قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل الثالث

في منزل مسعد غــــراب،
تأنق مسعد على غير عادته، وإرتدى أكثر حِلاته أناقـــة لتليق بتلك المهمة الخــاصة..
خرج هو من الغرفة، فوجد والدته قد أعدت له الطعام ووضعته في علب بلاستيكية، ثم أسندتها بداخل حقيبة سمراء..
رسمت على ثغرها ابتسامة سعيدة وهي تقول:
-اتفضل يا حبيبي، حبة أكل يستاهل بؤك
تناول منها الحقيبة السمراء، وسألها بإهتمام:
-طابخة ايه يا أمي؟
أجابته بنبرة أمومية وهي تشير بكف يدها:.

-ورق عنب وكرنب من اللي قلبك بيحبه، وشويتلك الفراخ في الفرن، وعملتلك كمان رز بالخلطة!
تحمس مسعد كثيراً وهو يرد بإشتهاء:
-الله! الله! أنا رأيي أطنش المهمة وأقعد أكل أحسن!
ربتت والدته على كتفه، وهتفت بمرح:
-بالهنا والشفا يا حبيبي، مطرح ما يسري يمري
أمسك بكف يدها، ورفعه إلى فمه ليقبله، ثم قال ممتناً:
-تسلم ايدك يا حاجة، هاتوكل أنا على الله!
رفعت يديها للأعلى – وكذلك بصرها – وهتفت بتضرع:.

-ربنا يحميك ويحرسك في طريقك، ويسدد خطاك!
تنهد بعمق وهو يضيف قائلاً:
-يا رب، ادعيلي، لأحسن أنا محتاج كل الدعاء الأيام دي أوي
ردت عليه بإبتسامة صافية:
-بأدعيلك وربي اللي عالم
-ماشي يا أمي، أشوفك على خير
-مع السلامة يا مسعد! ربنا يوفقك يا بني ويكرمك!
اتجه مسعد إلى الباب، وأخـــذ نفساً عميقاً، وزفره على عجالة وهو يدير المقبض ليخرج وهو يمني نفسه بأنه الأجدر لتلك المهمة القادمة...

على متن الطائرة،
نهضت سابين من على مقعدها، وسحبت تلك الحقيبة اليدوية من الدرج العلوي، ثم ســارت ناحية المرحاض الخلفي..
ولجت داخله، وأوصدت الباب خلفها، ثم تفقدت الوثائق الأخــرى التي كانت معها
احتفظت هي بملحوظات صغيرة عن طبيعة مهمتها في القاهرة..
كانت مدركة أنها مقبلة على شيء هــام، خاصة وأنها ستتعامل مع نوعية معينة من الرجال الأشداء، وعليها أن تكون مقنعة حتى تنطلي عليهم الخدعة..

كذلك تأكدت من وجود ثياب بديلة لتغير فيها حينما تترجل من الطائرة حتى تعود لهيئتها الأصلية..

في المقهى الحديث،
ولج مسعد إلى داخل المقهى، وبحث بعينيه سريعاً عن والده، ولكن سد عليه الطريق النادل الذي هتف بحماس:
-مسعد باشا! أهلاً وسهلاً بسيادتك
رد عليه مسعد بإقتضاب:
-شكراً يا سيدي!
ثم أدار رأســـه للجانب وســأله بجدية:
-سيادة اللوا فين؟
استدار النادل برأســه للخلف، وأشــار بيده وهو يجيبه بإبتسامة سخيفة:
-هناك في الركن المميز بتاعه
رد عليه مسعد بإيجاز:
-ماشي
أضاف النادل قائلاً:.

-أجيب لسيادتك الأورد ولا آآ...
قاطعه مسعد قائلاً وهو يتحرك في اتجاه والده:
-لا مش عاوز حاجة، أنا ماشي على طول
أومـــأ النادل برأســه، وتابع قائلاً:
-براحتك يا باشا، أنا موجود في الخدمة، ناديني وهتلاقيني قصاد سيادتك
وبالفعل وجد مسعد والده في مكانه المعتاد يلعب الطاولة مع أصدقائه المسنين..
أخــذ نفساً عميقاً، وانتصب بكتفيه، ثم وقف قبالته، وأدى له التحية العسكرية وهو يقول بنبرة رسمية:
-تمام يا فندم!

التوى ثغر أبيه بإبتسامة سعيدة وهو يهتف له بحماس:
-استرح يا سيادة الرائد!
سحب مسعد مقعداً جانبياً، وجلس عليه وهو يقول:
-مساء الخير عليكم
رد عليه أحدهم متسائلاً بإهتمام:
-ازيك يا مسعد؟
أجابه قائلاً بإبتسامة ودودة:
-الحمدلله
أضـــاف أخر قائلاً بتبرم:
-سيادة اللوا مش راحمنا في الطاولة
ورد عليه شخص ثالث بمزاح:
-ده خبير دولي
وأضـــاف الشخص الأول قائلاً:
-خصم مش سهل
رد عليهم محمد قائلاً بزهــو وتفاخر:.

-دي حاجة بسيطة، وبعدين أهي حاجة أشغل بيها وقتي بعد ما طلعت على المعاش!
شعر مسعد بالضجر من ذلك الحديث الممل، فنفخ بحذر، ثم تنحنح بخشونة، واستطرد قائلاً بصوت خفيض وهو يشير بكفه:
-بابا، أنا كنت جاي آآ...
قاطعه أبيه بصرامة:
-استنى شوية
أصــر مسعد قائلاً:
-يا بابا مافيش وقت، ده آآآ..
قاطعه والده مجدداً ولكن ليوجه حديثه إلى رفاقه وهو يقول:
-عارفين يا جماعة مسعد ده بيفكرني بأخويا الكبير الله يرحمه.

لوى مسعد ثغره بضيق واضح على تعابير وجهه، وهمس بإمتعاض:
-آآخ، ايوه هنبدأ التسييح، وسرد الملحمة التاريخية!
تابع محمد قائلاً بتباهي:
-أنا زي ما قولتلكم قبل كده اني سميته مسعد على اسم أخويا الشهيد، بطل من أبطال حرب أكتوبر، ده لولاه آآ...
قاطعه مسعد قائلاً بحنق:
-كنا خسرنا سينا، وضاعت كل حاجة، ومخدناش اليوم أجازة، عارف والله يا سيادة اللوا، كمل الحكاية دي بعدين، أنا هاسلم وآآ...

رمقه والده بنظرات حادة، وقاطعه بنبرة جادة:
-يا بني اصبر، خليني أكمل
رد عليه مسعد بنفاذ صبر:
-الطيارة مش هاتستنى
انعقد ما بين حاجبي أبيه، وســأله بإهتمام غريب:
-طيارة؟!
سعل بخفوت، ثم رد عليه بتوتر قليل:
-قصدي المهمة، عندي تدريبات وآآ، وشوية آآ..
ثم رسم ابتسامة بلهاء على وجهه، وغمز قائلاً:
-ما تفكك يا باشا مني!
رد عليه محمد متفهماً:
-ماشي يا سيادة الرائد، لينا أعدة سوا
لوح له بكفه وهو يقول:
-أكيد، سلام.

عنفه والده قائلاً بجدية مبالغة:
-التحية العسكرية يا ولد
انتصب مسعد في وقفته، وصاح بثبات:
-تمام يا فندم!

في المطار،
هبطت الطائرة على المدرج المخصص بها، واستعد الجميع للنزول منها..
تملك سابين الحماسة لرؤية ذلك البلد الذي ولد فيه أبيها،
و ارتسم على شفتيها إبتسامة مشجعة..
شعرت بدفء الأجواء وهي تنزل على الدرج المعدني، وتلفتت حولها محاولة إلقاء نظرة عامة على المكان المحيط بها..

ولجت هي إلى القاعة الخاصة بإنهاء الإجراءات، فوجدت الزحــام بها شديداً، ولمحت بعينيها لوحة معدنية تشير إلى المراحيض، فغيرت وجهتها، وســارت نحوها لتبدل ثيابها، وترتدي ما يتناسب مع صورتها الموضوعة في جواز سفرها الأصلي..

في نفس التوقيت، صف مسعد سيارته أمـــام مدخل المطار، ومسح بمنشفة ورقية ذلك العرق المتصبب على جبينه..
نفخ بضيق وهو يحاول إرخاء رابطة عنقه قليلاً، وتمتم بإنزعاج:
-خنقة من أولها
تذكر أنه نسي مراجعة تلك الورقة المطوية التي أعطاها له الفريق ضياء، لذا بحث سريعاً عنها في جيوبه، وتملكه الخوف وهو يهمس:
-لأحسن تكون ضاعت! دي هاتبقى كارثة!

حبس أنفاسه وهو يبحث عنها بتوتر حتى وجدها بداخل حافظة نقوده، فتنفس الصعداء..
زفــــر بصوت مسموع وهو يحدث نفسه بعتاب:
-مش تفتكر حطتها فين ياخي بدل حرقة الدم دي! ده أنا أعصابي باظت، من أولها كده!
تنفس بعمق ليضبط إنفعالاته من جديد، ثم حدق في الورقة بنظرات مطولة..
فرك ذقنه بحركة ثابتة، وأردف قائلاً بحيرة:
-طب دي أستهجى اسمها إزاي؟

ظل يحاول قراءة الاسم عدة مرات لكنه كان يفشل في تهجئته، لذا فكر للحظات في الإستعانة بشخص ما ليساعده على ترجمة اسمها، ولكن خشي من افتضاح المهمة، فطرأ بباله أخته الصغرى إيناس، وتذكر مدى براعتها في اللغة الإنجليزية، فتهللت أساريره، وصــاح بحماس:
-هي مافيش غيرها، الأروبة الأوزعة هاتجيب أرار المكتوب هنا!
وبالفعل أخـــرج هاتفه المحمول من جيب سترته، وهاتف أخته التي أجابته بحدة:.

-عاوز ايه يا مسعد، مش كنت عاوج وشك عليا؟!
رد عليها بنبرة دبلوماسية زائفة:
-ده انتي الحتة اللي في الشمال يا نوسة!
هتفت إيناس قائلة بعدم اقتناع:
-طالما قولت كده تبقى مزنوق في حاجة
حرك رأسه إيجاباً وهو يرد عليها:
-ايوه، ميزتك إنك فهماني!
ســألته أخته بجدية:
-ها، قول، عاوز ايه؟!
أخــذ نفساً عميقاً، وزفره مرة واحدة وهو يجيبها بهدوء:.

-شوفي يا ستي، أنا معايا كام كلمة مش عارف أترجمها، فخدي ثواب في أخوكي وترجميهالي!
ردت عليها بنبرة عادية:
-ماشي، اقراها!
هتف محتجاً وهو يمرر أصابعه في شعر رأســـه ليفركه:
-بأقولك مش عارف أقراها عشان أترجمها!
ردت عليه بصوت شبه آمـــر:
-طب اسبلهالي ( Spell it )
ســألها مندهشاً مما قالته وقد رفع حاجبه للأعلى:
-آآ، ايه ياختي؟!
أوضحت له قائلة:
-استهجى حروفها يعني
-ماشي، استني.

أخـــذ مسعد نفساً عميقاً، وزفره ببطء وهو يحاول قراءة الحروف بهدوء حذر:
-بصي أول حرف إس ( S )
ردت عليه بهدوء:
-ماشي، اللي بعده
أضاف قائلاً بعد لحظة بصوت شبه متلعثم:
-تاني حرف آه
ســألته متعجبة مما قاله:
-آه! انت في حاجة بتوجعك؟
برر لها قائلاً بنفاذ صبر:
-يا بت الحرف بتاع الأبوول!
صححت له قائلة بتفاخر:
-اسمها آبل ( Apple ) يا مسعد
نفخ بضيق وهو يقول:
-عديها، خدي الي بعدها، بـ، آآ، بـ. آآ
ســألته إيناس مستفهمة:.

-تقصد بي ( P )؟
رد عليها متسائلاً بفضول:
-مش عارف، بس هي هاتفرق معاكي؟
أجابته قائلة بجدية واضحة في نبرتها:
-طبعاً في النطق هاتفرق
-ممممم
ســـاد صمت لدقيقة كاملة، حاول فيها مسعد محاولة نطق الحرف مع نفسه قبل أن يرد عليها..
نفذ صبر إيناس، فســألته بإستفهام في مرة واضحة:
-طب هي عاملة ازاي؟ يعني B for book or P for Pen؟!
لم يفهم كلمة واحدة مما قالته، فهتف معترضاً:.

-بالراحة عليا يا إيناس، وفهميني واحدة واحدة! أنا مش ملاحق
ســـألته بهدوء:
-أوكي، هي ( بي ) خفيفة ولا تقيلة؟
رد عليها بجدية:
-اللي فاكره إننا بنطلع فيها لسانا
هتفت مستنكرة وقد إرتفع صوتها في الهاتف:
-نعم؟ مافيش ( بي ) بنطلع فيه لسانا
-لا والله؟!
ســألته مرة أخرى بهدوء حذر رغم ضيقها منه:
-طب العصاية فوق ولا تحت؟
ســألها بعدم فهم وهو يحك مقدمة رأسه:
-عصاية مين؟
ردت عليه بسخرية من جهله:.

-يالهوي يا مسعد، ده انت واقع خالص!
ثم قهقهت بصوت مرتفع لتثير غيظه، فانزعج من أسلوبها المتهكم منه، وعنفها قائلاً:
-اتلمي أحسنلك، وبطلي تريقة، بدل ما آآ...
قاطعته قائلة بغطرسة:
-انتي اللي عاوزني مش أنا!
هتف بها بصوت شبه غاضب:
-خلاص، مش عاوز منك حاجة
ردت عليه بتعجب:
-ده انت اللي متصل!
تمتم مسعد مع نفسه بسخرية:
-تعويذة دي ولا اسم؟!
أدركت إيناس أنها تمادت في المزاح مع أخيها، فإعتذرت له قائلة:.

-خلاص يا مسعودي متزعلش، ها، قول اللي بعده!
نفخ بنفاذ صبر وهو يرد قائلاً:
-انجزي وهامليكي الباقي وانتي جمعيها وقوليلي
لمع عقلها فجــأة، وقررت أن تستغل الفرصة وتحصل منه على مبلغ مالي لتشتري ما تحتاج إليه، فهتفت بنزق:
-ماشي تدفع كام؟
رد عليها بإمتعاض:
-إيناس مش وقتك
بررت له موقفها قائلة بدلال:
-بصراحة يا مسعودي دي فرصتي ولازم أستغلها!
اغتاظ مسعد من استغلالها للموقف، ولم يعد يتحمل المجادلة معها، فصاح بغلظة:.

-أنا غلطان إن عبرت واحدة زيك
ردت عليه قائلة بتحدٍ:
-مضايق ليه، مش قولتلك مسيرك تحتاجني، وإنت طنشتني لما بأقولك تشيلني!
هتف قائلاً بحنق:
-طيب خليكي فكراها، وأهو مسير الموز يجيبك يا قرد!
صاحت فيه بنبرة مغتاظة:
-أنا قرد يا مسعد
رد عليها ببرود متعمداً إستفزازها بعد أن أغاظته:
-لأ، نسناس، غوري شوفي مذاكرتك يا فقر!
توعدت له قائلة بغضب:
-والله يا مسعد لـ، آآآآ...

لم يصغْ إلى صياحها الهائج وتهديدها له، بل أغلق الهاتف في وجهها، وحاول أن يترجم هو اسمها بمجهوده الشخصي دون اللجوء لأي مساعدة...
بحث بداخل تابلوه سيارته عن ورقة فارغة ليدون فيها اسمها..
وبالفعل عاود تكرار المحاولة، وبدأ في تهجئة اسمها ببطء:
-صـ، سـ، آآ، لأ هو صاد، طيب اللي بعدها آه، يعني صــا..!
تحمس بعد نجاحه في قراءة أول حرفين، وهتف بإعجاب:
-والله أنا أنفع بس أركز، استعنى على الشقا بالله!

تابع المحاولة وأكمل القراءة بصعوبة واضحة:
-بـ، بــ، ، طب نلزق البه في الصـا، تبقى صابـ، صابآآ..
هتف بعدم تصديق دون أن يكمل القراءة للنهاية:
-صابرين، طلع اسمك صابرين!
ضرب بيده المقود، وأكمل متباهياً بصياح:
-يااااه! ده أنا طلع عين أم في فك طلاسم اسمك، وفي الأخر صابرين، آآآه يا شيخة، والله أنا أنفع بس أتحط على الطريق الصح
اعتدل في جلسته، ومط كتفيه وهو يتابع بثقة:
-نكمل بقى بقية الاسم، يا مسهل.

أكمل التهجئة قائلاً بحذر:
-مـ، مـا، ماء!
التوى ثغره وهو يقول مازحاً:
-ماء، مالي قلبت شبه الخروف، أكيد هي حاجة تانية!
ابتلع ريقه، وأكمل ببطء:
-مـ، ما، آآ، سـ، ماسـ، آآ، ماسهال!
حك جبينه وهو يغمغم بإستغراب:
-ماسهال! دي جاية من إسهال ولا ايه؟! اسم عجيب! بس مش هايكون أغرب من بتاعي!
تقوس فمــه بإبتسامة مغترة وهو يحدث نفسه:
-المهم إني جبته في الأخر، حلاوتك يا مسعد وإنت مركز، يا قاموس المفهومية يا متعلم!

مـــد يده ليدون على ورقة أخــرى فارغة اسمها وهو يقول:
-مش ناقص غير أكتبه على الورقة دي بخط كبير عشان تشوفه الست لما تيجي!
شعــــر هو بإضطراب قليل في معدته نتيجة خوائها من الطعام، فزفر بضيق:
-وده وقته! أشوف الولية اللي جاية من برا الأول وبعد كده أكل المحشي وأحلي كمان!
نظر في شاشة هاتفه المحمول فوجد أن الوقت قد تجاوز المحدد بقليل، فصاح بهلع:.

-أوبا، ده أنا شكلي سرحت على الأخر، وإتأخرت عليها، ربنا يستر وماتكونش جت!
ترجل من السيارة، وركض مسرعاً نحو الداخل وهو يحمل في يده الورقة المدون عليها اسمها...

انتهت سابين من إجراءات الخروج، وظلت تلوح بيدها محاولة الحصول على قدر من الهواء، فالرطوبة عالية، والجو شبه حـــار، ومختلف تماماً عن الجو بولاية أوهـــايو..
ما أثار إنزعاجها حقاً هو أسلوب المحيطين بها الفظ، فالكل يتدافع للخروج دون إنتظار دوره..
رمقتهم بنظرات ساخطة، ولم تعقب..
فهي لم تأتِ لإثارة المشاكل..

تحركت بخطوات ثابتة نحو الممر المؤدي للخـــارج، فاستمعت هي إلى صوت سباب لاذع، وشتائم بغيضة من أحد الأشخاص الذين يحاولون المرور..
حدجته بنظرات مستنكرة، وتمتمت مع نفسها بضيق:
-أوغــاد!
اتجهت بعدها إلى المنطقة الخاصة بإستلام حقائب السفر، وسحبت حقيبتها، ثم تفاجئت بمن تصدمها لتأخذ حقيبتها قبلها وهي تقول بحنق:
-حاسبي ياختي، هي مش ناقصاكي إنتي كمان.

فغرت سابين فمها مدهوشة من تصرف المرأة الوقح، وكانت على وشك الرد عليها، ولكن ألجم لسانها عبارتها التالية وهي تقول بإهانة صريحة موجهة إليها:
-بنات كسر وقيع جايين من زبالة برا يلوفوا على رجالتنا هنا، جتكم مصيبة تاخدكم، كلكم نفخ وبلاستيك!
حذرتها سيدة أخــرى واقفة بجوارها:
-دي أجنبية خدي بالك
حدجتها تلك السيدة بنظرات إحتقارية، وردت بعدم إكتراث:
-دي حمارة مش هاتفهم حاجة، يالا بينا!

هزت سابين رأسها مستنكرة ما سمعته تواً، وسريعاً ما تلاشت الصورة الوردية عن وداعة الأشخاص هنا..

وقف مسعد في الخــــارج، وإشرأب بعنقه لأكثر من مرة محاولاً رؤية جميع من يخرج من بوابة المطار الداخلية..
رفع الورقة التي بيده للأعلى، وغمغم بصوت حاد:
-هي مجاتش ولا ايه؟ أنا نافوخي ســاح من الحر والجو نــار!
خرجت سابين من المطار، وبحثت بعينيها بدقة عن الضابط الذي من المفترض أن يكون في إنتظارها، لكنها لم تجد أي أحد، فقط أوجه غريبة محدقة بها وكأنها كائن فضائي..

نظرت إلى هيئتها لتتأكد أنها لم ترتدي ما يدعو للشك..
هي فقط ترتدي سروالاً من الجينز الضيق، وأعلاه كنزة وردية رقيقة بلا أكتاف تغطي أردافها، وتضع نظاره شمسية أعلى رأسها...
التفتت إلى الجانب برأسها، وضاقت عينيها بنظرات غريبة حينما رأت تلك اللافتة الصغيرة التي يحملها أحد الأشخاص..
تحركت في إتجاهها، وأمعنت النظر جيداً فيما دون عليها..
التوى ثغرها بإبتسامة صغيرة وهي تقرأ اسمها المكتوب باللغة الانجليزية..

فتنهدت في إرتياح وهي تهمس لنفسها:
-Finally ( أخيراً )
تحركت سابين صوبه، وأشـــارت إلى نفسها بإصبعها حينما وقفت قبالته وهي تردد بجدية باللغة الإنجليزية:
-هذه أنا ( That s me )
تأملها مسعد بنظرات متفحصة لهيئتها، وانفرج فمه بإندهاش واضح، فقد كان يتخيلها امرأة عجوز في الخمسينات من عمرها، لكنها كانت على عكس توقعاته تماماً، فتاة شابة جميلة، وربما مثيرة قليلاً بملابسها تلك..

ابتلع ريقه بصعوبة، ورد عليها متساءلاً بتلعثم وهو يشير إلى اسمها المدون على الورقة:
-إنتي دي؟
أومـــأت برأسها إيجاباً، فهتف بحماس وهو يرسم ابتسامة بلهاء على وجهه:
-يا أهلا وسهلاً، دي إيجيبت ( مصر ) نورت!

ضيقت عينيها في عدم فهم من لكنته العجيبة، ورمقته بنظرات إستغراب، فقد كانت هيئته لا توحي بأنه ضابط حماية على الإطلاق قد جاء لإستقبالها وإيصالها إلى مقر عملها المؤقت، بل شخص أبله يقف أمامها يتميز فقط بالطول الفاره والجسد الرياضي العريض..
أشــــــار لها مسعد بيده لتتحرك، ففهمت ما يريد، وأكمل قائلاً بحماس كبير:
-إن شاء الله هتتبسطي معايا، قصدي معانا!

هزت رأسها مستنكرة، ووضعت يدها على جبينها، وحدثت نفسها بقلق:
-في غلط في الموضوع، استحالة ده يكون الشخص اللي هايحميني، ده، ده شكله غبي يا متخلف، إزاي يعملوا كده معايا، لازم أكلم الـ FBI، وأفهم بالظبط أنا هتعامل مع مين!
عبست سابين بوجهها، وظلت ترمق مسعد بنظرات إزدراء جلية من خلف نظارتها التي وضعتها على وجهها..

أرادت هي أن تفرض حدوداً جادة للتعامل معه حتى تتضح الصورة كاملة أمامها، وقررت أن تتواصل معه باللغة الانجليزية فقط..
أشــــار لها مسعد بيده مجدداً لتتحرك خلفه إلى الأمــــام حيث ركن سيارته..
وتابع قائلاً بإهتمام:
-أنا مش عاوزك تقلقي، أنا هاكون معاكي، وإن شاء الله هاتتبسطي هنا، أنا خير من يمثل القوات الخاصة، مش هاتندمي!
نفخت بضيق واضح، وتجهمت قسمات وجهها أكثر من ثرثرته اللامتناهية..

وضع مسعد حقيبة سفرها في صندوق السيارة، وتفاجيء بها تجلس في المقعد الخلفي وكأنه سائقها الخاص فلم يعقب، وتحرك نحو مقعد القائد ليقود السيارة..
تنحنح بخشونة، وحرك المرآة الأمامية لينظر إليها، واستطرد حديثه متسائلاً بإبتسامة عريضة:
-إنتي اسمك صابرين ماسهال، صح؟
التوى فمها بتهكم، وانعقد ما بين حاجبيها في صدمة..
وتساءلت مع نفسها بذهول:
-هو بيقول اسمي؟ ولا قصده ايه بالظبط؟!
أضـــاف قائلاً بتنهيدة:.

-أنا مسعد غراب يا مدام صابرين؟ صحيح إنتي مدام ولا آنسة؟ سامحيني أنا عاوز أعرف مقصدش آآ...
لم تنتبه هي إلى بقية ما يقوله، بل كانت تضغط على شفتيها بغيظ، فقد كان ثرثاراً للغاية، ورأسها مصاب بصداع كبير بعد ساعات من السفر المتواصل، وهي ليس لديها المقدرة لتحمل تلك الحماقات التي يتفوه بها أو حتى الرد عليها...
استشعر مسعد عدم تقبلها لأسلوبه، فزفر بخفوت، وهمس لنفسه:.

-بينها غبية وهاتقرفني! بس أنا مش عارف هاتكلم معاها إزاي؟
أدار محرك السيارة وتحرك بها مبتعداً عن المطار..
كان الطريق مزدحماً، خاصة وأنه وقت الذروة، فتحركت السيارة ببطء شديد..
حاول هو أن يسترسل في الحديث مرة أخــرى معها، فأردف قائلاً بنبرة مرتفعة لتنتبه له:
-أكيد هايبقى في سكة بينا عشان نتكلم، صح يا مدام صابرين؟
ما أثار غضبها حقاً هو نطقه لإسمها بصورة خاطئة، فصححت له قائلة:.

-It s Sabeen not Sabreen ( إنه سابين، وليس صابرين )
هز رأسه متفهماً وهو يردد بثقة بالغة:
-ايوه، أيوه أنا فاهمك، صابرين!
حركت رأسها مستنكرة غبائه، ونفخت بصوت مسموع:
-أووف!
ظن مسعد أن الحرارة العالية تزعجها، فأكمل مبرراً:
-عندك حق تنفخي، الجو حر على الأخر، لولا بس التكييف بايظ في العربية كنت شغلتهولك ورطبت على قلبك بشوية هوا ساقعين!

أدركت سابين أنها لن تتحمل أسلوبه العجيب في التفاهم معها، فهو يزداد غباءاً، وصبرها قد نفذ حقاً، لذا قررت أن تتراجع فوراً عن رأيها في التحدث معه بالإنجليزية فقط، وهتفت بنزق بلكنة عربية متكسرة:
-أنا بأعرف شوية أربي ( عربي )!
هتف بحماس وقد تقوس ثغره بإبتسامة واسعة:
-اشطا يا صابرين، ايوه بقى، مش تقولي كده من بدري! إحنا نلزق الجميل من عندك، والحلو من عندي، وهانعمل أحلى ريمكس سوا!

لم تتمكن سابين من فهم عبارته الأخيرة، فرددت بحيرة وقد قطبت جبينها:
-أنا not افهم u ( أنا مش فهماك )
هتف بحماس وهو يشير بيده:
-استني بس، ده انتي هاتسمعي مني درر يا صابرين!
صححت له مجدداً بجدية:
-سابين
قال لها ببرود استفزها:
-ايوه صابرين، انتي مش عارفة العربي بتاعنا
نفخت بإنزعاج أكثر، وتمتمت قائلة:
-Oh stupid ( شكله غبي )!

حـــاولت أن تضبط أعصابها معه فهو يثير رغبتها في التخلص منه بسبب غبائه المفرط من وجهة نظرها، وقررت أن تغير الحديث معه، فســألته بإهتمام زائف بلكنتها المصطنعة:
-إنت، اسمك ايه؟
أجابها وهو يتنحنح بحرج:
-مسعد محمد غراب!
فغرت شفتيها متعجبة، وســألته مستفهمة وقد تحولت نظراتها للغرابة:
-What ( ماذا )؟
استشعر مسعد الحرج من اسمه، وظن أنها تسخر منه، فتبدلت تعابير وجهه للضيق، ورد عليها بإقتضاب:.

-مسعد غراب، إسمي مسعد غراب! مش عاوز تريقة!
حاولت سابين أن تلفظ اسمه، فبدت متلعثمة وهي تقول بلكنتها الغريبة:
-مو، مـــوسـ، موسأد، أو، أوراب
صــُدم مسعد من طريقتها المثيرة في لفظ اسمه، وهتف مشدوهاً وهو يرفع حاجبيه للأعلى:
-ايه ده، قوليها تاني كده؟!
ســألته بإستغراب من طريقته:
-What ( ماذا )؟
هتف بتحمس وهو يسلط أنظاره على صورتها المنعكسة في المرآة:
-اسمي، Name، مسعد غراب!

هزت كتفيها في عدم مبالاة، وكررته بحذر، ولكن تلك المرة بنبرة رقيقة:
-مــو، موسـأد
تنهد بصوت مسموع، وهتف بسعادة:
-الله! تاني معلش!
عقدت ما بين حاجبيها بإستغراب أعجب، وحركت رأسها وكأنه تسأله عما يريد، فأجابها بتلهف:
-آآآ، اسمها آجــ، أيوه Again يا صابرين!
شعرت سابين أنها ربما تردد اسمه بطريقة خاطئة، فلهذا يريد منها تكرار اسمه بطريقة صحيحة..
فقالت متساءلة بجدية:
-موســـأد، Right ( صح )؟

شكرهاً ممتناً، وحدق أمامه بنظرات سعيدة، وحدث نفسه بحماس واضح على تعابير وجهه:
-ده أنا كان عندي تلوث سمعي، تيجي البنات تتعمل منك، موسأد، موســأد، والله شكلي هاحب اسمي منك...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة