قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل السابع والأربعون

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل السابع والأربعون

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل السابع والأربعون

تفاقم غضبهِ الذي يكافح بصعوبة منذ أكثر من ثلاث ساعات متواصلة كتمانهِ؛ لكنه لم يتحمل صبرًا لأكثر من ذلك. بعدما اطمئن قاسم على وصول صاحب المزرعة وشقيقهِ بدأ في حساب رجالهِ الذين تهاونوا في الأمر حتى وصل لهذه النقطة، متهمًا إياهم بالتقصير الشديد الذي قد يؤدي لوصول الأذى إليه هو أيضًا.

وبدون أن ينظر في وجه أيًا منهم كان يزأر ب خشونة: - أنا مش قولت مفيش نملة تدخل ولا تخرج من غير ما نعرف هي داخله ليه ولمين وعشان إيه!
حاول أحدهم التبرير قبل أن يتحول بغضبهِ عليهم: - سيادتك إحنا منعرفش إ..
مجرد التفاتة رأس قاسم ليحدجهُ بشراسةٍ بيّنة، جعلهُ يتوقف عن الكلام فجأة، وأجفل عيناه بتوترٍ صامت، حتى أردف قاسم بلهجة شديدة: - أنا مبحبش كلمة معرفش!
- ياباشا آ..

انكتم صوتهِ ما أن استدار قاسم كليًا ليواجهه مباشرة، وعاد خطوة للخلف نكس فيها رأسهِ قليلًا، ليستمع إلى الأمر شديد اللهجة: - تتشقلب وتعرف مين دول وعملوا كده ليه.
قاطع يونس حوارهم الذي استمع لآخر ما جاء فيه بالصدفة، وقال بهدوءٍ: - أنا عارف مين، متشغلش بال حضرتك.
ثم مدّ يدهِ بالسلام قائلًا: - أنا يونس الجبالي، صاحب المزرعة.
صافحهُ قاسم بحيادية غير متوددة وهو يردف: - قاسم رسلان.

أومأ يونس برأسه إيماءة صغيرة وهو يتابع: - عارف حضرتك، سمعت أسمك أكتر من مرة من ساعة ما بدأت آجي المزرعة كتير.
حرر يونس تنهيدة حارقة من صدرهِ المشتعل - على نقيض ما يُظهرهُ -، واستطرد: - شكرًا على وجودك جمبك الناس بتوعي وإنك أنقذتهم.
سحب قاسم كفه قائلًا: - أنا معملتش حاجه، بس ممكن أعمل.
قطب يونس جبينه بعدم فهم لما يرمي إليه قاسم تحديدًا، وسأل عن مقصدهِ مباشرة: - مش فاهم.

فأوضح قاسم مباشرة وبدون مراوغة: - يعني لو متعرفش هما مين أنا ممكن أعرف، في كل الأحوال إحنا جيران وكان ممكن الضرر ده يوصل لأكتر من حد غيرك لو ملحقناش الحريق.
تفهم يونس مخاوفهِ، وتعمد زرع الطمأنينة بداخله: - متقلقش خالص، مشكلة بسيطة وهنلاقي حل جذري ليها.

رمقه قاسم بإسترابة، وكأن هذه الوتيرة الهادئة التي يبدو عليها يونس تزعجه قليلًا، رجلًا في مكانهِ لبعثر الوسط وقلب الدنيا رأسًا على عقب؛ ولكن هو منذ مجيئهُ محافظًا على ثباتهِ بشكل مريب. صمت قاسم لهنيهه، محاولًا الغوص في تلك العيون الغامضة، التي بدت له فيها بعضٍ من الظلام المتخفي، هو بارع في التعرف على تلك السمة تحديدًا في البشر. ذمّ شفتيهِ بغير إقتناع، وضاقت عينيه قليلًا وهو يسأل بشئٍ من الإستنكار: - مشكلة بسيطة! بس أنا مش حاسس كده.

تضايق يونس قليلًا معتبرًا ذلك تطفل زائد على خصوصيته، لذا أراد قطع الحوار بشكلٍ متعجل: - ماانا قولتلك متقلقش، الموضوع هيتحل ومفيش حاجه من دي هتتكرر تاني، دي كلمة مني.

أشار قاسم بسبابتهِ إشارة واحدة، ف اجتمع جميع رجالهِ وبدأ الإنسحاب من موقع مزرعة يونس في مشهد مرتب، كأنهم يحفظون جيدًا ما عليهم فعله، وما الذي يجول في خُلد ربّ عملهم ف يقومون بتنفيذهِ على الفور، ثم أنهى قاسم هذا اللقاء الغير مدبر بقوله: - اللي تشوفه! حمدالله على السلامة.
- الله يسلمك.
قالها يونس بإبتسامة ودودة قليلًا، ليودعهُ في الأخير: - إن شاء الله نتقابل في فرصة أحسن من دي.

فلم يشك قاسم بذلك أبدًا، وكأنه يشعر بإقتراب تلك الفرصة منهم: - قريب هيحصل.

والتفت كي يغادر محيط المزرعة بنفس هيبتهِ الوقورة التي حضر بها، ليترك يونس هنا بين همومهِ الثقيلة. عاد يونس من حيثُ أتى، كأن سيقانهِ ثقيلة للحد الذي يعجزهُ عن السير بسهولة. رأى يزيد واقفًا بجوار ريحانة، في مشهد مزّق قلبهِ تمزيقًا مؤلمًا، تلك الفرس التي تجاوزت حتى الإنسان البشري في مشاعرهِ. كانت محنية الرأس نحو جسد فرحان الميت، عيناها تذرف دموعًا صامتة، بعدما عاشتهُ من لحظاتٍ عسيرة استشعرت بها الذعر المميت، ولا سيما حينما احترق فرحان بدلًا عنها لينقذها هي وما تبقى من قطيع الخيول. ضربت ريحانة رأسها برأسه، كأنها تحثهُ على النهوض وترجوه أن يعود مرة أخرى، لم تستوعب بعقلها الحيواني إنه قد غادر للأبد، أو ربما فهمت ذلك الواقع ورفضت تقبل مرارتهِ. أصدرت صهيلًا موجوعًا وهي تعيد الكرّة مرة أخرى علها تفلح، ولكنهُ هامدًا بدون أدنى حركة، ف رفعت ساقيها في الهواء وضربت بهما الأرضية گنوع من الإعتراض، ولم يتوقف صهيلها المدوي الممزوج بدموعها المكلومة.

أطرق يونس رأسه شاعرًا بسياط الذنب تضربهُ بلا هوادة، تلك الخيول التي عانت من لهيب الحريق بسبب حرب لم يكن له شأن بها، كانت عائلة أخرى له، وجد معها كل ما افتقدهُ بعد وفاة والدهِ ووفاة زوجتهِ الأولى من بعدها. خطى بخطواتٍ مهزوزة نحوها، مدّ يدهِ ليمسح على ظهرها علّ ذلك يُهدئها، فتعالى صهيلها من جديد كأنها تشكو ما مرّت به منذ سويعات. انقبضت أساريره كافة وأعماقهِ كلها تنزف بحزنٍ شديد، وجثى على ركبتيه وقد بدأت الدموع تسيل خيوطًا رفيعة وهو يتحسس فرحان. ارتعش بدنهِ بتأثرٍ بالغ وسرعان ما سحب يده ليغطي بها وجهه، وقد صدرت منه آهاتٍ مكتومة. ف تضاعفت أحزان يزيد على ما يحدث لكلاهما من أحداثٍ متلاحقة، وأجفل عيناه وهو يغمغم بصوتٍ مختنق: - فداها بروحه، عمل زي ما صاحبه عمل بالظبط.

فرك يونس وجههِ الغارق في الدموع بقوة، وأردف بصوتٍ بزغت فيه نبرة البكاء: - فرحان ذنبه إيه! الخيلين التانين ذنبهم إيه!
وتغير صوتهِ لصوتٍ آخر أكثر غضبًا وحدة: - ال ××××× بعتلي ?يديو بيبلغني فيه إننا كده خالصين، على أساس إن أنا اللي قتلت ال ×××× دي!

ونهض بإنفعالٍ متشنج وهو يتابع: - بعتهولي وهو في الطيارة، كأنه بيقولي متدورش عليا عشان مش هتلاقيني! إبن ال ××××××.
أنتقل يزيد للجانب الآخر ليكون بجواره يُشاطره بعضًا من مشاعر حزنه: - يعني عملها وهرب!
ف صاح يونس بصياحٍ مدوي: - آه، الجبان.

التفتت عينا يونس ينظر نحو رجالهِ، ثم أشار قائلًا: - كلم الإسعاف استعجلهم يا يزيد، في ناس اتعرضت للضرب ومهدي مش قادر يقف على رجله.
- حاضر.
عاد يونس ينظر لحال ريحانة مشفقًا على مصابها، ثم أردف بصوتٍ مؤثر: - في حاجات مش بنعرف قيمتها غير لما نخسرها يا يزيد، ياريت كل واحد يقدر يعرف قيمة اللي معاه قبل ما يضيع، لأن الندم وقتها مش هيفيد.

كأنه ابتغى بذلك إرسال رسالة ضمنية لأخيهِ، يدفعه بها ليتحرك، ليترك قلبه حُرًا طليقًا مرفرفًا خارج أسياج محبسهِ. كلماتهِ لمست الأوتار لدى يزيد الذي أحس برهبة فجائية تجتاحه، وكأن الخسارة شعور قريب للغاية منه، وعليه اجتيازهِ بأقصى سرعة ممكنة.

وقفت خارج المخفر بترددٍ ملحوظ، قدماها ظلت لدقائق غير قادرة على التجرؤ والدخول حيثُ هناك، لكنها حُشرت بموقف صعب ولم تتخطاه حتى الآن. ارتبكت سهر وهي تشيح بعيناها الذابلتين عن واجهة المخفر، تفكر للمرة المائة في تلك الخطوة الخطيرة التي ستخطوها، لكنها أقنعت حالها بأن تلك الخطوة المصيرية هي الحل الوحيد لإستعادة طفلها، قبل أن تخسرهُ للأبد.

خطت سهر لداخل المخفر، وسألت أحد أمناء الشرطة المتواجدين في الممر، بصوتٍ ضعيف متحشرج: - آ أنا عايزة أعمل بلاغ لو سمحت.
فأشار لها فرد الأمن مشيرًا لأقصى اليمين: - هتلاقي مكتب الظابط النبطشي آخر الطرقة.
أومأت رأسها وهي تسير بنفس الإتجاة، وكلما اقتربت أكثر كلما تضاعفت ضربات قلبها المنقبض أكثر وأكثر. حتى أصبحت أمامه مباشرة، ليرفع الضابط بصره نحوها متسائلًا بجمود: - خير؟

حمحمت وهي تقول بتشتت شديد: - عايزة أعمل محضر ضد جوزي.
ف استطاع الظابط تخمين ذلك بسهولة، وتسائل گنوع من التأكيد: - ضرب!؟
فهزت رأسها عدة مرات بصمت، قبل أن تردف بصوتٍ مهزوز: - خطف إبني.
إلى أين يذهب؟

لاحت صورتها الجميلة أمام عينيهِ، تتراقص بدلالٍ أخفق قلبه، جعله يُوقن إنها الملجأ الوحيد إليه الآن. لم يجد يزيد مفرًا من الذهاب إليها، يرغب بشدة في سماع صوتها الموبخ له، وأن يرى تلك العروق النابضة التي تتحرك متشنجة بجوار عينيها كلما زاد إنفعالها عليه. طرق الباب بدون تفكير، حتى لم ينظر لساعتهِ الآن. فتحت نغم الباب وعيناها غارقة في الأرق، رمقتهُ بإستغراب وقد بدت حالتهِ المزرية مثيرة لشفقتها، فسألته بقلقٍ صريح: - إنت كويس يايزيد؟

هز رأسه وهو يستند على الباب بذراعهِ، وأجفل بصره قائلًا: - مش كويس، مش كويس أبدًا.
خطا للداخل بدون دعوة منها، ف أثار ربكتها وهي تنظر للخارج بتوترٍ ملحوظ، ثم دلفت وأغلقت الباب لتنظر في ساعة الحائط بعدها قائلة: - الساعة 3 بعد نص الليل يايزيد! إنت مدرك ده؟
لم يهتم كثيرًا بملحوظتها الجادة، وتعمقت عيناه الحزينة في النظر إليها وهو يردف: - حاسس إن الدنيا ضيقة أوي عليا، مفيش حد غيرك أروحله.

اقشعر بدنها من وقع كلماته المؤثرة عليها، وارتجف قلبها الحبيس بين أضلعها وقد وضعت عليه حجرًا لتمنعه من أن يخفق مجددًا، فتحرر من قيوده الواهية ونهمت بعينها في تفاصيل وجهه الحزين. أحست بالمسؤولية التي تحتم عليها مآزرته گعادتها، لكن عقلها أبى الخضوع لرغبة فؤادها الجامحة، وكافح بأقصى جهده ليكون قويًا صامدًا أمامه: - ليه؟ ليه جيتلي أنا بالذات؟

سرت برودة قوية انتابت أطرافهِ، وهو يضع توقيعهُ على ذلك الإعتراف المكمون بأغواره منذ وقتٍ طويل، ليحررهُ من صدرهِ أخيرًا ويقول بصوتٍ صادق أرجفها: - لأني بحبك.
تهدجت أنفاسها ولم تبقى هادئة، وجف حلقها فجأة بعدما تدلى فكها غير مصدقة ما استمعت إليه توًا، كأنهُ حلمًا راودها مثلما حدث كثيرًا في السابق، ف أكد اعترافه مرة أخرى، وهو يحتضن وجهها بين كفيهِ ويعيد قوله: - أيوة أنا بحبك.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة