قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثالث للكاتبة ياسمين عادل الفصل الرابع والعشرون والأخير

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثالث للكاتبة ياسمين عادل الفصل الرابع والعشرون والأخير

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الثالث للكاتبة ياسمين عادل الفصل الرابع والعشرون والأخير

وفي نهاية الرحلة، سطرت حُبك بأحرفٍ من ذهب، كي تكون خالدة لأجيالٍ قادمة، حتى وإن مِتنا تعيش الحكائة، لا ينقصها سوى إجتماعٍ من جديد، إجتماع لا يعرف الفقد والحرمان.

منذ أن غادر شقيقهِ وهو منهمك بالعمل على الحاسوب، بعدما أثار من حوله الفوضى بالأوراق والملفات المختلفة التي يستعين بها في عملٍ ما. حينئذٍ كان يقصّ عليها بإيجاز تفاصيل زيارة يزيد ورغبتهِ المُلحّة في إتمام الزيجة بأقرب فرصة، وإعتراض يونس على ذلك بسبب ظروف حملها المبكر المفاجئة، والتي لم يضعها يزيد في الحُسبان.

كان منكبًا بجسدهِ على المكتب وهي جالسة بالقرب منه، مستريحة على المقعد الجلدي الكبير، نهضت عن مكانها ببطءٍ شاعرة بثقل بطنها التي تضغط بقوةٍ على أسفل ظهرها، ودنت منه وهي تردف ب: - سيبها للظروف يايونس، طالما حدد يوم يبقى على بركة الله بلاش تزعله.
لم يحيد بصره عن الشاشة وهي يهتف بشئ من الجدية: - أنا لفت إنتباهه بس، لكن مش هتدخل في معاد هو يختاره. دي حياته هو.

شعر بتسلل يدها إلى كتفيه، وأصابعها تدلكه برفق ناعم، مع ضغط بسيط جدًا ليكون للتدليك أثر معه. كأنها تسحب منه طاقته السلبية ببضع لمسات، وسرعان ما تسرب شعور الإرتياح إلى مراكزهِ العصبية، مُسببًا إرتخاء في عضلاتهِ المتيبسة، ف أطبق جفونهِ مستشعرًا هذا الإحساس اللطيف، وتآوه مستمتعًا به: - آه ياملك، إيدك زي سحر اتحط في المكان الصح بالظبط. مكنتش حاسس إن كتافي وجعاني أوي كده!

طرد زفيرًا ساخنًا من جوفهِ، بينما لم تتوقف هي عن حركاتها اللينّة، بل إزدادت رقةٍ ونعومة، تمرر أصابعها وبطن كفها يمينًا ويسارًا حتى شملت المنطقة كلها، وهو مُخدرٍ مغيب، حتى أحس بها تميل عليه وطبعت قُبلة أعلى رأسه، وسمع صوتها الضعيف: - سلامتك ياحبيبي ألف سلامة.
تناول كفها وأكثر من تقبيله، ثم اجتذبها إليه ببطء وأجلسها على ساقيه: - متقفيش كتير.
طوّقت رقبته مستجيبة لأمرهِ: - حاضر.

وضع يدهِ على بطنها وتحسسها بحنوٍ عاطفي، متعجلًا لرؤية طفلتيه واحتضانهن: - هانت، أنا مشتاق أشوفهم أوي.
أحس بركلةٍ ضرب موضع يده، ف صدرت منه شهقة متفاجئة: - ردت عليا، والله ردت عليا.
ضحكت ملك وهي تراه قد تحول لطفلٍ صغير حصل للتو على لعبة جديدة، وأكدت له المعلومة: - هما حاسين بيك يايونس، عارفينك وحافظين صوتك كمان، الدكتور قالي كده في آخر زيارة، وقالي إن التواصل معاهم مهم جدًا يكون من دلوقتي.

أحنى رأسه صوب بطنها، وراح يُقبل أطفالهِ وكأنما لا يفصل بينه وبينهن شيئًا، بدأ يحس بشعور الأبوة قبل أن يأتينّ إلى الدنيا، وتكاثرت في عقله المسؤوليات التي يُعدّها من أجل الإلتزام بها حيالهن، كي يكون أب يُحتذى به، لن يترك لهن مجال للجوء إلى إنسان سواه، سيكون محور حياتهم بمشاركة ملك، وعلى يديه سيدركن ماذا تعني حياة فيها أب مثله.

في ساعة مبكرة للغاية، كان يونس مستيقظًا في انتظار وفود ضيفتهِ التي ينتظرها منذ أيام، حتى استقرت في مكانها الجديد، بالقرب منه. مسح يونس على ظهر الفرس ريحانة، ثم نظر بإتجاه عيسى وسأله: - تعبتكم عقبال ما اتنقلت من المزرعة لهنا؟
خيب عيسى ظنه: - خالص، كانت هادية جدًا عكس ما الدكتور بتاعها قال. مصدرش منها أي محاولة هرب أو عنف لحد ما جينا القاهرة.

ربت يونس على ظهرها گنوع من التحفيز: - شاطرة ياريحانة. المكان هنا هيعجبك أوي ويرجعلك نشاطك من تاني.
وتنهد متفهمًا الحالة التي بقيت فيها لأشهرٍ طويلة: - على الأقل تنسى حادثة المزرعة خالص.
أصدرت صهيلًا وهي تحك الأرض بحوافرها، ف ضحك يونس قبل أن يهمّ للخروج من منطقة الأسطبل الجديدة التي صنعها من أجلها خصيصًا، وتسائل بفضول: - عملت إيه مع مراتك؟ خلاص كل حاجه تمام؟

ابتسم عيسى ابتسامة متحمسة وهو يعطيه الخبر: - النهاردة هنكتب الكتاب بالليل.
تغضن جبين يونس وهو يتوقف عن السير، والتفت يسأله: - مش قولت ردتها؟
فوضح له عيسى بشكل مبسط: - مينفعش، كنت فاكر إني رديتها بس لما سألت دار الإفتاء قالولي طالما الطلاق بيّن لازم الجواز يكون بعقد جديد ومهر جديد.
أومأ يونس بتفهم: - على خير ياعيسى.
ثم نظر لساعة اليد خاصته و: - ملك المفروض هتصحى دلوقتي عشان معاد الدوا، أنا طالع.

- باشا.
استوقفه عيسى مناديًا، ف تثبت يونس بمحلّه ليرى نظرات الإعجاب التي تطفو في لمعان عيني عيسى: - الهانم محظوظة إنك دخلت حياتها، أنا اتعلمت منك حاجات كتير الفترة اللي فاتت متعلمتهاش من ساعة ما عرفتك. ربنا يخليكم لبعض ياباشا.

تجلّت ابتسامة ممتنة على ثغره، سعيدًا بإطراءه الذي حفزّ مشاعره أكثر: - الست اللي مش هتعرف تكون إنت مصدر سعادتها وأمانها سيبها أحسن ياعيسى، هي مش كائن ضعيف أبدًا، هي تقدر تحمي نفسها وتسعد نفسها بنفسها، لو مش هتكون إنت إضافة تفرحها سيبها لغيرك يكون أولى، يمكن هو اللي يقدر.
ابتسم عيسى وأجفل بصره: - فهمتك.

طوال الفترة السابقة، استطاعت أن تقنعه بتصديقها الكامل له، زرعت في عقله الإيمان بإنه انتصر عليها، وسيحقق مبتغاه رغمًا عن أنفها؛ لكن في الأصل هي التي انتصرت. تركت العِناد وخضعت لفكرةٍ تكونت في رأسها هي الأخرى. والآن، وبعد مرور أكثر من شهر ونصف، حان اليوم الذي سيجتمعان فيه، أو الأحرى اليوم الذي ظن يزيد إنه سيعتقلها به على حين غُرة.

تأملت نغم فستانها الأبيض المائل للصُفرة (أوفوايت)، غرق الفستان في تطريزات رقيقة لامعة، أضفت عليه مظهر ملكي بديع، ذراعيهِ يميل للشفافية شيئًا ما، والأكتاف مرصعة ب ماسات متلألأة برّاقة، وضعت تاج على شعرها المصفف بعناية، ولم تحبذ إرتداء طرحة، تاركة لشعرها الحرية كي يتنفس. نهضت عن مكانها بعدما أنهت خبيرة التجميل تزيينها، وتناولت هاتفها لتلتقط عدة صور من زوايا أمامية (سيلفي). بعثت بالصور ل ملك التي لم يحالفها الحظ لتتواجد معها من بداية اليوم بسبب ثقل الحمل عليها وضعف صحتها بالأيام الأخيرة، وحادثتها قليلًا حول قلقها بشأن يزيد وردّ فعله حينما يعلم بما فعلتهُ. كان ل ملك تأثير طاغي عليها، جعلها تهدأ وتسكن قليلًا، وجلست في انتظار أن يطلّ عليها أميرها كي يصحبها للقاعة المُقرر عمل الحفل بها. دقائق قليلة وكان قد أتى بالفعل، اخترق صوتهِ مسامعها ف دبّ التوتر في صدرها، وتجلّت معالم الإرتباك على وجهها في اللحظة التي أدار فيها مقبض الباب، وما أن وقع بصرها عليه شحبت، ودققت بتركيزٍ شديد تعابيره المتجهمة فور أن رآها بطلّتها تلك، وسأل مباشرة: - إنتي كنتي عارفه؟

فلم تجد أفضل من الصراحة بهذه اللحظة: - آه، مسايستك ليا ومعاملتك اللي اتغيرت وكل حاجه تقولي عليها ماشي وحاضر خلتني فهمت. مقدرتش أصدق أبدًا إنك تتغير في يوم وليلة كده غير لو وراك حاجه بتحضرلها.
تأمل فستانها الرائع، وقد برقت عيناه بلمعانٍ معجب: - عشان كده بدلتي الفستان اللي اخترناه سوا بأبيض!
تحسست فستانها وهي تومئ رأسها بالإيجاب: - آه.

اتسعت ابتسامته العريضة وهو يعترف لها: - لو كنتي صبرتي كنتي هتشوفي الفستان اللي اخترته بنفسي.
تباهت بنفسها كثيرًا: - أمال كنت فاكر هتحطني قدام الأمر الواقع وتجيب المأذون يكتب الكتاب كل ده وانا نايمة على وداني!
دنى منها وقد لاحظت للتو باقة الورود البيضاء الأنيقة التي أحضرها لها، وقدمّها إليها وهو يردف بصوتٍ خفيض: - بس إيه الحلاوة دي؟ ماانتي طلعتي أنثى أهو!

ارتفع حاجبيها بذهول من عبارته الأخيرة، وقبل أن تندفع للرد عليه كان يضع سبابته على شفتيها يمنعها من التهور: - والله أبدًا ما هتردي، كده انتي حلوة أوي أوي.
وابتسم وهو يسألها: - مستعدة؟

وفتح لها يده كي تضع كفها فيه، ف فعلت؛ لكنها أجابت سؤاله بمطلب عزيز: - أوعدني يا يزيد، أوعدني هتفضل تحبني ومهما حصل بينا مشاكل هنرجع لبعض في الآخر، وإن جذعنا هيكون قوى ومش هيتهز من مكانه. أوعدني عمرك ما تتخلى أبدًا عننا، تكون في ضهري مش عليا، تسندني متوقعنيش. تفضل حنين معايا وقلبك عمره ما يقسى عليا مهما حصل. أوعدني.

ضم أصابعه على يدها، وفركهما ببعضها البعض وهو يهتف بصدقٍ: - أوعدك، أوعدك عمرك ما هتندمي لحظة على اختيارك وحُبك ليا يانغم.
مدّ يده بباقة الورد إليها: - ورد للورد.
ف تضرج وجهها بُحمرة دافئة، ورفرفت السعادة على قلبها بهذه اللحظة، تناولتها منه، لتسمع بعدها تلك الكلمة الساحرة: - أنا بحبك.
- أنا أكتر. بكتير.

وقفزت في أحضانه بعدها، لتستشعر سخونة أنفاسهِ على رقبتها العارية، وشفتيه التي لمست جلدها الناعم في محاولة لتقبيلها، أقشعر بدنها كاملًا، وحمحمت مبتعدة عنه: - يلا ننزل بقى!
لكنه كان متشبثًا بها رافضًا تركها، كأن هناك ملاذهِ وأخيرًا قد وصل إليه. ف دفعته برفق وقد تملك منها الحرج المستحي: - يزيد. إنت سامعني.
فخرج صوته ضعيفًا: - لأ.

دعست بحذائها ذا الكعب الرفيع قدمهِ، ف صرخ فجأة وهو يُفلتها من يده، وحدجها بنظرةٍ منفعلة: - إنتي غبية يابنتي؟ حد يفصل حد بالوحشية دي كده!
صعدت تلك الإبتسامة المستفزة على ثغرها قائلة: - سلامتك ياحبيبي ألف سلامة.
توعدها بعقابٍ لن تقوَ أبدًا على مجابهته: - كلها ساعات وتبقى حرمنا المصون، وبعدها..
قطع عبارته وقد عبرت نظراته المنحرفة عن نواياه، ثم هتف ب: - محدش هيشيلك من تحت إيدي مهما كان.

رنّ هاتفه، ف أخرجه ليرى أسم يونس منبثق على شاشته، ف لوحت ابتسامة ساخرة على محياه وأشار للهاتف قائلًا: - إلا زين الرجال طبعًا.

أغلق يونس هاتفهِ والتفت لزوجته الجميلة. كانت تجلس بأريحية على المقعد الضخم، مرتدية فستان أسود أنيق للغاية، غلفت قماشته الناعمة ذراعيها فلم يظهر منهما سوى القليل، وأظهرها أنحف عن مظهرها العادي، بعدما اكتسبت مؤخرًا الكثير من الكيلوات. دنى منها وهو يردف ب: - خلاص هياخدها على القاعة أهو. يلا نتحرك إحنا.

بسط لها ذراعه لتستند عليه وتنهض، حتى وقفت قبالته ببطنها المنتفخ عن آخره، تحسست ظهرها الموجوع وهي تهتف ب: - يلا، مع إني حاسه إني مظبوطة، لولا نغم أنا كنت اعتذرت عن الفرح كله.
تحسس بطنها متأثرًا بوهنها، وسأل بإهتمام: - للدرجة دي تعبانة؟ طب خلاص خليكي مرتاحة ونغم أكيد هتقدر ده.
هزت رأسها بالرفض: - لأ أنا بخير.

تناوب رفع ذيل فستانها عنها، وسار بخطى متأدة لئلا تتحامل على نفسها، حتى بلغ بها السيارة، حيث كانت كاريمان تنتظرهم بالسيارة. حاولت إقناع الجميع وحتى إقناع نفسها إنها بخير واليوم سيمر بسلام، لكنها من الداخل تعاني من تعب شديد، ويبدو إنها وصلت للمرحلة التي حذر الطبيب منها، وستضطر للوضع مبكرًا عن موعدها الطبيعي.

أحست بنفاذ طاقتها، لم تعد قادرة على تحمل المزيد، خاصة بعدما هاجمها ألم شرس أسفل بطنها ثم ظهرها، ف أيقنت أن اللحظة قد حانت لا محالة، ضاقت أنفاسها، وتفشّى التوتر المرتعب في كل كيانها وهي تردف ب: - فاضل كتير يايونس؟
لاحظ نبرة الإعياء في صوتها، ف تشتت ذهنه المرتكز على الطريق ونظر نحوها متسائلًا بقلق: - مالك ياملك؟ حاسه بحاجة ولا إيه!

ازدردت ريقها بصعوبة، وبدأ العرق ينتشر في أنحاء بدنها: - تعبانة أوي، وديني مستشفى.
بتلك اللحظة كان قد وصل بالفعل أمام الفندق القائم فيه الفرح، توقف فجأة والتفت إليها، حينما سألتها كاريمان: - حاسه بإيه ياحببتي؟
- وجع، وجع فظيع مش قادرة أتحمله.
توتر يونس أكثر وأحس بالعجز عن التفكير: - أعمل إيه!
ف أجابته كاريمان: - ودينا المستشفى يايونس. بسرعة.

وقبل أن يفكر يونس في الإتصال بإخيه كي يبلغه إنه سيذهب بها للمشفى، كان يراه أمامه يقترب من السيارة بعجلٍ، ف ترجل عن السيارة وهتف ب: - أنا لازم أروح على المستشفى.
لا إراديًا نظر يزيد نحو ملك واقترب منها: - أوعي تقولي اللي في بالي.
ف صرخت ملك في وجهه بدون وعي، وقد سيطرت بشاعة الألم على حواسها: - أنا بولد. آآآه.

لحظات وكان يونس يطير بالسيارة بسرعة تاركًا يزيد ينظر نظرة هنا ونظرة هناك، لا يدري ما الذي يجب عليه فعله، وقد تحققت نبوءة يونس وستتم ولادة ملك ليلة عِرسه تحديدًا.
غفت على كتفه، بعد مجهود مُضاعف بذلته منذ بداية اليوم، وفجأة فتحت عيناها ونظرت حولها متسائلة: - هي ملك فاقت؟
فتح يزيد عيناه وهو يجيبها: - لسه، شوية كده وتفوق.

تنهدت قبل أن تضع رأسها على كتفه من جديد، وهتفت ب: - أوعى تكون زعلان إننا أجلنا الفرح!
تقوست شفتيه تعبيرًا عن استياءهِ، لكنه لم يُظهر ذلك: - المهم تقوم وتبقى بخير هي والبنات، آديكي شايفة يونس كان عامل إزاي وهي في العمليات.
- متعرفش البنات فين؟
- في الحضّانات، ربنا يسترها.
— قسم حضّانات الأطفال —.

كاد يبكي، بل أن عيناه فاضت بالدموع فعليًا وهو يقف أمام الصناديق الزجاجية التي تضم فتياتهِ الصغيرات. كُنّ ذات أحجام صغيرة جدًا، بشرتهن المُحمرة والممتزجة ببياضٍ خفيف، ملامحهم التي لم تتشكل بعد، حركاتهم اللاإرادية. كل ذلك جعل لديه حساسية مفرطة، كأن الدنيا كلها لا تسعهُ الآن، وعندما فرغت الممرضة نظر حيالها وسأل: - مينفعش أشيل واحدة منهم؟

- خلينا نستنى شوية على الموضوع ده، البنتين نازلين ضعاف، ده غير إن بنت منهم رئتها غير مكتملة. بس متقلقش كله هيكون تمام.
أومأ رأسه بتفهم، وعاد ينظر لهنّ بتركيزٍ عميق وهو يهمس ملوحًا أمامهن: - أنا بابا، ماما كمان هتيجي تشوفكم أول ما تقوم بالسلامة. وضع يده على الزجاج وتابع: - مليكة، أنا هنا.
- ده انت اتجننت خالص!
قالها يزيد وهو يقترب منه مرتكزًا ببصره على الفتيات: - بتكلم نفسك قال يعني هيسمعوك وكده!

- ششش انت، أنت مش فاهم حاجه خالص. أهم حاجه التواصل زي ما قالت ملك.
نظر يزيد لإحداهن بإعجاب وسأل: - دي مليكة؟
ف ابتسم يونس بدوره وهو ينظر لابنته وكأنهُ عاشقًا ينظر لحبيبته التي طال إنتظاره لها سنوات عديدة: - لأ دي ملك، مليكة أهي.
نظر يزيد لشقيقه بتباهي: - بقيت أب يا أبو البنات!
وفتح له ذراعيه ليتعانقا عناقًا عاطفيًا: - مبارك عليك، يتربوا في عزك وفي حنيتك يارب.
- يارب.

وعاد ينظر نحوهن، يكاد يفقد صوابه من فرط السعادة، وعيناه لا تريد مفارقة النظر إليهن، بل إنها لن تفارق بالفعل، ستظل عيناه حارسة خاصة لهن، تسهر لراحتهن وتسعى لإسعادهن، هذا الوعد الذي عاهد نفسه عليه منذ اللحظة التي علم فيها إنه سيكون أب لفتاتين، وحان وقت تنفيذهُ.

صباحًا صيفيًا حارًا، لم تُهدئه سوى مُكيف الهواء الذي تم ضبطه على عشرون درجة مئوية. أحست نعم بثقل يجثم عليها، وشعرت بأنفاسها تلتقطها بصعوبة، فتحت عيناها لتصحو من نومها، ف إذا ب يزيد تاركًا ثقل نصف جسده عليها، ف تآوهت محاولة التخلص منه: - آه، يزيد. حاسب هتموتني.

ولكنه كان غارقًا في نومٍ عميق لا يشعر بها، كافحت كي تنزلق من أسفله، لكن لا فائدة من محاولتها، ف صاحت فيه كي يصحو: - يزيد، قوم هتفطسني. مش قادرة أتنفس.
فتح نصف عين وهو يبتعد قليلًا: - في إيه؟
- وبتسألني في إيه! حبيبي قولتلك أنا مش مخدة أنا بني آدماية.

رن جرس المنبه خاصتها، ف نظرت لساعة الحائط و: - الساعة بقت 10. قوم عشان هتوديني لملك، النهاردة أول يوم جامعة ليها وانا هقعد مع البنات لحد ما ترجع. نينة مش هتقدر تقعد معاهم لوحدها.
تركت الفراش وهي تتابع: - أنا هحضرلك الفطار عقبال ما تاخد شاور.

سحبت منشفتها وخرجت، تعمدت إستخدام دورة المياة الخارجية بسبب تطفله عليها حينما تستخدم دورة المياة الخاصة بالغرفة، ف يلازمها ويظل يداعبها الكثير من الوقت، بينما هي الآن في أمسّ الحاجة للإنتهاء بعجلٍ.

كل شئ لم يتعدّى خمسة عشر دقائق، أنهى استحمامه السريع وبدأ في ارتداء ملابسه، ولكنه أثناء ذلك لاحظ شيئًا كارثيًا، بدأ النصف الثاني من بطنهِ يترهل ويفقد شكله المتناسق الرياضي، شهق بفزعٍ وهو ينظر أمام المرآه، وغمغم بتبرمٍ منزعج: - كله منك يانغم، كل شوية أكل أكل لحد ما هتوديني في داهيه.
دلفت الغرفة وهي تحمل قوالب الكيك الصغيرة وأكواب الشاي بالحليب، ابتسمت في وجهه قائلة: - يلا نفطر في ال?راندا النهاردة.

فرفض رفضًا جديًا قاطعًا: - من النهاردة مفيش فطار، مش عايز غدا. بصي أي أكل من أكلك التقيل الدسم دا مش هاكله تاني.
وأشار لبطنه قائلًا: - شايفة ال 2 سنتيمتر اللي زادو في بطني دول، أنتي السبب الوحيد فيهم.
وسار نحو خزانة الملابس ليستبدل القميص بآخر أسود: - من النهاردة في نظام تاني خالص في الأكل، وهرجع أواظب على تمارين الچيم، دور الزوج المهرول في نفسه ده مش بتاعي.

التفت إليها فوجدها تتناول الكيك وترتشف معه مشروبها الساخن، ف حدق فيها قليلًا قبل أن يهتف: - انتي بتعملي إيه؟
ابتلعت الطعام أولًا قبل أن تجيبه: - بفطر ياحبيبي، إنت فاكرني هضيع حياتي في الدايت والكلام الفاضي ده! لأ طبعًا، ده الأكل ده متعتي في الحياة. كمل انت في مشروع إنك تخس ال 2 سنتيمتر بتوعك، وأنا هكمل مع الأكل بتاعي.

وخرجت من الغرفة، ف عاد ينظر لنفسه معقبًا بتحدٍ واثق: - والله لأرجع زي الأول وأحسن، ومهما عملتي مش هضعف أبدًا.
أمام هذا الصرح الضخم العريق، وقفت سيارة يونس أمام بوابات أحد الجامعات المصرية، والتفت ينظر لزوجته الجميلة الجالسة بجواره وسألها: - مستعدة؟
حررت زفيرًا متحمسًا من صدرها، وعيناها تنظر للجامعة بنظراتٍ والهه: - مستعدة.

ثم التفت برأسها: - أرجع للبنات وخلي بالك منهم يا يونس، دي أول مرة هسيبهم لوحدهم.
ف ابتسم ساخرًا وهو يذكرها: - إنتي نسيتي إن يزيد هناك ولا إيه، يزيد مجرد ما يشوف ملك ومليكة مش بيسيبهم. وبعدين متقلقيش أوي كده. إنتي أجلتي سنة بحالها عشان تقدري تسيبيهم، جه الوقت اللي لازم تشوفي فيه مستقبلك بقى.
تنفست بأريحية وهي تنظر للجامعة من جديد، وهتفت ب: - حاضر.

أمسكت حقيبتها وكادت تترجل من مكانها، لولا إنه استوقفها ممسكًا رسغها: - ملك.
انتبهت إليه، ف أردف بصدقٍ تخلل مشاعرها بيسر: - إنتي قوية وتقدري على أي حاجه، خليكي فاكرة ده دايمًا. النهاردة هتطلعي أول سلمة في حياة جديدة تمامًا، ولازم توصلي للسلمة الأخيرة وانتي محققة كل اللي بتحلمي بيه.
- من غيرك أنا مكنتش هعمل أي حاجه من دي. ربنا يخليك ليا.

مسح على شعرها الذي جمعته للخلف و: - ويخليكي ليا ياحببتي، لا إله إلا الله.
- محمدًا رسول الله.

ترجلت عن السيارة وشقّت طريقها للداخل، عبرت البوابة وكأنها بوابة الحياة التي ستطل منها على عهد جديد كليًا، تنظر حولها بنظراتٍ مزجت الرهبة والتأمل، السعادة والقلق، الفرح والحماسة. حتى وصلت للقاعة التي ستحضر بها أولى محاضرات العام الدراسي الجديد، دلفت ف دخل في أعقابها أحد أساتذة الجامعة لتدريس مادته، جلست في صفوف المنتصف، وتركت عقلها ينسجم ما كل ما تعيشه، ولتستمع إلى حديثه المبدأي حول العام الدراسي. ف انحرف عقلها عن التركيز معه لتنخرط بالتفكير في أمرٍ آخر. في حياتها، تلك الحياة المُعقدة القاسية التي مرت بها، بكل تفاصيلها المؤلمة، كأنما حضر كل شئ على ذهنها دفعة واحدة، حتى إنها رأت في خيالها دُميتها التي تخلصت منها من فترة قصيرة، والتي شبهت بها نفسها طوال الوقت. الآن وقد تخلصت من بقايا ماضٍ أليم لم يكن سوى سبب التعاسة، أقبلت بكل حيوية على حياة - لأول مرة - هي من اختارتها.

ابتسمت على حين غُرة، وهي تستعيد في ذهنها يونس، أيقونة السعادة الأولى في حياتها، النعمة التي أنعم عليها الله بها بعد ليالٍ عِجاف، والرجل الوحيد في نظرها دونًا عن الجميع، المعلم الأول الذي درسّ إليها علوم الحياة، ونصف روحها التي لن تعيش من دونها يومًا. أتى على بالها أن تفعل ذلك، ف أمسكت بهاتفها خِلسةً وكتبت له رسالة نصية: - أنا بحبك أوي.

وتركت الهاتف. فتحت إحدى المذكرات التي جلبتها لتدوين ملحوظاتها الهامة، وبدأت تضع أولى السطور فيها: - تلك هي أنا، دُمية عاشت في قلب أُنثى، أبتّ أن تخضع وتبقى ذليلة.

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة