قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع عشر

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع عشر

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع عشر

هبطت وجيدة الدرج في هوادة وعيناها على تلك التي تجلس في بهو الدار تتطلع حولها في فضول، وما أن وصلت لموضعها حتى هتفت في ثبات: يا مرحب، شرفتي..
هتفت ثريا في نبرة ثابتة: مش عارفة هتجولي كده بعد ما تعرفي أنا مين ولا لاه..
هتفت وجيدة متسائلة: الضيف على راسنا أي كان مين، بس برضك أحب أعرف، أنتِ مين!؟، وشك مش غريب عليٌ..

هتفت ثريا مؤكدة: أنا الباشمهندسة ثريا سعيد الشيمي، مرات الباشمهندس سيد سليم الهواري، أكيد الاسم ده هتفتكريه كويس..
اضطربت وجيدة وتلبدت سحنتها وهتفت بنبرة عدائية: خير!؟
ابتسمت ثريا ابتسامة الواثق هاتفة: ما دام غيرتي طريقة كلامك معايا، يبقى أكيد افتكرتي ومش ناسية..
هتفت وجيدة مؤكدة بدورها: والله أني نسيت الهوارية وكل اللي بياچي من عنديهم، بس الظاهر هم اللي مش ناويين ينسونا، ويسيبونا فحالنا..

هتفت ثريا بنبرة هادئة: ننسى إيه!؟ وننساكم ليه! ما خلاص يا حاچة وچيدة اللي كان ده من زمن وولى، وسيد رغم اللي حصل فدراعه مجدمش بلاغ على ولدك چعفر، والموضوع اتجفل، يعني جدمنا الطيب من زمن، إيه في تاني!؟
هتفت وجيدة منتفضة في حنق: فيه كتير، وخلصنا، الموال ده انتهينا منيه، فارجونا بجى وسيبونا فحالنا..

هتفت ثريا بنبرة هادئة في محاولة لضبط النفس: بصي يا حاچة وچيدة، رغم إن چوزي هو اللي اتأذي من ولدك، لكن عمره ما فكر يضره، ولو كان سيد فكر ساعتها إنه يحبس ولدك چعفر مكنش حد هيلومه، واد ولدك حضرة الظابط اللي بتتباهي بيه فالرايحة والچاية، واللي استخسرتيه في بتنا، عمره ما كان هيعتب كلية الشرطة ولا يفكر فيها من أساسه لو مكنش سيد اختار الطيب ومبلغش عن ولدك..

رمقتها وجيدة بنظرة حانقة تقطر غضبا مكبوتا ولم تعقب لتستطرد ثريا هاتفة في ثبات واثق: أني مش بمن لا سمح الله، ولا چاية أجول رد چميل للي عمله چوزي واللي يده لساتها على حالها عاچزة، لكن كل اللي بجوله نفتحوا صفحة چديدة، مهما كان اللي فجلبك ونيتك من ناحية الهوارية نصفوه..

ومدت ثريا كفها هاتفة: وأدي يدي أهي، بمدها بالطيب من تاني، لجل ما نريح جلوب عيالنا، وحضرة الظابط يفرح باللي رايدها جلبه ونطلب يد بت بتك لولدي ال..
هتفت وجيدة مقاطعة إياها في سخرية ولم تعر كفها الممدودة بالا: ولدك إيه! العاچز!

دمعت عينا ثريا بعد هذه اللفظة التي أطلقتها على ولدها، لكنها حاولت الصمود بقوة ووجيدة تستطرد في عنجهية وكبر: يعني عايزاني اچوز حضرة الظابط لبتكم، اديكم راچل ملو هدومه جيمة ومركز، وتدوا بت بتي راچل عاچز، فين جسمة العدل يا باشمهندسة! ده حتى أنتِ كلك نظر..

همت ثريا بالحديث إلا أن هتاف مروان على كرسيه المدولب، من خلفه خفيره يدفعه، هو الذي قطع الحديث أمرا: ماما، مفيش أي كلمة تتقال تاني بعد اللي الحاجة وجيدة قالته..

اندفعت ثريا تقف خلف ولدها ممسكة بذراعي كرسيه المدولب بعد أن تنحى خفيره للخلف مفسحا لها المجال، وما أن همت ثريا بالاستدارة بالمقعد مستعدة للرحيل إلا واستوقفها مروان بإشارة من كفه، متطلعا نحو وجيدة هاتفا في حزم: أنتِ صح، مش هلومك على اللي قولتيه، واللي كان ممكن يكون رد أي حد فمكانك، بس هقولك كلمة واحدة، أنا راجع تاني، راجع لما أنا أشوف إني استحق أية، وساعتها برضاكِ أو لا، هاخدها من السجن ده، عن إذنك..

تحركت ثريا دافعة كرسيه أمامها راحلة، تاركين وجيدة تغلي غضبا، بينما أية تقف بالأعلى متوارية خلف أحد الأعمدة تتابع المشهد ودموعها تنساب على خديها في سخاء، وما أن أدركت رحيل مروان وأمه إلا واندفعت في اتجاه حجرتها ومنها للشرفة متطلعة نحو ثريا وهي تدفع كرسي ولدها حتى وصلا لباب السيارة ليساعده الخفير على ركوبها وأمه جواره..

كانت تعتقد أن هذه هي نهاية علاقتها بمروان، وان ما قالته جدتها بالأسفل كفيل بتدمير علاقتهما للأبد، وأن كلماته الأخيرة لها ما كانت إلا لحفظ ماء الوجه واسترداد لكبرياء أمه ليس إلا، لكن كفه التي أخرجها الآن من نافذة السيارة مشيرا لها مودعا، جعلتها تبتسم من بين دموعها لتختلط الضحكات بشهقات الدمع وقد أيقنت أنه ما زال على العهد، ولن يحيد قلبه عن قِبلة عشقها مهما حدث..

خرج منتصر بعد أن أتم مع قائده ومجموعته هذا الاجتماع الذي يحدد خطة الهجوم على مجموعة في سبيلها تسليم شحنة ضخمة من المخدرات، كانت المجموعة تجمع عن هذه العصابة الكثير من المعلومات في خلال الشهور الماضية وحان الوقت للقيام بمأمورية للإيقاع بهم..
اندفع وحيد صديق منتصر يجاوره هاتفا: أنت إيه رأيك يا باشا! هنقدر نمسكهم المرة دي!
هتف منتصر بلا مبالاة: هيحصل بإذن الله، هم هيروحوا منكم فين!

هتف وحيد متعجبا: منكم! أنت مش معانا ولا إيه!؟
هتف منتصر مغيرا الموضوع مازحا: مقلتش بقى يا عريس! الجواز حلو ولا نصرف نظر!
ابتسم وحيدا في هيام: حلو قوي يا جدع، ياللاه عقبال ما أشوفك مدهول زيي..
ابتسم منتصر في شجن: خلينا فاللي إحنا فيه، كفاية علينا مدهول واحد..
هم وحيد بالاعتراض إلا أن هاتفه رن ليبتسم في عشق مؤكدا وهو ينظر لشاشة الهاتف: دي المدام يا وحش، أكيد بتطمن عليا..

ربت منتصر على كتفه وهو يستأذنه مبتعدا للرد عليها، خطوات بسيطة وانتفض منتصر عندما سمع صرخات وحيد المهللة، والذي اندفع نحو منتصر يضمه في فرحة غامرة هاتفا في سعادة طاغية: هبقى أب يا منتصر، هبقى أب..
قهقه منتصر يشاركه سعادته، مؤكدا وهو يضمه في قوة رابتا على ظهره في محبة: الف مبروك يا وحيد، هتبقى أحسن أب فالدنيا، مبروك يا بطل..

هتف وحيد متعجلا: اه لو مكناش طالعين المأمورية دلوقتي، لكنت طرت على هناك، عايز اطمن عليها..
هتف منتصر باسما: نطلع ونرجع بالسلامة وطلبات البيبي كلها هدية مني يا باشا، بس يوصل على خير وهعلمه ضرب النار أول ما يوصل ست شهور..
قهقه وحيد: ولو بنت!؟
أكد منتصر مهمهما: لا لو بنت بقى، دي عايزة لها تحضيرات، هتجوز لها مخصوص عشان أجيب لها عريس، إحنا صعايدة ومعندناش بنات تتجوز بره، واد عمها أولى بيها..

قهقه وحيد في سعادة رابتا على كتف منتصر وهما في سبيلهما لتجهيز العدة للخروج لمأموريتهما المرتقبة..

دخل يونس إلى الحمام، كان القصد هو أخذه لحمام دافئ، لكن نيته الحقيقة كانت مشاكستها، لا يعلم لم يفعل ذلك!؟، ولم لم يظهر لها معرفته بالحقيقة وكشفه لهويتها!؟، كان يستمتع بشكل كبير بمصاحبتها والجلوس إليها يكتم ضحكاته على غفلته وحمقه، فكيف لم يكتشف كونها امرأة وهي بهذا القرب، كيف لم يفضح سرها وهي تعيش معه يظلهما سقف بيت واحد!؟ يبدو أن غرقه في حزنه على هواه الضائع بعد رفض سهام الاقتران به أعمى عينيه وغشي بصيرته عن إدراك حقائق الأمور وخاصة حقيقتها..

ملأ المغطس بالماء الدافئ والكثير من صابون الاستحمام الذي وضعه بوفرة مخلفا رغوة كثيفة، وأخيرا مد كفه للسخان الكهربائي وعبث ببعض أسلاكه حتى يخربه وأخيرا خلع ملابسه ودفع بجسده ليتمدد داخل المغطس، لحظات وهتف باسمها في حنق: يا واد يا سماحة..
كرر نداءه عدة مرات ليظهر سماحة يقف على أعتاب باب الحمام الذي اشرع بابه قليلا وهتف من الخارج: أمرك يا بيه..

هتف يونس متعللا: تعالى خش شوف المدعوج السخان ده فيه إيه!؟.
تنحنح سماحة مؤكدا بصوت متحشرج حرجا كاد أن يدفع الضحكات لحنجرة يونس والتي وأدها وهو يستمع إلى اعذاره: مبفهمش أني يا بيه فالكهربا والحاچات دي، هرمح اچيب لك الكهربائي وأرچع طوالي..
هتف يونس يوقفه متأففا: تچيب مين يا مخبل أنت وأنا على حالي ده!؟، روح سخن لي شوية ماية وهاتهم إچري..
هتف سماحة مطاوعا: حلاً يا بيه..

غاب سماحة لبعض الوقت تاركا يونس يتمدد بالماء الدافئ مستمتعا بمشاغبتها وخاصة عندما طرق سماحة الباب الذي كان ما يزل مشرعا حاملا الماء الساخن هاتفا في اضطراب: المية يا بيه..
هتف يونس ساخرا: أچي أخدها يعني ولا إيه!؟، متجيبها خلونا نخلصوا فيومنا ده..

تردد سماحة قليلا وأخيرا دخل حاملا الماء الساخن يصبه في طبق بلاستيكي عميق كان بالقرب، كانت عيناه معلقة بموضع قدمه لا يرفعها نحو ذاك المنفرج الأسارير الممدد في المغطس، قرب الطبق مع أبريق من الصاج لموضع المغطس هاتفا ليونس بصوت متحشرج: أها يا بيه، تأمر بخدمة تانية!
كان سماحة يهتف بتساؤله وهو مندفعا للخارج أساسا لكن يونس استوقفه أمرا: أه تعالى ياللاه إدعك لي ضهري..

انتفضت سماحة لا تقو على النظر نحو تلك اللوفة التي مد بها يونس كفه وهتفت متحججة وهي تندفع للخارج مهرولة متعللة بمصيبة ما سوف تقع لنسيانها أمرا ما، لم يدرك يونس كنهه وقد انفجر ضاحكا من ردة فعلها..

خرجت من محطة القطار تتلفت حولها بحثا عن عبدالباسط السائق الخاص بجدها عاصم وأهل بيته، وأخيرا هتف بها عبدالباسط وهو قادم مندفعا إليها: السلام عليكم، بجالك كتير واصلة يا أستاذة، معلش حجك عليٌ، أنا كنت بصلي العصر جلت الجطر هيتأخر شوية..
هتفت فريدة بابتسامة لكل هذه التبريرات: ولا يهمك يا عم عبدالباسط، أنا لسه خارجة حالا من المحطة، موقفتش كتير ولا حاجة..

هتف عبدالباسط وهو يتناول حقيبتها الوحيدة مندفعا نحو السيارة: طب الحمد لله، اتفضلي يا أستاذة، اتفضلي..
صعدت فريدة العربة التي ما أن سارت بضع خطوات ألا وتوقفت فجأة، هاتفا عبدالباسط في ترحاب لأحدهم، شخص ما لم تتبينه فريدة من موضعها: كيفك يا باشمهندس، ما تتفضل نوصلولك فطريجنا..
هتف الرجل الغريب منحنيا نحو عبدالباسط متطلعا نحو فريدة هاتفا: لحسن نضايق الأستاذة يا عبدالباسط!؟

لم تفه فريدة بحرف لكنها أدركت أنه رفيق رحلة القطار الذي كان يجلس جوارها، هتف عبدالباسط مؤكدا: لاه اتفضل، حتى نردوا چميلك مع الدكتورة نوارة جبل سابج..
واستدار نحو فريدة متسائلا: ولا يضايجك يا أستاذة!؟
ابتسمت فريدة مؤكدة: لا مفيش أي مضايقة خالص، ده ليه جميل عندنا، يبقى لازم نرده، وحتى لو ملوش، واضح إنه جار، والجيران لبعضها، ولا إيه!
أكد عبدالباسط في حماسة: معلوم يا أستاذة.

ودفع باب السيارة المجاور لمقعده هاتفا في ترحاب: اتفضل يا باشمهندس، اتفضل..
حصلنا البركة..
صعد الرجل جوار عبدالباسط وساد الصمت لبرهة قبل أن يستدير الرجل قليلا مادا كفه نحو فريدة معرفا نفسه: باشمهندس سامر شحاتة..
مدت فريدة كفها في رسمية اكتسبتها من لقاءات العمل التي كانت تقوم بها هاتفة بلهجة ثابتة: فريدة الهواري، اتشرفت بحضرتك..

كانت متعمدة ألا تخبره عن وظيفتها ولا من تكون بالتفصيل، فقد جاءت إلى هنا بغية أن تنسى ولو قليلا إسكندرية وكل ما كان فيها من أحداث في الفترة السابقة..
ابتسم ابتسامة مغتصبة، وعاد مستقيما بموضعه من جديد وهو يهمس في تيه: الشرف ليا..
ساد الصمت لفترة، وعلى مشارف نجع السليمانية هتف سامر: خلاص هنا يا عم عبدالباسط، كتر خيرك..
أكد عبد الباسط في أريحية: وليه يا باشمهندس، ما نوصلوك لحد البيت الكببر..

أكد سامر في إصرار وهو يندفع خارج العربة: ملوش لازمة يا راجل يا طيب، دول هم خطوتين وأبقى هناك..
وانحنى قليلا متطلعا نحو فريدة هاتفا: حمد الله بسلامة حضرتك، ومتشكر جدا ع التوصيلة..
وهتف بالتحية موليا ظهره، في اتجاه ذاك الطريق الترابي الطويل نسبيا والذي يلوح بنهايته، بيت كبير يبدو أن هذا ما كان يقصده..

اندفع عبدالباسط مستكملا طريقه نحو نجع الصالح، حتى يعاود الطريق من جديد بعد حوالي الساعتين لأخذ الدكتورة نوارة من مقر عملها هنا، حيث نجع السليمانية..

هبطت الطائرة وانهوا الإجراءات اللازمة، كان قلبها وجلا لا يتوقف عن الوجيب لحظة، ها قد تركت موضع عاشت فيه عمرا بأكمله وانتقلت لموضع أخر بلد أخر لا تعرف هل تتكيف على العيش فيه أم لا..

وهل البعاد سيكون هو الدواء الشافي والمخلص لذاك الالم الذي كان يعتصر قلبها اعتصارا عندما كانت السيارة تبتعد عن الحارة مترا استشعرت روحها تزهق بكفين من شوق قادم لا محالة، بل إنه حاضر قبل أن تبتعد خطوات حتى، يقولون إن الشوق للبعيد والغائب، لا يدركون أن الشوق يمكن أن يكون لشخص أقرب إليك من انفاسك وحاضر بين حنايا ذاكرتك كأنه ما غاب عن ناظريك لحظة، موشوم على جدار القلب الموجوع بعشقه، وذاك لو تدرون أقسى أنواع العذاب..

جالت بناظريها في كل موضع وشعيل منصرف في إنهاء إجراءاتهم وبجوارها عمتها تشعر بالإرهاق الشديد حتى أنها لم تنبس بحرف واحد منذ وطأت أقدامهم أرض المطار..
ما أن خرجوا من عتبات المطار حتى باغتتها فتاة فالعشرين من عمرها على أقصى تقدير تهتف باسم شعيل في لهفة: شعيل، شعيل..
واندفعت نحوهم مرحبة في فرحة: حمد الله بالسلامة، يا رب موفقين..

هتف شعيل باسما: الحمد لله، أهي حُسن جت معانا، وبإذن الله إقامتها معنا تريحها..
ابتسمت الفتاة في دبلوماسية ومدت كفها لحُسن تلقي التحية: شرفتي ونورتي، نتمنى تعجبك بلادنا، ما في طبعا اچمل من مصر أم الدنيا، بس بإذن الله ترتاحي هنا..
بادلتها حُسن التحية مؤكدة: اكيد بإذن الله، متشكرة قوي يا، معلش الاسم، شعيل معرفناش على بعض مظبوط..

ابتسم شعيل مؤكدا: فعلا، معرفش ليه افترضت إنك تعرفي ربى بنت عمتي، بس اللي يشفع لي إني حاسك واحدة من العيلة عارفة كل أفرادها فعلا وبتعامل على هذا الأساس..
شعرت ربى بالاضطراب لهذه الأريحية التي يتعامل بها شعيل مع حُسن وانتبهت على ابتسامة حُسن لها مؤكدة: أكيد هانبقى صحاب يا ربى..
ابتسمت ربى بالتبعية مؤكدة: أكيد..
هتفت فوزية عمة حُسن في ضيق: ياللاه بقى يا شعيل، تعبت والله وعايزة استريح..

هتف شعيل وهم يتوجهون صوب العربة التي كانت بانتظاركم بالفعل: ياللاه يا فوز، دقايق ونكون فالبيت..
همس شعيل لحُسن مشيرا لأمه: بصي، راقبي كيف هديت ولانت، هاد كان اسم الدلال المفضل لأمي، أبى رحمه الله هو اللي كان يدللها فوز، ومهما كانت حزينة أو مهمومة، بكفي تقولي يا فوز، تبقى زي ما أنتِ شايفة، ولا كأن حاجة حصلت..

اتسعت ابتسامة حُسن ما أن وعت لصدق حديث شعيل، فقد تبدلت سحنة عمتها وطلت الابتسامة على وجهها من جديد، لكن هذه الهمسات البريئة ما بينهما لم تفت على ربى التي امتعضت وهي تشعر أنها منبوذة بهذه الجماعة..
وصلوا السيارة ليفسح شعيل المجال لأمه لتصعد جواره إلا أنها رفضت مؤكدة أنها سترتاح بالأريكة الخلفية بشكل أفضل..
هم بالإشارة لحُسن لتصعد جانبه لكن ربى استغلت الموقف وصعدت فلم يفه بحرف وحُسن تصعد جوار عمتها..

ساد الصمت للحظات حتى قطعته ربى وهي تضغط على زر تشغيل الأغاني ليصدح صوت أحد مطربي الخليج المميزين:
روحي تحبك غصب عني، تحبك..
والمشكلة حبك بروحي چرحني..
وإذا شكيت تجول، وإيه ذنبك!
ذنبي هويتك، يوم حبك، ذبحني..

دمعت عينى حُسن وقد تصورت لها صورة ذاك الذي ذبحها عشقه من الشريان إلى الشريان ولا علم له بحالها، هربت من محياه لعلها تنسى فإذا كلمات بسيطة لأغنية تجعلها تذكره بكل هذا الوجع الكامن بين ضلوعها، سالت دمعة غافلتها تجري على الخد فأغتالها في سرعة حتى لا يتنبه أحد، لكن شعيل كان هناك يراقب سكناتها وشرودها من خلال مرآة السيارة، ولم يغفل عن إدراك هذه الدمعة العاصية..

أنهت عملها ومرت أمام باب البيت الكبير في طريقها لملاقاة عبدالباسط للعودة لنجع الصالح، خرج رائف من الداخل ليهتف مستوقفا إياها: يا دكتورة..
توقفت واستدارت تواجهه وقد علت الابتسامة شفتيها هاتفة: السلام عليكم، خير يا دكتور، أجصد يا رائف بيه..
ابتسم بدوره متسائلا: إيه أخبار الرواية!؟ خلصت! ولا!
أكدت نوارة بابتسامة: لا خلصت، مسبتهاش من أيدي إلا لما خلصتها، وخدت تريجة ما يعلم بها إلا ربنا..

اتسعت ابتسامته متسائلا: ليه كده!
قهقهت مجيبة: من أختي، أصلها مسمياني الچزارة، عمرها ما شافتني بقرأ إلا كتب الطب والتشريح، فجأة كده نوارة بتجرا، وإيه حكاية حب! اتصدمت يا عيني..
قهقه بدوره وهتف متسائلا في نبرة وترتها: كنتِ جافلة على جلبك جوي كده!

لم ترد بل إنها وضعت كفها في جوف حقيبتها وأخرجت الرواية تسلمها إليه وما أن مد كفه لأخذها حتى زن هاتفها مؤكدا وصول عبدالباسط، تركت الرواية بين كفيه وهتفت مستأذنة في عجالة: عبدالباسط وصل، عن إذن حضرتك أنا لازم أمشي..

واندفعت مبتعدة يتابعها بناظريه حتى اختفت، انتفض موضعه عندما تسللت مهرة إلى جواره ملتقطة الرواية من بين كفيه ويبدو أنها كانت تتابع المشهد قبل ظهورها المباغت ذاك، هاتفة في نبرة ساخرة: إيه ده! وكمان رواية قصة حب! لا ده الموضوع كبر قوي يا رائف بيه..
انتزع رائف الرواية من بين كفيها هاتفا في حنق: شيء ميخصكيش على فكرة..
هتفت به في غنج: ليه هو أنا مش خطيبتك وليا حق أغير عليك!

تطلع رائف نحوها لبرهة قبل أن ينفجر ضاحكا في سخرية: أنتِ صدجتي نفسك يا مهرة ولا إيه! اللي بينا كاااان، كان وخلص من زمن، وعلى ما افتكر يعني، أنتِ اللي نهتيه، وأنا معنديش استعداد أعيده..
هتفت مهرة في حنق: طبعا وتعيده ليه ما كفاية عليك الست الدكتورة، والإشارات والهمسات والروايات اللي رايحة جاية..

هتف رائف في غضب: مهرة! إلزمي حدك، وخدي بالك من كلامك، الدكتورة نوارة بنت ناس ومحترمة، ومش بتاعت الكلام الفارغ اللي بتجوليه ده، وأنا هجيبهالك من الأخر، أنا لا يمكن هرچع لواحدة يوم ما احتچت وچودها غابت، وچاية دلوجت تفرض نفسها على حياتي بعد ما الدنيا بجت تمام، اللي متكونش فضهري ساعة كسرتي، متستاهلش تبجى مرتي وتعيش معايا فرحتي، عن إذنك..

تركها رائف وحيدة واندفع لداخل المكتب مغلقا الباب خلفه في عنف، تطلع للرواية التي كانت ما تزال بين كفيه ليتنهد في راحة وارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة غيرت من مزاجه قليلا ليتجه صوب المكتبة واضعا الرواية موضعها ويجلس بحجرته الخاصة أمام البيانو ليبدأ العزف تلك المعزوفة التي أخبرته أنها تعشقها، قصة عشق..

جلست داخل غرفة القراءة، اعجبها الوضع والنظام داخلها، مدت كفها وتناولت إحدى الروايات لتقرأها ورغم أنها ليست من هواة القراءة لكن الجو العام ساعدها لتبدأ في الرواية التي على ما يبدو من بدايتها أنها ليست مملة، لكن بعد حوالي الصفحتين قفز محياه إلى مخيلتها، لما تتذكره الآن! جاءت إلى هنا لتنسى نزار وكل ما يمت له بصلة، استشعرت وجعا يحاصر ثباتها الداخلي الهش ولم تدرك أنها تبكي إلا عندما هتف بها عاصم في تساؤل: بتبكي ليه يا آنسة فريدة!؟ هي الرواية مؤثرة جوي كده! ده أنتِ حتى مجرتيش فيها إلا صفحتين بس..

مسحت فريدة دموعها في عجالة هاتفة تحاول الظهور بمظهر المسيطرة على مشاعرها: لا أبدا يا باشمهندس، يعني، شوية حاجات كده، وإحنا البنات دمعتنا قريبة زي ما أنت عارف..
ابتسم عاصم ساخرا: زي ما أنا عارف كيف يعني! جصدك عشان عندي أخوات بنات وكده!؟ لاه شكلك واخدة فكرة غلط خالص..

اتسعت ابتسامة فريدة ليستطرد مؤكدا: أخواتي البنات بالذات نوارة، عمري ما شفتها بتبكي، هي كانت بتبكي الكل، لكن هي دمعتها عزيزة، حتى سچود رغم إنها غلبانة فنفسها كده، لكن عمرها ما تبكي جصاد حتى أبدا ولو هتموت..
هتفت فريدة مازحة: أنا هفتن عليك واقولهم على فكرة..
أكد عاصم مبتسما: هم عارفين نفسهم، متتعبيش نفسك..
اتسعت ابتسامتها ليستطرد: ومتتعبيش دماغك بالتفكير فاللي چرى، كل حاچة هتاخد وجتها وتروح لحالها..

غابت ابتسامتها ونكست رأسها قليلا هاتفة في تساؤل: هو جدي عاصم حكالك!؟
أكد بهزة من رأسه هاتفا: چدي زكريا حكاله الموال كله وأنا كنت جاعد وياه وعرفت، والله لو كان الموضوع ما بين رچالة ما كنت سبت حجك وكنت نزلت لنزار ده ووريته مجامه، لكن الكلام كله حريم فحريم..
هتفت فريدة متوجسة: حريم إزاي يعني!؟

اكد عاصم: عمي حمزة اتأكد أن اللي ورا الموضوع ده مرت نزار، نوع من أنواع الضغط عليه عشان ترفع عليه جضية طلاج للضرر، والظاهر الاتفاجات اللي كانت ما بينهم معچبتهاش عشان كده جالت تاخد حجها بنفسها وتنتجم منك لأن واضح إن نزار جاب سيرتك جصادها كذا مرة وأفتكرت إن فيه بينكم يعني، وعد بالچواز بعد ما يتم الطلاج..

هتفت فريدة تنفي في حنق: لكن كل الكلام ده كذب، والله ما حصل أبدا، واللي بيتي وبين نزار كان علاقة رسمية جدا عشان الشغل وشراكته مع بابا..
أكد عاصم: كلنا عارفين ده، بس تجولي إيه فالنفوس المريضة، ع العموم أنا مش شايف إن أنتِ لازما تبعدي كتير، خدي وجتك معانا هنا، وارچعي وحطي صابعك في عين التخين، أنتِ على حج، وصاحب الحج لا يخاف ولا يدارى..

هزت فريدة رأسها تؤكد على صحة قوله بينما كانت سجود ونوارة بالأعلى حيث نافذة حجرتهن اللي تطل على حجرة القراءة يتابعن اللقاء الدائر في الأسفل لتهتف نوارة مرحبة: شايفة حلوين إزاي مع بعض يا بت يا سچود! يا ريته يطلبها، بت زي البدر ومتعلمة وأدب واخلاج، والله تليج بعاصم..
أكدت سجود متنهدة: أه والله، صدجتي يا نوارة، شكلهم حلو مع بعض، لايجين على بعض فعلا..

كانت زهرة تضع رأسها بين طيات روايتها، وخاصة عند ذكر عاصم، تسمع ما يدور ولا تجرؤ على رفع رأسها نحو بنات عمها وهن يتغزلن في الضيفة، متمنيات إياها كزوجة له، استطردت سجود هاتفة بنوارة: لا وبصي كمان يا نوارة لغة الچسد بتجول إيه! أخوكِ عاصم مال لجدام، يعني بيحاول يجرب لها..
تطلعت نوارة مؤكدة: ايوه صح، وايه كمان!
هتفت سجود مؤكدة: وهي كمان أهي مالت لجدام بجسمها يعني..

هتفت نوارة في فرحة: يعني ميالة هي كمان..
أكدت سجود في حماسة: صح..
هتفت نوارة مازحة: حلوة لغة الچسد دي يا بت يا سچود، اتعلمتيها فين دي!، ابجي جوليلي اتعلمها أنا كمان، ولا أنتِ إيه رأيك يا زهرة!؟
هتفت زهرة ترفع رأسها نحو نوارة متسائلة: رأيي فإيه يا نوارة! في لغة الجسد اللي عايزة تتعلميها! ولا فريدة اللي شايفة أنها لايقة على عاصم ونفسك يطلب أيدها للجواز!

هتفت نوارة في خبث: إيه ده!؟ ده أنتِ الظاهر كنتِ مركزة معانا مش مع الرواية!؟
اضطربت زهرة التي لم تستطع أن تداري حنقها من مجرد فكرة ارتباطه بأخرى ما دفعها لتخرج عن برودها جراء استفزاز نوارة لها..
نهضت تاركة الرواية من كفها منسحبة من الغرفة، لتنفجر نوارة ضاحكة ما أن غابت لتهتف بها سجود في نبرة لائمة: ليه كده يا نوارة! شكلها اضايجت..
أكدت نوارة لأختها: اسكتي يا سچود، أنتِ مش فاهمة حاچة، خليها تدوج..

تطلعت سجود إليها في تعجب ولم تعقب..

كان يتطلع إلى البعيد مستندا لظهر إحدى السيارات في انتظار خروج أحد الأصدقاء من هذا المبنى الأكاديمي الذي يقبع أمامه منذ بعض الوقت يطالع الغادي والأيب لقتل ملل الانتظار لا فضولا، يترنم بأغنية فرنسية قديمة عن النساء وقلوب الرجال التي تتحطم بأيديهن وهن يدعين الجهل بذلك..

وقعت عيناه عليها وهي تسير على استحياء كعادة فتيات العرب المتمسكات بذيهن المحتشم وغطاء رؤوسهن، رأي الكثير مثلها فالسابق، ففرنسا تعج بالوافدين إليها من أصول عربية كجدته لأمه وأبيه، فلم يكن هذا بجديد عليه، ظهر مجموعة من الشباب بطريق القناة وبدأوا في إزعاجها، لم يكن يستوضح من موضعه ماذا يقولون، لكن يكفيه أن يدرك أن هذا الفعل يثير ضيقها وعلى العكس يثير استمتاعهم والذي يدل عليه ضحكاتهم الرنانة الصاخبة..

لا ينكر أنه استشعر الضيق لأفعال هؤلاء الشباب، لكنه غض الطرف عنهم مدركا أن هذا يحدث دوما، وما من جديد، سترحل الفتاة ويكف الفتية، اعتادت الفتيات على تحمل مثل هذه الأفعال المشينة كأنهن السبب في حدوثها من الأساس، واعتاد مثل هؤلاء الفتية التعدي بلا رادع..

لكن ما حدث آثار تعجبه وجعله يعتدل في مجلسه متطلعا لما يحدث في إعجاب وهو يرى الفتاة تجذب حقيبتها من على كتفها مطوحة بها فالهواء لتصطدم برأس ذاك الفتى الأحمق الذي تجرأ وفكر في مد كفه نحو جسدها، سقط الشاب أرضا وعلى عكس المتوقع ضحك عليه أقرانه..

ما دفع الشاب لينهض سريعا راغبا في نيل ثأر بلا حق من تلك التي جعلته مثارا للسخرية، هم بالتجرأ عليها من جديد وكان سلاح الحقيبة حاضرا هذه المرة أيضا، لكنه ببعض الخبرة أدرك أن الفتى قد احطاط ولن يجدها نفعا هذه المرة استخدام حقيبتها..

وهذا ما حدث بالفعل، فقد قبض الفتي على حقيبتها ما أن طوحت بها متفاديا أن تصل لرأسه، وما أن هم بجذب الحقيبة ليلق بها أرضا حتى تلحق بها صاحبتها، إلا وقد قرر هو التدخل، ممسكا بالحقيقة بين الخصمين هاتفا بالشاب: سيب الشنطة بأدب وأمشي من سكات، كفاية لحد كده..

هتف الشاب باستخفاف: وإن مسبتهاش هتعمل لي إيه يا توتو!؟.
ضحك الشباب لاستهزاء صديقهم على محياه المنمق ومظهره الذي لا يوح مطلقا بأنه قادر على العراك مع بعوضة..
كان يبدو أجنبيا لحد كبير بهذا الشعر الكستنائي المقصوص بحرفية وعيونه الزيتونية، ولكنته التي على الرغم من اجادته للعامية المصرية بعد أربع سنوات قضاها بمصر ما زالت تحمل بعض من غرابة عندما يثور غضبه.

لم ينبس الشاب المنقذ بكلمة بل مد كفه بحرفية وسرعة مطبقا على ذراع الشاب هاتفا به في لهجة أمرة: سيب الشنطة..
تركها الشاب مستسلما عندما استشعر وجعا قاسيا يستشري بكامل ذراعه..
هتف بها في عجالة أمرا من جديد: خدي شنطتك وأمشي..

تطلعت إليه في اضطراب ليهتف صارخا رغبة في ترك الفتي الذي أصبح يئن وجعا تحت قسوة ضغطه على ذراعه بهذه الطريقة الاحترافية التي تعلمها من دروس الدفاع عن النفس التي تلقاها يوما: ياللاه، اسرعي..

نطق الكلمة الأخيرة بفرنسية متقنة جعلت سجود تتطلع إليه في تعجب معتقدة أنها ربما أخطأت في إدراك الكلمة، لكنها تنبهت أنها لم تخطئ فقد نطقها من جديد ما جعلها تحمل الحقيبة التي كانت قد سقطت من يد الفتى بالفعل مندفعة لتبتعد عن موضع العراك..
ولم يصل لمسامعها وهي تقفز لداخل سيارة الأجرة التي مرت اللحظة لحسن الحظ إلا صوت شخص خرج من مبنى قريب يهتف باسمه في ذعر: چوزيف، چوزيف..

كرر المنادي الاسم مرتين في هلع، دون أن تدرك ما حدث وهي ترحل بالسيارة على عجالة وناظرها مثبت على ذاك الشخص الذي ظهر لها من العدم، كما فرسان العصور الوسطى في رواياتها التي تطالعها وتعايش أبطالها ليل نهار بأحلام يقظتها التي لا تنتهي..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة