قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل الثامن

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل الثامن

رواية ذات الكتاب الأحمر للكاتبة شاهندة الفصل الثامن

الحرارة لا تنخفض وشحوب وجه طفلتها يزداد، تكاد تُجن من الخوف عليها، لقد تأخر أشرف كثيراً تحاول الاتصال به ولكنه لا يجيب هاتفه. تباً. لن تنتظر أكثر ستأخذها بنفسها للطبيب، نظرت إلى ساعتها فوجدت الوقت قد تأخر كثيراً، خروجها من المنزل بطفلتها في ذلك الوقت ليس آمناً أبداً ولكن ليس أمامها خِيار آخر، فُتح الباب في هذه اللحظة فكان لها طوق نجاة، أسرعت تخرج من حجرة صغيرتها تطالع القادم بلهفة، مالبثت أن خبت وهي تعقد حاجبيها ترى أشرف يتقدم بخطوات مترنحة لتدرك بكل صدمة أنه أخلف وعوده مجددا وتناول هذا السم الهاري الذي يُذهب عقله ويخرب حياتهم، ماإن رآها حتى ابتسم قائلاً:.

مساء الفل آسوسو.
ليه بس ياأشرف شربت الهباب ده تاني حرام عليك. انت مش وعدتني تبطل.
بقولك إيه متطيريش الدماغ اللي عاملها، روحي شوفيلك حاجة تشتغلي فيها أو أقولك نامي أحسن عشان أنا عايز أنام.
تقدمت منه قائلة بحدة:
لأ مش هتنام، هتدخل تاخد حمام عشان تفوق وتسمعني. بنتك مولعة نار والحرارة مبتنزلش ولازم ناخدها لدكتور.
متاخديها انتِ مستنية إيه؟
عقدت حاجبيها لبرودة كلماته قائلة:.

مستنياك. الوقت إتأخر ومش هينفع أنزل الشارع دلوقتي لوحدي ولا إيه ياجوزي وسندي.
لأ طبعا مش هينفع، أنا قلتلك عايز أنام، أقولك متوديهاش لدكتور. اعمليها اللي اسمه ايه ده اللي كانت أمي بتعملهولي لما أسخن، مكسرات. سماعات..
كمادات.
أيوة ايوة هو ده.
عملتلها واديتها كمان خافض حرارة وبرضه مفيش فايدة الحرارة مبتنزلش.
أشاح بيده قائلاً:
بقولك ايه اتصرفي وابعدي عني الساعة دي قلتلك فاصل وعايز أنام.

اتجه لحجرته فقالت بقلة حيلة:
ياأشرف رايح فين حرام عليك أنا..
قطعت كلامها وقد وجدته يشيح بيده مجددا قبل أن يدلف إلى الحجرة ويصفع الباب خلفه فتطلعت إثره بخيبة أمل قبل أن تعقد حاجبيها بغضب ثم تتجه إلى حجرة طفلتها توقظها وتجهزها للخروج ثم تسحب حجابها ترتديه بسرعة على عبائتها وتحمل حقيبتها تسند طفلتها وتغادر المنزل بسرعة.

كانت تسير بخطوات مرتعشة تتلفت ذات اليمين وذات اليسار، تتمسك بيد صغيرتها تبحث بعينيها عن سيارة أجرة توصلها لأقرب مشفى فقد اغلق الأطباء في هذه المنطقة أبوابهم ولم يعد أمامها سوي اللجوء لأقرب مشفى، انتشر الظلام حولها يرسل الرعب في أوصالها خاصة وقد فرغت الشوارع من المارة فيما عدا بعض الشباب الذين تجمعوا حول هواتفهم وبعض الرجال الذين يرمقونها بنظرات مريبة زادت من رعبها. ظلت تردد في نفسها كلمات لطالما سمعتها من زوج خالتها وهو يرددها على مسامعهم صغاراً.

قد لا يقتلك العدو بقوة يحوزها وإنما يُرديك خوفاً تملكك منه فسلبك قوتك وجعلك ضعيفاً أمامه، يشم رائحة الخوف فتزيد شوكته قوة ويزداد تجبراً بينما تتجمد وتخطئ ثم تُهزم وبالنهاية تقع ضحية له. أظهر له بعض من قوة زائفة وسترى كيف يولي من أمامك مدبراً. ولتكن واثقاً ان الله دائماً معك ولن يُضيعك.

نعم ستتظاهر بالقوة وستسير بخطوات ثابتة وستخرج من هذه الليلة حالكة السواد كليل الأعمى لنور الفجر الذي سيوصلها هي وطفلتها لبر الأمان.
انتِ ياحلوة، رايحة على فين ياقمر؟ ماتعبرينا طيب.
لم تعرهم اهتماماً وهي تسرع الخطى بعد أن شعرت بتتبع هذان الرجلان لها.
لأ ماهو مينفعش التقل ده. متزوديهاش وتعملي فيها شريفة قوي كدة، اومال نازلة في الساعة دي تعملي ايه يعني؟ تدلعي وتملي القلل.
أستغفر الله العظيم.

تمتمت بحنق شابه القلق، تلعن زوجها الذي تركها عرضة لكل هذا وتلعن غبائها وضعف حيلتها حين ذهبت لتسعف ابنتها دون اللجوء لأحد. لتشعر بالمرارة وعقلها يردد بألم. وهل لديكِ أحد ليساعدك؟
وجدت أحدهم يسحبها من يدها قائلا بنبرة ثقيلة ممطوطة كنبرة زوجها حين يتعاطى المخدر:
استنى بس.
نفضت يدها من يده قائلة بغضب:
سيب ايدي ياحيوان انت.
لمعت عيناه بغضب مماثل وهو يقول:
مين اللي حيوان يا...
انتِ كنتِ فين ياسعاد؟

انتشلها صوته من الضياع وبث في قلبها القوة وشعورا بالأمان تغلغل إلى أعماقها. فاستداروا جميعا إليه وهو يردف قائلاً:
أنا لفيت الدنيا عليكِ. حتى لو زعلتي مني حقك عليا بس مكنش ينفع تسيبيني وتنزلي من العربية. ومين الناس دول؟ أكيد كانوا هيوصلوكي البيت. والله مش عارف أشكركم ازاي ياجماعة، تاهت مني وبقالي شوية بدور عليها.

كان يتجه صوبها أثناء حديثه ليسحبها من يدها ويخرجها من جمودها وهو يتجه بها إلى سيارته يفتحها ويجلسها فيها هي والصغيرة مردفاً:
مردودة ليكم يارجالة. معلش مضطرين نمشي بسرعة عشان اتأخرنا على البيت. سلام.
صعد بدروه للسيارة وقادها مغادراً تتبعهم عيون الرجلين، قبل أن يحك أحدهما مؤخرة رأسه قائلاً:.

شفت الراجل أخدها من وسطينا إزاي. معلش تبقى في إيدك وتقسم لغيرك، تعالي نقعد هناك ياعبده نشربلنا السيجارتين دول ونروق على دماغنا حبتين جايز تُرزق.
ليتقدما بإتجاه أحد الأركان بخطوات مترنحة يجلسان على الرصيف ثم يشعلان سجائرهما يطلقون أنفاساً من جحيم تسوقهما رويداً رويداً نحو هلاك محتوم.

منحني أبي مالم يستطع مخلوق قط أن يمنحني إياه. منحني أبي ملاذاً ألجأ إليه عندما تضيق بي السُبل، منحني احتواء واستيعاب لمشاعري. منحني القوة لأواجه كل التحديات، منحني روح هي مزيج من عفو ومقدرة. منحني أبي وطن جدرانه دافئة وأعمدته قُدت من صخر لا ينكسر.

أغلق طاهر الكتاب وكلماتها تتردد في قلبه وعقله، كم كان والدها عظيماً حتى أنه لم يترك لأحد فرصة في التقرب إليها، بالتأكيد ستقارنه بوطنها وبالتأكيد سيفوز الأخير بكل سهولة، فلا شيء قد يشبه الوطن. ولكنه لن ييأس أبداً. سيبذل قصارى جهده ليشبه أباها لعلها ترى فيه الوطن ويوما ما حين تقول أنها تحبه ستنطقها بكل جوارحها ولن تكون مجرد تمثيلية وكلمات فارغة كما سمعها اليوم.

تنهد بحب ثم خلع عنه نظارته و اعتدل نائما يضم الكتاب إلى صدره لينام قرير العين.
كان يوجه بصره للأمام يتطلع إلى الطريق بحنق، يتخيل مصير سعاد ان لم يكن ماراً بسيارته من ذلك الطريق بالصدفة ورأي هؤلاء الرجال يضايقونها، أفزعته التخيلات ليجد نفسه يقول بحدة:
ممكن أعرف إيه اللي نزلك من البيت في الوقت المتأخر ده ياسعاد؟

سمع صوت شهقاتها فنظر إليها على الفور ووجدها تتمسك بطفلتها بقوة بينما تنسكب دموعها انهاراً تُغرقه بفيضان من ألم. يدرك أنها تعاني الآن من صدمة التفكير في هذه اللحظات الأخيرة بدروها مد يده لها بعلبة مناديل قائلاً بحنان:
طب متعيطيش، اهدي بس وقوليلي ايه اللي حصل؟
قالت بصوت متقطع من وسط دموعها:
تقي عيانة قوي. وكنت. واخدها للدكتور. من دكتور. لدكتور. ملقتش حد موجود. والوقت إتأخر وأنا...

صمتت فزاد من سرعة السيارة قائلا:
انا عارف دكتور صاحبي هاخدك انتِ وتقى ليه دلوقتي حالا. مش عايزك تقلقي وأنا جنبك.
ليلمس وجنة الصغيرة بحنان قائلا بصوت لا يعكس قلقه وهو يشعر بحرارة جسدها المرتفعة:
بإذن الله هتبقى كويسة وزي الفل. بإذن الله.

كانت تدرك أنه يحاول بث الطمأنينة في قلبها، ولقد نجح في ذلك فلطالما كان في وجوده جوارها سنداً ودعماً، تُعده بمثابة أخ لم تلده أمها ولقد كان دوماً لها نعم الأخ حتى أصبح زوجها لايطيقه ففرق بينهما ومنعها عن زيارة بيت خالتها ورؤيتها هي ووحيدها، لتتمرد على أوامره بين الحين والآخر. تزورهما حين تشعر أنها تحتاج لدفء العائلة كي تمضي قدما في حياتها.

لم تستطع النوم مطلقاً يقلقها التفكير، ظلت تجول في حجرتها حتى كادت ان تُجن من أفكار سوداء أحاطتها لتقرر النزول إلى المطبخ لتشرب كوباً من الشيكولا بالحليب، فلطالما نجح هذا الكوب في إراحة عقلها من التفكير المفرط. توجهت للمطبخ بخطوات حذرة، تدعوا الله أن لا يراها أي مخلوق، وبالفعل تحقق لها ذلك حتى دلفت إلى المطبخ لتجده هناك، واقفا يمنحها ظهره فتجمدت كلية ثم بدأت في التراجع بحذر، ليلتفت إليها على الفور ويطالعها بنظرة شملتها بالكامل وجمدت أطرافها مجدداً، توقفت مكانها تطالع هيئته العفوية بدورها. لأول مرة تراه لايرتدي بذلة رسمية و يلبس منامة بسيطة بينما ظهر شعره المصفف دائماً بعناية بمظهر عفوي تتهدل بعض خصلاته على جبينه فتمنحه مظهراً جذاباً للغاية أخذ منها أنفاسها كلية وتركها تعافر كي تلتقط بعضها، رفع حاجبه متسائلاً بنظرة ساخرة أحنقتها، فتطلعت إلى الكوب بيده قائلة:.

أنا. معرفتش أنام ف. ، يعني قلت انزل أشرب كوباية شيكولاتة باللبن لانه يعني بيخليني أعرف أنام.
عقد حاجبيه للحظة قبل أن تعود ملامحه لبرودتها وهو يتقدم منها مما أثار اضطرابها قائلا بسخرية:
عندك اللبن سخن وعلبة الشيكولاتة جنب الغلاية. Help ur self.

تخطاها مغادراً فتقدمت من الطاولة لتجد الحليب ساخنا كما قال وبجواره علبة الشوكولا، عقدت حاجبيها في حيرة، تتساءل بصمت، هل كان يُعد له كوباً بدوره وهل يعاني مثلها من الأرق ويُريحه هذا المشروب؟ هزت كتفيها قبل أن تمد يدها وتسحب كوباً لتضع فيه مشروبها فإذا بها تنتفض على صوته وهو يقول بسخرية:
بالمناسبة لما تحبي تغريني بتلبسي هدوم تانية خالص مش بيجامة أطفال مرسوم عليها ميكي.

استدارت تطالعه بصدمة، فانطلقت ضحكته الساخرة لتصيبها بغضب لا مثيل له ولكن قبل أن تُسمعه عبارات لاذعة يستحقها كان قد اختفى من أمامها، لتضرب الأرض بقدمها تطالع منامتها بحنق قبل أن تضع الكوب من يدها وتتجه بخطوات غاضبة نحو حجرتها، تقرر بحزم أنها لن تخرج من حجرتها ليلاً أبداً مهما حدث وإلا ظن هذا المعتوه أنها تخرج خصيصاً لأجله وهذا فقط في أحلامه المريضة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة