قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الثلاثون

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء 3 بقلم منال سالم

رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الثلاثون

( وانحنت لأجلها الذئاب )

في منزل تقى عوض الله
فتحت تهاني النافذة لتتسلل أشعة الشمس للغرفة، فتفاجئت بوجود سيارة فارهة على مقربة من بنايتهم، والتي لم تكنْ بعيدة عن ذاكرتها .. دققت النظر محاولة تبين هوية من يقودها، ولكنها لم تستطعْ رؤيته بوضوح .. ولكن إنقباضة قوية في قلبها أصابتها بالرجفة حينما ظنت أنه مهاب الجندي .. وهمست لنفسها مستنكرة:
-وده ايه اللي هايجيبه هنا ؟ لألألأ .. أكيد أنا بيتهيألي الكلام ده!
نفضت عن عقلها تلك الأفكار، وابتعدت عن النافذة ...

عند مدخل الحارة الشعبية
لمح أوس بطرف عينه سيارة شبيهة بدرجة كبيرة لتلك التي يمتلكها أبيه تنحرف من عند مدخل الحارة، فحاول تدقيق النظر نحوها ولكنها اختفت في الزحام ...
أوقف السائق السيارة أمام مدخل البناية المتواجد بها منزل تقى .. ووقفت خلفها سيارة الحراسة الخاصة ..
نظرت ليان بتفحص للمكان من حولها وهي داخل السيارة .. ومطت شفتيها بتعجب واضح من هيئة قاطني تلك المنطقة ذوي الملابس الشعبية والبسيطة ومن مبانيها القديمة وشبه المتهالكة ..

ارتسمت علامات الفرحة على وجه تقى وهي محدقة بالأعلى حيث يوجد منزلها .. وتمنت لو رأت والدتها بالشرفة .. ولكن كانت النوافذ شبه مغلقة ..
راقبها أوس بدقة، واستشعر تلك الغبطة البادية عليها .. فإستطرد مازحاً:
-هاتقضوا اليوم في العربية ولا ايه ؟
هتفت ليان بحماس:
-المكان شكله فوتوجونيك خالص
حذرها أوس بهدوء:
-بلاش تريقة!

بررت ليان موقفها ب:
-مش قصدي، بس أنا بأسمع عن الأماكن دي، لكن أول مرة أشوفها
ثم وضعت يدها على كتف تقى، وسألتها بجدية:
-انتي عايشة هنا ؟
ردت بحرج وهي مطرقة الرأس:
-ايوه
ترجل أوس من السيارة بعد أن فتح له الباب أحد رجال حراسته، وقام بغلق زرار سترته، ثم مد يده ليساعده شقيقته على النزول .. بينما فتح حارس أخر الباب لتقى لتترجل هي الأخرى منها ..

أردف أوس قائلاً بهدوء:
-هاوصلكم لفوق وهاروح شغلي!
أشارت له ليان بإبهامها قائلة:
-اوكي
التفتت هي نحو زوجة أخيها، وسألتها بفضول:
-تقى! هو احنا المفروض هنشوف مين ؟ مامتك وباباكي صح ؟
أجابتها الأخيرة بحذر وقد بدت أكثر تلعثماً:
-أها وآآ.. وآآ.. خالتي!
ضغط أوس على شفتيه بقوة، وعبس وجهه نوعاً ما .. ثم أشار لكلتاهما بيده ليتحركا للداخل ...

لم تختفْ علامات الدهشة والتعجب من على وجه ليان وهي تتفحص ذلك المكان بنظرات دقيقة ..
صعد الجميع على الدرج إلى أن وصلت تقى إلى الطابق المتواجد به منزلها، فأخذت نفساً عميقاً، وزفرته على مهل، ثم قرعت الجرس، وانتظرت من يفتح لها الباب ..
وقفت ليان خلفها، وترقبت بحماس خوض تلك التجربة الجديدة والمثيرة من وجهة نظرها في تمضية يوم مع أناس مختلفين عنها ..
في حين فضل أوس البقاء في المؤخرة ليتحاشى تلك المواجهة التي ينبذها مع والدته ..

فتحت فردوس الباب وهي شبه مصدومة من رؤية ابنتها أمامها، فلم تتوقع حضورها بتلك السرعة .. ونظرت لها بذهول ..
ألجمت المفاجأة لسانها، فإستغربت تقى من تصرفها الغير طبيعي، واستطردت قائلة برقة:
-وحشتيني يا ماما
أفاقت فردوس من شرودها، ورسمت قناع السعادة على وجهها، وهتفت بتلهف:
-بنتي حبيبتي، وحشتيني يا ضنايا، تعالي في حضن أمك يا غالية!
ثم فتحت لها ذراعيها لترتمي تقى في أحضانها، وقبلتها بعاطفة قوية ..

ابتسمت ليان بسعادة لذلك اللقاء الجميل، وتنهدت بحزن وهي تُمني نفسها بتجربة تلك المشاعر الأمومية مع من تحبها بصدق ..
ركضت تهاني على إثر صوت فردوس، وشهقت مصدومة حينما رأت تقى على عتبة المنزل، وصاحت بسعادة:
-تقى، يا حبيبتي يا بنتي
ثم أسرعت في خطواتها نحو الباب، ولكنها تسمرت في مكانها مصدومة حينما رأت ابنتها الصغيرة ليان تقف خلف تقى وعلى وجهها ابتسامة ناعمة .. رمشت بعينيها عدة مرات لتتأكد من أنها لا تتوهم ذلك ..

لمعت مقلتيها بشدة، واحتقن أنفها، وهمست بصوت شبه مختنق:
-ب .. بنتي!
لم تتمكن تهاني من السيطرة على مشاعرها كأم تحترق شوقاً لإحتضان فلذات أكبادها .. فإنهمرت العبرات منها، وهتفت بتلهف:
-ليان
نظرت لها ليان بذهول إلى حد كبير .. وانفرجت شفتيها بصدمة، فقد تفاجئت بوجودها هنا ..

أفسحت تقى المجال لخالتها لكي تمر وتقف قبالة ابنتها الوحيدة ..
رفعت تهاني كفها المرتجف لتتلمس وجنة ليان بإشتياق، وتابعت بصوت باكي:
-آآآه ... بنتي
ثم جذبتها إلى حضنها لتضمها بشدة، وأغمضت عينيها وهي تهمس لها:
-واحشني حضنك يا بنتي، ياه، أنا مش مصدقة إنك هنا!

إحتضنتها ليان هي الأخرى وقد لمس قلبها تلك المشاعر التي تمنتها ..
فتحت تهاني عينيها فتفاجئت بوجود أوس في الخلف، فإعتدلت برأسها، ونظرت له مصدومة، وهمست بنزق:
-أوس!
أشاح بوجهه للجانب متعمداً تجاهلها بعد أن رمقها بتلك النظرات الجامدة، وضغط على شفتيه بقوة وهو يزفر بصوت مسموع
ابتلعت تهاني تلك الغصة المريرة في حلقها .. فإبنها قلبه لا يزال معبئاً بالكره نحوها .. ولم يصفو لها بعد أو حتى يصفح عن أخطائها ..

ترددت وهي تسأله بصوت ذليل:
-آآ.. ازيك يا بني ؟
نظر لها من طرف عينه بإحتقار، ونفخ بصوت مرتفع وهو مستمر في التحديق أمامه متعمداً إهانتها ..
أطرقت رأسها خزياً منه .. ولم تعاتبه ..

نعم فهي تلتمس له العذر .. وتدرك أنه لن يتقبلها في حياته إلا بعد مجهود مضني ..
ساد صمت مشحون بين الجميع، فقطعته فردوس بحماس زائف وهي تشير بيدها:
-هو احنا هنفضل واقفين كده، اتفضلوا جوا!

ثم ربتت على صدر ابنتها، وأضافت بسعادة:
-ده أبوكي يا تقى هايفرح أوي لما يشوفك! استني أما أناديه
رفعت فردوس من نبرة صوتها وهي تصيح قائلة:
-يا عوض، تعالى شوف من هنا! عوض!
خرج عوض من الغرفة وهو متكئاً على عكازه الخشبي، وتهللت أساريره حينما رأى ابنته النقية أمامه، فهتف بإسمها:
-ت.. تقى!

-بابا
قالتها تقى وهي تركض ناحية أبيها لتحتضنه بشغف كبير ..
ربت والدها على ظهرها، واحنى رأسه ليقبلها من جبينها .. بينما مالت هي على كفه لتقبله بحنان ..
استغربت فردوس من إرتداء زوجها لجلباب نظيف يضعه عليه حينما ينتوي الخروج، فسألته على مضض:
-انت لابس كده ورايح فين ؟

أجابها بصوت منخفض:
-أنا .. كنت نازل الجامع شوية
لوت فردوس فمها لتضيف بتهكم:
-جامع ايه الوقتي، مش تشوف بنتك وتقعد معاها، وابقى روحه أخر النهار!
سألته تقى برقة وهي تطالعه بنظرات دافئة:
-انت رايح تصلي يا بابا ؟

أجابها بصوته الأبوي الحنون وهو يمسد على رأسها:
-ايوه يا بنتي
هتفت فردوس بتهكم صريح وهي تهز حاجبيها:
-يا راجل مالوش لازمة، خلاص التوقى مقطعة بعضيها!
نظرت تقى إلى والدتها بعتاب، ثم قالت بهدوء وهي تحتضن كف أبيها:
-روح يا بابا براحتك، ولما تخلص هتلاقيني مستنياك هنا
مسح عوض على صدغها بيده المجعدة، وردد بخفوت:
-ربنا يباركلك يا بنتي!
ثم انحنت مجدداً لتقبله في كفه، فسحب يده منها، وتركها وعلى وجهه ابتسامة راضية ...

في نفس التوقيت، لم يبرحْ أوس مكانه، فسألته ليان بإستغراب:
-مش هاتجي معانا ؟
رد عليها بإمتعاض موجز:
-لأ ..!
تلعثمت تهاني وهي تتوسله:
-تعالي يا ابني شوية، أنا آآ...

إلتفت أوس برأسه نحوها ليحدجها بنظرات قاسية، ثم سلط أنظاره على ليان، وهتف بصرامة متجاهلاً إياها:
-هاكلمكم أخر اليوم عشان تجهزوا قبل ما أجي هنا!
ابتلعت تهاني تلك المرارة العالقة بجوفها، وإستعطفته قائلة:
-يا أوس يا ابني أنا عارفة إنك مش هاتسامحني بالساهل، بس .. بس والله العظيم كان غصب عني، إنت مش عارف أنا بأحبك أد ايه و.. آآآ...

زادت تعابير وجه أوس قساوة وهو يضغط على شفتيه ليقول بنبرة عدائية:
-متقوليش ابنك! أنا ماليش أم، ومش معنى إني جيت هنا أبقى نسيت اللي فات!
صدمت ليان مما يقوله شقيقها، وبدت كالقادمة من كوكب أخر وهي ترى ذلك الغضب الجم منه على تلك السيدة الرقيقة ..
هتفت تهاني مدافعة برجاء:
-محدش يا بني معصوم من الغلط، بس آآآ...

قاطعها بصوت حاد ومنفعل وهو يشير بإصبعه نحوها:
-إلا انتي!
خرج عوض من منزله ليتفاجيء بالجدال المحتدم بين ذلك الرجل الذي عهده عنيفاً، وتهاني .. فقاطعهما بصوت واهن:
-صلوا على النبي كده، واذكروا الله .. خشي الوقتي يا ست تهاني، مايصحش العتاب على الباب
إلتوى فم أوس بتهكم، وهتف بصوت متشنج:
-أنا ماشي!
إنتحبت تهاني بحسرة وهي تجر أذيال الخيبة ورائها ..

بينما تابعتها ليان بصدمة جلية .. فهي تحاول ربط ما استمعت إليه من كلمات مقتضبة لتفسر تلك المسألة الغامضة التي جعلت أوس يثور كالبركان لمجرد رؤية تهاني أمامه ..
أشار عوض لتلك الغريبة بيده لتدلف للداخل، فإبتسمت له ابتسامة مهذبة وهي تلج لمنزله ..
ثم هتف بصوت شبه مرتفع وهو يشير بعكازه لأوس:
-استنى يا بني، اسندني وأنا نازل
توقف أوس على الدرج على مضض، وضرب بيده الدرابزون بعنف ..
نظر إليه عوض بأسف .. وأضاف بصوت هاديء:
-معلش يا بني، اعتبرني زي أبوك، وخد بإيدي لحد تحت!
إلتفت أوس نحوه، ورمقه بنظرات ساخرة، وغمغم مع نفسه بسخط:
-بلاش زي أبويا!

خرج الاثنين من مدخل البناية، فأسرع رجال الحراسة الخاصة نحو أوس، ولكنه أوقفهم بإشارة من يده، فإبتسم عوض قائلاً بمزاح:
-يا بني أنا مش هأذيك، أنا مافيش فيا حيل حتى أمشي خطوتين من غير ما أتسند على حد!
رد عليه أوس بجمود:
-رجالتي واخدين على آآآ...
قاطعه عوض بهدوء رغم وهن صوته:
-ينفع أطلب منك حاجة أخيرة
رد عليه أوس بنفاذ صبر:
-ايه.

أشار له عوض بعينيه المرهقتين وهو يجيبه بهدوء مشروط:
-توصلني بس لحد باب الجامع، وآآ.. ولوحدك
عقد أوس ما بين حاجبيه بشدة، وهتف بصدمة:
-نعم ؟!
ابتسم له ابتسامة ودودة وهو يردد بهدوء:
-متقلقش ده هنا
ضغط أوس على شفتيه قائلاً بتبرم:
-بس آآ..
قاطعه عوض بإصرار دون أن تتلاشى تلك الإبتسامة من على ثغره:
-خد ثواب مساعدة العاجز
زفر أوس عالياً، وتابع بإمتعاض:
-ماشي.

همس له عوض بنبرة ممتنة:
-ربنا يهديك ويصلح حالك
إلتفت أوس برأسه لحراسته الخاصة، وردد بصوت آمر:
-خليكوا واقفين هنا لحد ما أرجع
أردف أحد رجاله قائلاً بجدية واضحة:
-بس يا باشا احنا مهمتنا آآآ..
قاطعه أوس بصرامة وقد عبس بوجهه:
-هي كلمة ومش بأعيدها
هز الحارس الخاص رأسه قائلاً بهدوء:
-تمام معاليك.

وبالفعل سار الاثنين سوياً في إتجاه الطريق المؤدي للمسجد الموجود في منتصف الحارة ..
ظلت ابتسامة عوض الراضية مرسومة على وجهه حتى وصل إلى باب الجامع .. فأردف قائلاً بهدوء:
-معلش يا بني، أخر حاجة تدخلني جوا
نفخ أوس مجدداً وهو يتأمل المكان من حوله، ثم مد يده دون أن ينطق بكلمة
أضاف عوض قائلاً بصوت ودي وهو يشير إلى قدمي أوس:
-بس اخلع آآ.. لامؤاخذة .. جزمتك.

بدى وجه الأخير ممتعضاً للغاية .. فهو يعلم مدى قدسية المكان المقبل عليه .. وهو ليس بذلك القدر من النقاوة لكي يدلف إليه بسهولة ..
-قولي هو انت متوضي ؟
سأله عوض بإبتسامة مهذبة وهو يتفرس تعابير وجهه ..
رد عليه أوس بتهكم:
-لأ .. مستحمي بس!
هز عوض رأسه وتابع بهدوء:
-كلها طهارة يا بني
دلف الاثنين إلى داخل المسجد .. فشعر أوس برهبة شديدة تجتاحه رغم تلك الصلابة الزائفة التي يدعيها .. ولكن هناك هيبة كبيرة في ذلك المكان جعلت بدنه يقشعر..

إزدرد ريقه بصعوبة .. وتسارعت دقات قلبه نوعاً ما ..
نعم .. فهذا المكان أطهر من أن يدنسه بكل تلك الحقارات والأفعال المشينة التي إرتكبها في حياته السابقة ..
وجوده هنا لا يصح .. هو لا يصلح لأن يكون وسط هؤلاء الأنقياء ..
اقتحم ذاكرته سيل جارف من تلك الذكريات الماجنة التي فعلها مع الساقطات ومثيلاتهن .. ومدى العبث واللهو الذي كان منغمساً فيه حتى أخمص قدميه فأدرك مدى وضاعته التي تلوث طهارة المسجد .. وأنه لا يستحق التواجد هنا ..

استجمع هو رباطة جأشه وسار بحذر إلى الداخل وهو يتأمل المتواجدين به، والذين كانوا قلة تُعد على أصابع اليد، وراقبهم بنظرات حذرة وكأنه يرى في أعينهم حقيقته العارية متجلية ..
اخترق أّذنيه صوت رجل عذب وشجي يتلو آيات الذكر الحكيم .. فزاد هذا من رجفته .. ومن توتره
-عم عوض، ازيك يا راجل يا طيب
قالها الشيخ أحمد بنبرة متحمسة وهو يتحرك صوبهما ..
استدار أوس برأسه في إتجاه ذلك الشيخ، ونظر له بجمود ..

هتف عوض بنبرة راضية:
-في نعمة والحمدلله
هز الشيخ أحمد رأسه وهو يربت على ذراع عوض قائلاً بهدوء:
-يستاهل الحمد ..!
ثم أدار عينيه في إتجاه أوس، وابتسم له متسائلاً بهدوء:
-سلامو عليكم يا ابني، أنا أول مرة أشوفك هنا، إنت .. إنت قريب الراجل البركة ده ؟

رمقه أوس بنظرات حادة، وشعر بعدم رغبته في الحديث مع أي أحد، وأن الوقت قد حان للرحيل، لذا إلتفت ليحدث عوض قائلاً بنبرة جافة:
-أنا وصلتك، مهمتي خلصتك!
ثم إستدار مسرعاً، وكان على وشك التحرك، ولكن أوقفه صوت الشيخ أحمد معاتباً:
-يعني ينفع تيجي بيت ربنا من غير حتى ما تصلي ركعتين تحية المسجد!
تسمر أوس في مكانه وكأنه أصيب بشلل مفاجيء منعه عن الحركة ..

وقف الشيخ أحمد قبالته، وأدار مسبحته بحركات هادئة، وتابع بنبرة بشوشة:
-ده حتى مافضلش كتير على صلاة الضهر، استنى وصليها معانا!
إرتباك كبير بدى واضحاً على تعابير وجهه .. واضطربت نظراته وهو يحاول إختلاق مبرر سريع، فهتف بصوت شبه حاد:
-مش فاضي!
استطرد الشيخ أحمد حديثه بهدوء محاولاً إقناعه بالبقاء قائلاً:
-مش فاضي ولا مش عاوز تصلي معانا ؟ إكمن الجامع مش على المستوى!
فغر أوس فمه مندهشاً، وابتلع ريقه بصعوبة وهو يقول:
-هاه، لأ .. بس آآ..

أشار الشيخ أحمد بيده وهو يكمل ب:
-على فكرة السجاد هنا نضيف وبيتكنس يومياً، مايغركش إنه بسيط وقديم، بس بفضل الله احنا محافظين عليه، وكله بثوابه
كز أوس على أسنانه بشراسة وهو يضيف بنبرة شبه منزعجة:
-انت مش فاهم حاجة!
تعجب العم عوض من حالة العناد المسيطرة عليه، ولكن أدرك الشيخ أحمد بفراسته المعهودة سبب امتناعه عن البقاء، فسأله بهدوء محاولاً سبر أغوار عقله المشتت أمام نفسه ليكشفه:
-طب قولي ايه المانع ؟ فهمني السبب، أنا كلي آذان صاغية!

أغمض أوس عينيه ليقاوم تلك الومضات المشينة التي تضيء ذاكرته بشدة وتذكره بذنوبه اللا متناهية وآثامه ..
فأخذ نفساً عميقاً وحبسه في صدره المتأجج ليسيطر على تلك الحالة من التخبط والصراع، ثم كور قبضة يده، وهتف بصرامة وهو يتحرك للأمام:
-أنا ماشي
(( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ))
رتلها الشيخ أحمد بصوت شجي جعلت بدنه يهتز بالكامل فإنهارت مقاومته، وتسمر في مكانه عاجزاً عن المضي قدماً ..
وقف خلفه الشيخ أحمد وتابع بنبرة ودية:
-لو فاكر إن ربنا بيقفل بابه قدام أي حد تبقى غلطان، إنت هنا في بيت من بيوت الله العامرة بذكره.

ابتلع أوس غصة مريرة وهو يهتف بصعوبة:
-انت متعرفش حاجة، أنا .. أنا ماينفعش أكون هنا!
سأله الشيخ أحمد بنفس النبرة الهادئة:
-ليه يا بني ؟
ضغط أوس على شفتيه بشدة وهو يجيبه:
-أنا .. أنا ماستهلش أكون هنا وخلاص
هتف الشيخ أحمد بجدية وهو يشير بيده:
-بس إنت جيت!
نكس أوس رأسه خزياً، ورد عليه بضيق:
-غلطة.

أضاف الشيخ أحمد بهدوء محاولاً كشف تلك الغمامة عن عقله:
-ليه بتقول كده ؟ مش يمكن ربنا سبب الأسباب عشان تيجي هنا
احتقن وجه أوس بشدة، وبرزت عروقه النابضة بصورة واضحة، ورد عليه وهو يجز على أسنانه:
-يا شيخ، أنا كلي .. كلي ذنوب صعب .. صعب أقولها أو تفهمها!
ابتسم له إبتسامة عذبة وهو يربت على كتفه ليقول:
-ومين فينا يا ابني معملش اللي يندم عليه، بس ربنا غفور رحيم.

تنهد أوس بحرقة وهو يرد عليه:
-يا شيخ .. إنت مش عارفني!
هز رأسه موافقاً إياه، وبرر قائلاً وهو يضع إصبعه على قلبه:
-أيوه أنا مش عارفك، بس ربنا عارف ومطلع على اللي في قلبك!
إلتوى فم أوس وهو يضيف بتهكم:
-الجامع ده معمول ليك وللي زيك، أمثالي مكانهم مش هنا
رد عليه الشيخ أحمد بجدية واضحة:
-بيت ربنا مفتوح لأي حد يمد ايده ويقول يا رب حتى لو كان عاصى وآثم!

وكأنه ضغط بكلماته البسيطة على جراح أوس الغائرة .. فزاد من شعوره بالخزي ..
ربت الشيخ أحمد على ظهره، وأضاف بهمس شجي:
-ربنا يا بني بيقبل بتوبة أي حد من عباده، سبحانه هو القائل
(( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ )) ..!
لمعت عيني أوس بصورة غريبة، وتهدل كتفيه، وبدى عليه التأثر جلياً ..

وضع الشيخ أحمد يده على كتف أوس، وضغط عليه قليلاً بأصابعه، وأضاف بصوت منخفض ومطمئن:
-توب يا بني لو كنت مخطيء، وخليك واثق إن ربك كريم بيعفو وبيصفح عن ذنوب عباده مهما كانت!
رفع أوس رأسه للأعلى، وأدارها في إتجاه الشيخ، وحدق فيه بعينين ترقرقت فيهما عبرات الأسف والندم، وتسائل بصوت شبه مختنق يحمل التهكم:
-وتفتكر اللي زيي ليه توبة ؟

ابتسم له الأخير بإبتسامة مطمئنة وهو يجيبه بثقة:
-ايوه .. ربنا رحمته كبيرة، (( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ))
إنتاب أوس شعوراً غريباً ملأ قلبه بالسكينة والراحة بعد تلك المصارحة الحقيقية لنفسه العابثة وتعريتها بلا زيف، ودون الحاجة لأن ينطق بما يعجز عن البوح به ..
نعم شعوراً أخراً تمنى أن يعيشه منذ سنوات .. فيهديء روحه الملتاعة التي لم تجد إلا الصراعات والمعاناة ..
للحظة شعر بأن هناك سلاماً داخلياً يتخلل إليه
وباب جديد مليء بالأمل والتوبة يُفتح أمامه ..

مد الشيخ أحمد يده أمامه، وأردف قائلاً بإبتسامة عذبة:
-هاتقبل بإيدي الممدودلك، وتيجي معايا ؟
أخفض أوس عينيه لينظر إلى كفه الممدود بنظرات عميقة ..
رجفة كبيرة مسيطرة عليه .. تردد واضح في تعابير وجهه ..
.. تخبطت أفكاره، وتزلزل شيطان رأسه، ووصلت نفسه الثائرة إلى ذروتها ..
هو أمام خيار جدي سيحدد مصير حياته القادمة ..
للحظة رأى شبح تقى متجسداً على راحة الشيخ ..

إبتسامتها الناعمة، نظراتها المشرقة وهي مقبلة على فعل ما تحب .. صوتها الهامس وهي تناجي المولى في صلاتها .. إيماءات وجهها البشوش
فسقط أخر حصونه المقاومة، وإنهمرت معها عبراته النادمة .. وببطء حذر إستجاب لندائه مستسلماً، وأمسك بكفه، فإعتلى ثغر الأخير إبتسامة مطمئنة، وهز رأسه ممتناً، وسحبه معه بهدوء ليرشده إلى أول طريق الإستقامة والصلاح...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة