قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل الأربعون

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل الأربعون

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثاني للكاتبة ياسمين عادل الفصل الأربعون

من يُحب يعود، ولو بعد مائة عام.

خرج من غرفتها گالمجنون، الذي فقد آخر ما بقى من عقلهِ بعد فرارها، راودتهُ مخاوفهِ حول ما يمكن أن تفعله نغم، هل تستسلم للهلاك، أم تحاول خلق فرصتها في الفرار بعيدًا عنه. لم تعد في استطاعتهِ قراءة ما بين سطورها الغامضة، أحيانًا يستشعر كأنها الإنسانة الوحيدة الذي استعصى عليه فهمها، ما الذي ابتغتهُ بالمخاطرة والتعرض للخطر! حقًا عجز عن ترجمة تصرفها الأهوج سوى إنها تتطور في عنادهِ عن قصد، ليس إلا ذلك. حاولت كاريمان أن تستوقفه حينما رأته يسير بإعصابٍ مهتاجة، لكنه كان كفيفًا في هذه اللحظة، لا يدري كيف يبدأ رحلة البحث عنها.

تعارضت رغبته المُلحة في البحث عنها، مع إتصال يونس المستمر به، وإعادة المحاولة لأكثر من مرة، مما أجبره على الرد، لتتبين نبرته شديدة الإمتعاض: - أيوة يا يونس! مين مات؟
تجهم وجهه، ولم يعني الأمر له كثيرًا في هذه اللحظة: - سبحان الله، ماتت بنفس الطريقة اللي قتلت بيها بنتها المسكينة.

لم يقابله يونس سوى بصوتٍ ضاق به صدره، بعدما نفث أخيه سمّ لسانه بدون قصدٍ، مذكرًا شقيقهِ بكل ما مرّ به مسبقًا: - أنا متصلتش عشان تفكرني بده، أنا كنت عايز أعرفك بس.
شعر يزيد بفداحة عبارتهِ التلقائية، ف أراد تلافي ذلك الخطأ على الفور بدون إنتظار. نفخ بإنزعاج شديد، وبادر معتذرًا: - أنا آسف مقصدتش، بس دماغي مش فيا دلوقتي.

وأفاض بما يحملهُ بمفرده، مستشعرًا بالثقل قد جثى على صدرهِ: - نغم سابت البيت وأخدت كل حاجتها من الشركة، أنا مش عارف هي عايزة تجنني ولا عايزة تعمل إيه!
تجلّت نبرة الذهول في صوت يونس وهو يسأل: - طب وعمها؟ هتعمل إيه معاه!؟
ضرب يزيد على سطح السيارة وهو واقفًا أمامها، غير قادر على التحكم في أعصابهِ المنفلتة: - معرفش. سيبني دلوقتي يايونس عشان أروح أشوفها في بيتها.

وهمّ يغلق المكالمة، لكي يتجه مسرعًا إلى محلّ منزلها، گمحاولة أخيرة منه لإيجادها.

وضعت نغم آخر بنطال بقى من حقيبتها في الخزانة، ثم عادت تغلق الحقيبة وتركتها جانبًا، لملمت شعرها للخلف وعقصتهُ ب ماسك مطاطي. رغم خلاصها الذي رغبته من البداية، إلا إنها مازالت تعيسة، هناك قطعةٍ من روحها بقيت ناقصة، شتات عقلي ونفسي مسيطرًا عليها لا تستطيع مقاومتهِ مهما فعلت، ولم تجد ما يحل تلك المعضلة. غيابها عنه وقرارها بالإبتعاد الضروري كان إجباريًا من عقلها، الذي أبىَ بكل الطرق ما عايشتهُ من مشاعرٍ متعسفة في كل مرة يتواجهان فيها، كان عليها الإستسلام مبكرًا حتى لا تكون الهزيمة أثقل وأثقل من ذلك عليها. تنهدت نغم وهي ترمي بجسدها على الأريكة، وغمغمت بدون إقتناع: - كده أحسن، كفاية قلبي يتعلق بحاجه مش هتكون عشانه.

رنّات متوالية لجرس الباب بدون توقف، ف خرجت تخطو نحو الباب، وفتحتهُ بدون تروٍ أو تخمين. ظهر يزيد من خلف الباب، بتعابير وجهه الممتعض العابس، وعيناه تقدحان بالغيظ من فعلتها. أفسحت الطريق له، محاولة تجاوز شعور الرجفة التي انتابتها، تأثرًا بحضوره الطاغي الذي ما زال مؤثرًا بقوة عليها، وأشارت له كي يجلس: - أتفضل عقبال ما أعملك القهوة بتاعك.

لم يطق انتظارًا أكثر، ف منعها من الذهاب قائلًا: - مش عايز، خليني أقول الكلمتين اللي جاي عشانهم.
التفتت ترنو إليه بتخوف، خشية أن تضعف من جديد وتتراجع عن موقفها. وأشاحت ببصرها عنه قائلة: - خلاص يايزيد اللي حصل حصل وأنا اختارت، مفيش داعي لأي كلام.
انتابه الفضول المرتعب، من إجابة قد تصعقهُ، لكنه مضطر على سؤالها: - إيه اللي اختارتيه؟

تهربت نظراتها الواهيه منه، وهي تعفيه من مهمة حمايتها: - أنا وعمي هنتصرف مع بعض، أنت ملكش أي ذنب تتدخل في الموضوع، كفاية اللي حصل بسببي.
وتجولت نظراتها على إصاباتهِ المتفرقة برأسهِ وذراعهِ وهي تتابع: - مش هتحمل يحصل أكتر من كده.
سحب يزيد نفسًا اخترق صدرهِ بصعوبة، وهو يكرر نفس العرض السخيف، الذي لم يكتشف بعد إنه سبب ما تعيشهُ الآن: - أنا عرضت عليكي الحل السهل، ليه مصممة تدخلي نفسك في متاهات؟

إصرارهِ المستميت على تكرار نفس العبارات، كان بمثابة الدبوس المعدني الذي فجّر بالون منتفخ عن آخره، فلم تتحامل على نفسها لأكثر من ذلك، وصرخت في وجهه وقد بدأت عبراتها الضعيفة تنساب ببطءٍ موجع: - إنت إيه؟ مبتفهمش؟ أنا مش مستنية شفقتك عليا، أي حاجه بواجهها هقدر أعديها لوحدي، مش محتاجاك في حاجه. أفهم بقى.

فبادلها صياحها، بعدما تدفقت الدماء في عروقهِ الساخنة ليهدر ب: - أفهمي انتي، أنا عارف كل حاجه من زمان، كفاية عِند معايا ومكابرة فاضية، إنتي بتحبيني يانغم.
ألجمت المفاجأة لسانها، وجحظت عيناها بالنظر الجامد إليه، على حافة شفتيها يقف سؤالًا لا تقوَ على البوح به، لكن سرعان ما تلقّت إجابتهِ على الفور قبيل أن تسأل: - سمعتك غصب عني بتكلمي مع ملك في المستشفى، من ساعتها وأنا عارف.

أظلمت الدنيا في عيناها، وكأنها عارية أمامهِ بلا شئ يستر أمرها الذي فُضح. تخشبت ساقيها، كأن نسمات باردة للغاية ضربت عظامها ف تثبتت بالأرضية، غير قادرة على تقويم تلك المشاعر الجامحة التي انتفضت بين أضلعها، وبقيت ساكنة إجباريًا، مسيطر عليها ذلك التضارب العنيف الذي تعيشه بتلك اللحظة. تعلقت عيناه بها، منتابًا إياه شعور الندم على اعترافه الأخير ذلك، أشاح بصرهِ عنها، وأردف ب: - مكنتش ناوي أقول ده، بس لازم تعرفي إني عرفت.

تخلصت من الثقل الذي كبّل عضلات لسانها، وتحررت من حُبها الشديد له - والذي يعيقها عن مواجهته -، لتقول بشجاعة افتقدتها طوال الفترة الماضية: - إنك تعرف حاجه زي دي مش هيغير حاجه من الوضع يا يزيد، كل واحد فينا مصيره معروف.
تأفف متذمرًا من تعنت رأسها: - العِناد ميبقاش في الحاجات دي يانغم. خلينا نمشي من هنا الأول وبعد كده نشوف عايزه تعملي إيه.

أحست بطوفان من الكلمات الجارحة بداخلها، تود أن تقذف بهم كلمة تليها الأخرى في وجهه، علهُ يستشعر بعضًا من شقائها. فلم تختزنه بداخلها وأردفت: - إنت أناني يايزيد، صحيح عمرك ما عشمتني بحاجه، لكن خليتني جمبك وإنت عارف إني بحبك، في عز ما كنت بتتعذب عشان واحدة تانية غيري طلبت مني أكون معاك. ليه مفكرتش فيا؟ مقولتش حرام أكسر قلبها أكتر؟

إرتبك ربكةٍ بينّة، بدون أن يجد جواب يناسب سؤالها الذي زعزعهُ. إنها على حق تمامًا، إعترافه لم يكن سوى نقطة سوداء ضد موقفه أمامها، بينما الحقيقة إنه ابتغى دعم رغبته في ذهابها معه. تراقصت لمعة في عينيها، وكأنها بادرة بكاء وشيك، جعل حواسهِ تخمد فجأة، وقد ضغطت بدون عمدٍ على أوتارهِ الحساسة حيالها، لتقول من بعد ذلك بنبرة بزغ فيها الندم: - أنا آسفة لنفسي على كل يوم حلمت فيه بحاجه عمرها ما هتكون ليا، مكنش ينفع أبدًا أبني هواجس وأعيش على حلم إني هحققها.

أشارت نحو الباب، بعدما انزلقت عبراتها بإستسلامٍ كامل لذلك الضعف الكامن بداخلها، وهتفت ب: - عايزة أقعد لوحدي من فضلك. وياريت متتصلش بيا تاني يا يزيد عشان أنا مش هكون في الشركة من بعد اللحظة دي ولا هنتقابل تاني، أنا هتولى أمر نفسي وهقدر أحل مشاكلي لوحدي.
وأشارت للباب مجددًا: - من فضلك.

لم يعي في هذه اللحظة تحديدًا ما الذي توجب عليه فعلهُ، حتى عقله بقى مندملًا عاجزًا عن التفكير، لكنه انساق خلف حركة ساقيه اللاتي اقتدنهُ نحو الباب. التفتت عيناه نحوها يُطالعها مرة أخرى، والندم على ما حدث يُمزق في أحشائهِ، لكن كل ذلك لم يعد يفيد، فقد انطلق السهم من قوسهِ، ونفذ حكمها على علاقتهم التي لم تبدأ بعد. أوصدت نغم الباب من خلفه وابتعدت عنه، نظرت إليه بنظرات ساهمة، وفيض الدموع ينهمر من عيناها المحمرتين. غطت وجهها بكلتا يديها، وقلبها المكلوم ينزف من فرط أوجاعهِ، بعدما دعست بنفسها على كل ذرات الأمل، التي تعايشت بها طيلة الأشهر الماضية، و وأدت حُبًا لم يكن مسطورًا لها يومًا ما.

بعد وصول عربة الإسعاف لمنزل كاريمان من أجل نقل ملك، صعد بها المسعفون على فراشها النقال إلى حيث غرفتها التي تم تعقيمها مؤخرًا لإستقبالها، وقد تم تجهيزها من قبل. تعاونت الممرضتان في وضع المصل خاصتها، بعدما ارتخت جسمانيًا على الفراش. نظرت نحو يونس الواقف قبالتها يتطلع إليها بشغفٍ عاشق، كأنه يحتفل بعودتها إلى هنا، ابتسم بوداعةٍ وهو يقول: - حمدالله على السلامة.

مسحت كاريمان على رأسها بعطفٍ حاني، وأردفت بسعادةٍ كست صوتها: - Ho? geldin tatl? أهلا وسهلا ياحلوتي.
ثم نظرت نحو يونس وسألته بتخوفٍ: - إحنا استعجلنا ليه يايونس! كانت فضلت هناك لحد ما تخف خالص!؟
ف نظر يونس نحوها مجيبًا بنزق: - مكنتش مرتاحة هناك، وأنا عايز نفسيتها تتحسن أسرع عشان تستجيب للعلاج.

ف ربتت كاريمان على كتفهِ مشيرة لضرورة إتباعهِ لوسائل الراحة هو أيضًا: - وإنت كمان لازم ترتاح، خلاص اللي كان شاغلنا خلصنا منه.
أومأ برأسه مؤيدًا، ونظر حيالها وهو يشير بلهجة مبطنة إلى تلميح ما: - هرتاح إن شاء الله متقلقيش يانينة، هانت.
ابتسمت كاريمان وهي تشمل كلاهما بنظرة خاطفة، ثم انسحبت بهدوء وهي تقول: - هروح أخلي ديچا تحضر العشا.

خرجت كاريمان من الغرفة، كي تسمح لهم ببعضٍ من الحرية، بعد ما تلك الأحداث المؤسفة التي تكالبت عليهم بالفترة السابقة. مدد يونس بجسدهِ جوارها، وبقيت المسافة بين رأسيهما بضع سنتيمترات قصيرة، لتبادر هي بنبرة متأثرة: - إنت اديتني حياة تانية يا يونس، لولاك مكنتش هبقى عاي..
- ششششش.

وضع سبابتهِ على شفتيها يمنعها من استرسالها في الحديث، وأعرب عن بالغ أسفه، لتسببه منذ البداية بكل ما حدث: - أنا السبب في اللي حصل، لولايا مكنش حد قرب ناحيتك. سامحيني.
شبكت أصابعها في يدهِ، وعلت إبتسامة واسعة على محياها قائلة: - أسامحك! يونس أنا جوايا حته منك دلوقتي، يعني بعد ربنا إنت اللي خليتني عايشة.

لم يرغب في إتخاذ الحوار لهذا المسار الدرامي الحزين، ف غمز إليها بعبثٍ، وهو يرنو إليها بنظرة متشوقة: - بس أنا عايز حاجة تانية تكون جواكي مني، حاجه فيها شبه منك.
ولمس بطرف أصبعهِ على بشرتها متابعًا: - تاخد كل ملامحك وتفاصيلك، قلبك. إيه رأيك؟
كأن الفراشات تجولت من حولها، ف أشعّ وجهها بتوردٍ مبتهج، وأجابت برغبة شديدة: - يارب يا يونس.

استدار جسدهِ ببطء ليصبح على جانبه في مواجهتها، وهمس ب: - غمضي عينك، وأحلمي بيا.
ف أطبقت جفونها بطواعية، وهي تردف بصوتٍ خفيض: - أنا أساسًا في حلم، مش عايزة أفوق منه أبدًا.
وتشبثت أصابعها بيدهِ، وهي توقظ أحلام يقظتها، لتراه من خلف جفونها المغلقة، وتعيش حلمًا جديدًا في بواطنها.

منذ الأمس لم تكلّ أو تملّ، ظلت مستيقظة طوال الليل تبحث عن عمل بديل بعد خسارتها لوظيفتها الأساسية عن إقتناع تام، بداخلها إصرار شديد لإيجاد ما يناسبها، حتى يكون سبيلًا أوليًا لنِسيانهِ؛ لكنها لم تجد. وبالرغم من استماتتها، إلا أن بعض الإحباط قد أصابها.

فتحت خزانة الملابس بعدما أنهت ارتداء ثيابها، بوجهٍ عبوس شاحب، وبسطت ذراعها لتسحب مبلغ من نقودها المُدّخرة، لتتفاجأ بإنها قد سحبت آخر ما بقى لها. عضت على شفتيها بضيق، وغمغمت بسخطٍ: - خلصوا طبعًا، مش فضلت أسحب وأنا نايمة على نفسي!
نظرت نحو الدليل اليومي للتاريخ، ثم تناولت هاتفها بتجري مكالمة هاتفية: - أيوة ياعم محسن، صباح الخير. كنت عايزة أسألك هتحولي الشهرية أمتى؟

فآتاها صوته ليقول: - شهرية إيه يابنتي! ما الحج بهجت سحبها مني الأسبوع اللي فات عشان يديهالك! هي موصلتكيش!
تنغض جبينها بذهول، وأسرعت تتفادى الموقف: - آآه صح، معلش سامحني نسيت إنهم مع عمي، تسلم ياعم محسن.
- تحت أمرك يابنتي في أي وقت.

أغلقت المكالمة، شاعرة بأمرٍ مريب، هذه المرة الأولى التي يتسلم فيها بهجت حصتها الشهرية ولا يرسلها إليها، وهذا بعث في نفسها القلق. هل هو تكنيك لإستعادتها، أم إنه أكل حقها على العلن بدون وجه حق؟! تعجلت نغم في جمع شعرها معًا، وعقلها منشغلًا بتوتر، حتى استمعت لذلك الصوت العنيف بالأعلى، وكأن شيئًا ارتطم بأرضية الطابق العلوي لها. لم تكترث في بادئ الأمر، لكن الأمر تكرر، مما استرعى انفعالها وإستغرابها في آنٍ، حيث أن الشُقة التي تعلوها خالية من السكان، ف سحبت حقيبتها وراحت تجري مكالمة أخرى: - صباح الخير ياطنط فردوس، هي الشقة اللي فوق سكنت تاني ولا إيه!

تأففت نغم بضيق، لكنها لم تظهر ذلك وهي تقول: - على خير، ماشي ياطنط. سلام.
أغلقت الهاتف، ونفخت بضجر وهي تردد: - هو ده اللي كان ناقصني، واحد عازب كمان يسكن فوقي!

خرجت من النافذة تنظر لأسفل، ف تفاجئت بقطرات المياة التي تتساقط من أعلى. شهقت بعصبية، وقد هاجمها شعور الغيظ آكلًا رأسها، وهي ترفع بصرها لأعلى. جحظت عيناها بذهول، وتجمدت محلّها وهي تراه بعينيها واقعًا وليس حلمًا، في حين غمز لها هو مرددًا بنبرة ماكرة: - صباح الخير ياجارتي العزيزة.
لعقت شفتيها بلسانها، وقد اضطربت ضربات قلبها مع رؤيته وسماع صوته، وهمست غير مصدقة عيناها: - يزيد!.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة