قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل التاسع عشر

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 2 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل التاسع عشر

في منزل أوس بمنطقة المعادي،،،
أسرع أوس وهو يحمل تقى بين ذراعيه في إتجاه باب المنزل، وبلمسة خاطفة فتح المقبض، وإنطلق إلى الخارج دون أن يهتم بغلق الباب ..
ركض ناحية المصعد، وضرب بقبضته بعنف عى زر إستدعائه، وهو يصرخ بعنف:
-البهايم اللي في الأسانسير، انزلوا
ثم دق بعنف على الباب المعدني ..

وبعد لحظة انفتح الباب لتخرج منه سيدة ذات ملامح وجه متصلب، وترتدي ثياباً باهظة، فهتفت فيه بضيق:
-في ايه ؟ ايه الغارة اللي انت عاملها دي ؟
وأمعنت النظر في تلك الفتاة التي يحملها – وهي في حالة إعياء شديد – وتابعت بسخط:
-في إيه اللي بيحصل هنا ؟
حدجها بنظرات حادة وهو يصدح بصراخ آمر:
-برا
فغرت شفتيها في ذهول ونظرت له بإندهاش، وهي ترد قائلة:
-نعم
ضم تقى إلى صدره، وبطرف يده دفع تلك السيدة إلى الجانب وهو ينهرها بصوت جهوري:
-اطلعي برا، إنتي لسه هاترغي !

لم تفق السيدة من حالة الصدمة التي إنتابتها، فهي لم تتوقع أن يحدثها أحد بوقاحة مثل ذلك الرجل العجيب، فهي ذات منزلة وشأن.. ومعروف عنها التكبر والتعالي..
وقفت أمامه تنظر إليه بأعين مشتعلة، وصرت على أسنانها وهي تهتف محتجة:
-إنت عارف إنت بتكلم مين ؟
حدجها بنظرات أكثر سخطاً وهو يضغط بقسوة على زر غلق المصعد قائلاً بفظاظة:
-ولا تفرقي معايا
هتفت مهددة بصوت مرتفع وهي تلوح بيدها في الهواء:
-أنا هوريك يا بني آدم إنت، ده أنا مدام سوزان مرات المستشار وحيد الدمرداش.

لوى فمه في سخط، وأجابها بوقاحة وإيجاز وباب المصعد ينغلق على كليهما:
-غوري
هزت السيدة سوزان رأسها في عدم تصديق، وإزدادت ثورتها غضباً، وتحركت نحو الدرج وهي تصرخ بإنفعال:
-أنا يتقلي الألفاظ البيئة دي، فين بواب البرج ده، أنا هاعرفك مقامك، إزاي الأشكال الزبالة دي تسكن هنا معانا ؟

وقفت بجوار الدرابزون، وصرخت بصوت عالي قائلة:
-إنتي يا بواب الزفت، إطلعلي هنا حالاً
أتاها صوته من الأسفل وهو يرد عليها قائلاً:
-إيوه يا هانم، طالع أهوو ..!
غمغمت بصوت متجهم قائلة:
-إن مخليتهم يطردوك من هنا يا حيوان، مش كفاية شابه البرج والناس اللي فيه !

نظر أوس إلى تقى بنظرات مذعورة وهو يرى بشرتها تزداد شحوباً ..
مال على رأسها وصرخ بعصبية قائلاً:
-ردي عليا، أنا عارف إنك سمعاني، ماتمثليش
ظل يهزها بين ذراعيها لعلها تفتح عينيها أو تهمس بكلمات .. ولكنها كانت كال " خرقة " لا حياة فيها ..
رفع ذراعه قليلاً ليسند رأسها على صدره، وضغط على جبينها بذقنه قائلاً بتوعد:
-مش هاسيبك تروحي مني، مش هاسيبك، افتكري ده كويس !
حاول أن يضبط إنفعالاته، فأخذ نفساً عميقاً .. وزفره على عجالة، وتابع بإحتقان:
-أُم ده أسانسير !

بعد أقل من دقيقة، وصل أوس إلى الطابق الأرضي وعقله لم يتوقف للحظة عن التفكير في مصير تقى ..
وما إن إنفتح الباب حتى إنطلق بها راكضاً نحو مدخل البناية حيث سيارته المصفوفة أمامها ...
قام أوس بفتح الباب الأمامي للسيارة، وبكل حذر أسند تقى على المقعد، وضم جانبي سترته عليها محاولاً توليد قدراً من الدفء لجسدها البارد، ثم أمال رأسها على الجانب، و سحب حزام الآمان من جوارها، وربطه حولها ..
ثم أغلق الباب ودار حول مقدمة السيارة ليركب إلى جوارها ..
أدار مفتاح المحرك، ثم إلتفت برأسه للخلف، وإنطلق بالسيارة في إتجاه مشفى الجندي الخاص ..

عند منزل ممدوح الجديد،،،،،
وقف ناريمان أمام باب المنزل وظلت تقرع الجرس لأكثر من مرة وهي واضعة لهاتفها المحمول على أذنها ..
نظرت حولها بريبة وهي تحدث نفسها بخفوت قائلة ك
-إنت فين يا ممدوح ؟ مش موجود ولا بترد ! أوف، رد عليا بقى
تلفتت حولها بتوجس، واتجهت نحو المصعد بعد أن يئست من إجابته عليها وهي تتمتم بغيظ:
-لإمتى هافضل في التعب ده لوحدي، ومحدش حاسس بيا ؟ أنا أعصابي تعبت خلاص، ومش قادرة أستحمل أي ضغط تاني

في المنتجع السياحي بإحدى البلدان الأسيوية،،،
وضعت ليان يدها في وسط خصلات شعرها، وسارت في إتجاه الشرفة وهي تتحدث هاتفياً مع رفيقتها بخفوت:
-أنا مخنوقة
ثم إستدارت برأسها للخلف لتتأكد من عدم متابعة عدي لها، فقد إستغلت فرصة وجوده بالمرحاض لتتحدث مع جايدا وتفتفض معها قليلاً ..
جاءها ردها هاتفياً ب:
-إنتي لحقتي يا بنتي، ده انتي لسه مكملتيش يومين جواز !
تنهدت بإحباط وهي تجيبها قائلة:
-إنتي مش عارفة حاجة يا جودي، أنا آآآآ...

لم تكمل ليان جملتها حيث تفاجئت بيد خشنة تجذب الهاتف من على أذنها، فإستدارت برأسها بذعر للخلف ...
إبتلعت ليان ريقها وهي ترى عدي يقف خلفها وصدره عاري، وملتف بمنشفة قطنية من الأسفل، وقطرات الماء تتساقط على جبينه ..
كان وجهه متجهم للغاية وهو ينظر إلى اسم المتصل على شاشة هاتفها ..
حاولت أن تبرر فعلتها، فأردفت بتلعثم:
-ده .. آآ.. دي .. ج ..

-بقى كده يا ليان، بتطلعي سري لبرا
ابتلعت ريقها وهي تنظر له بخوف، وقالت بصوت متلعثم:
-أنا .. أنا
حدجها بنظرات متوعدة وهو ينطق بصوت قاتم:
-إنتي هاتعرفي الوقتي اللي يخون عقابه ايه عندي
-بس أنا...آآ...
قاطعها بصوت حاد بعد أن أطبق على فكها بقبضته، فآلمها كثيراً، وأردف بقسوة:
-أنا مش زي أي حد يا .. يا مدام
تأوهت ليان من الآلم ووضعت كلتا يديها على قبضته محاولة إزاحتها، وهتفت بصوت مكتوم:
-مش .. مش قولت حاجة.

جذبها عدي من شعرها للأسفل، ونظر بشراسة في عينيها متابعاً بنبرة شيطانية:
-وأنا ليا لي طرقي معاكي، فرصة أتسلى زي زمان !
-آآآآآه .. إنت .. إنت بتوجعني
-الوجع الحقيقي هتعرفيه يا ليان على إيدي، ده أنا وأخوكي أساتذة في ده
اتسعت مقلتيها في خوف كبير وهي تسأله بنبرة مرتعدة:
-آآآ.. ق... قصدك إيه ؟

لم يجبها عدي بل أرخى قبضته عن فكها، ثم صفعها بقسوة على وجنتها، فهتفت بصراخ بإحتجاج وهي تتحسسها:
-آآآآآه .. إنت بتضربني ؟
نظر لها بإحتقار وهو يجيبها ببرود:
-لأ يا حلوة، ده مش ضرب .. الضرب في عُرفنا حاجة تانية خالص إنتي متعرفيهاش أصلاً، بس ده قرصة ودن ليكي !
ثم صمت للحظة ليتابع ردة فعلها، فوجدها تنظر له بهلع، فلوى فمه في تسلي، ومن ثم أردف محذراً بصرامة وهو يشير بإصبعه:
-وأنا بأحذرك مني، لأني لو سبت نفسي عليكي، صدقيني هاتشوفي اللي ما عمرك ما تتخيليه، فاهمة !
أومأت برأسها بطريقة لا إرادية عدة مرات لتعلن عن خنوعها بإستسلام لأوامره النافذة ..

اخترق أوس البوابة الأمنية الخاصة بمشفى أبيه بسيارته، فركض الحرس الأمني خلفه ..
وما إن رأوه حتى هتف أحدهم للباقي بجدية:
-ده الباشا أوس
هز حارس أخر رأسه وهو يجيبه بنبرة رسمية:
-تمام، كله يرجع مكانه !
صف أوس السيارة أمام المدخل، وفتح بابه ودار حولها ليفتح الباب الأخر الملاصق لتقى، وانحنى بجسده عليها، ثم أرخى حزام الآمان عنها، وأحاطها من ظهرها بذراعه بعد أن لفه حولها، وقربها إلى صدره، ثم وضع ذراعه الأخر أسفل ركبتيها، وهمس في أذنها قائلاً:
-مش هاتروحي مني، مش هاتبعدي عني.

في مشفى الجندي الخاص،،،
ركض أوس داخل ردهة الإستقبال وهو يحمل تقى بين ذراعيه صارخاً بعنف:
-إنتو يا بهايم، حد يجي هنا بسرعة
تجمع حوله عدد من الأطباء والممرضين، وتسائل أحدهم بجدية:
-أوس باشا، ايه اللي حصل ؟
أسرع ممرض ما بإحضار " التروللي " الطبي، وهتف:
-حاسب يا أوس باشا
ومد ممرض أخر ذراعيه ليحمل تقى عنه قائلاً بإصرار:
-عنك يا باشا، أنا هاخدها منك.

لم يصغْ إليه أوس بل وضع هو بنفسه تقى على السرير الطبي، ومسح على جبينها بقبضته، وأمسك بيده الأخرى كفها .. ورمقها بنظرات متوترة وهو يهمس لها:
-مش هاتبعدي عني يا تقى، مش هاتبعدي بالساهل !
صاح أحد الأطباء بصوت مرتفع ب:
-جهزوا الطواريء بسرعة
دفع الممرضين " التروللي " في إتجاه غرفة الطواريء، وإنطلق معهم أوس، ولكن أوقفه كبير الأطباء قائلاً بتوسل:
-من فضلك يا باشا، خليك هنا، وانا هاتعامل معاها
دفعه أوس بقبضتيه في صدره هاتفاً بعنف:
-أنا محدش هيمنعني عنها.

نظر له الطبيب برجاء وهو يضيف بتوتر:
-يا أوس باشا .. ده.. ده لمصلحتها
أمسك أوس بالطبيب من ياقته، وقربه إلى وجهه، ونظر إلى عينيه مباشرة، وهدده بصوت مخيف:
-قسماً بالله لو ما اتصرفتوا ولحقتوها، هآآآآ...
قاطعه الطبيب بهدوء وهو يحاول تخليص نفسه من قبضته:
-من غير ما تحلف، أنا والدكاترة جوا هانعمل اللي علينا، عن إذنك
أرخى أوس قبضتيه عنه، وظل محدقاً به وهو يدلف للداخل ..

ضرب الحائط بقبضته بقسوة، وصرخ بإهتياج:
-مش هاتموتي يا تقى، مش هاتموتي !
اقترب أحد الأطباء من أوس، ووضع يده بحذر على كتفه، وهو يقول بخفوت:
-حضرتك كويس، أصل .. أصل قميصك كله دم وآآآ...
إستدار أوس فجأة ليقاطعه بصوته الصارم ووجهه ذو الملامح المتجهمة قائلاً:
-ملكش دعوة !

إبتلع الطبيب ريقه بتوتر وهو ينطق ب:
-أنا عاوز أفحص حضرتك وآآ..
قاطعه أوس بصوت جهوري غاضب وهو يدفعه بعنف للخلف:
-غور من قدامي !
ارتعد الطبيب، وتراجع بجسده وهو يرد عليه بخوف:
-حاضر يا باشا، اللي تشوفه.

نظر أوس إلى قميصه فوجده بالفعل ملطخاً بالدماء، ولكنها لا تخصه ...
إنها دماء تلك البريئة التي حاولت إنهاء حياتها معه رغماً عنه ..
قبض على القميص بأنامله القوية، وصر على أسنانه قائلاً بحنق:
-لأ يا تقى، مش هايحصل ده، مش بعد ما لاقيتك تضيعي مني !

في دار رعاية المسنين
وقفت مديرة الدار وسط قاعة الطعام وعلى ثغرها إبتسامة عريضة، ثم صفقت بيديها لينتبه لها الجميع .. وأردفت بحماس:
-أحب أشكر كل اللي ساهم في إننا نوصل للمرحلة دي مع أعضاء الدار، والحمدلله قدرنا نعالج حالات كتير، وده طبعاً بفضل الله أولاً، وبفضل مجهودات العاملين في الدار وتبرعات الخيرين .. !
تنحنحت بصوت رقيق وهي تضيف قائلة:
-كمان فريق العمل الشاب اللي انضم للجمعية ومتأخرش عن .. آآآآ

لم تتابع تهاني بإهتمام ما تقوله تلك السيدة، بل تنهدت في حزن وهي تنظر إلى مجموعة من الشابات الجميلات - ذوي المعاطف البيضاء - وهن يبتسمن ويومئن برؤوسهن في إمتنان للمديرة التي تمتدح مجهوداتهن ..
تذكرت حالها وهي في مثل أعمارهن .. وشردت في ذكرياتها البعيدة حينما تخرجت من كليتها وتم تكريمها لتوفقها الدراسي ..
أسندت ذقنها على مرفقها لتتجسد أمام عينيها صورتها بالمعطف الأبيض منذ أكثر من ثلاثة عقود ...

صافحت تهاني عميد الكلية وهي تشكره بإمتنان على ترشيحه القوي لها .. فقد نالت منحة دراسية في إحدى البلدان العربية بعد مدحه لتفوقها ورغبتها اللامتناهية في تحصيل العلم ..
عادت يومها إلى منزل عائلتها وهي في قمة سعادتها ..
لم تتوقع أن تحصل على فرصة جديدة لكي تبدأ في بلد جديد بعيداً عن حالة الفقر التي كانت تعيشها.

لم تنسْ ردة فعل أختها " فردوس " وهي تستهزئ بها قائلة:
-بكرة ترجعي هنا ومعاكي خيبة الأمل راكبة جمل، علم ايه يا تهاني اللي مسافرة عشانه
نظرت لها بحزن وهي تعاتبها ب:
-ده بدل ما تشجعيني وتفرحي ليا ؟
زمت شفتيها في إمتعاض وهي ترد عليها بتهكم:
-أنا فرحنالك، بس العلم مش هيأكلنا غير عيش حاف يا تهاني.

زفرت في ضيق وهي تشيح بيدها:
-يووه يا فردوس، بجد إنتي عمرك ما هتفهمي طموحي
مطت فمها للجانب، وأردفت بسخط:
-بلا طموح بلا نيلة، خدنا إيه من العلام غير طفح الدم، وشوية ملاليم ..
تنهدت تهاني في يأس، وهتفت بإعتراض:
-بس أنا مش زيك.

أسندت فردوس يدها على كتف اختها، وقالت لها بمرارة:
-يا تهاني إنتي شايفة أبوكي وأمك حالهم عامل إزاي، هايجيبوا منين مصاريف للسفر ولتعليمك، ده احنا مصدقنا إنك اتخرجتي عشان تساعدينا في مصاريف البيت
تراجعت تهاني مبتعدة عن أختها، وقالت بجدية وهي تنظر أمامها:
-بس أنا مش هاضحي بتعب السنين ولا بالفرصة دي، أنا هاشتغل وهاعتمد على نفسي ومش هارجع البلد الفقر دي تاني !
قطبت فردوس جبينها، وأردفت بإحتجاج:
-بقى كده ؟

-أيوه .. أنا خلاص هسافر خلال كام يوم يكون الورق جهز
-بس أنا كده هاشيل الهم لوحدي، و آآآ...
قاطعتها تهاني بجمود دون أن يرتد لها طرف:
-متحاوليش يا فردوس تقنعيني بالعكس، أنا مش هافضل في الوضع ده كتير، أنا عاوزة أغير كل حاجة في حياتي وأبقى أحسن، ونويت على ده !

لم تنسْ كذلك لحظة أن وطأت قدماها أرضية أول مشفى خاص عملت به، وتلك السعادة الغامرة التي إجتاحتها وهي تتسلم وظيفتها ذات الراتب المجزي ..
وكيف تقابلت مع الطبيب مهاب الذي نجح في إيقاعها في حبه .. ومهد الطريق لكل أحلامها الوردية ..
كانت تقاوم تيار حبه خشية أن تفقد كل شيء، ولكنها تفاجئت به يذلل لها الصعاب، ويحقق لها أمنياتها ..
ظنت أنها ظفرت به كزوج، وأن المستقبل بات مشرقاً معه، ولكنه حطم كل شيء مع إكتشافها لحقيقته المشينة ..
إجتهدت أكثر في عملها، وسطع اسمها مع نجاحها المتكرر ..

أنجبت أول إبن لها، وظنت أن مهاب سيغير من طباعه لأجله .. ولكنه بقى كما هو عبداً لرغباته، منساقاً خلف نزواته الشاذة ...
فتحاملت من أجل ابنها .. ابنها فقط الذي كان الحقيقة الحلوة في حياتها معه،
وحينما أتيحت لها الفرصة لتبدأ من جديد مع زوجها الثاني ممدوح، ضاع كل شيء في لحظة، وسُلب منها كل شيء .. حتى عقلها ...

سقطت من عينيها عبرات دافئة على وجنتيها .. عبرات حسرة على حالها البائس، وماضيها المشين ...
كم تمنت لو عاد بها الزمن لترفض تلك المنحة الدراسية، وتُصغي إلى نصيحة أختها .. فقد عادت خائبة الرجاء، فاقدة حتى لأهليتها ...
كم ودت لو ظلت مع عائلتها البسيطة التي تذمرت على وضعهم المادي، وبقيت في كنفهم حتى الآن ..
فهي حينما عادت إليهم كانت شبه مختلة، مأخوذاً منها كل شيء ..
تنفست بعمق ونظرت حولها بنظرات متمعنة ..

ليس مكانها هنا .. هي لم تعدْ في حاجة للبقاء وسط هؤلاء الأشخاص، فقد عادت إلى رشدها الآن .. وحان الوقت لها لكي تلملم شتات أمرها، وتعيد بناء نفسها ..
نهضت تهاني عن مقعدها لتبلغ المشرفة المتابعة لحالتها عن رغبتها في الرحيل ...
نعم فقد آن الآوان لتعود إلى أختها وما تبقى من عائلتها ...

في مشفى الجندي الخاص،،،،
راقب أوس باب غرفة الطواريء بترقب شديد وهو يجلس على المقعد المعدني الأسود المواجه له ..
فالدقائق تمر عليه كأنها ساعات ..
إنحنى للأمام ليستند بمرفقيه على ركبتيه، فنظر إلى كفيه فوجد أثار دمائها مطبوعة على أصابعه،
ابتلع ريقه بخوف وهو يتذكر كيف وجدها في مرحاض منزله، هي أضعف بكثير مما تخيل ..

هاجمه ذلك الشعور الذي طالما بغضه .. شعور الخوف الممزوج بالرعب ..
أرادها لنفسه، فقاومت رغبته، وأنهت حياتها ..
فعلت ما لم يجرؤ على التفكير في فعله حينما كان في موقف الضعف ..
توترت أعصابه وهو يجاهد فكرة خسارتها ..
قبض كفيه بقوة، وزفر بإختناق وهو يغمغم بإصرار:
-مش هاخسرك يا تقى !

دفع الطبيب باب الغرفة لينتفض أوس من مكانه، ويقف على بعد خطوة واحدة منه، سائلاً إياها بغلظة:
-ها ؟ عملت ايه ؟
-مكدبش عليك يا باشا، ال .. ال بنت دي حالتها آآ.. صعبة، والوضع حرج
-قصدك إيه ؟
تنحنح الطبيب بصوت خشن، وأجابه بهدوء حذر:
-الموضوع مش على أد محاولة إنتحار زي ما كنت فاكر، ده واضح إنها اتعرضت للاغتصاب والإعتداء الجسدي و.. آآ.. وبوحشية كمان !
جحظ أوس بعينيه الحمراوتين، ولم ينبس بكلمة، فهو يعرف حقيقة ما إرتكبه معها .. وكيف كانت ليلة دامية ومميتة بالنسبة لها، وممتعة وشهوانية لأقصى درجة معه ..

راقب الطبيب ردة فعله الغريبة، فصمته أربكه حقاً، ولكنه أعطاه الشجاعة ليتابع بصوت شبه مضطرب:
-أنا .. أنا هاضطر أبلغ البوليس عنها، لأن الوضع آآآ...
هنا أمسك به أوس من تلابيه فمنعه عن إكمال جملته، وهزه بعنف وهو يصرخ ب:
-مش هاتبلغ حد، سامعني !
وضع الطبيب كفيه على قبضتي أوس، وأردف بجدية رغم إهتزاز نبرة صوته:
-يا أوس باشا حالتها سيئة، وأنا مقدرش أسكت، ده في جريمة حصلتلها، ده إغتصاب، وفيه نزيف و آآ...

قاطعه بصوت مهتاج وهو يحدجه بنظرات مخيفة قائلاً:
-بأقولك مش هاتبلغ حد عن مراتي
فغر الطبيب فمه في ذهول، وإرتفع حاجبيه للأعلى في إندهاش، وإتسعت عينيه بصدمة وهو ينطق بنزق ب:
-مين !
صرخ أوس بعنف وهو يهزه جسده بقوة قائلاً:
-المدام اللي جوا مراتي، وأنا مش هاسمح لحد يحكي عنها
-م.. مراتك !
تابع أوس بنفس الغلظة وهو يرمقه بتلك النظرات الشرسة:
-أنا جايبها هنا عشان تتصرف وتخليها تفوق وتعالجها من اللي هي عملته من ورايا.

كانت نظرات أوس وحدها كافية لتجعل الطبيب يتراجع عن أي قرار كان إتخذه، فكيف سيتجرأ على إبلاغ الشرطة عن زوجة ابن صاحب المشفى ..
ربما ما حدث خلاف عائلي تطور لوضع سيء، لكن هناك حياة إنسانة بريئة على المحك، عليه كطبيب أن يبذل قصاري جهده معها، لذا بدون تردد أومأ برأسه وهو يجيبه بتلعثم:
-ح.. حاضر، و..آآ..وإحنا بنعمل اللي علينا، اطمن.

قرب أوس رأس الطبيب إليه واخترقه بنظراته الحادة، وصر على أسنانه وهو ينطق بإهتياج يحمل التهديد:
-أحسنلك تعمل ده وإلا .. وإلا الكل هنا هايحصلها
هز رأسه وهو يجيبه على عجالة بصوت خائف ومصدوم:
-تمام، حضرتك بس سيبني آآ.. أشوف شغلي
أرخى قبضتيه عن الطبيب، ودفعه للخلف، ولم يحدْ بعينيه القاتمتين عنه وهو يدلف عائداً لغرفة الطواريء
ثم وضع كلتا يديه على رأسه ضاغطاً عليها بقوة وهو يدور حول نفسه في حيرة في الرواق ..
حدث نفسه بشراسة قائلاً:
-مش هاسمح لحد إنه يعرف باللي حصل ! ده كله ماضي، ماضي...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة