوم تكوني اتعشيتي وشربتي الشاي كمان.
هتفت نعمة الجدة: قومي ياللاه يا نعمة وخدي حُسن فأيدك. اعملوا لكم همة لحسن جوعنا.

لم تستطع الاعتراض أكثر. فتحركت خلف نعمة إلى المطبخ وكل همها رؤيته. وأن تعطيه أمانته التي فقدها لديها. والتي من المؤكد أنه يبحث عنها. لكن يبدو أنه ليس هنا. وهي لن تفرط في فرصة تجمعها به. بإعطائها أمانته مخلوق دونه.

رنين متواصل ملح على هاتفها جعلها تتأفف وهي تعدل من هندامها أمام المرآة فقد كانت على موعد عمل هام ولا تريد أن تتأخر بل عليها الوصول أبكر من الجميع حتى تتأكد أن كل الإعدادات المطلوبة على ما يرام. إلحاح الرنين الذي انقطع ثم عاود مرة أخرى جعلها تتطلع لشاشة الهاتف قبل أن تتناوله وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة واسعة وهي ترد في مرح غاب عنها لسنوات كان مخبأ فقط ولا يظهر للعلن إلا معها هاتفة: ايوه يا غلباوية يا زنانة!

هتفت بدور: أحسن منك يا براوية ياللي مبتسأليش.
قهقهت فريدة هاتفة: وأنا من أمتى هقدر عليك وعلى لسانك!؟ ياااساتر.
هتفت بدور: طب لما أنت خايفة قوي كده من لساني اللي بينقط عسل ده مش بتسألي ليه بقى!؟
هتفت فريدة متنهدة: والله يا بدور من ساعة ما نزلت الشركة مع بابا وأنا مش لاقية وقت لأي حاجة خااالص. الشغل واخد كل وقتي.
هتفت بدور مازحة: يعني بقيتي بسبس وومن ومش هنعرف نكلمك بقى!

ضحكت فريدة مؤكدة: أه بقيت بسبسوومن يا ستي. وعمك حمزة مطلع عيني. ومشيلني مسؤلية مشاريع بالملايين.
تنهدت فريدة من جديد هاتفة: سيبك بقى مني وقوليلي. أنتِ اللي أخبارك إيه في قاهرة المعز!؟ الكلية بتاعتك اخبارها تمام ولا.؟
هتفت بدور في حماسة: كنت مش متحمسة فالأول الصراحة. لكن بعد كده الدنيا بقت لذيذة. عارفة المعلم خميس اللي يعرفه جدي زكريا!؟

أكدت فريدة: أه اسمع عنه. ده جدو زكريا يغيب وينسى كل الناس ويرجع يفتكره ويقول نفسي أشوفه.
هتفت بدور بنفس النبرة المتحمسة: أهو حفيده بقى. معايا فالكلية وأتعرفنا على بعض. والصراحة شاطر جدا وبيطلع من الأوائل ع الدفعة وسهل لي حاجات كتير.
هتفت فريدة: طب كويس والله. أنا اسمع إنهم ناس طيبين. وياما جدو زكريا شكر فيهم.
أكدت بدور: فعلا ناس طيبين. ونادر شاب كويس ومحترم. وثورجي كمان.

انتفضت فريدة هاتفة في اضطراب: ثورجي يعني إيه!؟ أوعي يا بدور تتجري وراه في أي حاجة!؟ أنت.
هتفت بدور تقاطعها: هو أصلا مش موافق أكون معاه. بس أنا نزلت المظاهرة غصب عنه. و
صرخت فريدة مقاطعة في صدمة: مظاهرة يا بدور!؟ أنتِ أتجننتي!
هتفت بدور في حماس لم ينقطع: ايوه مظاهرة. بس كانت أجمل مظاهرة والنعمة.

ثم أطلقت بدور تنهيدة طويلة خارجة من أعماقها، جعلت فريدة تهتف في سخرية: مظاهرة إيه بقى دي!؟ كان بيحدفوا فيها ورد وبرفان!؟
أكدت بدور ضاحكة: لا. دي كانت مليانة عساكر وخبط ورزع. وقنابل مسيلة للدموع. وهو.
هتفت فريدة في شك: هو مين! نادر؟
هتفت بدور في حنق: نادر مين بس!؟ ما أنا قلت لك مكنش راضي أشارك معاه. أنا قصدي. منتصر منصور أبو النصر. وأبو النصر دي من اختراعي. هو قالي كده.

وقهقهت لتهتف بها فريدة: منتصر مين يا مجنونة أنتِ!؟
هتفت بدور تذكرها في لهفة: فاكرة الظابط اللي مسكنا من قفانا يوم ما كنا عايزين نعمل مقلب في.
توقفت بدور ولم تكمل اسم نزار الغمري. استشعرت صمت فريدة وشعرت بغبائها لكن فريدة أكملت في هدوء: ايوه يا بدور. يوم ما كنا عايزين نعمل مقلب في نزار الغمري. هو بقى الظابط اللي مسكنا!؟

اكملت بدور محاولة تخطي أمر نزار الغمري وقصته: ايوه. لقيته في حرس الجامعة. هو اللي سحبني من وسط دخان قنابل الغاز وأنا خلاص بقى هقع من طولي.
ثم غيرت نبرة صوتها لتصبح أشبه براوي في أحد الأفلام التاريخية هاتفة: ثم ظهر الفارس على صهوة حصانه لينقذ الأميرة من الأشرار.
قهقهت فريدة هاتفة: فارس إيه بس وأشرار مين!؟ ده أنقذهم هم منك.

ثم تنبهت فعدلت صوتها في نبرة قلقة: بدور. لو خالو حازم عرف. أنت عارفة ايه اللي ممكن يحصل بسبب جنانك ده!؟
أكدت بدور في نبرة مضطربة: متفكرنيش يا فرفر. ده أنا بقول ربنا ستر والله. ومنتصر نفسه قالي كده.
هتفت فريدة: أنا ابتديت احترم حضرة الظابط. شكله إنسان ملتزم وعاقل.
هتفت بدور مازحة: هو مش عرفني. وحياتك لهيتجنن على أيدي. والله الموفق والمستعان.

قهقهت فريدة هاتفة: طب ياللاه اقولك مع السلامة يا مجنونة هانم. أنا عندي ميتنج. وهتأخر عليه بسببك.
وصمتت للحظة. وعلى الرغم من رعونة بدور إلا أنها أدركت أن ابنة عمها لديها ما تفصح عنه فالتزمت الصمت حتى هتفت فريدة في صوت متردد: أنا قابلت نزار يا بدور. شركته عامله بزنس جامد مع شركتنا. وأنا مشرفة على التعاون بين الشركتين.
هتفت بدور في صدمة: يعني قابليته بعد السنين دي كلها!؟

هتفت فريدة تحاول اطفاء بعض المرح على الحديث الجاد: زي ما أنتِ قابلتي حضرة الضابط بعد السنين دي كلها.
هتفت بدور في حماس: طب إيه!؟
هتفت فريدة تتهرب من الإجابة التي لا تعرفها هي من الأساس: لا بقول لك إيه. أنتِ شكلك مصرة إني أتأخر. مع السلامة.
هتفت بها بدور: مع السلامة يا ستي. بس برضو مش هسيبك إلا لما تحكيلي كل حاجة بالتفصيل.

ابتسمت فريدة في شجن لم يكن بمقدور ابنة عمها إدراكه مرسوم بهذا العمق على قسماتها وهمست: بإذن الله. سلام.
همست بدور بدورها في عجالة: فريدة. خلي بالك على نفسك. سلام.
أقفلت فريدة الهاتف متنهدة. ورغم أن الحديث نكأ جرح بعض الذكريات التي تحاول جاهدة التخلص منها وحذفها من الذاكرة، إلا أنه أعطاها الطاقة التي كانت في حاجة إليها وهي في طريقها لهذا الاجتماع الهام.

حملت حقيبة يدها ومفتاح عربتها وغادرت غرفتها في هدوء تحمل قناع تلك الفتاة الجادة التي أصبحت عليها.
صرخت تسنيم في حنق وهي تضع الهاتف على أذنها مؤكدة: أنا كنت عارفة إن ده اللي هيحصل. عشان كده مكنتش موافجة عليها المرواحة دي.
هتفت نوارة تحاول تهدئة روع أمها: فيه إيه بس يا دكتورة!؟ أهدي محصلش حاچة لكل ده!؟ هو أنا بايتة فالشارع! أنا في استراحة مخصوص مجفولة عليا. أعتبريني فنبطشية يا ستي.

هتفت تسنيم بحدة من جديد: بلا نبطشية بلا بتاع. أنا معنديش بنات تبيت بره بيت أبوها. نعملوا إيه دلوجت وإحنا مش عارفين ناچي ناخدك من مطرح ما أنتِ مرزوعة!؟
تنهدت نوارة مبعدة الهاتف قليلا في محاولة للتحلي بضبط النفس وأخيرا وضعته على أذنها من جديد هاتفة: معلش يا ست الكل. ادعيلي بس وكله هايبجى تمام. يعني بس هو مين اللي كان عارف إن حادثة هتحصل ع الطريج هتخلي عبدالباسط مش عارف ياچي ياخدني!؟

تنهدت تسنيم في قلة حيلة على الطرف الأخر متسائلة: يعني أنتِ في استراحة لوحدك!؟
أكدت نوارة تحاول طمأنتها: اه والله يا ماما. وقافلة على نفسي بمفتاحها كمان. الدكتورة سميحة إدتني مفتاح خاص بيا من أول يوم. ما أنا حكيت لك يا أمي الكلام ده كله.
تنهدت تسنيم من جديد وقد استسلمت للأمر الواقع: طيب يا نوارة. خلي بالك على روحك. وانا هبجى معاكِ على التليفون. لحد ما ربنا يسهلها وعبدالباسط يعرف يوصل لك.

هتفت نوارة مؤكدة: متخافيش يا ماما والله الدنيا تمام. وأول ما يوصل عبدالباسط بإذن الله هكون عندك. تمام كده!؟
هتفت تسنيم متنهدة: على خير بإذن الله. سلام عليكم..
ردت نوارة مجيبة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

أغلقت الهاتف وتنهدت في راحة. كان الصدام بينها وبين أمها دوما متعلق بالعمل ومتطلباته. على الرغم من أن أمها طبيبة مثلها وكان الأحرى بها أن تدرك طبيعة مهنتهما. لكن على العكس من ذلك. ترغب في تقييدها بموضعها هي داخل النجع. غير راغبة في جعلها تحلق بعيدا عن مجالها خوفا عليها وحرصا على سلامتها. لكنها لن تدع مخاوف أمها تقص أجنحة أحلامها التي ستفردها في أفق التمني حتى تصل لمبتغاها.

انتفضت موضعها تشهق في صدمة. تتطلع للظلام الذي حل فجأة لانقطاع التيار الكهربائي. هدأت من روعها تكاد تبكي قهرا هامسة في ضيق: عچبك كده يا دكتورة تسنيم! أهي بركات رفضك شرفت. أنا عارفة يوم ما تجولي لأ على موضوع. هي ال لأ. هعمل إيه أنا فالحوسة دي!

تطلعت حولها تحاول رؤية أية معالم في ظل ذاك الظلام الدامس الذي يحيط بها كليا لكن لا جدوى من ذلك. ما جعلها تفتح كشاف الجوال الشخصي. تتلمس الطريق على نوره حتى وصلت لباب الاستراحة غير مدركة لما تهم بفتح الباب من الأساس. فبالتأكيد العتمة خارجه لا تختلف عن الداخل. بل ربما أكثر رهبة.

جذبت الباب في بطء ليصدر صريرا مرعبا كما يحدث بأفلام الرعب التي تبغض. ما أورثها رغبة في غلق الباب الذي انفرج قليلا والعودة لتظل موضعها الأول حتى عودة التيار الكهربائي من جديد.
همت بالتنفيذ لكن ذاك الظل الذي ظهر أمامها وكان يقترب منها جعلها تسقط هاتفها من يدها صارخة.

كانت تعتقد أن صرختها قد شقت عنان السماء إلا أنها فالواقع لم تغادر حلقها. وقع ضوء كشاف هاتفها على محياه في نفس اللحظة التي وقف بها أمام الباب هاتفا بها في نبرة ضجرة كأنما يقوم بفعل ما مرغما: لو سمحتي لازم أدخل أتأكد من المولد الكهربي عندك. أشوف مشتغلش ليه لما انقطع النور!؟

تسمرت موضعها لبرهة قبل أن تنحني ملتقطة هاتفها من الأرض متنحية جانبا تاركة له المجال ليدخل إلى ذاك الركن القصي هناك حيث يقبع المحول منحنيا يتفحصه مسلطا شعاع كشاف هاتفه على اجزائه. محاولا استكشاف موضع العطل. حاول لبعض الوقت لكنه لم يفلح. فنهض مستديرا يهم بالمغادرة مقتربا من موضعها إلا أنها هذه المرة تقسم أنها ترى عيني شبح تلمع مسلطة عليها في ذاك الظلام. لا بل إنها تقترب نحوها. كانت صرختها هذه المرة مدوية بالفعل وهي تندفع لتصطدم بصدره تتشبث به هلعا وهو غير قادر على ردعها. يقف متصلب الجسد كعمود فولاذي لا يتزحزح.

أفرغت شحنة خوفها في هذه الصرخة المذعورة. لكنها لم تترك موضعها بأحضانه وهي تلتقط أنفاسها في تتابع يوحي بمقدار رعبها من عيني سنقر كلبه الوفي الذي لا يفارقه أبدا. والذي تبعه إلى هنا دونما إدراكه.
همس بها رائف وبصوت متحشرج رغم خشونته: يا دكتورة. ده سنقر. ما فيش داعي أبدا لخوفك ده.

تنبهت أنها تلتصق به في محاولة لا واعية لاستدرار الأمان. فانتفضت مبتعدة. ولم تنبس بحرف ليستطرد هو في نزق معتاد: واضح إن في مشكلة فالمحول. وبعد خوفك اللي أنا شايفة ده. مش هينفع تفضلي هنا لوحدك. اتفضلي معايا ع البيت.
هزت رأسها رفضا. لكنه لم يدرك رفضها في عتمة المكان، معتقدا أن صمتها علامة رضا. تحرك مغادرا الاستراحة سائرا أمامها في اتجاه البيت معتقدا أنها ستطيع ما أن يأمر.

قررت الاعتراض وعدم إتباع خطواته لا لشيء إلا لمعارضته فقط. هي لا تدرك لما يحفز التعامل معه ذاك الجزء العنيد والمتصلب من شخصيتها، والذي لا تظهره بشكل كبير إلا في أحايين نادرة. هذه إحداها.

استشعرت أنها وحيدة اللحظة ما أن غادر الاستراحة. لتدرك حقيقة أنها لن تقدر على البقاء مفردها مهما حدث. الظلام عقدتها منذ كانت طفلة. هي الأشبه بجدتها زهرة في هذا الخوف من المكوث فالظلام. ربما لحادثة انغلاق خزانة الملابس عليها وهي صغيرة وعدم إدراك أحد لغيابها لفترة ما جعلها تنام داخل الخزانة خوفا من ظهور الأشباح والجنيات التي كانت تسمع أنهم يرقصون ليلا جوار الساقية المسكونة بأخر النجع قد أثرا عليها.

قررت وأد عنادها والاندفاع خلفه قبل أن يسبقها بمسافة كبيرة تسيرها وحدها بالعتمة. أغلقت باب الاستراحة في عجالة مارة بذاك الجسر الخشبي. الذي لسوء الحظ كان زلقا نوعا ما. تعثرت قدمها وهي تعبره في هرولة. لتسقط في الترعة الضحلة أسفله. وكان لسقوطها المدوي وصرختها الثانية في هذه الليلة أثرا على ذاك الذي انتفض موضعه زافرا في ضيق. عائدا أدراجه إليها مستطلعا ما الذي قد يكون أصاب هذه المذعورة على الدوام.

عادت بعد أن تناولت العشاء معهم واستطلعت أحوال أبيها لتجده ما يزل نائما بفعل الدواء. دفعت يدها بجيب عباءتها وأخرجت هاتفه المحمول. والذي سقط في غفلة منه على سرير والدها وهو يضعه عليه. قبل أن يندفع ليحضر له الطبيب.
يبدو أنه لم يدرك حتى اللحظة أنه فقده.

أو ربما أدرك لكنه لا يستطيع الوصول إليه لأنه فارغ الشحن تقريبا. كان به بعض من قدرة عندما همت بالصعود لعنده حتى تعطيه إياه بنفسها. لكنه اللحظة. توقف تماما عن العمل وبحاجة إلى إعادة شحنه من جديد. جربت شاحن هاتفها وهللت عندما بدأ في الشحن. لحظات وضغطت زر فتحه. لعله يبحث عنه محاولا الرنين عليه. وبالفعل. رن الهاتف لتندفع إليه في عجالة لترد غير مدركة لاسم المتصل. والذي لم يظهر على الشاشة لسبب أو لأخر. لكن لصدمتها. تناهى لمسامعها صوت انثوي هتف في تساؤل: نادر. نادر معايا!

استجمعت صوتها هاتفة في محاولة ثبات فاشلة: لا. الباشمهندس نادر مش موجود حضرتك. هو نسي الموبيل.
هتفت بدور على الجانب الأخر: مين معايا؟ نعمة!؟
لم تجب حُسن. وتعجبت أن الفتاة تعلم اسم أخته وتحاول التحدث معها بكل أريحية. ماذا يعني هذا!؟ هل يُعرف نعمة على الفتيات اللاتي يعرف!؟
هتفت حُسن نافية: لا حضرتك. أنا مش نعمة. الباشمهندس نسي موبايله عندنا فالورشة. وأول ما يوصل هبلغه إنك اتصلتي.

هتفت بدور: اه. طب تمام. يا ريت تبلغيه ضروري لو سمحتي.
أكدت حُسن بنبرة رسمية: حاضر. عن إذنك.
أغلقت بدور الخط في هدوء بينما قفز بعقل حُسن ألف سؤال وسؤال. ولم تجد إجابة واحدة تشفي غليلها وتطفئ بعض من تلك النيران المستعرة بين جنباتها.
انتفضت عندما سمعت أحدهم يحييه بالخارج وهو في طريقه لبيت جده. فاندفعت مسرعة تدفع إحدى ضلف نافذتها المطلعة على الحارة هاتفة في لهفة: يا باشمهندس.

تنبه لموضع النداء. توجه نحوها مستفسرا في قلق: خير يا حُسن!؟ عمي سالم كويس!؟
أكدت في هدوء: أه الحمد لله. بس أنت لك أمانة عندي.
وتركته قليلا لتخرج هاتفه من الشاحن لتعود به مادة كفها. تطلع للهاتف في تساؤل للحظة وأخيرا تنبه أنه فقد هاتفه وهو يتحسس موضع وجوده بنطاله.
مد كفه وأخذه في امتنان: متشكر يا حُسن. كويس إنه وقع عندكم وأنتِ لقيتيه.
أكدت في هدوء: المال الحلال ميضغش أبدا يا باشمهندس.

ابتسم في تأكيد لتضطرب ضربات قلبها التي أصبحت أشبه بطبول رعناء. وما أن هم بالرحيل حتى هتفت تستوقفه من جديد: يا باشمهندس.
استدار نحوها مجددا لتهتف به في اضطراب: الآنسة بدور اتصلت بك.
اضطرب بدوره هاتفا: بدور!؟ مالها!؟
صمتت وهي تتمزق وجعا على تلك اللهفة التي أبداها نحو امرأة غيرها. تمنت للحظة لو كانت تلك اللهفة المشوبة باهتمام حقيقي موجهة لها هي. هي من تستحق منه كل الاهتمام. كل اللهفة. كل الحب.

لم ترد على سؤاله المستفز. ولم ينتظر هو لنيل جوابا من الأساس. بل إنه تطلع لشاشة الهاتف في عجالة وبدأ في ضغط بعض الأزرار وهو يستدير مغادرا يدخل بيت جده. كانت موقنة أنه يحادث ندى اللحظة. موليا لها ظهر اهتمامه ومحبته. تاركا إياها تتحسر على حب يضمره قلبها وتعيش معذبة جراءه.

كان البرد قد بدأ في التسلل لعظامه رغم أن الليلة خريفية بامتياز. لا يعرف ما الذي كان يجول بخاطره إلا ذاك الشوق الذي يكابده والذي دفعه ليهتف لسماحة الذي كان يقلب الفحم المتقد بقلب الركوة لصنع المزيد من أكواب الشاي التي انتهيا لتوهما من شربها هامسا في تساؤل: أنت عمرك ما حبيت يا واد يا سماحة!؟
انتفض سماحة متطلعا إلى يونس بنظرة مستشعرا حمق السؤال مؤكدا في نبرة ساخرة: أحب كيف يعني!؟

تطلع إليه يونس في تعجب متسائلا من جديد: تحب يا سماحة! الحب يا بني آدم!؟
هز سماحة رأسه في لامبالاة مؤكدا: إيوه فاهمك يا بيه. العشج والمسخرة اللي بنشوفهم فالتلفزيون دول.
تطلع إليه يونس حانقا: تصدج إنك جفلتني بكلمتينك دول. بس أمري لله مليش حد تاني أتكلم معاه.

تطلع إليه سماحة مزمجرا: كده برضك يا بيه!؟ مبجيش سماحة عاچب دلوجت!؟ تطلع إليه يونس مهادنا: لاه. أنت تعچب الباشا يا باشمهندس سماحة. جول بجى إيه رأيك فالعشج والمسخرة!؟
هتف سماحة بنبرة حادة مؤكدا: وده يتجال فيه إيه يا بيه!؟ أهو عالم فاضية. جال عشج جال. نشوف أكل عيشنا الأول وبعدين نبجوا نحب ونتمعشج.
هتف يونس مازحا: يعني عايز تجول لي أن جلبك عمره ما دج لواحدة كده ولا كده!؟

هتف سماحة في صرامة مؤكدا: واحدة كيف يعني!؟ يا بيه العشج ده للي باله خالي. لكن اللي زي حالاتي ساحب وراه كوم لحم. ولايا ملزمين منيه. هيفكر يچيب لنفسه بلوى برضك!؟
تنهد يونس وقد أدرك حجة سماحة فهز رأسه متفهما هامسا في شجن: تصدج. أنت ربنا بيحبك. العشج واعر. دوامة ملهاش أول ولا أخر. لا تعرف بديتها كيف ولا ميتا هتخلص منِها. حتى لو خرچت. بتحسن إنه ناجصك حاچة كبيرة. مبتتعوضش أبدا.

ساد الصمت بعد كلمات يونس الذي لم يقطعه إلا طقطقة الجمر بركوة النار التي كان يونس يتطلع إليها اللحظة وكأنما هي انعكاس لساحة صدره التي تغلي في حيرة كمرجل.
مد يونس كفه بداخل جيب جلبابه وأخرجها. أخرج تلك الطاقية الصوفية التي كانت تذكارها الوحيد. وقذف به في أتون الجمر الذي ألتهمها في تلذذ.
ليهتف سماحة في تعجب متحسرا: ليه كده يا بيه!؟ كانت تنفعك فالبرد اللي داخل بتجله ده.

هتف يونس وعيونه لم تبرح موضع احتراق الطاقية: لاااه. عمرها ما كانت هتدفيني يا سماحة. معدتش بدفي. حكايتها خلصت وما بجيش من وراها إلا برد ووچع.
أدرك سماحة أن تلك الطاقية لها شأن خاص عنده فهمس بصوت متحشرج متسائلا في تردد: دي كانت تخص حد غالي على جلبك يا بيه!؟ صح!؟

أكد يونس هامسا في وجيعة: دي كانت الجلب ذاته يا سماحة. بس خلاص حكايتنا خلصت من جبل ما تبدأ من أساسه. كنت العبيط اللي اتعلج في حبال الهوى وهي ولا دريانة. أتاري الحبال دايبة وأنا طلعت المغفل والموهوم بعشج من طرف واحد.
وابتسم ساخرا مستطردا في حسرة: عارف اللي حب ولاطالشي. أهو أني الأخ ده. أوعاك تحب يا سماحة. جلبك يبجى ملك يدك. تعيش ملك زمانك. بلا عشج بلا يحزنون.

تطلع سماحة لسيده في تعاطف مشفقا على حاله ما دفع يونس لترك كوب الشاي الذي لم يرتشف إلا ربعه مندفعا لداخل الدار ليعلو صوته مترنما في شجن: غريب الحب مين فاهمه!؟
ما بين بيتفارقوا. وبين اتنين بيتفاهموا
في حد الحب ده سارقه.
وحد الحب كان وهمه.
تطلع سماحة لبرهة باتجاه موضع غياب يونس وأخيرا ألقى بعض من ماء فوق الجمر لتنطفئ جذوته قبل أن ينهض مغادرا في اتجاه عشته.

انتظره بفارغ الصبر. لكن عنتر كان رحيما به فهل عليه بموعده ولم يتأخر. جذبه إليه مغريا بطبق الفاكهة ليتقدم إليه متبخترا كعادته. ليندفع مروان في سرعة كادت تدفع به من فوق كرسيه وهو يهبط ذاك المدرج الخشبي الهابط ليصل لسرج عنتر باحثا في لهفة عن أثر خطاب.
اتسعت ابتسامته عندما وجده لكنها ما لبثت أن خبت سريعا ما أن اكتشف أن الخطاب له. وليس ردا منها على خطابه.

تنهد في ضيق. معتقدا أنها لم تفطن لحيلته أو ربما لم تره وهو يضع الخطاب. لكنه كان موقنا أنها رأته. نعم رأته وقرأت الخطاب لكنها اعادته موضعه حتى لا يكتشف ذلك.

عادت الابتسامة لتشرق من جديد على محياه وصعد المهبط في اتجاه حجرته باحثا عن ورقة وقلم في عجالة. خط بعض الكلمات على ورقة جديدة واحتفظ بخطابه القديم. لكنه عمد لحيلة ما ستجعله يكتشف اذا ما كانت تقرأ بالفعل خطاباته أم لا. وربما تجعلها هذه الحيلة تأتيه باحثة عن تفسير لما أرسل.

انتشى في سعادة للفكرة. وشرع في تنفيذها. وأخيرا عاد لعنتر الذي قضى على نصف ما بالطبق دفعة واحدة. وضع الخطاب بنفس المكان. في سرج عنتر.
وعاد يداعب جبينه رابتا على عنقه المرمري وهو يحاول التلصص على موضعها خلف جزع هذه الشجرة الضخمة عند السياج المنخفض. ليجدها تقف في ترقب في انتظار رحيل عنتر أو مجيء الخفير المعتاد لأخذه. لتختفي بدورها. وهذا ما حدث بالفعل.

تنهد في راحة وعاد أدراجه لداخل حجرته منتظرا بفارغ الصبر زيارة عنتر بالغد. ليرى إلى أي مدى نجحت خطته. أمسك بفرشاته وبدأ في نثر الألوان على وجه اللوحة في احترافية. لم يكن يع ما يرسم إلا أن أصابعه رسمت براق فضي يحمل رسالة وردية. إلى من يهمه أمرها. ومدلى من عنقه سلسال يتلألأ وعليه حرف باللغة الإنجليزية يحمل أول حروف اسمها. الذي ظل يستنتج كنهه. لكن بلا طائل. فما وجد اسما قد يكون مناسبا لها. فتطلع لحرف ال A في خيبة. والذي يتأرجح هناك من ذاك السلسال الفضي الأنيق والمعلق على حافة فراشه.

وهمس في وجل. يا ترى اسمك إيه!؟
كان ذاك الظلام الدامس معرقلا له ليصل إليها بسرعة بعد أن سمع صرختها والتي أعقبها سقوط مدوي وصوت مياه تتناثر هنا وهناك. أخيرا وصل لموضع الجسر الخشبي ليجدها تقاوم للخروج من الماء لكن ملابسها الثقيلة تشربت بالماء ما اعاق محاولتها. ويبدو أن قدمها قد أصابها بعض الضرر لتعجز في النهوض من موضعها.

لم يتردد للحظة لاحقا بها في عمق الترعة حتى وصل إليها هاتفا بها وهو يمد كفه لها: هاتي إيدك. ياللاه.
مدت كفها وجذبها بكل قوة لتنهض. لكن يبدو أن قدمها قد أصيبت بالفعل ما جعلها تترك كفه لتسقط من جديد بالماء.
لم يكن بإمكانه إلا فعل واحد.
اقترب منها وانحنى جاذبا جسدها نحوه دافعا بها محمولة بين ذراعيه. هتفت نوارة في صدمة وبصوت متحشرج باكِ: انت بتعمل إيه!؟

لم يجبها بحرف وهو يخطو بحذر داخل الماء حتى خرج منها بحرص شديد. توقف لحظة مثبتا أقدامه على الأرض الطينية التي تكون لزجة إلى حد ما على أطراف الترع. وما أن اطمئن أن الأمور تسير على ما يرام حتى بدأ في المسير بها من جديد حتى وصل لباب الاستراحة الذي دفعه بقدمه ومنه للداخل.

انزلها في رفق على أقرب الأرائك. لتنكمش هي على نفسها وشعور الخزي والخجل يسيطرا عليها. تركها مندفعا للداخل لا تعلم ماذا يفعل. غاب لدقيقة وعاد حاملا ركوة من الفحم يحاول إشعالها لتضفي على المكان بعض من الدفيء وخاصة عندما وجدها قد بدأت ترتجف جراء بلل ملابسها بشكل كامل في هذا الجو البارد. أخيرا اشتعلت النيران في الركوة بعد عدة محاولات.

كان رأسها منكس وتحتضن جسدها بكفيها رغبة في الأمان والدفء. تبصر موضع حذائه الذي انطبع على الأرض والبسط الخفيفة التي تغطيها. لم تتنبه في مرات ذهابه وإيابه أنه دخل إلى غرفة النوم وجذب الغطاء الصوفي الموجود بها ليأتي به منحنيا نحوها مدثرا إياها هامسا في نبرة هادئة: لازم تتدفي وإلا.
لم يكمل فقد تذكر أنها طبيبة وبالتأكيد تعلم ماذا سيكون مصيرها إن هي بقيت بكل هذا البلل على جسدها.

هم بالنهوض مغادرا إلا أنها استوقفته في ذعر هاتفة واسنانها تصطك بردا وارتجافا: متسبنيش لوحدي. أنا.
قاطعها بنفس الهدوء والقدرة على ضبط النفس التي قد تصل للبرود: هسيب معاكِ البرنس.
أشار لكلبه الذي كان يلهث اللحظة وهو يدور حول كوة النار في استحسان للدفء المنبعث منها.
واستطرد قائلا: دجايج وراچع.

اندفع للخارج في اتجاه داره يشعر بثقل خطواته لبلل بنطاله من الركبة إلى ما دون ذلك. وكذا بلل صدره عندما حملها بين ذراعيه.
ما أن دلف إليها حتى طالعه وجه جده الذي كان قد ظهر أمامه بكرسيه المدولب كعادته يتسلل في المساء مغفلا كل من بالبيت ليحصل على ما يريد من المطبخ والذي تمنعه عنه أمه لخوفها عليه ورغبة في عدم تعرضه لوعكة صحية جديدة بعد التي مر بها منذ فترة ليست بالبعيدة.

هم رائف بالاندفاع صاعدا الدرج إلا أن همهمات جده استوقفته ليتطلع إليه غير مدرك عمن يتحدث: الحكاية بتعيد نفسها. وكله بجي شبه بعضيه.
هتف به رائف: جصدك مين يا چد!؟
قهقه جده قهقهات متعاقبة أشبه بضحكات من فقد عقله هاتفا من بينها: مش هجولك. خلينا لما نتفرجوا ع اللي هيحصل لما يعرفوا.
هتف رائف متوجسا من جديد: هم مين دول اللي يعرفوا!؟ ويعرفوا ايه!؟

قهقه الجد من جديد دافعا بكرسيه المدولب مبتعدا تاركا رائف بحيرته التي لم تطل وقد تذكر تلك المسكينة التي تركها غارقة في بللها ترتجف بردا.

اندفع معتليا الدرج في اتجاه غرفة أمه والتي كان على يقين أنه لن يجدها مستيقظة في مثل هذا الوقت. وخاصة وقد تناولت حبة المنوم منذ ما يزيد عن الساعة. وما من مجال ليتسلل لحجرتها حتى يرى ما يمكن أن يستعيره من ملابس من أجل المبللة هناك بانتظاره. فأمه لا تنم إلا وقد أغلقت عليها باب غرفتها بالمفتاح من الداخل. كانت هذه عادتها منذ قديم الأزل وحتى في حياة أبيه.

أيقن أنه ما من مفر لما كان يحاول أن يقنع نفسه بالابتعاد عنه. تحرك بأرجل متخشبة الى تلك الحجرة البعيدة بأخر الرواق الطويل. والتي لم يعد أحد من البيت يدخلها. ولا يملك أحد غيره مفتاحها.
أخرج المفاتيح من جيب سرواله وتطلع إلى ذاك المفتاح المميز لبرهة قبل أن يدسه في موضعه ليدور عدة مرات قبل أن يدفع المقبض وتهب عليه رائحة الماضي بكل ما تحمل. ويا له من ماض!؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة