قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

في منزل تقى عوض الله
توجهت فردوس ناحية باب منزلها بعد أن سمعت الطرقات الخافتة عليه..
عدلت من وضعية حجابها المنزلي، وفتحته، فوجدت منسي واقفاً على عتبته وعلى وجهه إبتسامة سخيفة، فنظرت له بإندهاش وسألته قائلة:
-منسي! خير يا بني
نظر لها بإستغراب مصطنع وهو يسأله بصوت آجش:
-إيه يا ست فردوس مش هاتقوليلي اتفضل ؟

تنحنحت بخفوت قبل أن تتنحى للجانب، ثم أشارت بيدها وهي تقول:
-لا مؤاخذة، اتفضل
ابتسم لها مجاملاً وهو يردف قائلاً:
-يزيد فضلك
إختلس منسي النظرات محاولاً رؤية تقى، ولكن كان باب غرفتها مغلقاً، فلاحظت فردوس نظراته المتفحصة لمنزلها، فسألته بضجر:
-بس مقولتليش إنت جاي ليه ؟
إنتبه هو لها، وسلط أنظاره عليها، ثم أجابها بصوت رخيم:
-أنا جاي أسأل على تقى وعلى أحوالها!

تنهدت في حزن وهي ترد عليه قائلة:
-نحمد الله على كل حال!
سألها بإهتمام واضح وهو يرفع حاجبه للأعلى:
-هي عاملة ايه الوقتي ؟
مطت فمها للأمام، وأجابته بيأس:
-يعني.. اهو طول الوقت نايمة
تابع منسي حديثه بجدية وإهتمام واضح ب:
-أنا كنت ناوي أجيبلها ضاكتور كفاءة بس الحاجة إجلال قالت إنها جابتلها واحد.

أومأت برأسها وهي ترد عليه بصوت خافت:
-أه كتر خيرها..
لاحظ هو إجابتها المقتضبة عليه، فحاول أن يطيل فرصة الحديث معها، فسألها بإهتمام زائف قائلاً:
-وعم عوض إزيه ؟
ردت عليه بفتور وهي تشير بيدها:
-أهوو.. يوم كده ويوم كده
زم فمه قائلاً بصوت خشن:
-مممم.. ربنا يديله الصحة.

أخذت فردوس نفساً عميقاً، وزفرته بإحباط وهي تهتف ب:
-يا رب أمين، متأخذنيش يا بني، أنا مش عارفة أضايفك كويس، إنت مش غريب!
أشار لها بكف يده قائلاً بجدية:
-لا ماتتعبيش نفسك يا ست فردوس، أنا جاي بس أطمن على ست البنات
مطت فمها في إنكسار، وحدثت نفسها بتهكم:
-أل ست البنات أل.. ما اللي حصل حصل خلاص، وضاعت!

تأمل منسي حالة الحزن الجلية المسيطرة على فردوس، وتعجب من صمتها المفاجيء، فسألها بفضول ب:
-مالك يا ست فردوس ؟ انتي بتكلمي نفسك ؟!
انتبهت له، ومسحت تلك العبرة المعلقة في أهدابها، وقالت بصوت شبه مختنق:
-هاه، لا يا بني!
مسح منسي بلسانه على أسنانه، ثم قال بهدوء:
-طيب، هابقى أعدي وقت تاني، ولو عوزتي حاجة أنا في الخدمة.

إبتسمت له وهي تجيبه بإمتنان:
-تسلم يا منسي من كل رَضي ( سوء )
ثم صاحبته إلى باب المنزل، وودعته، ومن ثم إتجهت إلى المطبخ لتكمل إعداد طعام الغذاء، ولكن أوقفها صوت صراخ يأتي من داخل غرفة ابنتها، فلطمت على صدرها في رعب، وهتفت بهلع:
-بنتي!

في مشفى الجندي الخاص
تسمر مهاب أمام فراش إبنه الطبي، ونظر له بصدمة وقد كانت أثار الكدمات لا تزال باقية على وجهه..
إزداد عبوس وتشنج قسمات وجهه، وإحتقنت عينيه من الغضب، ثم أمسك بالتقرير الطبي المعلق على طرف فراشه، وقرأ ما دون فيه..
نظر شزراً إلى كبير الأطباء وصاح محتداً:
-إنت ازاي تعمل كده ؟
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يجيبه بتوتر:
-ده.. ده إجراء مؤقت عشان أضمن انه تحت السيطرة
هتف مهاب بصرامة واضحة والشرر يتطاير من عينيه ب:
-ابني مش هياخد مهدئات تاني!
رد عليه كبير الأطباء بقلق قائلاً:
-أنا كنت مضطر لمصلحته
حدجه مهاب بنظراته الشيطانية وهو يأمره بصوت حاسم:
-أوس ابني يفوق فوراً
-ح.. حاضر.

ثم تابع بصلابة وهو يشير بإصبعه مهدداً:
-وكل هنا خصم اسبوع من مرتبهم، ويترفد بتوع الأمن، ويجي مكانهم ناس أفضل يعرفوا يشوفوا شغلهم كويس!
هز رأسه موافقاً وهو يجيبه دون تردد ب:
-اللي تؤمر بيه يا دكتور مهاب

في دار الرعاية الخاص بالمسنين
أعطت مديرة الدار للسكرتيرة الخاصة بها الخطاب الرسمي لحضور الحفل السنوي للجمعية الخيرية التي تديرها ناريمان..
ثم نهضت عن مقعدها، وأدرفت بنبرة رسمية:
-الكل يستعد للحفلة، خلاص ميعادها اتحدد
أجابتها السكرتيرة بصوتها الهادي قائلة:
-متقلقيش يا مدام، كل حاجة اتعملت زي ما قولتي
إبتسمت في زهو وهي تتابع بجدية:
-عظيم، وماتنسيش دِرع الدار لناريمان هانم.

هزت السكرتيرة رأسها بثقة، وردت عليها قائلة:
-اه طبعاً، أنا هاستلمه بالليل
لوت هي فمها قليلاً، وأضافت بصوت متزن:
-تمام، وأنا هاروح أمر على بقية الأقسام هنا وأشوف أخر الترتيبات
-تمام يا مدام

إبتسمت الطبيبة رجاء وهي تربت بيدها على كف تهاني، وهتفت بحماس:
-هاتوحشيني يا تهاني
-وانتي أكتر يا دكتورة
-ابقي تعالي زورينا، مش تنسينا
-أكيد
-وأنا موجودة لو احتاجتي أي حاجة، وخلي أرقام تليفوناتي معاكي
-شكراً ليكي يا دكتورة على كل حاجة عملتيها عشاني
-متقوليش كده، أنا بأعتبرك زي أختي
وفجأة سُمع صوت هرج ومرج في الخارج، فضيقت رجاء عينيها في استغراب، وإلتفتت للجانب، وتسائلت بفضول:
-في ايه برا ؟

بادلتها تهاني نظرات الحيرة، وقالت وهي تمط شفتيها للأمام:
-مش عارفة
خرجت الإثنتين من الغرفة، ونظرتا في الرواق، فوجدتا المشرفة هالة تركض، فأوقفتها رجاء من ذراعها، وسألتها بتوجس:
-في إيه ؟
-الحاجة نجاة تعيشي إنتي!
فغرت تهاني ثغرها مصدومة، وشحب لون وجهها، وهي تقول
-هاه.. ماتت
نظرت ناحيتها هالة، وأردفت قائلة بحزن:
-أيوه
سألتها رجاء بإهتمام واضح قائلة:
-هي ماتت إزاي ؟

أجابتها هالة بنبرة لاهثة وهي تشرح بيدها:
-لاقوها أعدة على الكرسي بتاعها مش بتتحرك، وأما جت زميلتها في الأوضة تصحيها، كانت مش بتتنفس و.. وجسمها سايب، فشافتها الدكتورة شروق، و.. ولاقيتها ماتت
قالت رجاء بصوت حزين وهي دامعة العينين:
-لا حول ولا قوة إلابالله
أردفت تهاني قائلة بصوت أسف:
-إنا لله وإنا إليه راجعون!
سألتها رجاء بإهتمام، وهي تمسح عبراتها قبل أن تتجمع:
-طيب في حد من أهلها عرف ؟

أجابتها هالة بنبرة شبه يائسة:
-إحنا بنحاول نتصل بحد منهم، بس مش لاقيين رد خالص
ضيقت تهاني عينيها عقب تلك العبارة الأخيرة، وسألتها بفضول شديد وهي تنظر لها بإمعان:
-ليه ؟ محدش بيرد ليه ؟
نظرت لها بخيبة أمل وهي تجيبها بإحباط:
-هما أصلاً رموها هنا في الدار من سنين، وكل فين وفين لما بيجوا يزوروها، فكان متوقع إن لو جرالها حاجة محدش من أهلها هيعرف، الفكرة بس إن الإدارة عاوزة تشوف هاتتصرف ازاي مع المرحومة.

تنهدت تهاني في حزن وهي تضيف:
-ربنا يرحمها، ويجعل مثواها الجنة
ردت عليها رجاء بصوت أسف:
-يا رب أمين، حقيقي كانت ست طيبة
هزت هالة رأسها موافقة، ثم قالت بتعجل:
-اه فعلا.. عن اذنكم.. هاشوف هاعمل ايه
أشارت لها رجاء بكف يدها وهي تجيبها بصوتها الهاديء:
-ربنا معاكي، وأنا موجودة لو في حاجة
ابتسمت لها هالة نصف إبتسامة وهي تسرع في خطاها قائلة بجدية:
-اكيد يا دكتورة رجاء
أطرقت تهاني رأسها في إنكسار وحزن، وإبتعدت عن الطبيبة رجاء، واتجهت ناحية الحديقة الخارجية...

في منزل تقى عوض الله
ركضت فردوس بخطواتها الثقيلة في إتجاه غرفة إبنتها، فوجدتها متكورة على نفسها في الفراش، وضامة ركبتيها إلى صدرها، وجسدها بالكامل يرتجف بشدة، و محدقة أمامها..
اقتربت منها ونظرات الخوف بادية في عينيها، وقالت بصوت خافت:
-تقى، مالك يا ضنايا ؟

ثم جلست على طرف الفراش، وإنحنت ناحية إبنتها، ولفت ذراعيها حول كتفيها، وضمتها إلى صدرها بعاطفة أم حقيقية، ومسدت على رأسها وقبلت جبينها، وهي تقول بصوت دافيء:
-متخافيش يا حبيبتي، أنا معاكي
أجهشت تقى بالبكاء، وصدر منها أنيناً خافتاً، فأشفقت عليها والدتها أكثر، ورددت بصوت شبه مختنق:
-يا بنتي كفاية عياط، وشك دِبِل، وحالك اتبدل، مالوش لازمة قهرة النفس دي، مافيش حاجة هترجع زي الأول.

ثم أغمضت فردوس عينيها، وأخذت نفساً عميقاً حبسته في صدرها، وحدثت نفسها بمرارة قائلة:
-منه لله اللي كان السبب، منه لله اللي خرب البيت!
حدقت تقى بعينيها - المتورمتين من كثرة البكاء - في ذلك الطيف المتجسد أمامها لشبح مغتصبها..
إبتسامته الشرسة، ضحكاته اللئيمة، نظراته الوضيعة، جسده الحيواني، كل شيء يبدو واضحاً وكأنه متواجد معها في نفس الغرفة..
أغمضت عينيها بقسوة حتى لا تراه، ولكنه طاردها في خيالها، إقتحم عزلتها الوحيدة بصوته المخيف، وأوامره المميتة..

اضطربت فردوس لرؤية ابنتها على تلك الحالة السيئة، فهزت جسدها برفق وهي تهمس لها بخوف:
-تقى، ردي عليا يا بنتي، تقى!
في تلك اللحظة دلف والدها عوض الله إلى داخل الغرفة وهو يتعكز على تلك العصا التي أحضرها الشيخ أحمد له لتساعده في السير، وهتف قائلاً بصوته المرهق وهو يتأمل حال تلك الفتاة التي يرق قلبه لها دوماً بصورة عجيبة:
-في.. في.. ايه، يا.. يا..آآآآ.. انتي تقى، صح ؟

وكأن في صوته البلسم لجراح تقى التي لم تندمل بعد.. حيث رفعت رأسها في إتجاهه، ونظرت له بنظرات غريبة، وكأن وجوده يبعث على الأمان.. نعم ذلك الإحساس الذي إفتقدته لأشهر..
فهو والدها الذي عاهدته طيباً وحنوناً، يرفق بها في أشد اللحظات صعوبة، وفي أحلك المواقف، لذا دون أدنى لحظة تردد، أبعدت ذراعي والدتها عنها، ونهضت عن الفراش، وركضت في إتجاهه، لترتمي في أحضانه، وتلف ذراعيها حوله وهي تهتف قائلة بصوتها المختنق واللاهث:
-بابا.. احميني منه يا بابا
عجز لسان عوض عن النطق، ولكن يكفيه رؤيته لتلك المشاعر الصادقة وهي تغمره دون أن يعارضها أو يتصدى لها..
ربما لا يتذكرها جيداً، ولكنه لم يستطع أن يقاوم رغبته في ضمها، وتقبيل رأسها..

فأحاطها بذراعيه بعد أن ترك عكازه يسقط على الأرضية، وجعل رأسها يغوص في صدره المتعب.. وظل يمسح على رأسها وجسدها برفق شديد حتى إستكانت داخله..
فغرت فردوس ثغرها في صدمة..
لم تتوقع أن يفعل عوض هذا بعد أشهر من محاولاتها اليائسة في علاجه، ولكنه وجد الدواء الحقيقي له في وجود إبنته معه وفي أحضانه...

في مشفى الجندي الخاص
بدأ أوس يستعيد وعيه تدريجياً بعد أن خف تأثير المهديء.. وحرك رأسه للجانبين بحركة خفيفة، وبتثاقل شديد فتح جفنيه..
كانت الرؤية في البداية ضبابية، وذاكرته إلى حد ما لا تسعفه.. ولكن سريعاً تذكر ما حدث، فإنتفض مذعوراً من نومته..
-إهدى يا أوس، أنا معاك!
قالها والده بصوت رجولي صارم، فإلتفت ناحيته أوس، وضيق عينيه، ورمقه بنظرات حادة قبل أن ينطق بصوت متحشرج:
-ب.. بابا.

-أيوه يا بني، أنا موجود هنا
عاود أوس النظر إلى جسده، وتأمل كفيه والإبر الطبية المغروزة في أحدهما، فدون تردد إنتزعها عنه.. فنظر له والده مهاب بتوتر قائلاً:
-بالراحة يا أوس، في ايه ؟
أزاح ابنه كل الأسلاك الموصولة بجسده، ونهض عن الفراش، وأردف قائلاً بصرامة:
-أنا عاوز أمشي من هنا!
ثم إتجه نحو الخزانة الرفيعة الموضوعة في زاوية الغرفة، وقام بفتح ضلفتها، ونظر بإهتمام داخلها..

وقف والده خلفه، وهتف قائلاً بإعتراض:
-لأ.. مش هتمشي قبل ما أطمن عليك، ده.. ده انت مضروب، وكنت في شبه غيبوبة!
إلتقط أوس قميصاً نظيفاً من على الشماعة المثبتة بالداخل، وسحب بنطالاً قماشياً، وإستدار بجسده ليقف قبالته، وصاح قائلاً بصوت جهوري:
-بأقولك أنا مش هاقعد هنا لحظة واحدة!
سأله والده وهو ينظر مباشرة في عينيه بإحتقان:
-عاوز تطلع تروح فين ؟
صمت أوس ولم يعلق، فإكفهر وجه مهاب أكثر، وتابع قائلاً بسخط:
-هاتروح للبنت اياها ؟

نزع أوس لباسه الطبي، وبدأ في إرتداء البنطال، ثم أجاب والده بإيجاز:
-تخصني
نفخ مهاب من الغيظ، وهتف بصوت مشتعل وهو يهز رأسه:
-أها.. يعني زي ما بيتقال هنا إنها مراتك!
أغلق أوس السحاب، وإلتفت بجسده ليقف على بعد خطوة واحدة من والده، وثبت عينيه عليه وهو يقول بجدية شديدة:
-ايوه.. تقى مراتي!

انفجر مهاب غاضباً عقب تلك الكلمات الصادمة والمؤكدة لما ظن أنها شائعات، وصاح صارخاً وهو يلوح بيده في الهواء:
-إنت اتجننت عشان تعمل عَملة زي دي
تحرك أوس خطوة للأمام لتصبح المسافة الفاصلة بينهما أقل من سنتيمترات معدودة، وقال بثبات عجيب دون أن تطرف عينيه:
-أنا مسئول عن تصرفاتي، ومحدش ليه الحق إنه يحاسبني!
هتف مهاب بصراخ وهو يبادله النظرات المشتعلة:
-بس أنا أبوك.

رد عليه أوس قائلاً بصوت محتقن وهو يتعمد الضغط على كل حرف:
-وهي مراتي!
أشار له مهاب بإصبعه وهو يهتف بعصبية:
-أوس، اتكلم كويس معايا، ماتنساش نفسك
ألقى أوس بالقميص على كتفيه، ثم مد يده ليلتقط متعلقاته الخاصة ( من ميدالية مفاتيحه وحافظة نقوده ) ودسهما في جيبه، وتابع بنبرة منفعلة وهو يرمقه بنظراته المشتعلة:
-لأ أنا مش ناسي إنت مين، ورايح أشوف فين مراتي
إهتاج مهاب وهو يضيف قائلاً:
-البت البيئة الزبالة اللي دخلتها هي وأهلها هنا، وعاملوا فضايحهم في المكان، ولوثوا سمعته!

اقترب أوس من أبيه، وحدجه بنظرات شرسة ذات مغزى قبل أن ينطق بقسوة:
-لو على السمعة، فبلاش إنت بالذات تتكلم عنها، لأنك أكبر مثال على آآآ..
قاطعه مهاب وهو يصفعه بقوة على وجهه قائلاً بصراخ هادر:
-إخرس
لم يهتز كيان أوس الذي تفاجيء بالصفعة، فقط إزداد إحتقان لهيب الغضب في عينيه، وبرزت عروقه الثائرة من عنقه.. وكور قبضته بشراسة..
إبتلع والده ريقه في توتر شديد، فإنفعال إبنه يريبه بدرجة مزعجة، وأضاف قائلاً بجموح:
-لو مفكر إنك كبرت عليا، تبقى غلطان، أنا لسه أبوك.

-خلصت ؟ ولا هتضرب تاني!
قالها أوس ببرود مستفز وكأن شيئاً لم يحدث رغم النيران المستعرة في نفسه.. نعم قالها بصلابة وكأنه يدفعه دفعاً لصفعة مجدداً..
كانت نظراته وحدها كافية لتري مهاب فداحة فعلته معه..
هو المُلام فيما يرتكبه.. فتركيبة شخصية ابنه هي نتيجة تربيته له..
حاول أن يبدو هادئاً أمامه، وصر على أسنانه وهو يتابع قائلاً بغيظ:
-إنت ليه كده ؟ طالع بالشكل البشع ده لمين ؟

إكتسى وجه أوس بنظرات ساخطة وهو يلوي فمه قائلاً بتهكم:
-بجد مش عارف ؟! حقيقي أنا مستغربك يا.. يا دكتور مهاب
ثم اتجه نحو باب الغرفة، وأمسك بالمقبض، وفتحه، وإنطلق للخارج، فحاول والده أن يلحق به وهو يصرخ قائلاً:
-استنى هنا أنا مخلصتش كلامي
لم يلتفت له أوس، ولم يجبه، بل تركه يتابع كلماته المنفعلة، وتحرك في إتجاه المصعد، ووهو يكمل غلق أزرار قميصه..

ثم ضرب بقوة على مفتاح إستدعاء المصعد، وأدار رأسه للخلف ليحدج والده بنظرات مطولة و مشمئزة حتى سمع صوت صافرة وصول المصعد، فدلف للداخل، وأغلق الباب خلفه..
تسمر مهاب في مكانه مصدوماً من رد فعل إبنه المثير للإنفعال، وأخفض عينيه لينظر إلى قبضة يده التي صفعت إبنه، ثم كورها، وحدث نفسه بصوت محتد ومتوعد ب:
-مش هاسيبك تضيع نفسك مع الزبالة دول، ولو حكمت أنا هامحيهم من على وش الأرض، ماشي يا أوس، ماشي!

في دار الرعاية الخاصة بالمسنين
اقتربت تهاني من المقعد الخالي الموجود في أبعد جزء في الحديقة.. وجلست عليه، وأجفلت عينيها لتنظر إلى النجيلة الخضراء أسفل قدميها، ثم أطلقت تنهيدة صارخة من بين ضلوعها، وهتفت قائلة:
-مش عاوزة أموت لوحدي، عاوزة أكون وسط أهلي.. ومع.. ومع ابني اللي خدوه مني!
ثم دفنت وجهها التعيس بين راحتي يدها، وإنتحبت بإنين خاغت وهي تتذكر أصعب يوم في حياتها..
يوم أن ضاع منها كل شيء..

إندلع الحريق في مكتب تهاني بالمشفى الخاص الذي كانت تعمل به، ووصلتها أنباء عن إحتجاز أطفالها الثلاثة بداخله..
فركضت مهرولة في فزع ناحيته، وصرخت بإهتياج قائلة:
-ولادي جوا، الحقوهم، ولادي هيروحوا مني!
كانت كالمجنونة وهي تكرض صارخة بأعلى صوتها ب:
-ولادي جوا المكتب، إلحقوهم، ولادي.. آآآآآه
كان يقف أمام غرفتها حشداً من الأطباء والممرضين والعاملين بالمشفى، فحالوا دون وصولها للداخل..

حاولت هي أن تدفعهم وتمر عبرهم لتصل إلى الباب، ولكن أبعدوها للخلف، فنظرت لهم بأعين مغرورقة بالعبرات الحارقة، وتوسلت ببكاء مرير ب:
-بناتي جوا الأوضة وأوس معاهم، سيبوني بس أجيبهم
اقترب منها أحد الأطباء، وأحنى رأسه للأسفل، وقال بصوت حزين:
-للأسف كل حاجة جوا ولعت
صرخت وهي تجهش بالبكاء بطريقة هيسترية عالياً ب:
-لألألألأ.. ولادي.

اندفع ممدوح هو الأخر بين جموع المتواجدين ليصل إلى الغرفة، وصاح بصوت مرتفع للغاية ب:
-بناتي.. ليان، بيسان!
لمحت تهاني مهاب وهو يقترب منها، فإستغاثت به بصوت راجي ب:
-إلحق يا مهاب، أوس ابننا جوا الأوضة، خليهم يسبوني أجيبه
حدجها هو بنظرات قاسية، ثم قال بشراسة:
-إنتي مالكيش إبن، اعتبريه مات
-إنت بتقول إيه!
تابع هو بنبرة أشد قسوة ب:
-الأم اللي تهمل في تربية ابنها ماتستحقش تكون أم
صرخت هي عالياً بصوت مبحوح ومختنق ب:
-لألألألألأ..

اقترب مهاب منها، ورمقها بنظراته المتوعدة، وقال بقسوة أشد وهو يشير بيده:
-ابني هاربيه بمعرفتي، وإنتي هتتحاسبي عن إهمالك وخيانتك
ثم تركها وإنصرف دون أن يلتف إلى صراخها المتواصل ب:
-ولادي، لأ.. يا مهاب.. مهاب...!
فإنهارت متشنجة على الأرضية الباردة ولسان حالها يصرخ منادياً على أطفالها الصغار..

لاحقاً، أفاقت تهاني في غرفة ما غريبة، جدرانها مطلية باللون الرمادي الكئيب، فنهضت من نومتها، ونظرت حولها برعب..
كان حلقها جافاً، فمدت يدها المرتعشة نحو الطاولة القصيرة الملتصقة بالفراش لتمسك بكوب الماء المسنود..
ارتشفت منه البعض، ونظرت إلى حيث يوجد باب الغرفة.. وإتسعت عينيها مذهولة وهي تهتف قائلة بصوت متحشرج:
-م.. ممدوح
نظر لها شزراً، وأجابها بصوت قاتم:
-أخيراً فوقتي
تلفتت تهاني حولها بريبة، وسألته بصوت متقطع:
-هو.. هو حصل إيه ؟ وأنا.. وأنا فين ؟

أجابها ممدوح بصوت متهكم يحمل المرارة:
-إيه لحقتي تنسي بالسرعة دي ؟
ثم صمت لثانية قبل أن يصرخ مهتاجاً ب:
-إنتي أم انتي!
فغرت ثغرها مصدومة ونظرات الرعب متجسدة على وجهها وهي تنطق بتلعثم:
-هاه.. و.. ولادي!
كز على أسنانه ليتابع قائلاً بشراسة وهو يحدجها بنظراته المميتة:
-أيوه.. قولي بناتك اللي ماتوا، اللي اتحرقوا وانتي زي ما إنتي، مافيش حاجة حصلتلك!

صرخت في عدم تصديق وهي تهز رأسها مستنكرة لعباراته الصادمة:
-إنت.. إنت بتكدب!
اقترب منها حتى أمسك بذراعها، ثم قبض عليه بقسوة لم تعهدها منه، وصاح قائلاً بإهتياج وهو مستمر في رمقها بنظرات مميتة:
-إنتي السبب، هما ماتوا بسببك، سامعة بسببك!
إنفطر قلبها وهو يؤكد عليها وفاة رضيعتيها، وشعرت بأن أنفاسها ثقيلة، وروحها سحبت منها، وتعالى صدرها صعوداً وهبوطاً..
ثم صرخت بصوت متحشرج مستنكرة حديثه ب:
-إنت بتقول ايه، لألألألألألأ.. بناتي مماتوش، بناتي عايشين، لألألألأ.. حرام، بناتي! آآآآآآآه!

ظلت تصرخ لعدة دقائق متواصلة، فصمت وظل يتابعها بنظرات مغلولة، ثم إنهارت هي مجدداً على فراشها، فأرخى قبضته عن ذراعها، وتراجع عدة خطوات للخلف.. واستمر في رمقها بنظراته المحتقنة، وهنا تدخلت ممرضة ما، وأمرته بجدية:
-اطلع برا يا أستاذ، المدام حالتها ماتسحمش بالزيارة
رمقها بنظراته النارية وهو يجيب قائلاً بتوعد:
-لسه كلامي مخلصش معاها، وراجعلك تاني يا تهاني، راجع تاني!
تشنجت تهاني أكثر وهي تتابع عويلها قائلة:
-بناتي، آآآآآآه، بناتي!
أولاها ممدوح ظهره، وتركها تعاني من آلم الفقدان الذي كان رفيقه الدائم..

عانت هي لعدة أيام، وواظب الطبيب النفسي على علاجها، واستمر ممدوح في زيارتها.. فهو لم ينتهي بعد منها.. ولكن منعت عنها الزيارة..
فلم ينقطع عن الحضور حتى أتيحت له الفرصة أخيراً لزيارتها بعد إستقرار وضعها النفسي..
عقد ممدوح ساعديه أمام صدره وهو يراها جالسة على المقعد، ونظر لها بنظراته القاتلة..
كانت ذابلة الوجه، ذات عينين مرهقتين، وهناك هالات سوداء قد تشكلت أسفلهما.. ونحل جسدها إلى حد ما..

إستمر في التحديق بشراسة لها، ومن ثم أردف بسخط:
-بناتك ماتوا! احساسك إيه لما اتاخدت أغلى حاجة في حياتك ؟ ردي!
سلطت أنظارها عليه بعد أن إنتبهت لصوته ولكلماته اللاذعة، ورمقته بذهول وهي تسأله بصوت متشنج:
-قصدك.. قصدك ايه ؟ ده أنا قلبي بيتقطع كل يوم على فراقهم، على بناتي اللي مالحقتش أشبع منهم، حرام عليك إنت مش حاسس بالنار اللي جوايا .!
ثم أجهشت بالبكاء الحارق، وتنهدت بصوت مرتفع وهي تردد:
-بناتي.. قلبي، آآآه!

نظر لها بإزدراء غير مصدقاً لمشاعر الأم المكلومة، وأردف قائلاً بقسوة بالغة بعد أن أرخى ساعديه:
-الأم اللي تقتل بناتها مالهاش لازمة في حياتي!
رفعت عينيها الحمراوتين لتنظر له برجاء وهي تهتف فيه بصوتها المختنق:
-حرام عليك، ده.. ده أنا كنت معاك، ليه بتقول إني أقتلتهم ؟ لييييه ؟
لوح بيده أمام وجهه وهو يصيح فيها بصوت محتد:
-متبرريش جريمتك، هما ماتوا بسببك، سامعة بسببك!

نهضت عن مقعدها، وأمسكت به من ذراعيه بقبضتيها الضعيفتين، وهتفت بصوتها المتحشرج:
-لأ يا ممدوح، لألألأ.. أنا قلبي محروق عليهم، ليه إنت كمان تعمل فيا كده ؟
أزاح قبضتيها عنه، وقبض على عضديها، وهز جسدها بعنف وهو يهدر بإنفعال:
-لأنها الحقيقة، لو كنتي باقية عليهم كنتي عرفتي إزاي تحميهم
إنتحبت وهي تجيبه بصوتها الحزين:
-أنا أمهم، أمهم.

قبض على فكها بكفه، وإعتصره بأصابعه الغليظة، ثم نظق بشراسة من بين أسنانه وهو يحدجها بنظراته القاسية:
-خلاص يا مدام، اللي بينا انتهى، وانتي.. وانتي معنتيش تلزميني
اتسعت عينيها في ذعر مريب، وسألته بتوجس:
-يعني ايه ؟
صرخ بصوت هائج وهو يدفعها بعنف للخلف:
-يعني إنتي طالق، طالق، طالق!
سقطت تهاني على الأرضية الصلبة، وإرتطم جسدها بقسوة به، وهتفت بعدم تصديق:
-لألألألأ..

ثم تركها ممدوح وإنصرف وهي تلطم وتصرخ بإهتياج..
نعم.. فالخطب جلل بالنسبة لها، لقد خسرت رضيعتيها، والآن زوجها، وأصبحت بائسة بدونهم.. ولم يبقْ لها إلا ابنها.. ليكون هو فقط سندها في تلك الحياة القاسية..
ولكن لم يدمْ الأمر طويلاً..
فحينما أرادت أن يعود الصغير أوس إلى حضنها تفاجئت بمهاب يقول ببرود:
-اعتبري ابنك مات!

أمسكت به من ياقته، وهزته بعنف وهي تصرخ منفعلة أمام باب منزله:
-إنت بتقول ايه ؟ ابني لسه عايش وهاخده في حضني!
خدش قبضتيها وهو يبعدهما عنه، ونهرها بصوته الأجش قائلاً:
-نزلي إيدك، إنتي مالكيش حاجة عندي، إبنك مات، سامعة مات!
هزت رأسها رافضة بقوة ما يقول، وإحتجت قائلة وهي تشير مهددة بإصبعها:
-لألألأ.. أوس عايش وهاخده منك بالقانون
ضحك مستهزئاً بها، وهتف بثقة بالغة:
-هع هع.. قانون!

ثم ربت على كتفها بعنف وهو يتابع بصوت قاتم، ونظرات محذرة:
-طب يا مدام تهاني أحسنلك ماتلعبيش معايا
سلطت أنظارها الغاضبة عليه وهي تجيبه بثبات ب:
-مش هاخاف منك يا مهاب، ابني هيرجع ليا تاني، إن شاء الله أصرف كل اللي معايا، بس هاخده منك!
أرجع رأسه للخلف، وفغر فمه ضاحكاً بإستهزاء، ثم تابع بسخرية:
-أها.. قولتيلي، فلوسك.. هو ممدوح جوزك مقالكيش انه سحب كل رصيدك وضمه لحسابه ؟!

إتسعت مقلتيها في إندهاش بعد عبارته الأخيرة، ورفعت حاجبيها للأعلى في ذهول، وإكتسى وجهها بعلامات الصدمة، وهتفت غير مصدقة ب:
-هاه، مش ممكن!
تقوس فمه في عبث وهو يراها مشدوهة بما حدث، فتابع بإستفزاز:
-لأ بجد مقالكيش، تؤ.. تؤ.. تؤ.. مالوش حق، دي أول حاجة عملها بعد ما عملتيله التوكيل!
تحشرج صوتها، وهزت رأسها نافية وهي تهتف بصوت مصدوم:
-ممدوح مش هايعمل كده، هو.. هو بيحبني!

غمز لها مهاب بطرف عينه وهو يضيف ببرود:
-واللي بيحب واحدة بيطلقها برضوه يا مدام ؟ ممدوح اتجوزك بأوامر مني، وطلقك لأنه خد اللي عاوزه منك!
صرخت فيه بإنفعال وهي تهز رأسها بعصبية:
-اسكت، ممدوح مش كده
تسلى مهاب برؤية طليقته السابقة وهي تعاني من حالة الإنهيار عقب إكتشافها لحقيقة زوجها..
فقد شعر بإنتشاء عجيب وهو يراها منكسرة محطمة..

وأراد أن يتسلى أكثر معها، فقال بمكر:
-الحق يتقال هو زعل على موت بناته، وهما اللي عجلوا بقرار طلاقك منه!
وضعت يديها على أذنيها لتسدهما وتكتم صوت الحقيقة القاسية، وأغمضت عينيها مستنكرة ما يحدث، وصرخت بصدمة:
-مش ممكن، مش ممكن!
أردف مهاب قائلاً بسخرية وتهكم:
-ما انتي مش عايشة معانا في الدنيا، هاقول ايه غير هبلة!
فتحت عينيها وأطلقت صرخة مدوية وهي تهتف قائلة:
-حرام عليكم، آآآآآه، ليييييييييييه ؟ ليييييه كده ؟!

في تلك اللحظة خرج الصغير أوس من غرفته، وهتف بصوت طفولي بريء وهو ينظر في إتجاه باب المنزل:
-مامي!
خفق قلب تهاني بقوة وهي ترى صغيرها – وسندها الوحيد – أمامها، منادياً إياها بأحب الألقاب وأغلاها.. فهتفت بلهفة دون تردد بعاطفة قوية:
-أوس.. ابني
سد مهاب الطريق عليها بجسده، ووقف حائلاً دون دخولها، وصرخ بصوت آمر:
-خش جوا يا أوس!

نظر الصغير إلى والدته بإندهاش غريب، وتسائل ببراءة وهو فاغر ثغره الصغير:
-مامي إنتي.. إنتي عايشة ؟
ثم فرك عينيه بقبضتيه الضئيلتين ليتأكد من أنها حقيقية.. فقد تمنى أن يراها ليسرد لها ما عاناه بعد غيابها لفترة طويلة لعل روحه الصغيرة المنتهكة تجد راحته في وجودها معه..
لعله يستطيع أن يبوح لها بأبشع أسراره..
فهو وحده من ذاق مرارة الفقد.. وعذاب إغتيال البراءة
تسمرت نظرات تهاني على صغيرها وهي تراه متشوقاً لرؤيتها..
صاح الصغير أوس بصوت مليء بالشجن وهو يقترب منهما:
-مامي عايشة!

شعرت تهاني بإنكسارة غريبة في نبرة صوت وليدها، وحزن عجيب بدى واضحاً وهو يقترب منها.. فحدقت في مهاب بنظرات محتقنة، وسألته بصوت محتد:
-إنت قولت لإبني إني مت ؟
لم يجبها مهاب، بل عَمِد إلى دفعها للخلف، وأدار رأسه ناحية ابنه، وهدر قائلاً بصلابة:
-أوس، خش جوا، ناريمان، تعالي خدي أوس!

ركضت ناريمان نحو الصغير أوس، ثم أمسكت به من ذراعه، ونفخت في ضيق وهي تقول بصوت غاضب:
-ايه اللي طلعك من أوضتك، تعالى معايا
حرك الصغير أوس ذراعه بكل ما أوتي من قوة ليتحرر من قبضتها وهو يصيح معترضاً بصوت مختنق:
-ابعدي، أنا عاوز مامي، استني، أنا عاوز أتكلم معاكي! مامي!
قبضت ناريمان عليه بقوة أكبر، وجرته خلفها بعيداً عن والدته، في حين استمر هو في صراخه قائلاً:
-مامي، استني، مامي، أنا عاوز مامي، سبيني!

رأت تهاني بعينيها الصراع الدائر بين وحيدها الصغير وزوجة أبيه، فإهتاجت بشدة، وصرخت قائلة بإصرار وهي تحاول دفع جسد مهاب لتلج للداخل:
-لألألأ.. هاتلي ابني، رجعهولي يا مهاب، حرام عليك، ده أنا أم
لكزها في صدرها وهو ينطق بقسوة ب:
-بأقولك انسيه خالص!
نظرت له بنظرات نارية من بين عينيها الحمراوتين، وهتفت بصوت جهوري:
-أنا هاخده منك بالعافية.

أطبق على فكها بكف يده، وإعتصره بقسوة آلمتها، ثم صر على أسنانه قائلاً بشراسة:
-لو فكرتي بس تروحي تشتكي، أنا هاوديكي في داهية، ومعايا اللي يثبت ده
تآلمت من عنفه معها، وقالت بإصرار أموي معهود:
-آآآه، مش مهم، ابني هاخده منك
أرخى قبضته عن فكها، ودفعها للخلف، وصاح مهدداً:
-يبقى إنتي الجانية على نفسك!

رمقته بنظراته الإحتقارية، وأجابته بعدم إكتراث:
-مش مهم أي حاجة في الدنيا غير إني أخد ابني في حضني
-حتى لو هاتتعدمي ؟!
ضيقت تهاني عينيها في عدم إستيعاب عقب عبارته الأخيرة، هي لا تريد منه أي شيء سوى إبنها الوحيد، والذي تبقى لها بعد خسارتها لكل شيء، ومتحجر القلب هذا يهددها بالإعدام وكأنه متيقن من أنها مجرمة بالفعل..

لذا سألته بفضول كبير وهي عابسة الوجه:
-قصدك ايه ؟
أجابها دون أن يهتز له جفن:
-التحاليل الغلط اللي عملتيها
إزداد إنعقاد ما بين حاجبيها، وتسائلت بتلهف:
-تحاليل ؟!
أومأ برأسه إيجابياً وهو يرد بهدوء مخيف:
-أها، ماهو في كام عيان مات بسبب غلطك في نتايج التحاليل
شحب لون وجهها، ورمشت بعينيها وهي تهتف معترضة:
-أنا معملتش كده!

إلتوى فمه بإبتسامة لئيمة وهو يتابع بعبث:
-إثبتي ده، وكل الورق طالع بإسمك
صرخت فيه بإنفعال وهي تبكي – لا إرادياً – بحرقة:
-إنت ايه ؟ حرام عليك ياخي! حرام!
أشار لها بإصبعه وهو يأمرها بفظاظة:
-برا يا تهاني، إنتي خلاص ورقة واتحرقت من حياتي
نظرت له بتحدٍ سافر وهي تصرخ بنبرة مهددة:
-مش هاسيبك يا مهاب، ابني هاخده منك، وهايرجعلي تاني.

رد عليها بتوعد قائلاً وهو يقبض على عنقها لتختنق بأصابعه القوية:
-وقت ما تفكري تعملي ده هتلاقي نفسك بتعفني في أوسخ سجن هنا، وأنا بنفسي هاجيب ابنك يشوف أمه
تلوت تهاني بجسدها محاولة تخليص عنقها من قبضته حيث إزداد شعورها بالإختناق.. وبدأت تتنفس بصعوبة، وهتفت متوسلة:
-لألألأ.. ارحمني
دفعها للخلف بقوة أشد لترتد وتسقط على الأرضية وهو يتابع قائلاً بجمود:
-يالا، برا!

ثم صفق الباب بقوة في وجهها، فتحاملت على نفسها، ونهضت عن الأرضية، ثم ألصقت جسدها بباب المنزل، وظلت تدق عليه بعنف، وهي تصرخ متوسلة ك
-افتح يا مهاب، سيبلي ابني، حرام عليك اللي بتعمله فيا ده، حرام...!
ولكنه لم يعبأ بصراخها، ولا بما تفعله، فقد اكتفى برسم إبتسامة انتصار على وجهه، ففي النهاية ظفر بكل شيء، ابنه الوحيد، وزوجته الجديدة، وطفلة بديلة، وحياة أخرى لا يعكر صفوها ركام الماضي...
ولأيام عديدة ظلت تهاني قابعة أمام باب منزل مهاب، وهي تصرخ بهذيان من أجل إبنها حتى أرسل هو في إستدعاء الأمن لها، وتم حبسها لبضعة أيام، ثم نجح - بفضل معارفه، وصلاته الإجتماعية - في ترحيلها لتعود لمصر فاقدة لكل شيء حتى عقلها...

أفاقت تهاني من ذكرياتها وهي تشهق بآلم وحسرة..
هزت رأسها رافضة لهذا الواقع الآليم الذي كانت تخوضه يومياً بمفردها، واليوم بعد أن إستعادت كامل وعيها عليها أن تستعد من أجل أن تستعيد أخر فرد في أسرتها.. ابنها الوحيد أوس الجندي
نعم لقد عقدت العزم على أن تبدأ رحلة البحث عنه فور خروجها من هذه الدار..
وستكون تلك هي مهمتها حتى الرمق الأخير في حياتها...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة