قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل التاسع والعشرون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل التاسع والعشرون

كانت تقى تعيش في عالم خاص بها، تصارع فيه قدرها، نعم كانت تعاني في أحلامها..
تلفتت حولها في ذلك الظلام الدامس محاولة إيجاد السبيل للنجاة بعد أن ضلت طريقها..
فرائصها ترتعد، قلبها ينبض بسرعة رهيبة، أنفاسها لاهثة.. ولكن هناك أضواءاً عالية تسطع من مكان ما..
ركضت نحوها بقدميها الثقيلتين.. وشهقت في فزع حينما رأتها نيراناً مستعرة، ومن خلفها أعين تضيء بشراسة في الظلام..

تراجعت بفزع للخلف، وسقطت على ظهرها، وحاول أن تزحف بمرفقيها مبتعدة عن هذا الخطر المحدق بها..
حاولت أن تصرخ ولكن إنقطعت حبال صوتها، وتحشرج صوتها..
أدارت جسدها، وجثت على ركبتيها، وزحفت على تلك الأرضية الخشنة، فإنجرحت ساقيها، ولكنها لم تأبه بالآلم الرهيب..
هي تريد النجاة..
سمعت صوتاً يأتيها من بعيد بهتف بإسمها، فتلفتت حولها بخوف شديد، ونظرات الذعر لم تفارق عينيها، ولكنها جاهدت لتعرف مصدره..

تمكنت من الوقوف على قدميها، وعرجت وهي تركض مسرعة نحو الظلام.. ولكن مازال يطاردها ذلك الصوت الشجي المتآلم..
كافحت تقى لتفتح عينيها، وبالفعل رأته ذلك المسجي على الأرض وينادي بإسمها.. ويتلقى الضربات الموجعة وهو يحاول الوصول إليها
رمقته بنظرة غير واضحة، نعم هي تألف صوته ولكنها في نفس الوقت تخشاه بشدة.. وفجأة أغمضت عينيها، وشعرت أن جسدها يهتز بقوة، فإستسلمت لصوت جسدها، وهوت في تلك الهوة العميقة التي إبتلعتها بشراهة، ومع هذا صاحبها ذلك الصوت الذي يصرخ بمرارة بإسمها، فكانت أخر ما إلتقطته أذنيها قبل أن تسقط في بئر ظلامها..

ركض منسي بتقى خارج المشفى، ولم يعبأ بملاحقة الأمن له، فقد تكفلت فردوس ومعها أحمد في منعهما من الإقتراب منهما، حيث ظلت هي تصرخ بطريقة هيسترية جعلت الجميع يخشى الإقتراب منها، وأشار أحمد بيديه بطريقة محذرة في حالة تفكير أي أحد في التدخل..
ثم أسرع في خطواته في إتجاه الطريق الرئيسي ليستوقف سيارة أجرة، وبالفعل توقفت إحداهم، ومن ثم ركبت فردوس في الخلف، وأسند منسي تقى بحذر على المقعد الخلفي، حيث أحاطتها والدتها من ذراعيها، وظلت تقبل رأسها بعاطفة أموية كبيرة..

تعجب السائق من حالة تلك المريضة الحرجة، وشحوب وجهها، ولكنه لم يجرؤ على طرح أي أسئلة، إكتفى بالإيماء برأسه، وأدار سيارته إلى الوجهة المطلوبة..
لم يكف عقل فردوس عن التفكير للحظة فيما حدث لإبنتها الوحيدة..
لقد تعرضت لأبشع جريمة يمكن أن ترتكب.. الإغتصاب..

الفضول يقتلها لمعرفة كيف حدث لها هذا، وكيف إستسلمت لحفنة من الذئاب البشرية لينهشوا عرضها..
هي لم تعرف ملابسات الحادث بالضبط.. فظنت أن إبنتها قد أغتصبت كما تسمع وتشاهد في التلفاز على أيدي بعض الشباب المنحرفين..
تنهدت في إنهاك وهي تمسح على رأس إبنتها، وإحتارت في كيفية التصرف، فهي لا تعرف كيف تتعامل الضحية مع الغير ومع عائلتها في هذه النوعية من الجرائم..
هي تقاوم الشعور الذي يتسرب رويداً رويداً إليها بالعار والخزي..

فجريمة هتك العرض تتحمل جريرتها المرأة وحدها حتى أخر العمر.. ويحمل معها عبئها أسرتها بالكامل..
من الذي سيرضى بفتاة ذبحت بشراسة قبل أن تتمتع بحياة زوجية هانئة..
من الذي سيقبل أن يكون الرجل الثاني في حياة شابة طمس طهرها مجموعة من الأوغاد..
لم تدرْ أنها ذرفت الدموع عفوياً وهي تتحسر بآسى على مستقبل إبنتها الذي إنتهى قبل أن يبدأ..

في مشفى الجندي الخاص
دارت أحاديث جانبية في جميع أرجاء المشفى وخاصة بين الحرس والممرضين عن تعرض إبن صاحب المشفى للضرب، حيث كانت ردود أفعالهم مختلفة.. فتشفى البعض فيه، وإنزعج البعض الأخر..
ولكن نتيجة ما حدث تم إتخاذ إجراء ضد كل من تسبب في هذا الإهمال بناءاً على تعليمات كبير الأطباء مما سبب سخط الجميع..
كما قلبت أوضاع المشفى رأساً على عقب بعد إنتشار خبر تعرض أوس الجندي للضرب الوحشي..
إنتفض الجميع في أماكنهم، وأصبحوا في حالة تأهب شديدة..

أسرع كبير الأطباء بإدخال أوس إلى غرفة الطواريء للفحص الكلي، ومنها إلى غرفة الأشعة للتأكد من عدم وجود أي كسور أو مضاعفات أو نزيف داخلي به..
كذلك إنضم الطبيب مؤنس للطاقم المعالج له، وصاح بغضب قائلاً:
-دي اسمها مهزلة، فين الأمن هنا، وفين الممرضين، دي مش مستشفى، ده اسمه سوق، إزاي ناس زي دول يدخلوا ويخرجوا من غير ما حد يمنعهم ؟ إزاي ؟
أجابه أحد الأطباء بخفوت وهو يتلفت حوله بحذر:
-دي أوامر عليا، محدش فينا كان يعرف.

هتف محتداً وهو يلوح بذراعه:
-لو جراله حاجة أنا هاحملكم المسئولية كلكم! أنا مش هاسكت
هنا تدخل كبير الأطباء، ووضع يده على كتفه، وأردف بهدوء حذر:
-إهدى يا دكتور مؤنس، وأنا هاتصرف
صرخ الأخير منفعلاً وهو يشير بإصبعه:
-أهدى إزاي يعني ؟ ده مريض وتحت مسؤليتي، وأنا آآآآ...

قاطعه كبير الأطباء ببرود قائلاً:
-محدش قال إنك مقصر معاه، بس اللي حصل حصل، وأنا حالياً بنفسي هتابع كل اللي يخصه
ضيق الطبيب مؤنس عينيه أكثر ليرمقه بنظراته الساخطة وهو يسأله بحنق:
-ودكتور مهاب عرف باللي حصل ؟
تنهد في إرهاق وهو يرد عليه بفتور:
-لأ لسه، ومافيش داعي نبلغه إلا لما نطمن الأول
استشاط مؤنس غضباً، وصرخ قائلاً:
-والله ده استهبال.

حدجه كبير الأطباء بنظرات محذرة وهو ينطق بصرامة:
-دكتور مؤنس، مافيش داعي للغلط.. أنا قولتلك هاتصرف بطريقتي
حك مرنس رأسه، وتسائل بجدية شديدة:
-طب والمريضة اللي كانت معاه ؟
أجابه بإقتضاب وهو يدس يديه في جيب معطفه الطبي:
-خرجت!

جحظت عينيه بذهول، وفغر فمه قائلاً بذعر:
-نعم! إزاي ؟ ده.. ده خطر على حياتها وآآ...
قاطعه بعدم إكتراث وهو يشير بيده:
-أهلها خدوها وأنا مقدرش أمنعهم
سأله مؤنس بتهكم وهو ينظر مباشرة في عينيه:
-وفين ضميرك المهني يا دكتور، دي محتاجة رعاية من نوع خاص ؟!

رد عليه بعدم إهتمام وهو يوليه ظهره:
-عيلتها تتصرف معاها!
لوى مؤنس فمه بسخط أكبر وهو يتابع قائلاً:
-بجد أنا مستغربك، أنا..آآآآ...
إستدار كبير الأطباء ليواجهه، وقاطعه بنبرة جادة ب:
-دكتور مؤنس واضح إنك منفعل أوي، وده مش كويس عشان المريض، أنا رأيي تطلع مكتبك ترتاح، وأنا هابلغك بالجديد
صر الطبيب مؤنس على أسنانه في حنق، فهو يعلم أن جداله معه لن يوصله إلى شيء، فإكتفى برمقه بنظراته النارية، ثم كور قبضة يده، وإنصرف وهو يغمغم بغضب..

لاحقاً أعاد أحمد ومنسي تقى إلى منزلها المتواضع بالحارة الشعبية.. وحملها الأخير خارج سيارة الأجرة بحذر.. وسار بها في إتجاه البناية القديمة دون أن يتفوه بكلمة..
تفاجيء أهالي الحارة بحالة الإعياء الشديدة التي كانت عليها تلك الغائبة لفترة، وتداولوا بعض الأقاويل عنها، وإنتشرت شائعات مغلوطة تخص أمرها..
لم تهتم فردوس بنظرات المحيطين بها سواء الفضولية أو حتى الشامتة.. فأكبر ما يهمها الآن هو حياة إبنتها، وعودتها إلى طبيعتها..
ركضت صعوداً على الدرج لتتمكن من فتح باب منزلها لهما..

في حين قتلت نظرات الغيرة أحمد لحمل منسي لتقى بين ذراعيه.. كم كان يود أن يحملها هو وينطلق بها نحو منزلهما كعروسين سعيدين، ولكن تم بتر أحلامه منذ مهدها..
نفض هو تلك الأفكار عن رأسه، وأردف بجدية:
-لازم نشوفلها دكتور كويس يقولنا هنعمل ايه معاها، لأن حالتها ماتطمنش!
نظر له منسي شزراً، وأجابه بفتور:
-والله دي حاجة ترجع لأمها، ولأهل بيتها، معتقدش إن حد هيحتاج خدماتك في حاجة
صر أحمد على أسنانه وهو يجيبه بحنق:
-أنا دوري لسه مخلصش.

إلتوى فم منسي بطريقة مستهزئة وهو يجيبه قائلاً:
-لأ.. لحد هنا وآآآآ..
قاطعهما صوت فردوس الصادح ب:
-أنا فتحت الباب على أخره، أوام الله يكرمكم!
إتجه منسي نحو الباب، وظل يلهث وهو يلج للداخل، وأرشدته فردوس إلى مكان غرفتها، فوضعها برفق على الفراش، وأسرعت هي بتغطيتها بالملاءة، وجلست على طرف الفراش إلى جوارها، ومسدت على رأسها، وكذلك مسحت على وجنتها، ثم إنحنت لتقبلها من رأسها وهي تقول بصوت أسف:
-سامحيني يا بنتي على اللي حصل مني، ربنا يعيني وأعوضك عن اللي فات!

تنحنح منسي بصوت خشن، ووزع أنظاره ما بين الإثنتين، وقال بصوته الأجش:
-ها يا ست فردوس، عاوزة حاجة مني ؟ الأمانة رجعت تاني أهي!
نظرت له بإمتنان، وأجابته بصوت شبه باكي:
-كتر خيرك يا بني
هتف أحمد بإصرار وهو يشير بيده:
-أنا بأقول نجيب دكتور يشوفها الوقتي، وآآآ..

قاطعه منسي بصوت حاد وهو يرمقه بإزدراء:
-مقولتلك دي حاجة متخصكش، إحنا عيلة هنتصرف مع بعضنا
وقف أحمد قبالته، ونظر له بتحدٍ وهو يردف قائلاً بسخط:
-عيلة إزاي يعني ؟ ده أنت آآآآآ..
قاطعتهما فردوس بصوت شبه محتد ب:
-سيبوا بنتي في حالها، أنا هاتصرف معاها، وربنا يباركلكم لحد كده، ومتشكرة على كل حاجة، وبخاطركم بقى، عاوزة أشوف بنتي.

مسح منسي على صدره، ولم يحيد بعينيه الغاضبتين عن وجه أحمد وهو يجيبها بجدية:
-ماشي يا ست فردوس، إحنا برضوه موجودين في الخدمة، ومتشليش هم مصاريف، رقبتي سدادة
بادله أحمد النظرات المستفزة، وأردف قائلاً بهدوء حذر:
-لو مكنش فيها إزعاج، أنا هابقى أجي أطمن على تقى، وهاجيبلها دكتور معرفة
ردت عليه فردوس بنبرة جادة بعد أن نهضت من جوار إبنتها، ووقفت على مقربة منهما:
-ربنا يسهل، أستأذنكم الوقتي تمشوا.

أومأ منسي برأسه وهو يجيبها بصوته المتحشرج:
-حاضر يا ست تقى
ثم إستدار برأسه نحو أحمد، وحدجه بنظراته الحادة وهو يقول:
-مش يالا يا أخ!
نفخ أحمد في ضيق وهو يجيبه بإقتضاب:
-طيب
ثم رافقتهما فردوس إلى خارج المنزل، وركضت مهرولة في إتجاه غرفة زوجها، لتخبره بعودة إبنتهما الوحيدة إلى أحضانهما..

هزته من كتفه برفق وهي تهتف بفرح:
-إصحى يا عوض، بنتك تقى هنا!
فتح عينيه بتثاقل، ونطق بصوت متلعثم:
-ت.. تقى!
أومأت برأسها وهي تجيبه بنبرة متفائلة وقد أدمعت عينيها:
-أيوه بنتك، تعالى عشان تشوفها، والله أول ما هاتشوفها هتفتكرها على طول، هو في حد ينسى ضناه برضوه!

ثم أزاحت الملاءة عنه، وأنزلت ساقيه على الأرض، وأسندت ذراعه حول كتفها، ولفت ذراعها الأخر خلف ظهره، وتحملت ثقل جسده، وسارت به في إتجاه غرفة إبنتهما..
وما إن رأها عوض حتى إرتسمت على وجهه علامات الفضول والإندهاش.. نعم فملامحها البريئة محفورة في ذاكرته، وإسمها يأتي على لسانه.. ولكنه لا يتذكرها تماماً..
أشفق على حالتها.. وشعر بغصة في حلقه وهو يرى أثار الجروح والكدمات على وجهها وأجزاء جسدها المتكشف..
سأل فردوس بصوت متقطع ب:
-ه.. هو.. م.. مالها ؟

نظرت بإنكسار له، وأجابته بخزي:
-اللي حصل لا يتقال ولا يتحكى، إدعيلها يا عوض، إدعيلها، احنا في غلب، وبنتنا.. وبنتنا مالهاش إلا ربنا
هي تعلم أن مأساة عائلتها سيتحملها هما الاثنين فقط، ولن يشاركهما أي أحد مشاعرهما المهزومة ولا الذليلة..
سمعت فردوس صوت طرقات على باب منزلها، فتركت زوجها مع إبنتها، وأسرعت في خطاها نحوه..
فتحته وهي تمسح عبراتها، فوجدت جارتها إجلال تقف على عتبته وتسألها بتلهف:
-حقة بنتك تقى رجعتك ؟

أجابتها بصوت مكتوم وهي مطرقة الرأس في حزن:
-أيوه
-اللهم لك الحمد والشكر، حمدلله على سلامتها، والله أنا فرحت لما سمعت الناس في الحارة بيقولوا إنها رجعت
تحركت فردوس بعيداً عن الباب، ولم تجبها..
بل جلست على أقرب مقعد، وتنهدت بأنين خافت.. ودفنت وجهها بين راحتيها
عقدت إجلال حاجبيها في إستغراب ثم أغلقت باب المنزل، وسارت خلفها، وأسندت كفها المجعد على كتفها، وضغطت عليه قليلاً، وسألتها بتوجس:
-في إيه مالك ؟ هو إنتي مش فرحانة إنها رجعت ؟!

نفخت في آسى، وأجابتها بصوت مختنق ومتقطع:
-لأ فرحانة.. بس آآآ.. بس..
سألتها مجدداً بإهتمام أكبر بعد أن سحبت المقعد المجاور لها، وجلست عليه:
-بس ايه ؟ ما تقولي يا فردوس!
أخذت فردوس نفساً عميقاً، وحبسته لبرهة في صدرها، ثم سردت على جارتها ما حدث مع إبنتها وعبراتها تسابقها في الإنهمار..
شهقت إجلال في صدمة، ولطمت على صدرها بخوف وهي تنطق بنبرة معاتبة:
-وسايبة بنتك كده وأعدة معايا، قومي شوفيها.

ردت عليها بتلعثم بعد أن كفكفت عبراتها:
-ما.. ما أبوها أعد جوا وآآ..
نهضت إجلال من على المقعد وقاطعتها بصوت صارم:
-ده إنتي لازم تكوني معاها في كل لحظة، وأنا هاروح أكلم ضاكتور معرفة كده يجي شوفها
نهضت فردوس هي الأخرى، ونظرت إليها بعينيها الدامعتين، وأردفت بقلق:
-بس أنا آآ...
أشارت لها إجلال بكف يدها، وهتفت بجدية:
-من غير بس، ده أنتي أخدها من المشتشفا ( المستشفى )، وبتقولي مش بتنطق ولا بترد عليكي.

ردت فردوس بصوت نادم قائلة:
-ماهو أنا اللي كان هاممني إني أخدها في حضني
هتفت إجلال بنبرة أكثر جدية وهي توليها ظهرها:
-وماله، بس لازم ناخد بالنا منها لأحسن تروح مننا في غمضة عين.. أنا رايحة على طول أكلم الراجل، وماتشليش هم مصاريف ولا غيره!
تنهدت فردوس في تعب، وهتفت بنبرة ممتنة:
-كتر خيرك يا إجلال، والله إنتي لو اختي ما هتعملي معايا كده، ولا تقفي جمبي
إلتفت إجلال برأسها لترمقها بنظرات حانية وهي تجيبها بهدوء:
-يا ستي الجيران لبعضها، خشي بس طلي على بنتك، وأقعدي جمبها!
ردت عليها بإيجاز قائلة:
-حاضر

في مشفى الجندي الخاص
أسرع كبير الأطباء ومن معه من معاونين في تقديم العلاج الفوري لحالة أوس المتدهورة بعد تلك الإعتداءات الجسدية عليه، وخاصة بعد أن انصرف الطبيب مؤنس غاضباً، فخشي أن يرتكب حماقة ما، فبادر بالتصرف السريع..
إرتجف جسد أوس بشدة، وتشنجت أعصابه، فخشي عليه المحيطين من وجود مضاعفات ما.. وعكفوا على حقنه بما يتناسب مع حالته.. فسكن جسده، ولكن لم تهدأ روحه..

وظل يتصارع مع أحلامه المظلمة..
فقد رأها وهي تقف على شفا ذلك الجرف، فإنقبض قلبه، وركض نحوها..
كانت تنظر له تقى بنظرات معاتبة.. والدماء تنساب منها..
صرخ بإسمها، وهو يمد ذراعه نحوها..
لكنها إستدارت بجسدها كلياً، وفتحت ذراعيها في الهواء، وأوشكت على إلقاء نفسها..

تمكن أوس من الإمساك بمعصمها قبل أن تسقط تماماً، وظلت تتأرجح بجسدها في الهواء..
نظرت له بذعر، ونظر هو لها بخوف..
هتف بإسمها عالياً وهو يكافح للحفاظ عليها:
-تقى، ماتسبنيش، امسكي فيا، تقي، ردي عليا
رأى العبرات التي تحمله الذنب تترقرق بغزارة في مقلتيها، ولم تجبه بكلمة.. بل عَمِدت إلى أن تتمايل بجسدها حتى تفلت معصمها، وتسقط للأبد
-صرخ باكياُ ومتوسلاً لها ب:
-تقى، ماتبصليش كده، ماتبعديش عني!

شعر بالخدر يسري في ذراعه، وبزيادة ثقل جسدها المتأرجح، فبدأت هي تنزلق من بين أصابعه، فخفق قلبه بقوة أكبر.. ونظر لها بفزع وهو يهتف بصوت مذعور:
-امسكي فيا يا تقى، ماتسبنيش، ما تسبنيش
لم يتمكن من الحفاظ عليها، فأفلتها رغماً عنه وصرخ بندم حقيقي، وهوت للأسفل، ونظراتها المعاتبة موجهة إليه لتقتله أكثر

حقن كبير الأطباء المحلول الطبي المعلق بإبرة طبية، ونظر إلى أحد الأطباء المرافقين له، وأردف قائلاً بجدية:
-عاوز الحقن دي يستمر عليه لأطول فترة ممكنة
تحدث الطبيب معترضاً وهو يشير إلى جسد أوس:
-بس يا دكتور آآ..
قاطعه كبير الأطباء بجدية:
-ده لسلامته، ولسلامتنا احنا كمان، أنا مش ضامن ردة فعله لو فاق
مط الأخير فمه قائلاً بهدوء:
-اللي تشوفه يا دكتور.

ابتسم كبير الأطباء إبتسامة خفيفة وهو يجيبه بثقة:
-ده مافيش فيه خطر، اطمن!
ثم أشار بإصبعه بجدية وهو ينظر لرئيس طاقم التمريض:
-فوراً تجيب حراسة هنا على باب الأوضة، وممنوع حد يدخل مهما كان مين!
هز رئيس طاقم التمريض رأسه بإزعان لأوامره، واجابه بنبرة رسمية:
-حاضر يا دكتور
وقف كبير الأطباء متسمراً في مكانه بعد أن عقد ساعديه أمام صدره، وحدث نفسه بقلق:
-لازم أضمن ان مافيش مشاكل تحصل الفترة الجاية، واظبط الدنيا كلها قبل ما دكتور مهاب يرجع!

دارت المدبرة عفاف حول نفسها، ووضعت يدها على رأسها محاولة تخفيف حدة الضغط عليها، وحدثت نفسها بعتاب قائلة:
-يا ريتني ما سيبت المكان ومشيت، كنت منعت الكارثة دي قبل ما تحصل! آآآه.. يا ريتني
ثم ضغطت مجدداً على زر الإتصال بناريمان التي كانت تتجاهل إتصالاتها، فزفرت بغضب وهي تهتف بخيبة أمل:
-استحالة تكون دي أم، دي كأنها مصدقت!
يئست هي من ردها عليها، فأعادت وضع هاتفها في حقيبتها، وتمتمت مع نفسها بقلق بالغ وهي تدور في الرواق..

في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب:
طرقت مديرة مكتب السكرتارية بأظافرها المطلية على سطح مكتبها في ضيق واضح وهي واضعة لسماعة الهاتف الأرضي على أذنها..
نفخت في إنزعاج وهي تحدث نفسها بصوت جاد ب:
-الباشا مش بيرد بقاله يومين، وانا مش عارفة أوصله خالص، وعمالة ألغي في مواعيد، وأجل في مواعيد تانية، ووضعنا مع العملاء بقى حرج جداً..
تنهدت في إنهاك وأضافت بضيق:
-طب المفروض أتصرف إزاي، هاضطر أتصل بعدي بيه وأبلغه يجي القاهرة ويتصرف، دي مسئولية علينا كلنا!

دلفت سكرتيرة أخرى إلى داخل المكتب، وتسائلت بإهتمام:
-ها وصلتي لأوس باشا ؟
نظرت لها وهي تجيبها بإحباط:
-لأ لسه
مطت السكرتيرة فمها في إستنكار، ثم أضافت بتوجس:
-مممم.. طب ده في ورق كتير متعطل على إمضته، ده غير شيكات مرتبات الموظفين، وبتوع الحسابات عاوزين آآآ..
قاطعتها مديرة المكتب قائلة بصوت شبه منفعل:
-أنا عارفة ده كله، وهاحاول أتصرف.

أومأت الأخيرة برأسها وهي تجيبها برجاء:
-يا ريت
أشارت لها بعينيها، وأردفت قائلة بصرامة وهي تعاود التطلع إلى المفكرة الصغيرة الموضوعة على سطح مكتبها:
-أوكي، وشوفي إنتي وراكي أيه
-تمام..!

في النادي الشهير
إنتفض سامي الجندي من مقعده، وقد إنفرجت أساريره بإبتسامة عريضة، وعدل وضعية الهاتف المحمول على أذنه وهو يصرخ بإنفعال:
-إنت بتتكلم جد ؟
رد عليه المحامي أمجد سعفان من على الطرف الأخر بصوت جاد قائلاً:
-اكيد طبعاً
سأله سامي بفضول شديد وقد زادت إبتسامته المتشفية إتساعاً:
-عرفت منين ؟
أجابه أمجد بهدوء قائلاً:
-من الواد اللي كان شغال عنده، اللي اسمه أحمد ده
-أها.

ثم أضاف بإهتمام:
-هو لسه متصل بيا ومبلغني إنه طحن أوس الجندي وعدمه العافية وبين الحياة والموت في مستشفى أبوه
قهقه سامي عالياً، ثم سعل للحظة، وأردف قائلاً بحماس:
-والله راجل الواد ده، لازم أديله مكافأة على الخدمة اللي عملها دي
-تمام يا سامي بيه
تبدلت ملامح وجه سامي للعبوس وهو يتابع بصوت محتد:
-مع إني لسه محروق من أوس، بس أهي حاجة تصبرني لحد ما أخلص القديم والجديد كله.

رد عليه أمجد بثقة:
-وماله، احنا مش ورانا حاجة إلا نجيب حقك
أخذ سامي نفساً عميقاً وزفره على مهل، ثم أضاف بنبرة متوعدة:
-يصبر بس عليا، وأنا هوريه النجوم في عز الضهر!

عرفت ناريمان بما أصاب أوس الجندي من تعرضه لإعتداء وحشي على يد بعض الغرباء في المشفى، فلم تهتم بالأمر، وإكتفت فقط بزيارته حفاظاً على صورتها الإجتماعية أمام الغرباء..
لم تنكر أنها شعرت بنوع من الراحة حينما رأته ممدداً على الفراش بدون أي حركة، فقد كان دوماً يزعجها بنظراته الساخطة والمهينة لها..
واليوم إرتاحت من تلك النظرات الكاشفة لحقيقتها المشينة.. وتمنت لو ظل راقداً لفترة أطول..

تقوس فمها بإبتسامة لئيمة وهي تحدث نفسها قائلة:
-أخيراً يا أوس شوفتك قدامي كده، أنا بأقشعر من وجودك حواليا، وقريب هارتاح منك ومن أبوك، وأفوق لنفسي بقى، كفاية سنين عمري اللي ضاعت هدر معاكو، وإنت لا من دمي ولا من لحمي!
وقف كبير الأطباء خلفها يراقب ردة فعلها، فتعجب من الهدوء الشديد المصحوب بالبرود والمسيطر عليها تماماً.. على عكس مدبرة قصره التي لم تفارقه للحظة، ولم تكف عينيها عن البكاء لأجله، ولا لسانها عن الدعاء له..

كذلك علم عدي هاتفياً بما صار مع أوس، فإستشاط غضباً لأجله، وأمر ليان زوجته ب:
-بسرعة جهزي الشنط، احنا راجعين القاهرة حالاً
نظرت له ليان من زاوية عينها، ثم عاودت النظر إلى شاشة التلفاز العريضة، وسألته بفتور:
-ليه ؟
رمقها بنظرات ساخطة وهو ينطق بصوت محتد:
-ماهو إنتي لو دريانة باللي بيحصل، كنتي عرفتي إن أخوكي مرمي في المستشفى
هتف بإيجاز وقد رفعت حاجبيها للأعلى:
-أوس!

نظر لها بإزدراء وهو يجيبها بتهكم:
-هو إنتي ليكي أخ تاني غيره
سألته بنبرة غير مكترثة وهي تنهض بتثاقل من على الأريكة:
-يعني حصله إيه ؟
رد عليه بصوت محتد وهو يشير بكف يده:
-معرفش، إنتي لسه هتسألي، انجزي يالا
-أوكي
تحركت بخطوات بطيئة نحو غرفة النوم، وغمغمت بخفوت مع نفسها:
-أصلاً أوس مش فارق معايا، هو عمره إهتم بيا، أووف، المهم إني هارجع كايرو تاني، بجد كانت جوازة قرف من أولها!

فخلال الأيام الماضية عانت ليان من الجوع العاطفي، والإهانات اللفظية من زوجها عدي الذي لم يكفْ للحظة عن تذكيرها بخطيئتها..
عاتبت نفسها كثيراً لأنها تسرعت في الإختيار، وأهدرت حريتها عبثاً، ولم تفكر بحكمة في إنتقاء الزوج المناسب لها، فلو تريث قليلاً لكانت ما تزال تنعم بحريتها..
ولكنها كانت تبرر موقفها هذا برغبتها في الهروب من واقعها الآليم، وخاصة ذكرياتها الآسفة مع فارس الذي تلاعب بها وأسلمت له نفسها دون عناء.. وكذلك رؤيتها لنريمان وهي في أحضان صديق العائلة وتبادله القبلات الحارة بشغف.. وعدم إكتراث أوس بها أو حتى إصراره على منع تلك الزيجة من الإستمرار..

إذن أقنعت نفسها أن الخطأ من البداية يرجع لعائلتها وليس لها.. فإن أساءت الإختيار في أي شيء، فيرجع اللوم والمسئولية لعائلتها بالأساس.. وهي فقط المجني عليها في كل هذا..
هكذا أثبتت ليان لنفسها بأنها الضحية المغلوب على أمرها.. وما تفعله لاحقاً يحق لها.. فلا لوم ولا عتاب...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة