قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني عشر

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني عشر

رواية زاد العمر و زواده الجزء الرابع للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني عشر

كان ممددا على فراشه في صبيحة يوم الجمعة. لا يشغله إلا حُسن وما طرأ بينهما مم أحداث مؤخرا. منذ وفاة أبيها وهو لا يعلم ما الذي اعتراه. أصبح أكثر ثورة وانفعالا على كل ما يخصها أو يمت لها بصلة.
ما له وحُسن! منذ متى تعلقت أفكاره وخواطره بها!

تنهد مؤكدا لنفسه. أن ما يستشعره تجاهها ما هو إلا شعور مضاعف بالواجب وإحساس بالمسؤلية لكونها أصبحت وحيدة بلا عائل أو سند. هذا هو السبب الحقيقي الذي يدفعه لمثل هذه المشاعر التي تؤرقه نحوها. اطمأن لهذا الخاطر. وما أن هم بالخروج من الغرفة حتى أتاه صوت أمه هاتفة: يا نادر. هات أي هدوم عندك عايزة غسيل. خلينا نخلص قبل صلاة الجمعة.
هتف مؤكدا: حاضر.

توجه نحو مشجب ملابسه ومد كفه نحو بنطاله الجينز الذي كان قد قرر أن يضبط به بعض المقاسات فتركه عند الأسطى وحيد الترزي ونسيه لفترة ولم يذكره إلا البارحة. فمر عليه ليأخذه. مد كفه بشكل اعتيادي لجيب السروال ربما هناك شىء ما منسي يُفقد أثناء غسيله. اصطدمت أصابعه بشىء معدني. أخرجه في هوادة ليترنح أمام ناظريه مثيرا ذاك الخافق بيسراه عندما تذكر أنه عقدها الصدىء الذي وجده بين طيات غطاء فراشه. ذكراها التي تركتها لاهية عن فقدانها لتؤرقه وتعبث باستقرار باله وهناء خاطره.

انتفض ما أن جاءه نداء أمه تتعجله لجلب الملابس المتسخة. ما اضطره ليدفع بالعقد لأعماق أحد الأدراج. مغادرا الحجرة وملابسه المتسخة بين ذراعيه. تركها جانبا وبدأ في الاستعداد للصلاة. وصورة ذاك العقد المترنح تؤرق مخيلته.

ثلاث ليالِ وهي في عالم أخر. ثلاث ليالِ وهي لا تدرك من أمرها وأمر من حولها شيئا. تنام بالحبوب المنومة وما أن تغفو حتى تبدأ في الهمهمات التي تؤكد معاناتها. وإذا ما استيقظت ظلت تحدق بالفراغ لا تعبء لوجودهم حولها. أو محاولاتهم الحثيثة لتجاذب أطراف الحديث معها وإعادتها لطبيعتها وتفاعلها معهم.
كان عاصم يتابع ذلك لا قبل له على تحمل ما تعانِ. يعلم مقدار ألمها وقدر خسارتها.

فما من أمر يعوض تلك الخسارة الفادحة في زوجها الذي رحل بعد أيام من عقد قرانهما.
كان يمر على حجرتها لا قبل له على الدخول. فقد كان الجميع حولها في الأيام الماضية. لكن اليوم خف ضغط الزوار الذين كانوا يتناوبون على البقاء معها. طرق الباب في وجل وما أن جاءه الرد بالإيجاب من الداخل. حتى دفع الباب في هوادة هاتفا بصوته العميق: السلام عليكم.
ووقع ناظره عليها مستطردا: كيفها دلوجت!؟

استشعر اضطرابا داخليا ما دفعه ليحيد بناظريه عنها موجها إياه للطبيب الذي كان موجودا يتابع الحالة على سجل تسجيلها المعلق على مقدمة الفراش.
هتف الطبيب في ألية: تمام الحمد لله.
تساءل عاصم: يعني هتتحسن!
تطلع الطبيب نحوها مؤكدا: بإذن الله.

تنبه الطبيب أن نظرات زهرة معلقة بموضع عاصم أينما حل. بينما استشعر عاصم أن عليه المغادرة فتطلع لإيمان أمها التي كانت تجلس في استكانة وعلى وجهها علامات الوجع والحسرة على ما آل إليه حال ابنتها الوحيدة وبكريتها.
هتف عاصم بزوجة خاله: مش محتاچة حاچة يا مرت خالي!؟
ابتسمت ايمان في شجن مؤكدة: عايزة سلامتك يا حبيبي. كفاية عليك تعبك ومچيتك للسؤال وأنت كمان تعبان. خلي بالك على حالك.

هز عاصم رأسه مطمئنا وهتف في هدوء: لو احتچتوا أي حاچة أنا موچود چاركم فأي وجت يا مرت خالي نادميني. سلام عليكم.
وخرج عاصم من الحجرة وعيونه تحارب حتى لا تتوجه إليها في غفلة منه. لكنه أخيرا ألقى بنظرة متعجلة واندفع مغادرا. إلا أن الطبيب سأل إيمان في فضول: هو يقرب لكم إيه!؟
أكدت ايمان: ده واد عمها.

ابتسم الطبيب والذي كان الوحيد الذي لاحظ أن زهرة لم تبد أي رد فعل منذ أيام إلا عندما هل عاصم من هذا الباب. ما دفعه ليؤكد على إيمان هاتفا: طب أنا شايف إن بن عمها ده هيكون له دور في علاجها. يا ريت تعملي باللي هو قاله وتخليه يجي كتير يقعد معاها.

زمت إيمان ما بين حاجبيها متعجبة لكنها لم تبد أي اعتراض على نصيحة الطبيب فهي على استعداد لفعل أي شيء في سبيل مصلحة ابنتها واستعادتها لصحتها. ما جعلها تهز رأسها موافقة.

انتهت صلاة الجمعة. كان ذاك يوم الإجازة الأسبوعية بالورشة. ما دفع نادر وناصر للتشبث برأيهما هذه المرة. والإصرار على دعوة راضي لتناول الغذاء معهم. بدلا من تناوله وحيدا كعادته. أو اختلاق الأعذار للتهرب. ما دفع راضي للإذعان أخيرا والموافقة على تناول الغذاء برفقة العائلة.

دفع ناصر باب الشقة ومن بعده دخل نادر وتنحنح راضي مطرقا رأسه أرضا في تأدب. لتستتر النساء- شيماء ونعمة- بالداخل يضعن أغطية رؤوسهن قبل أن تنضما للجمع الذي رحب براضي في حفاوة.
هتفت به نعمة الجدة: أخيرا رضيت عنا يا سي راضي.
ابتسم راضي محرجا وهتف في نبرة رزينة: العفو يا حاچة. ده أهم حاچة رضاكِ علينا.
ابتسم خميس يشاكسه: واحنا بلاش بقى ولا إيه!؟

اتسعت ابتسامة راضي الخجلى مؤكدا: برضك يا معلم! ده أنت الخير والبركة.
بدأ إعداد المائدة ما دفع راضي ليشير لنادر بطرف خفي هامسا له ما أن دنا: بجولك. ما تاچي ناكلوا چوه. عشان الحريم ياكلوا براحتهم.
قهقه نادر هاتفا بصوت عالِ: بقولكم إيه! الصعيدي ده عايز ياكل جوه وبيقول عشان الحريم يخدوا راحتهم. شكله بيهطل على نفسه أو بياكل بأيده ورجله سوى. ودي تلكيكة.

قهقه الجميع إلا راضي الذي ظل مطرق الرأس تظلل شفتيه ابتسامة خفيفة محرجة على مزاح نادر ليؤكد له خميس: مش أي حد بيقعد على سفرتنا مع الحريم يا راضي. اللي دخلوا البيت ده قليلين قوي. كونك بينا ده معناه إنك فعلا واحد مننا وعايزين ناكل معاك عيش وملح عشان تحس إنك بجد واحد من العيلة مش مجرد ضيف هياخد واجبه ويمشي. بص يا راضي يا بني. العيش والملح ده أمانة. وإحنا بنعرف نختار اللي يصونه ويحفظ الأمانة.

هتف راضي في امتنان: كلامك على راسي من فوج يا معلم.
هتفت نعمة في تنهيدة: سبحان الله. كأني شايفة زكريا قصاد عيني.
ابتسم راضي في سعادة: چدي زكريا ربنا يديه الصحة وطولة العمر. مين يطول يبجى زيه!؟ چدي يونس بيحكي عليه حكاوي كأنها أساطير.
هتفت نعمة مؤكدة: صدق يا راضي. كل كلمة قالها جدك على زكريا صدق. ويمكن أكتر كمان. وأنا شاهدة.
هتف خميس مازحا: وأنا هموت من الجوع.

هتفت نعمة الصغرى مازحة وهي تحمل الأطباق للمائدة: خلاص أهو يا جدي. عرفاك مستني البامية باللحمة الضاني على نار.
قهقه خميس مؤكدا لراضي: حرمني منها يا راضي. يرضيك كده!؟
اتسعت ابتسامة راضي ما دفع ناصر ليهتف مؤكدا: مش خايفين على صحتك يا معلم!؟ الدكتور مانعها عنك.
هتف خميس ممتعضا: بلا دكاترة بلا يحزنون. تدخل ع الواحد منهم كل اللي حيلته متكلش متشربش. بلا هم.

وتوجه بحديثه لراضي من جديد مؤكدا في مزاح: بالك انت يا راضي. أنا عازمك النهاردة ومتلكك بيك عشان يعملوا البامية بالضاني.
قهقه ناصر بينما شهقت نعمة الجدة لتهتف نعمة الصغرى هاتفة في مرح: يا خبر أبيض. لحسن الباشمهندس راضي يصدق يا جدي!

اضطرب راضي عندما نطقت اسمه رغم أنه لم يكن مجردا بل كان يتبعه لقبه. لكنه استشعر ارباكا عجيبا بدواخله. ولم يعلم ما الذي دفعه ليهتف مازحا موجها كلامه لها بشكل غير مباشر: أنا هعمل نفسي مصدج. وإن كان كده. عشان خاطر المعلم خميس أجي كل چمعة وتاكل اللي يعچبك. عنينا ليك.
قهقه خميس لتؤكد نعمة الجدة ضاحكة: اهو لقيت لك حجة تاكل بها اللي يعجبك اهو. أبسط يا عم.

ارتفعت الضحكات لتهتف نعمة الصغرى: السفرة جاهزة. اتفضلوا.
نهض الجميع وجذب ناصر راضي الذي كان متحرجا لينضم للسفرة يجلسه بجوار نادر هاتفا به: حطيتك بيني وبين نادر. يعني وقعت بين أيدين اتنين معندهمش ياما أرحميني فالأكل واللي بيعزموا بيه مبيتردش. هتاكل يعني هتاكل.
ابتسم راضي هاتفا: ربنا يستر.
هتف خميس مازحا ما أن وضعت نعمة برام البامية بالقرب منه: بسسسس. خلونا نركز فالبامية بقى الله يخليكم.

ارتفعت الضحكات والمعلم خميس يتناول البامية ليضعها أمامه مستأثرا بها.
كان يتمدد على فراشه يتطلع للسقف في تيه فما أن فتح عيونه بعد نوم قلق مضطرب إلا وطالعته نظرات عيني سماحة التي صدمته بالأمس.
ما الذي يحدث. هل أصابه الجنون ليظل الليل بطوله يتقلب على جمر من جراء نظرات رجل!؟ إن حالته مستعصية وعليه البحث عن علاج. فيبدو أن حالة الفراغ العاطفي الذي خلفها حب سهام بقلبه جعلته يتصرف بلا عقلانية.

انتفض ناهضا مغادرا فراشه يشعر بإرهاق شديد لنعاسه المضطرب الذي لم يتعد الساعات الأربع.
خرج من الغرفة يجر قدمه وما أن أصبح خارجها حتى ألقى بجسده على أقرب مقعد هاتفا ينادي سماحة: يا واد يا سماحة! أنت فين يا واد!
اسرع سماحة ملبيا ندائه هاتفا: نعم يا بيه. تحت أمر چنابك.

حاول يونس تجاهل النظر نحوه لكنه لم يستطع إلا التحديق فيه هاتفا به في صرامة غير معتادة: بجولك. اللي حصل عشية ده ميتكررش. أنا سايبك هنا عشان خاطر أمك وأخواتك البنات. دول غلابة ملهمش غيرك. طلع اللي فدماغك ده وركز في كيف تساعدهم وتوصلهم لبر الأمان. مش رايح ترمي نفسك فالنار.

هم سماحة بالحديث إلا أن يونس قاطعه مانعه من التبرير مؤكدا وهو يحاول أن لا يطيل النظر نحوه: مش عايز كتر حديت ملوش عازة. هتسمع اللي بجولك عليه. هتجعد هنا معزز مكرم. مش هتسمع وركبت راسك يبجى تفارج يا بن الحلال. وروح شوف حالك بعيد عني. سامع!
هز سماحة رأسه موافق في امتعاض ولم يبد أي اعتراض على كلام يونس الذي هتف أمرا: روح ياللاه چهز لي الفطار. وحط اللي جولتهولك حلجة فودانك.
هتف سماحة مؤكدا: حاضر يا بيه.

واندفع مبتعدا يحضر ليونس الإفطار. رن هاتفه. فعاد من جديد للغرفة ليلتقطه مجيبا في انشراح: صباح الخير على ست الكل.
هتفت عائشة متذمرة: بلا ست الكل. بلا ست أبوها. أنت روحت وجلت عدولي. وأخوك راضي كمان راح مصر ومن ساعتها مشفتوش. أرازي فمين أنا دلوجت!؟
قهقه يونس مؤكدا: عندك البت دعاء. رازي فيها زي ما انتِ عايزة.

أكدت عائشة مقهقهة: لاه. دعاء دي تخصص مرازية لأخواتها. وبتذلهم بسندوتشاتها اللي بيحبوها. وجال إيه. خلي دعاء تعمل لنا الأكل وارتاحي أنتِ. شايف العيال!
أكد يونس باسما: خلاص يبجى ملكيش إلا الحاچ حامد. فيه الخير والبركة.
قهقهت عائشة: لاه. إلا مرازية أبوك. مجدرش على زعله أبدا.
قهقه يونس هاتفا في مجون: ايوه بقى يا حاچ حامد يا مسيطر.
واستطرد مؤكدا: ولا تزعلي يا ستي. أنا چايلك ورازي فيا زي ما تحبي.

هتفت عائشة في فرحة: بچد! والله اتوحشتك يا يونس. ربنا ما يغيبك أبدا أنت وأخوك.
ابتسم يونس مؤكدا: والله لو ما كنتي اتصلتي كنتي هتلاجيني عندكم. أنا كمان اتوحشتكم. سلميلي على كل اللي عندك لحد ما أچيكم.
هتفت عائشة: تچيلنا بالسلامة يا غالي. مع السلامة.
ألقى يونس التحية مغلقا الهاتف وقد قرر السفر لنجع الصالح. فيبدو أن ابتعاده عن أهله كل هذه الفترة. جعل رؤيته للأمور بها الكثير من الاضطراب واللاعقلانية.

انهت اجتماعها الذي كان مزمع انعقاده في هذا المقهى الراقي بإحدى ضواحي الإسكندرية العريقة. استأذنت مرافقيها للرحيل على وعد بلقاء أخر قريبا. إذا ما اتخذوا قرارهم بالموافقة على اقتراحاتها التي قدمتها طوال فترة الاجتماع.

نهضت متجهة لخارج المقهى في هذا الجو الشتوي بامتياز. كانت تعشق اسكندرية في مثل هذا الجو وكان لها الرغبة في السير تحت رزاز المطر. لكن الوقت صار متأخرا وعليها الاندفاع نحو سيارتها للوصول للمنزل قبل أن يشتد المطر انهمارا.

توقفت على درجات الدرج المفضية للخارج ترفع ياقة معطفها اتقاء لنوبة البرد التي هاجمتها ما أن خرجت من دفء المقهى المكيف. تضغط على مفتاح العربة الإلكتروني لتصدح سيارتها معلنة عن مكان تواجدها وما أن همت بهبوط الدرج إلا وقد ظهر فجأة. لا تعلم هل كان بالداخل أم أنه حضر لتوه. كل ما لاح لها في فوضى الحواس التي اعترتها لقربه هي تلك الابتسامة التي أضاءت عتمة الليلة الماطرة. رفع مظلته لأعلى وفتحها فوقها متجاهلا نفسه. مشيرا لها لتسير جواره يقيها المطر المنهمر حتى وصولها لباب سيارتها. الذي وقفت جواره تتطلع نحوه شاكرة في نبرة هادئة. ليرد نزار بابتسامة أخرى من سلسلة ابتسامته التي تربكها كالعادة حتى ولو أدعت عكس ذلك.

فتحت باب العربة وادارت محركها وانطلقت محاولة ألا تلق بنظرة تجاهه بينما توقف هو متطلعا نحو موضع رحيل عربتها حتى غابت ليعاود الاحتماء تحت المظلة عائد لداخل الفندق من حيث أتى. ولم يلحظ تلك السيارة التي تحركت في حرص خلف فريدة وقائدها يجيب على جواله مؤكدا أن الأمر قد تم على أفضل ما يكون.

انتهت المحاضرة وبدأ الجميع في الانصراف. كان ما بينهما لا يزيد عن كونهما زميلين لا يحدث بينهما أي حوار داخل الجامعة. لكن ما أن يركبا سيارتهما حتى يبدأ السباق اليومي. الذي لا يفتر حماسه أبدا.
كان من أول المغادرين وظل على انتظارها خارج القاعة لكنها لم تخرج. تعجب فالقاعة ليس لها باب أخر قد تكون قد خرجت منه دون أن يدري.

عاد من جديد لداخل القاعة مستطلعا الأمر ليجد أحد الطلاب الذي لم يرتح له من الوهلة الأولى عندما تعرف عليه. يحاول اعتراض طريقها عدة مرات. وهي تحاول التملص منه.

تقدم نحوهما وبلا أي مقدمات جذب ذاك الشاب من ظهر قميصه ليؤخذ الأخير على حين غرة وقد سقط بين أحضانه ليتلقفه مروان ويبدأ في تسديد اللكمات له والشاب يتأوه محاولا التملص من بين كفي مروان اللذان تشبثا به في قوة. كان دوما ما يخبر أية أن الله أخذ من قوة قدميه ووضعهما في ذراعيه. لكنها لم تكن تدرك أنه بهذه القوة إلا والشاب الأحمق ملق أرضا يتأوه مترنحا يمنة ويسارا وهو يضع كفيه على موضع فمه وأنفه الذي أصبح مدرج بالدماء. وهنا تدخل الأمن. الذي أبلغه بعض الطلاب بما يحدث دون رغبة من التدخل من قبلهم لأن ذاك الشاب كان من الدناءة بحيث كان الجميع يتجنب أي خلاف معه. ولم تكن أية هي الفتاة الوحيدة التي تعرضت منه لمثل هذا السلوك.

هتف مروان بأية: أمشي بسرعة وروحي. مش عايزك تدخلي فالموضوع ده. روحي.
هتف بكلمته الأخيرة في لهجة أمرة ما دفعها للتنفيذ فورا. مندفعة نحو عربتها كما أمرها.
اصطحبهما الأمن لمكتب مسؤول الأمن. تطلع نحوهما بعد أن استطاع مروان إقناع أية بالابتعاد عن الظهور في الصورة.
هتف بهما مؤنبا: دي مش اخلاقيات شباب جامعي. وفي كلية كل اللي بينتمي لها المفروض إنهم من أصحاب الذوق الراقي.

هم الشاب بالحديث إلا أن المسؤول هتف به: أنت متتكلمش. لأن واضح إن دي مش أول مرة تتعرض لطالبة زميلة. والموقف ده خلى اللي كان ساكت أو حتى خايف من مضايقتك يتكلم. وأنا ليا تصرف تاني معاك.
وتوجه بحديثه لمروان: أما أنت بقى. فطبعا غيرتك على زميلة دي حاجة محمودة. بس إحنا مش هنقلب الكلية لحلبة مصارعة. كان ممكن تبلغ الأمن وهم يتصرفوا. لكن شغل أفلام الأكشن ده مش فالكلية. ماشي.

هتف مروان في ثبات لا يحاول الاعتراض على وجهة نظر المسؤول: عند حضرتك حق يا فندم. وأنا عارف إن مكنش ينفع وخاصة في حالتي إني أدخل في خناقة. لكن برضو مكنش ينفع اسيبه يتطاول على بنت خالي واسكت حتى ولو كنت في حالة متسمحليش بالخناق.
نظر له مسؤول الأمن بإكبار مؤكدا: عندك حق. ودي حاجة تتحسب لك. بس برضو الأمن موجود للحالات اللي زي دي.

هتف الشاب المضروب في حنق: ده كذاب يا فندم. دي لا بنت خاله ولا قريبته من أساسه.
هتف مروان مؤكدا: لا. قريبتي وبلدياتي.
وحتى لو مكنتش. وحصل الموقف مع بنت تانية هعمل كده برضو.
هتف مسؤول الأمن في حزم: انتهينا. اتفضل يا مروان.
ونظر للشاب الماجن هاتفا: أما أنت فأتركن هنا شوية عشان ليا معاك كلام تاني.

استأذن مروان ليساعده خفيره وسائقه الذي كان يلازمه ليصل حيث العربة التي ما أن انطلقت على الطريق حتى وجد سيارة أية تلحق به.
أصبحت السيارتان متجاورتين لتتطلع من نافذة مقعدها مبتسمة في امتنان شاكرة له صنيعه. ووضعت عيونها بهاتفها معتقدا أنها تتجاهله من جديد إلا أن جاءه إشعار على واتس أب هاتفه تطلع إليه ليكتشف أنها هي. ترسل له كلمة واحدة. شكرا.

تطلع مبتسما بدوره من النافذة. ليأمر السائق ببدء السباق هاتفا بصياحه الحماسي الذي إعتادته في سعادة دفعت البسمات لشفتيها.
رغم سوء الأحوال الجوية في مثل هذا الوقت من العام. إلا أنه لمح عربتها قادمة من أول الطريق. حجبها عنه لبرهة بعض من ضباب ما لبث أن انقشع لتظهر السيارة جلية تتقدم لتقف أمام بوابة الدار.

هبطت نوارة من فورها في اتجاه الداخل لعلها تجد الدكتورة سميحة بمكتبها. لكن ما أن همت بفتح باب المكتب بعد أن طرقته عدة مرات ولم يجب أحدهم. تراجعت عن الدخول. فقد تجد رائف بحجرته الخاصة. وهي لا تريد مقابلته أو الاحتكاك به من الأساس. يكفيها ما بها. بعد كل ما مر عليهم خلال الأيام القليلة الماضية.

تراجعت خطوات للخلف وقد قررت الانطلاق للوحدة مباشرة. إلا أن ذاك الرجل العجيب الذي ظهر لها مرة من قبل متجاهلا وجودها ظهر من جديد.
تسمرت موضعها متوقعة أنه سيتجاهلها كما فعل في السابق. ستدعه يغادر قبل أن تخرج من الدار نحو الوحدة.
إلا أن الرجل الهرم توقف قبالتها مباشرة متطلعا لها بأعين صقرية حادة النظرة تشبه لحد كبير نظرات رائف في لحظات غضبه.

جزت على أسنانها حنقا من نفسها. ما لها ونظرات رائف الغاضبة أو الفرحة!
هتف العجوز في حنق مخرجا إياها من خواطرها: چاية لحد عندنا برچلك. چاية ليه! أرحلي جبل الطوبة ما تاچي فالمعطوبة. والمستخبي يبان يا بت الهوارية.

تطلعت نوارة نحوه في ذعر لم يكن يوما من طبعها. لكن نظراته وكلماته التي تقطر حقدا وغلا كانت كفيلة بجعلها تتراجع خطوة للخلف لتصطدم بباب حجرة المكتب الذي انفرج فجأة ما جعلها تنتفض متطلعة نحو رائف الذي نظر نحو ملابسها الغامقة هاتفا بنبرة تظهر تأثره: حمدا لله بالسلامة يا دكتورة. والبقاء لله.

ألقت نظرة سريعة على موضع العجوز الخرف لتجده فارغا. يبدو أنه اندفع مختفيا كعادته. لدرجة أنها استشعرت كونه شبحا لا حقيقة. يظهر لها وحدها. ليخيفها من البقاء هنا لغرض ما.
همس بها رائف متعجبا: أنتِ بخير!
هزت رأسها مؤكدة وهمست ترد على تعزيته في نبرة مهتزة: سبحان من له الدوام.
هتف بها متعاطفا: بنت عمك عاملة إيه!

تطلعت نحوه وقد أيقنت أن الدكتورة سميحة قد أخبرته بما أدلت به على الهاتف معتذرة عن تغيبها مختصرة بعض الأحداث كعادتها. لكنها أخبرتها بالأخبار الرئيسية والتي كان يدور الحديث عنها في خلال الأيام المنصرمة في سراي الهواري.
أكدت في هدوء وقد بدأت تسترد بعض من ثباتها: عندها انهيار عصبي. الصراحة صدمة رهيبة. ربنا يعينها.

أكد رائف متعاطفا بدوره هاتفا بنبرة تنضح وجعا جعلتها تتنبه موجهة ناظريها نحوه: فراج الحبايب بيكسر الجلب ويهد الروح.
وتنهد مؤكدا: ربنا يكون في عونها. وعونكم.
همست وقد تنبهت لكلماته لكنها لم تعقب إلا متضرعة: يا رب.
وهمت بالاستدارة راحلة هاتفة: عن إذنك.
هتف يستوقفها: على فين!؟
تطلعت نحوه متعجبة ما جعله يستطرد مؤكدا: جصدي. الچو بره كله عفرة وريح شديدة. هرن ع الدكتورة سميحة عشان تعرف إنك هنا.

أكدت نوارة بطبيعتها الرسمية وبنبرة عملية كعادتها: المفترض أنا اللي أروح لها. وبعدين أنا چاية عشان اشتغل مش اجعد ضيفة. ومكاني هناك مع الدكتورة سميحة. مش هنا.
همت بالخروج من الدار لتجده يستوقفها هاتفا: طب استني. أنا چاي معاكِ.
كان تعرف أنه يسب ويلعن ذاك اليوم الذي رأها فيه. لكن رغم ذلك. استشعرت سعادة داخلية بلهاء ما أن أصر على رفقتها.

اندفعا سويا نحو الجسر الخشبي. والذي مراه بسلام هي أولا وهو بأعقابها. وما أن سارا خطوتين صوب الطريق المفضي للوحدة مرورا بالاستراحة التي تجاهلتها مؤقتا حتى تعود لها وحيدة في منتصف النهار عندما يحل عليها التعب أو الإجهاد.

حتى مال ذاك الفرع الطولي من الخشب والذي كان يقف متصلبا بلا داع. يستند على إحدى جوانب الاستراحة. اهتز بشدة مترنحا جراء تلك الريح القوية. لتدفع به ليسقط نحوها وهي لاهية عنه. غير مدركة بالخطر المحدق بها لولا تدخله.

فقد جذبها بعيدا ليسقط العمود الخشبي بمحازاته. لكنه تأوه. فتنبهت أن ذاك العمود قد مس ذراعه ممزقا قميصه ومصيبا عضده بجرح بدأ في النزف ما دفعها لتنتفض تجاهه هاتفة: چرحك بينزف. لازما نسيطر على النزيف ده لأنه بيزيد.
أكد هو محاولا تجاهل الأمر: حاچة بسيطة. أنا راچع ع البيت. ونصيحة أرچعي ع الاستراحة لحد ما ربنا يسهلها والدكتورة سميحة تچيلك.

تحركت نحوه تسير جواره حتى إذا ما وصلا باب الاستراحة والذي كان مشرعا. فقد جهزتها الدكتورة سميحة واوصت بنظافتها ما أن علمت بقدومها. حتى دفعت به ودخلت هاتفة: تعالى لازم اشوف الچرح. دراعك كله دم. يمكن يكون محتاج خياطة.

لا يعلم ما الذي دفعه ليطيعها في هوادة بهذا الشكل. جلس على أقرب مقعد لتهرول هي في اتجاه صندوق الاسعافات الأولية. لتعود به مخرجة المطهر وبعض القطن الطبي. وبدأت في التعامل مع الجرح في احترافية. كانت هي في واد وهو بواد أخر. كان مأخوذا بها متعلق الطرف بمحياها. عيناه مركزة على تفاصيل وجهها لا تحيد النظر عنه.

لا يعرف ما اعتراه ليسقط أسيرا لشرك سحرها الفطري الذي ما كانت تتصنعه بل إنها ويا لمصيبته. لا تدرك من الأساس أنها تمتلك القدر الوافر منه. حتى أنها سيطرت على حواسه التي شملتها الفوضى كليا.

تنبهت أخيرا لذاك الذي اربكها جرحه وكأنما كان جرحا أصاب ذراعها هي. ربما لو كان جرحها ما كانت اهتمت كل هذا الاهتمام. لكنها استشعرت بعض الذنب لأنها أصبحت أيقونة لكل المصائب التي تحط على رأسه جراء عنادها ورغبته في حمايتها.

هل هذا طبيعي!؟ بدأت في التساؤل وعيونها قد تعلقت بنظراته الصقرية التي ذكرتها بعيني جده التي ارعبتها منذ دقائق. لكن عيناه. كانت تحمل مزيج أخر من مشاعر لا تمت بصلة لمشاعر الحنق والغضب التي كانت تملأ حدقتي جده.

تلك المشاعر التي ظهرت جلية لا يخيب عاقل عن تفسيرها. والتي تعجبت لأنها وهي التي تنفي الحب وتحرمه على قلبها كتحريم الخمر على مسلم. قد أصبحت خبيرة فجأة في قراءة لغة العيون لتنفذ منها إلى روحه موصولة بروحها.
انتفض كلاهما خارجا من أتون المشاعر المبعثرة بدواخلهما ما أن اندفع باب الاستراحة لينغلق في قوة جراء شدة الريح الهائجة بالخارج.

انتفض هو في سرعة. مندفعا صوب الباب جاذبا إياه في قوة لينفرج كما كان. كانت تتوقع أن يعود لتكمل ما بدأته بجرحه. لكنه هرول رغم قوة الريح المتربة في اتجاه البيت الكبير تاركا إياها تقف متطلعة إليه يغيب عنها خلف غبار الأرض الثائرة. هاربا من شىء ما. لا تدرك كنهه. أو ربما تدرك جيدا. لأنها تعان من مثله. لكنها تفتقد الجرأة الكافية لتعترف حتى لنفسها بذلك.

كانت قد قررت أن تحفظ كرامتها وتنأى بنفسها عن طريقه. فقد حاولت كثيرا التواصل معه لكنه لم يجبها ولا مرة.
كان كلام فريدة معها له أثر كبير في اتخاذها هذا القرار. عليها أن تصون كبريائها. فلا حاجة لها في الركض خلفه. إن أرادها فعليه أن يذلل كل العقبات التي تحيل دون اجتماعهما.
مرت من البوابة الأقرب لكليتها والتي كان هو من حراسها ولم تعره اهتماما ما جعله يتحين الفرص حتى يحاول التواصل معها.

تجاهلته عدة مرات من قبل واليوم لم يكن استثناءا. ما دفعه تعمد التواجد حيث تترك عربتها.
هتف بها ما أن وجدها تتعمد تجاهله من جديد: بدور.
تطلعت نحوه ولم تحرك ساكنا ما دفعه للاقتراب هاتفا والشوق يطل من عينيه فاضحا: إزيك!؟
كان قلبها يبكي قهرا على حاله وحالها لكنها ادعت الصلابة هاتفة: الحمد لله. خير!

اضطرب لجفائها هاتفا في نبرة تقطر وجعا: عارف إنك مش طايقة تكلميني وحاسة إني خذلتك. بس ربنا يعلم أنا عملت إيه وحاولت إزاي.
هتفت ساخرة: هااا وبعدين!
نكس ناظريه هامسا: مفيش فايدة. دماغ ستي مش هتلين أنا عارفها.
هتفت في هدوء يناقض الثورة المستعرة بداخلها: برضو هاااا وبعدين!؟
هتف في حسرة محاولا السيطرة على انفعاله حتى لا يلفت الأنظار: يا بدور حرام عليكِ. متبقيش أنتِ والدنيا عليا.

دمعت عيناها تأثرا وهتفت بصوت متحشرج: وأنا بأيدي إيه! وايه المطلوب مني يا حضرة الظابط!؟ نتجوز ونحط أهلي وأهلك قدام الأمر الواقع!؟ ولا استنى بقى لما ربنا يفرجها وتعرف تقنع جدتك بجوازك مني!؟ ولا ايه المطلوب من بدور بالظبط يا منتصر!

شهقت محاولة كتمان قهرها ما دفعه ليهرول مبتعدا غير قادر على الإجابة أو النظر لعينيها في قلة حيلة. لتتبعه بنظراتها ومن ثم تركب عربتها مندفعة بدورها تغادر الجامعة التي باتت أجوائها تخنقها.

انطلق بعربته على الطريق في اتجاه نجع الصالح إلا أنه توقف فجأة عندما تذكر أنه لم يحضر ما أمنته عليه عمته هداية. لعن في غيظ وقفل راجعا بعد أن مر ما يقارب من ثلث الساعة على انطلاقه. كان يعلم انه لن يستطيع ان يدخل النجع دون ان يمر عليها ملقيا التحية واعطائها تلك الصور الفوتوغرافية التي طلبتها بإصرار وجعلتها أمانة في عنقه حتى يحضرها معه في المرة القادمة التي يعود فيها لنجع الصالح.

كان عليه العودة لأخذ الصور. لأنه يعلم أن مرات نزوله للنجع باتت قليلة ومتباعدة المدة عن السابق. لذا فلا مجال لتعويضها وإحضارها في وقت لاحق قد يطول لأشهر.

تنهد في حنق لائما النسيان واضطراب فكره في الأيام القليلة الماضية والذي جعله يترك الصور التي صرها جانبا منطلقا دونها. وصل بالعربة وتركها متسللا من الباب الخلفي للدار بغية الحصول على حمله والرحيل سريعا بهدوء. فقد تكون أم سماحة أو إحدى أخواته قد دخلت الدار لأي غرض.

خطى لغرفة المكتب حيث تركهم وعاد بهم في حرص مسرعا. لكنه تسمر موضعه أمام باب حجرته المشرع قليلا ومد بصره متطلعا إلى تلك التي تتغنج أمام المرأة في دلال هز ثبات قلبه الذي ظن يوما أنه فقده بنجع الصالح تاركا صدره فارغا أجوفا.

تنبه فجأة متسائلا. من هذه!؟ غلى الدم بعروقه قاذفا سماحة بأبشع التهم. هل تجرأ وقلب الدار إلى ماخور ما أن ولى ظهره راحلا!؟ وكيف له أن يفعل ذلك من الأساس في وجود أمه وأختيه!؟ هل أفقدته تلك المغوية عقله لهذه الدرجة!؟
بلا وعي ثبت ناظريه إلى تلك السمراء التي تسكر طلتها دون رشفة خمر وهي تتمايل أمام المرأة راقصة على أنغام تلك الموسيقى الصادحة من هذا الراديو القديم الموضوع جانب فراشه على إحدى الطاولات.

لم يستطع أن يقف مكتوف الأيدي أمام ذاك الفُجور وقد تخيل سماحة ممددا على فراشه اللحظة يتطلع إلى تلك المغوية في انتظار.

هز رأسه نافضا الصورة المخجلة من مخيلته وهم بالاندفاع لداخل الغرفة ليلقنهما درسا قاسيا في حفظ الأمانة التي سلمها له. وكذا صون سمعة تلك الدار العريقة التي ما شاب سمعة أصحابها العيب يوما. لكن كفه تصلب قبل ان يمس مقبض الباب وتسمر جسده موضعه وهو يسمع الخالة سعيدة تهتف في أريحية عليه: يا سماحة!؟ يا سماحة!؟

هرولت تلك الفتاة في صفاقة دافعة ضلفتي النافذة لتنفرج مطلة منها هاتفة: إيه في! يجطع سماحة وسنينه!؟
همس يونس بداخله متعجبا: كيف لها الظهور بهذا الشكل السافر أمام أمه!؟ وكيف لها سبه بهذه الأريحية دون أي احترام يذكر أمامها!؟ ماذا الذي يحدث هنا!؟
هتفت سعيدة مقهقهة: البيه لساته مروح وأنتِ ما صدجتي. إن غاب الجط إلعب يا فار.
هتفت الفتاة مؤكدة: من نفسي بجى.

اشتعل يونس غضبا على هذه الجرأة بل الصفاقة الصريحة وهم بالتدخل لوضع حد لهذا العبث إلا أنه سمع الفتاة تهتف في حسرة: خليني أشوف حالي ياما. سماحة تعب. ارچع لأصلي يومين لحسن دِه اني جربت أنسى إني بت.
شهق يونس شهقة كتمها في براعة مع هذا الاعتراف المدوي وتوقف مذهولا لا قبل له على التحرك من موضعه خلف باب حجرته الموارب قليلا.

لتهتف سماحة مؤكدة: أهو كنا بندارو جدام الناس وأچي ففرشتي أخد راحتي. لكن من يوم البيه ما چه وأني ليل نهار مدارية ياما. والله تعبت.
هتف سعيدة بها أمرة: طب ادخلي لحسن حد يوعالك. اجفلي الشباك وهمي تعالي. ورانا غسيل وهم ما يتلم.
هتفت الفتاة التي لم تكن إلا صديقه ومؤنس أيامه سماحة في قلة حيلة: حاضر ياما. چاية.

دخلت وأغلقت النافذة وعادت تتطلع لنفسها بالمرأة من جديد واستدارت متطلعة لفراشه جاذبة من على أطرافه ذاك الجلباب الذي خلعه قبل ان يغادر لينتفض في هلع ما ان رأها تحتضنه في وله إلى صدرها للحظة وأخيرا تقبله في شوق تدفن وجهها بين طياته تتشرب عطره المختبئ بين الحنايا في وله. قبل أن تأخذه لغسله. ليعود ليجده نظيفا معلقا لمشجبه بالحجرة.

ارتفعت نبضات خافقه متعثرة في مشاعرها البكر التي ما خبرها يوما حتى وهو يظن أنه ما يزل عاشقا لسهام وهي تترنم في نبرة شجية لا يعلم كيف كانت تحولها لذاك الصوت الأجش لرجل: أسمر وخاطفني. ويا ريته ما شافني.
ولا كان من توبي. ولا كان مكتوبلي.

قرر الاندفاع مبتعدا في حرص بعد أن ابصرها تجمع ذاك الشعر الأشبه بشباك صياد ماهر اقتنصت قلبه بلا فكاك. تخفي جدائله تحت تلك العمة الضخمة. وكذا تخفي مظاهر أنوثتها التي تئدها أسفل ذاك الجلباب الواسع والكوفية الصوفية التي كانت تضعها مدلاه على جانبي صدرها. معتقدا أنها لا تفارقها اتقاء للبرد. أندفع متسللا من حيث أتى حيث سيارته من جديد. ليعود للطريق وهو لا يرى أمام ناظريه إلا حقيقة سماحة. ويا لها من حقيقة!؟

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة