قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السادس والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السادس والثلاثون

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السادس والثلاثون

في منزل باسل سليم،
ولج خالد سليم رضوان إلى داخل منزل أخيه بعد أن فتحت له الخادمة الباب، وتوجه إلى غرفة المعيشة حيث استمع إلى صوت باسل وهو يتحدث هاتفياً بغموض:
-اوكي ناتالي، مش هانختلف، deal ( اتفقنا )
جلس خالد بأريحية على الأريكة بعد أن حل زرار سترته، ووضع ساقاً فوق الأخرى، وظل يتابعه في صمت..
شرد لوهلة فيما دار قبل قليل مع تلك الفتاة الغامضة..

وبدى منزعجاً من ردها الفظ، فهو قد اعتاد على الردود المجاملة، والمدح والثناء، خاصة من النساء اللائي يظهرن إعجابهن بلباقته، ولكن تلك الصغيرة جعلت من بريقه الماسي وهماً لا قيمة له..

أغمض عينيه مجبراً ليجبر عقله على عدم التفكير في الموقف برمته، وأخذ نفساً عميقاً، ثم نفسه على مهل، ورفع رأسه في اتجاه أخيه، ونظر له بنظرات خاوية إلى أن أنهى المكالمة، فالتفت الأخير نحوه، وهتف مبتسماً وهو يتساءل بقلق بعد أن أخفى تلك النزعة العصبية من وجهه:
-خالد، انت هنا من بدري؟!
هز خالد رأسه نافياً، وأجابه بهدوئه المعتاد:
-لأ، لسه جاي من شوية
ثم اختطف نظرات سريعة حوله، وتساءل بإهتمام:.

-أومال باقي العيلة الموقرة فين؟
وضع باسل يده على فروة رأسه ليحكها قليلاً، ثم أجابه بتنهيدة مطولة:
-ماما راحت مع بابا النادي شوية عندهم تقريباً ندوة هناك وهما مش بيحبوا يفوتوا أي حاجة من الحاجات دي
هز خالد رأسه متفهماً، وغمغم يإيجاز:
-أها، وأحمد؟
رد عليه بهدوء حذر وهو يتفرس تعابير وجهه المنهكة:
-في العيادة بتاعته!
هز خالد رأسه بإيماءة خفيفة، ثم ردد بفتور:
-تمام.

تابعه باسل بنظرات فاحصة، وراقب تنهيداته المنزعجة المصحوبة بطرقعة لأصابع كفيه، فسأله بفضول:
-مالك، بتنفخ ليه؟
أخذ خالد شهيقاً مطولاً، وزفره مرة واحدة، ثم أجابه بضيق:
-الناس هنا عندكم عجيبة أوي!
رد باسل متساءلاً وهو يعقد ساعديه أمام صدره:
-اشمعنى يعني؟
أجابه أخيه الأكبر بضجر:
-عادة الواحد لما بيحب يساعد حد بيتوقع كلمة شكر، ده الطبيعي والمفروض زي أما كنت عايش برا، بس بأشوف العكس هنا!

قطب باسل جبينه، وسأله مهتماً:
-في حد ضايقك؟
لوى خالد ثغره للجانب قليلاً، وأجابه:
-مش ضايقني، بس ردها كان قليل الذوق
لمعت عيني باسل نوعاً ما، ومط فمه قائلاً:
-ممم، دي واحدة؟!
-ايوه
تابع باسل قائلاً بسخرية:
-وطبعاً إنت مش متعود على البنات التنكين بتوعنا، الظاهر إنك نسيتهم!
رد عليه خالد بتبرم:
-أنا كان قصدي أساعدها وبس، مش تطفل ولا فضول!
برر له باسل تصرف الفتيات قائلاً بعد أن حل ساعديه من تشابكهما:.

-البنات هنا لو حد عبرهم بيسوقوا فيها، فكبر منهم، وبعدين شكلك كده بتدور على جوازة جديدة بعد ما طلقت مراتك!
عبس خالد بملامح وجهه، ورد عليه بحدة بائنة في نبرته:
-وايه العيب في كده، من حقي أشوف نفسي، الحياة مش هاتقف عليها
-طب وولادك؟ وقصة الحب الكبيرة اللي كانت بينكم وآآ...
قاطعه خالد بجدية:.

-الأولاد عايشين مع مامتهم! وأنا بأزورهم باستمرار ومتفق معاها على كل حاجة، أما قصة الحب فانتهت بانشغالها عني، وبإهتمامتها الكتير!
أومىء باسل برأسه متفهماً:
-أها، واضح إن السلك الدبلوماسي فرق معاك جامد في حياتك
رد عليه أخيه بجدية:
-اها، بصراحة غير نمط حياتي!
اعتدل خالد في جلسته، ثم تساءل بصوت هاديء:
-المهم سيبك مني ومن مشاكلي، أنا كفيل بيها، وقولي هاتعمل ايه مع عروستك؟

فرك باسل وجهه بكفه، وأجابه بإمتعاض ظاهر في نبرته:
-هي مش حابة جو الأفراح والهيصة والدوشة، عاوزة حاجة سيمبل ( بسيطة ) ويدوب عيلتي وعليتها وبس!
غمز له خالد وهو يمازحه:
-ممممم، شكل عروستك بخيلة
أوضح له باسل موقفها قائلا:
-مش مسألة بخل، بس هي ليها نظام وفكر معين كده، وآآ...
قاطعه خالد وهو يشير بكف يده
-عامة اعملوا اللي يريحكم، محدش بيفرض عليكم رأيه، إنتو اللي هاتجوزوا مش حد تاني!

هز باسل رأسه بإقتناع وهو يضيف:
-بالظبط، ودي الميزة في الأجانب، تحكمات الأهالي وغيرها مش موجودة زي هنا عندنا، كل اللي احنا عاوزينه بنعمله من دماغنا وبس!
-اها، ربنا يتمملك على خير يا بسول، اتجدعن بقى وخلينا نفرح فيك
ثم تصنع الضحك، وصحح قائلاً:
-قصدي نفرح بيك!
لاح شبح ابتسامة خفيفة على ثغره وهو يقول:
-وماله يا خالد اتريق براحتك، بكرة نشوف هاتعمل ايه لما تتجوز تاني.

تشكل طيف تلك الفتاة التي قابلها خالد في مخيلته، ورد عليه بصوت رخيم:
-والله لو زي اللي قابلتها يبقى مش عاوز!

في منزل مسعد غراب،
التهمت إيناس ما تبقى من ثمرة التفاح وهي تكمل حديثها مع أخيها قائلة:
-وفكيت الفيوز وطلع العيب منه!
لوى فمه في اعجاب وهو يردد متفاخراً:
-والله برافو عليكي، عرفتي تتصرفي
تباهت إيناس بنفسها قائلة:
-أومال ايه، لاحسن تكون مفكرني من البنات السايحة النايحة
رد ضاحكاً:
-لأ، ده انتي أنشف منهم! ولا العساكر اللي في المِيس عندنا
تجهمت ملامحها وهي ترد بغيظ:
-متتريقش عليا، أنا هاكون سفيرة!
رد مازحاً:.

-أكيد طبعاً، السفيرة عزيزة
اغتاظت إيناس من ردوده المستفزة، وهتفت بحنق:
-يووه يا مسعد، إنت رخم بجد!
أمسك بها من كتفها، ورد بهدوء:
-خلاص ماتقفشيش، أنا بأهزر يا نوسة معاكي
نزعت كتفها من قبضته بقوة، ونهضت من جواره، واسندت الصحن الفارغ على الطاولة، وصاحت بتذمر:
-لأ أنا قافشة، وحاسب خليني أروح أذاكر!
هتف بنبرة مرتفعة نسبياً:
-يا بت، استني!
عبست أكثر بوجهها وهي ترد:
-لأ.

انضمت إليهما والدتهما، وابتسمت لابنتها وهي تقول:
-روحي يا نوسة كملي يا حبيبتي مذاكرتك!
ردت عليها إيناس بتبرم:
-ما أنا رايحة من غير حاجة!
تابعتها صفية حتى غابت داخل غرفتها، وجلست إلى جوار ابنها، وأخفضت نبرة صوتها قائلة:
-عاوزة أقعد معاك يا مسعد شوية!
التفت مسعد برأسه نحوها، وسألها بهدوء:
-خير يا ماما
تهللت أساريرها وهي ترد:
-بص يا حبيبي، عندي ليك حتة عروسة إنما آآ...
زفر مسعد بضيق، وقاطعها قائلاً على مضض:.

-الله يكرمك يا ماما، مش عاوز سيرة في الموضوع ده، أنا مبسوط كده!
قطبت صفية جبينها، وتجهمت قسماتها بشدة، ورفعت حاجبها للأعلى مستنكرة، ثم ردت بضجر:
-مبسوط! بس أنا وأبوك لأ، هو انت صعبان عليك نفرح بيك ونشوف عيالك؟!
هز رأسه نافياً:
-لأ يا أمي، مش كده الموضوع، بس أنا مش في دماغي حد، وبعدين اللي اتجوز خد من الجواز ايه غير الهم والغم!
لطمت على فخذها قائلة بضيق:.

-يا غلبي ياني، أكيد في واحدة عملالك عمل مخلياك كاره الجواز وسيرته، ماهو الكلام اللي بتقوله ده مش طبيعي
استنكر مسعد ما قالته تواً، ورد عليها بإستخفاف:
-عمل، هو في حد لسه بيتكلم في التخاريف دي
أجابته بجدية غريبة:
-اه يا حبيبي، إنت بس اللي طيب وغلبان ومتعرفش حاجة!
تمتم مع نفسه بخفوت:
-واضح كده إن الحاجة صفية دماغها زي ما هي! أحسن حاجة أعملها أخلع منها بدل ما تحضرلي عفريت وتجيبلي شيخ منصر يقرى عليا!

نهض هو من جوارها، وتابع حديث نفسه بكلمات مبهمة، بينما تعجت صفية من تصرفات ابنها الغير مقنعة، وأصرت قائلة:
-مش هاسيبك تخيب نفسك، أنا هاتصرف بطريقتي!

خلال اليومين التاليين كان باسل قد أعد كل شيء لإقامة حفل خطبة بسيط داخل منزله، ودعا إليه رفيقه مسعد وعائلته لمشاركته تلك المناسبة المميزة..
ربما أراد أن يثبت لنفسه شيئاً، أن حب الماضي لم يكن إلا وهماً ومن طرفه فقط، وأن وجود إيناس في حياته ان لن يشكل فارقاً معه، لذلك أصر على دعوة العائلة بالكامل، ولم يقبل بإعتذار أي فرد منها بإعتبارهم المقربون إليه..

وبإمتعاض واضح على تصرفاتها وتعابير وجهها المتشنجة، اضطرت إيناس أن تذهب – مرغمة – مع أسرتها إلى تلك الخطبة المزعومة..

وبالرغم من رفضها للذهاب إلى هناك والتواجد مع باسل في أي مكان إلا أنها رضخت لإلحاح والدتها وإصرار أخيها، فلا مفر من الهروب مما هو محتوم، ومع ذلك تأنقت في هيئتها، وارتدت فستاناً ملائماً لتلك السهرة من اللون الأزرق النيلي يلامس طرفه الأرضية بينما يمتد ذيله الحريري لمسافة عليها، وعقصت شعرها كعكة، وأسدلت خصلة كبيرة أمامية لتغطي جبينها، ووضعت لمسة من مساحيق التجميل، وتعمدت المبالغة في وضع أحمر الشفاه ليظهر تميزها أكثر..

ارتدى مسعد حلة سوداء وقميصاً نبيذي اللون من أسفلها، ولم يضع رابطة عنق..
وحينما رأى أخته بتلك الصورة الجميلة أبدى إعجابه الفوري قائلاً:
-ايه الجمال ده!
ابتسمت له بثقة، بينما تابع هو بمزاح:
-شكلك ناوية تضيعي العروسة! وهي مش ناقصة ضياع أصلاً!
زادت ابتسامتها المغترة وهي ترد عليه:
-وأنا مالي بيها، دي أقل حاجة عندي
رفع حاجبه للأعلى ليرد بإستغراب:
-واضح فعلاً!
-ها يا ولاد جهزتوا؟

تساءلت بتلك العبارة السيدة صفية وهي تسحب شالها على كتفها لتخفي تلك الفصوص الفضية اللامعة..
ردت عليها إيناس بنبرة رقيقة:
-أنا تمام يا ماما
نظرت لها والدتها، وردت بحماس:
-النبي حارسك وصاينك، زي القمر يا نوسة
ثم مصمصت شفتيها بضيق قليل وهي تضيف لنفسها:
-مش كان عمل الفرح في قاعة كان العرسان شافوكي وجالك عدلك!
هتف اللواء محمد قائلاً بجدية:.

-يالا بينا، احنا مش عاوزين نتأخر، هتبقى قلة ذوق إن صاحبك عازمك ونيجي كمان بعد الميعاد بفترة، المفروض تكون معاه من بدري
رد عليه مسعد قائلاً بهدوء:
-البركة في اخواته، هما معاه!
ثم ولج الجميع بعدها من المنزل ليستقلوا السيارة، ويتوجهوا إلى منزل باسل حيث تنتظرهم عدة مفاجآت سارة و...

أبطأ مسعد السيارة حينما أوشك على الاقتراب من البناية القاطن بها باسل، وظل يتفقد الطريق بحرص حتى يتجنب التصادم مع أي سيارة، خاصة أن مساحة الطريق كانت ضيقة للغاية.
ورغم الهدوء الحذر الواضح على وجه إيناس، إلا أن روحها كانت مشتعلة من الداخل..
فنيران كرهها له لم تهدأ، بل كانت دوماً مستعرة لكنها لم تظهر هذا لأحد، حتى الأقرب إليها لم يشعروا بما كانت تعانيه..

أوقف مسعد السيارة، والتفت برأسه للجانب ليرمق جميع أفراد عائلته بنظرات شمولية وهو يقول:
-انزلوا انتو هنا، وأنا هاشوف راكنة قريبة للعربية واحصلكم
أشار له والده بيده وهو يقول:
-طب ما تركن قصاد الجراج ده، أو عندك عربية باسل محدش آآ...
قاطعه مسعد قائلاً بجدية:
-يا بابا مش عاوزين مشاكل مع حد، خلينا نركن في أي حتة وخلاص، مش هاتفرق كتير..
رد عليه أبيه بصوت جامد:
-اللي يريحك!
ثم أومىء برأسه لزوجته وهو يضيف:.

-يالا يا صفية، تعالي يا إيناس
أجابته زوجته قائلة بنبرة شبه مرهقة:
-حاضر، احنا مجناش هنا قبل كده، هانعرف بيته ازاي ولا آآ...
قاطعها مسعد بهدوء:
-إيناس جت معايا قبل كده مرة، وعارفاه، صح ولا نسيتي؟
ردت عليه إيناس بتأفف:
-أها! مش ناسية مكانه
هتف اللواء محمد بنفاذ صبر:
-طب انجزوا، وبلاش عطلة اكتر من كده!

وبالفعل نزل الثلاثة من السيارة متجهين نحو مدخل البناية، بينما تابعهم مسعد بنظراته حتى اختفوا بالداخل، فتحرك بالسيارة باحثاً عن مكان شاغر ليصفها فيه..
لمح سيارة أخرى تأتي من الطرف المعاكس تحاول المرور، فأزاح سيارته إلى أقصى الجانب ليعطي قائدها أكبر مساحة ممكنة لكي يمر دون أن يحدث أي تصادم بينهما أو احتكاك..
ونجح في مسعاه، ولكنه تفاجيء بشبحها يمر بجواره..

فخفق قلبه بصورة مباغتة، وتسارعت دقاته فجأة، وتصلبت حواسه بالكامل للحظة..
أفاق من صدمته القوية سريعاً، والتفت برأسه للجانب ليتأكد من صحة ما رأى..
لقد كانت هي، حبيبته – سابين - التي لم ينساها للحظة..
هي مرت من هنا، وهو قد رأها بالفعل، لم تكن وهماً ولم يكن خيالاً صوره له عقله، بل كانت هي حقاً..

وما أكد شكوكه هو صوتها الذي يحفظه عن ظهر قلب واخترق أذنيه بقوة ليصيب أوتار قلبه وهي تشكره بنعومتها المميزة:
-ثانكس!
حدق في سيارتها التي تبتعد رويداً رويداً عنه بنظرات مصدومة، وفغر فمه في ذهول تام..
لم يدرِ كيف أدار محرك سيارته واستدار بها بصورة عجيبة ليتمكن من اللحاق بها قبل أن تهرب منه للأبد..

في منزل باسل سليم،
قرع اللواء محمد الجرس ووقف في المقدمة لينتظر من يفتح الباب له ولعائلته..
بعد أقل من دقيقة، كانت الخادمة ترحب بالجميع وتشير لهم بالدخول، ولكن تعمدت إيناس التباطيء في الدخول وتعللت بإصلاح رباط حذائها ذي الكعب العالي كي تلج متأخرة..
دخل اللواء محمد أولاً، واختطف نظرات سريعة في المكان من حوله، ثم توجه بأنظاره نحو أصحاب المنزل الذين كانوا في انتظار وصول أخر المدعوين..

رسمت السيدة صفية على وجهها قناع المجاملة الذي تجيده في تلك النوعية من المناسبات، وأطلقت زغرودة سعيدة وهي تطأ بأقدامها صالة المنزل لتلحق بزوجها، فانتبه الجميع لها، وخاصة باسل الذي بدى مضطرباً على غير المعتاد..
ابتلع ريقه، ونظم أنفاسه ليحافظ على ثباته الانفعالي في الوقت الحالي، فلا حاجة به لرفع نسبة الأدرينالين في دمائه من شيء تافه، هكذا ظل يردد لنفسه في صمت..

تعجب خالد من تصرف تلك السيدة التي لا يعرفها بعد أن التفت بجسده ناحيتها ليتفحصها بإهتمام، ومال على أخيه ليسأله عن هويتها، فأجابه باسل بخفوت:
-دي أم مسعد صاحبي
أضاف خالد بمزاح جاد:
-واضح إنها جاية تعمل معاك الواجب!
أجابه باسل مبتسماً بتصنع:
-أصلها بتعزني أوي
هز خالد رأسه متفهماً وهو يقول:
-أها، ده باين فعلاً
حذره باسل بجدية:
-اسكت بقى عشان جاية علينا
-اوكي
هتفت صفية بنبرة فرحة وهي تشير بيديها في الهواء:.

-ألف مبروك يا باسل، والله فرحنالك كلنا من قلبنا، ربنا يتمملك على خير يا رب!
-الله يخليكي يا طنط!
قالها باسل وهو ينهض عن الأريكة الواسعة التي كان يجلس عليها، ومد يده لمصافحة السيدة صفية، ولكنها جذبته بقوة لتقبله من وجنتيه بحرارة، فهو بمثابة أخٍ ثانٍ لابنها، وتابعت بسعادة:
-عقبال مسعد لما نفرح بيه زيك
-إن شاء الله
رد هو عليها متراجعاً بجسده للخلف بعد أن ادعى الابتسام..

وتلقائياً بحثت عيناه عن إيناس، لكنه لم يرها بعد، فظن أنها رفضت الحضور، فعبس وجهه قليلاً وأصيب بالإحباط، وظهرت في عينيه لمحات شبه حزينة...
تحرك خالد من مكانه ليشعل سيجاراً ليدخنه بعيداً عن الواقفين، فاتجه نحو الخارج، وقبل أن يشعلها بقداحته تشكل على تعابيره الهادئة علامات الإندهاش، واتسعت حدقتيه في صدمة حينما رأى تلك الفتاة تقف على أعتاب منزله تتأمل هيئتها في المرآة الكبيرة المعلقة على الحائط..

أرخى يده للأسفل، وأعاد وضع القداحة في جيب سترته، ثم رسم على وجهه الجدية، واتجه نحوها بخطوات ثابتة..
استدارت إيناس بجسدها لتجد ذلك الشاب الذي التقت به قبل يومين أمامه، ففغرت شفتيها مصدومة، وتسمرت في مكانها غير مصدقة أنه بالفعل أمامها..
رمشت بعينيها عدة مرات لتتأكد أنها لا تتوهم رؤيته، وصدقت شكوكها حينما أردف قائلاً بنبرة رخيمة:
-أظن أنا مش جاي أعاكس ولا أفرض نفسي على حد، انتي اللي جاية برجلك عندي!

قفز قلبها في قدميها من الصدمة، ووضعت يديها على شفتيها لتردد بتوتر رهيب:
-إنت!
التوى ثغر خالد بإبتسامة شبه مغترة، وأشار بذراعه في الهواء قائلاً:
-أهلاً وسهلاً بيكي في بيتنا المتواضع!
أنزلت يديها عن فمها، وتلفتت حولها بعدم تصديق متساءلة:
-ده، ده بيتك؟!
رد عليها بإيجاز وهو يقترب منها:
-ايوه
أبعدت إيناس عينيها عنه، وعقدت ما بين حاجبيها بإستغراب، وتمتمت بصوت خفيض مع نفسها:
-مش معقول.

وقف خالد قبالتها، وراقب ردة فعلها بفضول كبير، ثم هتف بابتسامة مهذبة:
-غريبة صح!
رفعت رأسها لتنظر إليه عن قرب، فأطال هو من نظراته الممعنة بها، وظهر عليه الإهتمام بهيئتها الجميلة، وزادت ابتسامته اتساعاً وهو يضيف:
-مممم، مش بيقولوا الدنيا صغيرة!
توردت وجنتيها قليلاً من الاحراج، وحاولت سريعاً أن تربط أطراف الخيوط معاً، وهمست بعدم تصديق:
-مش ممكن!

لاحظ هو ذهولها الواضح في نظراتها إليه، وتابع بصوت خفيض لكنه ثابت:
-أعتقد إنك مش قادرة تستوعبي ده لسه! أنا ممكن أوضحلك أكتر
هتفت بشهقة عالية بعد أن توصلت للإستنتاج المؤكد:
-معنى كده إنك انت، آآ...
انتبه هو لنظراتها المحدقة به، وأعجبه حماسها الممزوج بخجلها، وكذلك تبدل انفعالاتها في لحظة واخرى، وردد متساءلاً بإهتمام وهو يدس يده في جيب بنطاله:
-أنا ايه؟
أشارت بسبابتها نحو صدره وهي تسأله بصرامة غريبة:.

-انت أخو باسل؟
تعجب من أسلوبها المتحول، وقطب جبينه مجيباً إياها بتساؤل أخر:
-باسل! هو انتي تعرفيه؟
هزت رأسها بالإيجاب وهي ترد قائلة بجدية:
-اه، يبقى صاحب أخويا مسعد
حرك خالد رأسه متفهماً سبب وجودها في منزله، ومع ذلك لم يشبع هذا فضوله لمعرفة كيف لم يتعرف إليها طالما هي أخت رفيق أخيها، فسألها بإهتمام أكبر:
-أها، بس غريبة، دي أول مرة أشوفك هنا؟

نظرت له إيناس بنظرات حادة، وردت عليه بحنق ظاهر في نبرتها بعد ان استشفت إشارة ضمنية منه لكونها سهلة المنال:
-أكيد طبعاً لازم تشوفني أول مرة، ماهو أنا مش هاجي أزور أخوك يعني، هو مش صاحبي أنا، ولا أنا أعرفه أوي!
استشعر خالد الحرج مما قاله، وتأكد من انزعاجها من سؤاله الغير دبلوماسي، وظن أنه تسرع بل أخفق حينما ردد مثل تلك النوعية من الأسئلة التي لا تجوز خاصة في تلك المواقف والصدف الغريبة..

كور قبضة يده، وقربها من فمه، ثم تنحنح بصوت خشن، واعتذر قائلاً:
-احم، سوري، مقصدش، انتي دايماً متسرعة وبتفهميني غلط، أنا أقصد إن باسل مقاليش إنه يعرف بنات حلوين زيك
لم تهتم هي بما قاله ونظرت له شزراً، فتابع قائلاً بحذر:
-قصدي ان اخوات أصحابه جُمال وشيك!
ردت هي بتأفف ظاهر بصورة جلية وهي تشيح بوجهها للجانب:
-أها أبيه باسل
صُدم خالد من اللقب، وتمتم بلا وعي:
-أبيه!
أوضحت له إيناس مقصدها بإمتعاض:.

-أصل أنا بأعتبره زي أخويا الكبير!
رفع خالد يده على رأسه ليمررها سريعاً بين خصلاته، ثم ابتسم مازحاً:
-لا، مش حلوة كلمة أبيه دي، إنتي كده بتكبريني معاه، يعني لو هو أبيه، يبقى شوية وهاتقوليلي يا جدو خالد، ولا ايه رأيك؟ ينفع أبقى أنا جدو؟!
ضحكت إيناس مقهقهة على دعابته الأخيرة، فأثارت بصوتها انتباه ذلك الذي كان يتحرك ناحية غرفة الضيوف ليستقبل عروسه التي أوشكت على الانتهاء من زينتها وتنتظر هناك..

توقف في مكانه، وبدى كالصنم للحظة..
حبس أنفاسه، وتجمد كلياً وهو يكاد لا يصدق وجودها..
تأهبت حواسه مرة أخرى حينما علت ضحكتها المميزة، واشتعل شيء ما به، وظهر الوجوم الممزوج بالغضب على تعابير وجهه..
لم يشعر بقدميه وهما تتحركان نحو صاحبة الصوت المألوف، و...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة