قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل السابع

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 3 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل السابع

( وانحنت لأجلها الذئاب )

بداخل غرفة العناية
ربت عدي على كتف تهاني التي لم تكفْ للحظة عن الإنتحاب والأنين حزناً على ابنها ..
ولم يختلف حاله عنها، ولكنه كان على عكسها متماسكاً ..
أردف قائلاً بهدوء زائف:
-يالا يا مدام تهاني، وجودك مالوش لازمة الوقتي
نظرت له بأعينها الباكية، وهمست بإستعطاف:
-سيبني مع ابني شوية، انا .. أنا ملحقتش أشبع منه.

رد عليه بجدية:
-احنا هننقله مكان تاني أفضل من هنا، وساعتها تقدري تقعدي معاه براحتك
توسلت له بدموع صادقة:
-الله يكرمك يا ابني .. أنا محلتيش إلا هو واخته .. والاتنين ضاعوا مني زمان، وأنا مصدقت إنهم رجعوا ليا تاني .. متبعدنيش عنهم ..
وضع يده على رأسه، ومرر أصابعه في شعره محاولاً تخفيف حدة الضغط العصبي المسيطر عليه ..
فهو في حيرة من أمره، فعبرات تهاني تزعجه بشدة .. وفي نفس الوقت يريد الإطمئنان على رفيقه وينقله لمشفى أفضل ...

أحست عفاف بوجود حالة من الهرج بالطابق السفلي، فقطبت جبينها بدرجة كبيرة، وحدقت في إتجاه المصعد ..
إزدادت حدقتي عينيها إتساعاً حينما رأت مهاب يظهر من أعلى الدرج .. ومن خلفه الفريق الطبي
ابتلعت ريقها بتوجس، وربتت بخفة على ذراع تقى لتنبهها، وهمست لها بحذر:
-تقى يا بنتي ..!

سلط مهاب أنظاره الحانقة على عفاف وتلك البائسة التي تجلس إلى جوارها ..
هو لم ينسها للحظة .. فقد حفرت ملامحها – رغم رؤيته إياها لمرة واحدة – في ذاكرته، ويتذكر كيف أصر ابنه عليها، وتحداه من أجل تلك المعدمة .. فإمتلأ صدر حقداً عليها، وزادت رغبته في الانتقام والتخلص الفوري منها .. وها قد جاءت إليه الفرصة على طبق من ذهب ..
تجهم وجهه بشدة، وكور قبضته بقوة .. ثم سار في إتجاههما ..
تحدث كبير الأطباء قائلاً بجدية:
-أنا هاشوف الوضع ايه هنا يا دكتور مهاب، وأبلغك
أومأ برأسه دون أن يضيف كلمة .. وتحرك كبير الأطباء بعد أن أشار بيده للطاقم الطبي ليتبعه أفراده ..

بداخل غرفة العناية
سمع كلاً من عدي وتهاني أصواتاً مختلطة، فأدار عدي رأسه أولاً في إتجاه مصدرها، فوجد عدداً من الأطباء يدلفون للداخل .. فضيق عينيه ليتفحص هيئتهم التي تختلف عن أطباء هذا المشفى ..
وارتسم على وجهه علامات الإندهاش حينما قرأ الشعار المحفور على ملابسهم الطبية، وهتف دون وعي:
-مستشفى الجندي!
صاح كبير الأطباء بجدية:
-عاوزكم تجهزوا أوس باشا عشان هيتنقل فوراً من هنا.

اتسعت مقلتي تهاني في صدمة، وتسائلت بتهلف:
-انتو .. انتو بتعملوا ايه ؟ وواخدين ابني على فين ؟
أجابها أحدهم بنبرة رسمية:
-وسعي شوية يا مدام
وأضاف أخر بهدوء:
-احنا جايين نشوف شغلنا
دخل طبيب يعمل بالمشفى للغرفة، وتأمل ما يحدث بغيظ، وصاح منفعلاً:
-ايه المهزلة اللي بتحصل هنا ؟ ازاي يسمحوا بالفوضى دي في مكان زي ده.

رمقه كبير الأطباء بنظرات دونية، وأجابه بسخط:
-هو انت بتسمي دي مستشفى ؟!
اغتاظ الطبيب من رده المستفز، وهتف مدافعاً:
-عيب أوي الكلام ده، دي مستشفى بتقدم أحسن خدمة للمواطنين
إلتوى فم كبير الأطباء ليضيف بتهكم:
-لأ باين فعلاً!

ثم استدار بجسده ناحية طاقمه الطبي، وصاح محذراً:
-محدش يتكلم معاه، ولا مع اي حد، احنا مش عندنا أوامر نتعامل مع أي حد إلا الباشا أوس وبس
هتف الطبيب الحكومي بصوت حاد:
-ردوا عليا مين سمحلكم تدخلوا هنا ؟
تجاهله الجميع وواظبوا على أداء عملهم وكأنه غير موجود بالمرة ..

بينما وقفت تهاني حائرة وحاولت استيعاب وفهم ما يحدث لابنها ..
هتف الطبيب الحكومي بصوت غاضب:
-أنا هابلغ الشرطة اللي بتعملوه هنا، ده مش قانوني، وفي لسه تحقيقات ونيابة، العملية مش سايبة عشان كل من هب ودب يقتحم أي مكان وياخد اللي عاوزه من غير ما يعمل حساب حياة المريض
رد عليه كبير الأطباء بثقة بالغة:
-انت مش هاتقولنا شغلنا، وهات اللي تقدر عليه، احنا جاهزين للرد

في الخارج
هبت عفاف واقفة من مكانها بعد أن أزاحت ذراعها بعيداً عن تقى، وأطرقت رأسها قليلاً وهي تشرع حديثها لمهاب ب:
-ألف .. ألف سلامة على الباشا أوس آآ...
رفع كفه أمام وجهها لتصمت على الفور، وسلط أنظاره على تقى التي ابتلعت ريقها خوفاً منه ..
حدجها مهاب بنظرات مهينة .. وهتف بصوت مغلول:
-انتي بقى اللي عملتي في ابني كده ؟

ردت عليه عفاف بحذر:
-مهاب باشا، محدش عارف لسه آآ...
قاطعها بصرامة وهو يرمق تقى بنظرات أكثر شراسة:
-ششش .. أنا مأذنتش ليكي تتكلمي!
طأطأت رأسها في حرج .. وهتفت بخفوت:
-أنا .. أنا أسفة.

أشار لها بإصبعيه لتبتعد عنهما .. فتوجست عفاف خيفة على تقى التي لم تكن في حالٍ جيدة للجدال .. ومع هذا امتثلت بلا أدنى اعتراض لأمره، وتركتهما معاً ...
تسرب الخوف إلى أوصال تقى، وزادها رعباً على رعب .. فشخصية مهيبة كمهاب الجندي ليست من النوعية التي تغفر بسهولة أي ذلة .. بل على العكس هو أسوأ بكثير من ابنه ..

هي تعلم البعض عن مساوئه من أحاديث خالتها العابرة ..
ومدركة أن أي مواجهة معه مصيرها الخسارة البيّنة .. فالمعركة بينهما غير متكافئة على الإطلاق، ومن الأفضل تجنبه ..

راودتها الكثير والكثير من الأفكار، ولكن صوته الصارم والمخيف قطع تفكيرها المضطرب حينما صاح ب:
-مفكرة إنه هايكمل معاكي بعد اللي حصله
نظرت له بتوتر شديد، فتابع بنبرة أكثر حدة:
-انتي كنتي مجرد لعبة في حياة ابني، مرحلة وانتهت، وهتتنسي للأبد، مش هايبقى ليها وجود!
رمقها بنظرات ساخطة، وكز على أسنانه ليضيف بنبرة مهددة:
-بس قبل ده مايحصل، غصبن عنك هادفعك التمن، وغالي أوي!

هزت رأسها مستنكرة، واستجمعت القليل من الشجاعة لتواجهه، وهتفت بصوت واهن:
-مظلومة .. مش أنا السبب ؟ معملتش فيه حاجة ؟
أجهشت بالبكاء وهي تدافع عن نفسها لتكمل بصوتها المنتحب:
-ليه الكل بيحملني الذنب ؟ ليييه ؟
رمقها بنظرات إحتقارية، فبكائها – رغم صدقه – لم يقنعه على الإطلاق ..
ثم صاح بها بغلظة شديدة:
-لأنك من يوم ما دخلتي حياته والمصايب مش مفرقاه!

زادت عينيه حدة، وتابع بصوت مهدد:
-وأنا غير ابني .. وشك ده مش هيخدعني، ولا الفيلم ده هياكل معايا، حتى دموع التماسيح دي مش بتأثر فيا، فوقي، أنا في لحظة ممكن أخد منك روحك!
جفلت من تهديده الصريح، وخفق قلبها بسرعة رهيبة ..
أضاف قائلاً بصوت محتد:
-ضافر ابني مايكفنيش فيه عمرك كله!

تابع ما يحدث بينهما حمدي عصفورة، واستمر في تسجيل تلك المشاحنات الحادة ..
وزادت حماسته وهو يهمس للممرضة حسنية:
-شايفة يا بت
لوحت بكفها مستنكرة، وأجابته بصوت منخفض:
-شايفة وسامعة يا اخويا بوداني اللي هايكلها الدود دول ..
ثم هزت شفتيها للجانبين في إستنكار لتضيف:
-ايه العالم الفاجرة دي ؟!

غمز لها بطرف عينه ليقول بجدية:
-سيبك من اللي بيقولوه، ركزي معايا الفيديوهات دي لو وصلت للأستاذ وفيق هنتنغنغ ونأب على وش الدنيا
أومأت برأسها موافقة إياه:
-اها .. ده كنز!
برقت عينيه بخبث واضح وهو يهمس:
-لأ ومش أي كنز .. ده ثروة قومية يا حسنية!

قبض مهاب على ذراع تقى، وضغط بأصابعه القوية عليه، وهزها منه بعنف ليتابع بتحذير:
-هارميكي في أزبل مكان لو كنتي فعلا ورا اللي حصل لابني! مش هارحمك!
تأوهت من الآلم، وتلوت بذراعها محاولة تحريره، ولكنه استمر في الضغط بشراسة عليه ليؤلمها أكثر ..
-مهاب!
قالتها تهاني بصوت محتقن ومرتفع وهي تقف على عتبة باب غرفة العناية.

استدار مهاب برأسه نحو مصدر الصوت، واعتلى وجهه علامات الدهشة حينما رأى تلك المرأة التي عرفها منذ عقود تقف أمامه بكبرياء غير مسبوق، وكأن الزمن لم يحنيها ..
لوى فمه في إستهزاء .. وسريعاً تلاشت علامات التعجب من على محياه ..
وأرخى قبضته عن تقى ليتجه نحو تهاني ..
رفعت الأخيرة رأسها في شموخ، ورمقته بنظرات إحتقارية .. نعم فهو المخادع اللعوب الذي لم يذقها سوى المعاناة والقهر .. ورضخت هي لظلمه من أجل ابنها، وفي النهاية سلبها كل شيء حتى عقلها ..

واليوم هي تقف أمامه لتواجهه ..
تقوس فمه بإبتسامة ساخرة، وصاح مستهزئاً:
-تهاني! انتي لسه عايشة ؟
اقترب منها أكثر حتى توقف قبالتها، ورمقها بنظرات متفحصة لهيئتها، وأضاف بسخط:
-ده انا فكرت ان مخك اتلحس وخلاص مبقاش في منك فايدة بعد اللي عملته فيكي.

اتسعت عينيها بشراسة، وهتفت فيه بتحدٍ:
-عقلي اتلحس من عمايلك، بس أنا رجعت عشان أخلص منك كل حاجة، سامع يا مهاب كل حاجة، ماضيك هاكشفه وأفضحك وأعرف الناس حقيقتك
مال عليها برأسه ليهمس لها بثقة:
-مش هتقدري .. وبعدين في حد عاقل بياخد على كلام المجانين
ردت عليه بنبرة عنيفة:
-احسنلك تخاف من المجانين، محدش ضامن ممكن يعملوا ايه في لحظة.

ثم زادت نبرتها قوة وهي تتابع قائلة:
-وابني اللي انت حرمتني منه هايعرف الحقيقة، ومش هاسيبه ليك
قهقه مهاب بطريقة مستفزة، ثم صمت فجأة ليهتف بجمود:
-ابنك! أوس الجندي مالوش أم .. انتي ولا حاجة في حياته
كزت على أسنانها بغلظة وهي تقول:
-لأ يا مهاب، انت مش عارف أنا أقدر أعمل ايه
وضع يده أسفل فكها، وضربه بخفة عدة مرات محذراً:
-اصحي يا .. يا عاقلة وشوفي بتتكلمي مع مين، في ثانية هاتتنسفي انتي واللي معاكي.

في نفس التوقيت، توقف هاتف حمدي عصفورة عن التسجيل المرئي بسبب نفاذ شحن البطارية، فإحتقن وجهه، وتذمر قائلاً:
-وده وقت تفصل فيه يا ابن ال ***
سألته حسنية بإهتمام:
-في ايه يا عصفورة ؟
زم حمدي فمه وهو يجيبها بضجر:
-الزفت الموبايل فصل شحن، وأنا كده مش هاعرف أصور الباقي
ردت عليه بنبرة غير مبالية:
-ما اللي معاك كفاية.

نفخ بصوت مسموع ليقول:
-اووف .. كده المصلحة هاتقل شوية
ربتت على كتفه قائلة بجدية وهي تختلس النظرات حولها:
-طب يالا قبل ما حد ياخد باله مننا، الرجل كترت في المكان، واحنا ممكن نتكشف
أدرك حمدي أن حديث حسنية صائب .. لذا تابع بإمتعاض:
-ماشي .. ولو انها هتخسر معايا، بس ملحوئة.

تسلل الإثنين بحذر من خلال ممر أخر جانبي، وتسائلت حسنية بفضول:
-هاتكلم الراجل بتاعك ؟
هز رأسه وهو يجيبها بنبرة فاترة:
-ايوه .. هاشوف هابعته الفيديوهات دي ازاي وهاقبض المعلوم امتى منه
-كويس، خلينا نشوف حالنا
تنهد بعمق ليتابع بقلق:
-يا مسهل، ادعي ربنا بس إن المصلحة ماتبوظش!

خرج كبير الأطباء من الغرفة أولاً، وصاح بجدية:
-مهاب باشا، كل حاجة تمام وزي ما أمرت
انتبهت له تهاني، وزاغت أنظارها بعد أن أدركت سبب وجود مهاب هنا .. وتسائلت بهلع:
-انت ناوي تعمل ايه في ابني ؟
رمقها بنظرات مهينة، ثم دفعها من كتفها بعنف ليقول بقوة:
-اوعي من وشي.

ركضت خلفه، وتسائلت بصوت لاهث بعد أن تسارعت دقات قلبها من الخوف:
-استنى هنا، كلمني، ابني هاتعمل ايه فيه ؟
تجاهلها، والتفت نحو كبير أطبائه ليأمره ب:
-في أقل من ساعة ابني يكون عندي في المستشفى
خرج الطبيب الحكومي من الداخل، وهتف معترضاً:
-مش هاتقدر تتحرك قبل ما البوليس يجي وآآآ...

قاطعه مهاب بقوة مخيفة:
-مافيش سلطة عليا ولا على ابني، يالا يا دكتور نفذ الأوامر ..!
ثم استدار برأسه ناحية عدي الذي كان يراقب المشهد في صمت، وسأله بضيق:
-فين الحراسة بتاعتنا يا عدي ؟
تنحنح بخفوت ليجيبه بصوت خشن:
-موجودة يا دكتور مهاب
ومن ثَمَ تحرك في إتجاه الحراسة التابعة، وصاح بهم بصرامة:
-انت يا بني آدم، اتحرك وأمن المكان لحد خروج الباشا أوس من هنا!

ثم عاود الدخول إلى غرفة العناية للتأكد من إنتهائهم من تجهيز أوس ..
اقتربت عفاف من تقى مجدداً، وأمسكت بكفها، ورمقتها بنظرات مطمئنة .. فسألتها تقى بخوف:
-هما .. هما ناويين يعملوا ايه ؟
ردت عليها بخفوت وهي تتطلع بعينيها للأمام:
-الظاهر يا بنتي هاينقلوا الباشا أوس على المستشفى الخاصة بتاعتهم
فغرت شفتيها بعد أن تزايدت حيرتها، ثم تسائلت:
-هاه .. طب و..آآ...

لم تكمل عبارتها حيث انتفضت مذعورة حينما سمعت صوت مهاب يصيح بغلظة ب:
-عفاف!
ردت عليه الأخيرة بتوتر وهي ترمش بعينيها:
-أيوه يا دكتور مهاب
صاح بها بنبرة أشد قسوة:
-هاتفضلي عندك كتير، اتفضلي معايا
صرخت فيه تهاني بعد أن انقضت على ياقته قائلة:
-واخد ابني ورايح على فين
أزاح قبضتيها المجعدتين بعيداً عنه، وهتف بها:
-ابعدي يا ست يا مجنونة عني!

صرخت فيه بشدة وهي شاخصة لأنظارها:
-لأ، مش هاسيبك، ده ابني وآآآ...
نفخ بصوت مسموع هاتفاً بضجر:
-يوووه .. يا أمن، ارموا الست دي من هنا!
اقترب منه أحد رجال الحراسة، وردد بنبرة رسمية:
-حاضر معاليك!
ثم جذبها عنوة للخلف، وانضم إليه أخر وأبعدوها عن مهاب، فحاولت تقى التدخل لإنقاذها، وصاحت بشجاعة غريبة:
-حرام عليكم سيبوها!

كان الرجلين ضخام الجثة، فلم تستطع أن تفلت خالتها منهما، فأدارت جسدها ناحية مهاب، وصرخت فيه بصوت محتد:
-انت مفكر نفسك مين عشان تعمل فينا كده ؟ سيبها! هي غلبانة!
رمقها بنظرات احتقارية، وأشار بإصبعه لبقية الحراسة الخاصة للتحرك في إتجاه تقى وابعادها ..
لم تستطع عفاف التدخل، فهي لا حيلة لها أمام جبروت هذا الرجل ..

-دي مهزلة وقلة ادب، وأنا هابلغ عنك للسلطات
قالها الطبيب الحكومي بنبرة حانقة
تحرك مهاب نحوه بخطوات بطيئة، ورمقه بنظرات باردة، ثم أردف قائلاً بقسوة:
-بلغ اللي تبلغه، أنا ميفرقش معايا!
ولج الأطباء خارج الغرفة وهم يسحبون ال (( تروللي )) الموضوع عليه أوس ..
اشرأبت تقى بعنقها محاولة رؤيته، ولكنها عجزت عن فعل هذا بسبب أجساد الحراسة الضخمة ..

فصاحت بصوت مختنق:
-حاسبوا، ابعدوا عننا
هتف الطبيب الحكومي قائلاً بخوف:
-ماينفعش مريض يتاخد وهو في الحالة الحرجة دي!
نظر له كبير الأطباء من طرف عينه ليجيبه بعدم اكتراث:
-مش شغلك
تابع الطبيب الحكومي قائلاً بجدية:
-ده فيه خطورة على حياته!

رد عليه كبير الأطباء بجمود:
-احنا أدرنا باللي بنعمله، وحياته أكيد فوق كل اعتبار
حرك ( أوس ) رأسه قليلاً .. وردد – دون وعي – بصوت هامس:
-ت.. تقى!
انتبه عدي إلى حركة أوس الضئيلة، فقد كان ملاصقاً للتروللي، فانحنى بجسده عليه، وهتف بتلهف:
-أوس .. سامعني ؟ أوس!

همس أوس بهذيان بعد أن مال برأسه للجانب الأخر:
-ت.. تقى .. أنا .. آآ..!
لم يصدق عدي أذنيه، فرفيقه الوحيد يتحدث – وإن كان في غيبوبته – فهو يتحدث و يهزيء بكلمات مبهمة .. وهذه بداية مبشرة بالنسبة له .. فربما يستعيد وعيه في أقرب وقت ..
هتف عدي بصوت مرتفع:
-أوس بيتكلم، أنا لسه سامعه!
رد عليه كبير الأطباء ببرود:
-تأثير البنج ..

أصابت الكلمات الأخيرة عدي بالإحباط، ورمق ذلك الطبيب المستفز بنظرات نارية ..
استمعت تقى إلى ما قاله عدي، فخفق قلبها بتوتر رهيب، وتلهفت للإطمئنان على حالته .. لذا صرخت بهياج:
-خلوني أعدي، سيبوني أشوفه
زادت نوبة صراخ وإنفعال تهاني، وقاومة أفراد الحراسة بذراعيها، وتشنجت قائلة بإصرار:
-ابني .. وسعوا من قدامي، هتمنعوني عن ابني، لألألألأ!
إستدار مهاب برأسه للخلف، وحدج الاثنتين بنظرات قاتمة، وصاح بنبرة عدائية:
-الأشكال دي متقربش من عيلة الجندي! سامعين!

ثم عاود النظر لكبير الأطباء ولإبنه، وتابع قائلاً بجمود مريب:
-اتحرك بإبني من المكان ده .. كفاية أوي الوقت اللي ضاع واحنا هنا ..!
وبالفعل أشار كبير الأطباء لطاقمه الطبي ليتحركوا بأوس الجندي، وانطلقوا مبتعدين عن صراخ تهاني المتواصل وبكاء تقى الذي لم ينقطع للحظة ..
تريث عدي في خطواته قليلاً، ثم اقترب من الإثنتين، وتشدق قائلاً:
-هحاول أطمنكم عليه، ده اللي اقدر أعمله في الوقت الحالي!

رمقهما بنظرات أخيرة مشفقة، وهتف بإيجاز وهو يوليهما ظهره:
-سلام!
وقبل أن يختفي عن أنظارهما، صاح محذراً من بعيد لأفراد الحراسة:
-محدش فيكم يتعرضلهم بأي أذى!
رد عليه أحدهم بنبرة رسمية:
-حاضر يا فندم
اضاف قائلاً بصوت آمر:
-مهمتكم تنتهي بعد ما نمشي من هنا، تسيبوهم وترجعوا على الشركة، مفهوم!
-حاضر!

هز عدي رأسه مستنكراً، وإنطلق مسرعاً على الدرج ليلحق بأوس والبقية ...
احتقنت عيني تهاني بشدة، وكزت على أسنانها بشراسة، وحدثت نفسها بنبرة متوعدة:
-المرادي غير كل مرة يا مهاب، أنا مش هاسيبلك ولادي، هادافع عنهم وأرجعهم لحضني حتى لو كان أخر يوم في عمري ..!
توقفت تقى عن المقاومة، وتراجعت للخلف، ودفنت وجهها بين راحتيها لتشهق بصوت مكتوم .. فالكل يتحامل عليها، وهي وحيدة لتواجه كل هذا الظلم بمفردها .. لماذا لا يشعر أي أحد بما تعانيه، لماذا لا تجد من يقف إلى جوارها ويضمها بعاطفة صادقة دون أن يطعنها في شرفها، أو يلقي جزافاً بالتهم الباطلة عليها ؟ ولماذا تتحمل هي مرارة الظلم والقسوة ؟

صرخت دون أن تدري بإهتياج شديد:
-كفاية .. لييييه أنا ؟ ليييه ؟ اشمعنى الكل بيجي عليا ؟ ليييه ؟
نظر إليها الحرس بتعجب شديد، فلم يتوقعوا أن تثور ثائرتها فجأة خاصة أنهم لم يمسوها أو يتعرضوا لها بالأذى ..وتبادلوا النظرات المندهشة فيما بينهم ..
وتسائل أحدهم بإستغراب:
-مالها دي ؟
هز زميله كتفيه قائلاً:
-مش عارف
أردف أخر قائلاً بجدية:
-الأوامر بتقول نسيبهم لما الجماعة يمشوا.

-بالظبط
-عامة احنا قدامنا 10 دقايق بالكتير ونمشي من هنا
-اوكي
نظرت تهاني إلى تقى بنظرات متحسرة، وشعرت بما تمر به، فمدت ذراعيها نحوها، وأحاطتها بهما لتضمها إلى صدرها، وهتفت قائلة بنشيج أسف:
-آآآآه يا بنتي، محدش بيحس بالمظلوم إلا اللي زيه
لم تستكنْ تقى في أحضانها، بل ظلت تصرخ بإنفعال أشد:
-ليييه ؟ اشمعنى أنا الكل بيجي عليا ؟ أنا محدش بيسبني في حالي، أنا بأموت في اليوم مليون مرة ومحدش بيحس بيا، وي... ويوم ما بدأت أسامحه يروح مني، طب ليه ؟ ليييييه ؟

ذرفت عينيها العبرات الحارقة عفوياً، وتوسلتها بأنين خافت:
-كفاية يا بنتي! قطعتي قلبي بكلامك
تسارعت أنفاسها، وهتفت بصوت لاهث ومتقطع:
-م.. معنتش قادرة آآ..آآستحمل ..أن.. آآ..
تثاقل جسدها في أحضان خالتها التي هتفت بذعر:
-تقى .. مالك يا بنتي
لم تتمكن تهاني من إمساك تقى بشكل جيد، فصرخت بهلع وهي تحاول منعها من السقوط:
-الحقوني يا ناس!

نظر أفراد الحراسة لبعضهم بحيرة، وسأل أحدهم بقلق:
-هنعمل ايه معاهم ؟
لكزه زميله في كتفه وهو يجيبه ببرود:
-مالناش فيه، يالا بينا من هنا
ضغط الحارس الأول على شفتيه ليقول بتوتر:
-بس .. بس آآ...
هتف أخر بعدم مبالاة:
-يا سيدي الأوامر عندنا بإننا نمنعهم يقربوا من البشوات، غير كده مايخصناش
صاح فيهم بضيق:
-خلوا في قلبكم شوية رحمة!
رمقه زميله بنظرات محذرة وهو يبرر موقفه قائلاً:
-يا عم متدخلش، بدل ما حد يبلغ الباشا وساعتها هتخسر شغلتك ..

بينما أضاف الأخر بسخط:
-وبعدين هما يعني في كوكب تاني، ماهما في مستشفى، يصطفلوا معاهم بطريقتهم!
ضرب الحارس كفه على الأخر، وردد بضجر:
-لا إله إلا الله
صاح زميله بنفاذ صبر:
-يالا .. وجودنا مالوش لازمة هنا!

سار حمدي عصفورة على الممر الخارجي المؤدي لمدخل المشفى بعد أن أجرى مكالمة هاتفية مع الصحفي وفيق، في حين وقفت الممرضة حسنية تتطلع إليه بتلهف بادي على ملامحها ..
وما إن رأته يقترب حتى أسرت نحوه، وسألته بحماس:
-ها .. طمني عملت ايه ؟
ابتسم لها إبتسامة صفراء وهو يجيبها بسعادة:
-خير يا حسنية!
ثم مسح بيده على صدره وتابع قائلاً بجدية:
-الأستاذ هايجي بنفسه يقابلني ومعاه المعلوم
اتسعت مقلتيها بفرحة، وتسائلت بتشوق:
-ده بجد ؟

رد عليها بنبرة فاترة:
-طبعاً .. أومال هزار!
تنهدت حسنية في إرتياح زائف، وتمتمت بنبرة راضية:
-يا ما إنت كريم يا رب، ايوه بقى، أخيراً حالنا هيتصلح
رد عليها بجمود:
-قولي يا رب
-يا رب
ثم سألته بفضول رهيب:
-على كده هو قالك هيدفع كام ؟

رمقها بنظرات حادة وهو يجيبها بضيق بادي على محياه:
-والله مرضاش يقدر الفلوس إلا لما يشوف اللي معايا
أردفت قائلة بخبث وهي تهز حاجبها:
-اطلب منه مبلغ عالي عشان لو فاصل معاك مايخسفش بيك الأرض
هز رأسه موافقاً ليقول بمكر:
-ما أنا هاعمل كده .. دي بردك أعراض ناس!
لوت فمها لتضيف بخفوت:
-اه ياخويا، أل يعني بيفرق معاك!

انتهى الطبيب من فحص تقى، وأعاد وضع ساعدها على جانب الفراش بعد أن انتهى من حقنها بمادة طبية .. ثم إعتدل في وقفته، وأشار للممرضة الواقفة خلفه ليقول بنبرة رسمية بعد أن دون شيئاً ما في لوحة الملحوظات المعدينة:
-كمان ساعة تاخد الدوا ده
هزت الممرضة رأسها وهي تجيبه:
-تمام يا دكتور
تسائلت تهاني بتلهف وهي تحاول الحفاظ على هدوئها:
-مالها يا دكتور ؟

-ضعف عام
فغرت فمها بقلق، وتسائلت متوجسة:
-ضعف .. وده خطير عليها ؟
رد عليها بجدية شديدة وهو ينظر لها:
-والله في حالتها دي .. ايوه ..!
ابتلعت تهاني ريقها، ورددت بصوت متقطع:
-بس آآ.. بس هي بتاكل كويس وآآ..
قاطعها الطبيب بنبرة متريثة:
-مش مسألة أكل، هي محتاجة رعاية واهتمام خصوصاً في الفترة دي.

لوحت تهاني بيدها في الهواء، وعللت قائلة:
-هي الظروف اللي مرت بيها الأيام اللي فاتت كانت ملخبطة معها أوي، وجايز تكون أثرت عليها وآآآ..
قاطعها الطبيب بجدية واضحة:
-يا مدام حضرتك مش فهماني، المدام حامل، وأي تأثير نفسي سلبي خطر عليها وعلى صحة الجنين، وعلى الحمل بصفة عامة!
جحظت تهاني بعينيها في صدمة رهيبة، وإرتسمت علامات الذهول على وجهها المنهك، وهتفت بعدم تصديق:
-اييييه، ت... تقى ح... حامل ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة