قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الاول للكاتبة ياسمين عادل الفصل السادس

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الاول للكاتبة ياسمين عادل الفصل السادس

رواية دمية مطرزة بالحب الجزء الاول للكاتبة ياسمين عادل الفصل السادس

ليست الحُرية أن تفعلي ما تُريدين.
إنما الحُرية ألا تفعلي ما لا تُريدين.
خرج يزيد من الباب الرئيسي للشركة متعجلًا وهو يعبث في هاتفه غير منتبه لتلك التي صدمها دون قصد منها. ف انتبه ورفع رأسه يرميها بنظرة حامية، بينما حاولت هي التبرير بصوت متردد: - آسفه يامستر ي..
فصاح بها لتنصرف: - أتفضلي أمشي
ف أوفضت للداخل بينما عاد هو ينظر لهاتفه قبيل أن يضعه على أذنه وهو يتمتم: - مش بترد ليه ياعمي!

لحقت به موظفة الإستقبال مسرعة لتبلغه بأمر ما. ف لحقت به قبيل أن يغادر من البوابة الرئيسية و: - الحمد لله إني لحقت حضرتك، كنت عايزة أبلغك إني ملقتش طيارة لبرلين بكرة، أقرب طيارة هتكون بعد خمس أيام
فأشار للسائق خاصته و: - امشي انت أنا اللي هسوق النهاردة
ثم التفت إليها و: - أحجزي واحدة first class
- حاضر.

أستقر بداخل سيارته وبدأ في قيادتها بنفسه، بينما راقبته الموظفة بنظرات والهة وهي تغمغم: - لو أنا كنت مكانها مكنتش أسيبك وأروح لحد تاني أبدًا، هو انت اللي زيك يتساب!
هبط محمد عن العقار القديم الذي يملكه والد ملك، كان يبحث عنها في المكان الأخير عسى أن يجدها بعدما اختفت لثلاث ليالٍ متتالية، ولكنها لم تكن موجودة.

نبتت ذقنه التي لم يتركها قط من فرط إهماله في أي شئ سوى البحث عنها، حتى إنه أقسم بقتلها إن رآها فقط بعد ما رآه من تمرد وعناد منها.
وفي لحظة توتره وغضبهِ أهتز هاتفه بيده، فنظر له أولًا ثم أجاب على المحامي الذي استشاره في الأمر لكي يتلقى الصدمة: - أيوة ياأستاذ
اتسعت عيناه بحنق متفاجئًا و: - جنحه وفيها 6 شهور! ده ليه ده كله؟

تذكر تلك الليلة التي باتت بها في المشفى، وحديث الطبيبة الغامض حينما أعلمته بخطورة حالتها وإنها كادت تفقد حياتها أثر عنفهِ.
لقد أوقعت به في الفخّ حقًا، حتى هو لم يخطر بعقله إنها قد تستند لتقرير طبي موثق كي يُآزر موقفها القانوني. كتم محمد امتعاضه و: - ماشي ياأستاذ، هعدي عليك بعد ما اعملك التوكيل، سلام
نظر حوله گالمجنون وهي يتحدث بصوت خافت: - ده لو طولتك هطلع روحك في إيدي! أنا تعملي فيا كده يابنت ال.

وكأنه لا يدري إلى أين يذهب وأين يبحث.
وفي وسط حالة التوهان التي كان بها كانت هي على بُعد أمتار منه. لمحته من أقصى البعيد وهو يقف أمام العقار الذي كانت تقصده، أنقبض قلبها وارتعدت فرائصها. ارتجفت وهي تواري نفسها بأحد الممرات المؤدية لأحد البيوت العتيقة، تكاد أنفاسها تنقطع من فرط الخوف.
وضعت يدها موضع قلبها، وبخفوت أردفت: - يارب ما يشوفني، يارب أنقذني يارب.

أشرأبت برأسها قليلًا لتنظر إليه، فلم يكن موجودًا. نظرت حولها، ولكنه اختفى تمامًا، ازدردت ريقها وهي تنتظر لدقائق معدودة. ثم راحت تركض بدون اكتراث حتى لمن ينظرون إليها. المهم أن تختفي كما كانت، كي لا تعيش ما لن تقوَ عليه.

- بنتك دي مشافتش رباية، لو كانت أتربت مكنتش عملت عملتها السودة. وكمان رايحة ترفع عليا أنا قضية خلع! دي هربت منها على الآخر ولازم تستحمل اللي هتشوفه مني، ده انا مبيتلها ناوي على نية سودا زي عملتها
أجفل إبراهيم بحرج وكأنه يحمل العار على كاهليهِ، بدا هادئًا أكثر مما كان الأيام الماضية، مما جعل محمد يشتعل أكثر و: - يعني ساكت ياعمي!

ف زفر إبراهيم و: - هقول إيه يابني! أنا خلاص ماعدش عندي بنت اسمها ملك. انت جوزها ومسؤول عنها اعمل اللي انت شايفه
أومأ محمد برأسه وكأنه تحفز أكثر للأنقضاض عليها فور رؤيتها و: - صح، الشيلة دي بتاعتي وانا اللي هتصرف فيها. متجيش تسألني عن بنتك لما الاقيها ولا تقولي عملت فيها إيه! عشان انا مش هخليها تشوف الشمس تاني، بس اشوف وشها.

ونهض عن جلسته ب اندفاع، خرج والشرر ينطلق من نظراته انطلاقًا. ف وقف إبراهيم عن جلسته وأخرج هاتفه ليتحدث به والقلق باديًا عليه: - أيوة يانغم، يابنتي صارحيني أنا زي أبوكي. جوزها لو لقاها قبلي هيموتها. قوليلي الحقيقة لو عندك عشان ألحق أتصرف يابنتي.

صمت قليلًا ثم تابع: - ملك ملهاش حد غيري يانغم، وانتي صحبتها الوحيدة. أنا متأكد إنك تعرفي، الناس شافوها النهاردة نواحي البيت القديم وقالولي، عرفيني لو هي عندك عشان نلم الدنيا
وكأن ملامحه ارتخت قليلًا بعدما حصل على الجواب الذي سيرضيه. ثم همّ ليخرج من متجره و: - ربنا يريح بالك يابنتي، أنا جاي حالًا أوعي تسيبيها تنزل.

مازالت نغم تحاول جاهدة أن تخفف عنها حالتها المرتعبة تلك بعدما عادت من الخارج ورأته. أنفاسها لم تعد قادرة على موازنتها، والذعر الذي أصابها ما زال متمكنًا من حواسها حتى أطرافها الباردة.
ناولتها نغم كأس مياه مثلجة ومسحت على رأسها قائلة: - أهدي، أنا مش عارفه بس إيه اللي وداكي بيتكوا القديم!
تركت ملك نصف الكأس بعدما ارتشفت منتصفه وبررت لها: - كنت هروح أوضب الشقة عشان أقعد فيها.

جلست أمامها توبخها على تفكيرها و: - أخس عليكي ياملك، ماانتي عارفه إني قاعدة لوحدي من بعد ما اختي اتجوزت. عايزة تمشي من هنا ليه؟
وضعت يدها موضع قلبها وهي تترك أي حديث جانبًا، واهتمت بوصف حالتها التي لا تستطيع تجاوزها حتى الآن: - لما شوفته حسيت نفسي اكتم وقلبي اتقبض، محمد بقى الكابوس اللي بيطاردني. لو ما اتخلصتش منه حاسه إني..

قطعت حديثها في منتصفه وتآوهت وهي تردف: - أنا ممكن انتحر أهون من عيشتي معاه مرة تانية
فزعت نغم من الفكرة المتهورة التي قادها عقلها لها و: - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، استغفري ياملك انتي اتجننتي! تخسري أخرتك عشان محمد!

أحست نغم ب اقتراب اللحظة التي قد يأتي فيها إبراهيم. ف قررت أن تصارحها كي لا تغضب منها، ترددت وبدا توترها جليًا وهي تردف ب: - آ. ملك! باباكي تعبان أوي ودور عليكي كتير. كلمني و آ، يعني..
قاطعتها ملك وقد استشفت ما يقف على حافة لسانها وتعجز عن النطق به: - أنتي قولتيله إني عندك؟
ف أجفلت نغم و: - الصراحة آه، صوته كان..
- ليه كده يانغم!

قالتها وهي تهبّ واقفة، وتابعت: - بابا هيضغط عليا أكتر وهيقف في صف محمد زي عادته، مش هينصفني أبدًا
استمعت لصوت طرقات على الباب، ف ارتبكت أكثر وأسرعت للداخل وأوصدت الباب عليها بينما راحت نغم تفتح الباب وداخلها الندم مما أقدمت عليه. وما أن رأت إبراهيم بوجهه الشاحب حتى قالت ب استجداء: - أرجوك ياعمو، أرجوك متغصبش عليها ترجع لجوزها ده. ملك ممكن تنتحر ولا تعمل في نفسها حاجه
ف سأل بقلق: - هي فين يابنتي؟

- في أوضة ماما الله يرحمها جوا
- طب عن أذنك
سارت من خلفه وهي نتابع توسلاتها: - ياعمي لازم تسمعها وتحس باللي هي فيه
طرق إبراهيم على باب الغرفة وهو يردف: - أفتحي ياملك، خلينا نتكلم يابنتي. اللي بتعمليه ده أكبر غلط. جوزك قالب الدنيا عليكي
فأجابت ونشيجها ممزوج ب أنآت بكائها الهيستيري: - مش هرجعله، ولو غصبت عليا هرمي نفسي من الشباك.

أحس بضرورة مطاوعتها هذه المرة كي لا يخسرها في لحظة انهيارها. ف تنازل عن تعنتهِ و: - بلاش ترجعي، بلاش. بس لازم نحلها من غير فضايح
هدأت قليلًا، ف تابع إبراهيم: - هعملك اللي عايزاه، بس نقعد نتكلم ونحل الموضوع. يلا افتحي يابنتي، مش قادر أقف على رجلي أنا جاي على هنا جري.

ف فتحت له على الفور عقب عبارته الأخيرة، وما أن رآها حتى خطفها بين أحضانه يُطمئن قلبهِ ب قُربها بعد غياب طال ليالي وهو لا يعلم شيئًا عنها. تركت دموعها تنساب بصمت وهي تتشبث به، ف انسحبت نغم من جوارهم كي تترك لهم بعض الخصوصية. بينما أردف إبراهيم بنبرة صادقة: - حرام عليكي ياملك، كنتي هتموتيني من الخوف عليكي.

ابتعدت عنه وقالت وهي مطرقة رأسها: - مكنش ينفع أقولك مكاني وانا شيفاك بتسيبني لوحدي كل مرة ألجألك فيها
استمعا لصوت صخب بالخارج و نغم تحاول تصد أحدهم وهي تصيح: - مش من حقك ندخل بيتي بالشكل ده، انت رايح فين؟

لحظات وكان محمد يظهر أمامهم والشر يتقافز في عينيه، حملقت ملك وهي ترمق والدها بعتابٍ بعدما ظنت إنه خدعها. ف هزّ إبراهيم رأسه بالسلب، في حين كان محمد يتأهل للإنقضاض عليها و: - عيب على شيبتك ياعمي، يعني عارف من الأول ال ××××× اللي فضحتني في كل حتة
وقف إبراهيم بينهم و: - أنت إيه اللي جابك هنا يامحمد؟!

ف ابتسم ساخرًا وهو ينظر له ب استهجان و: - وعامل فيها بتدور عليها وقلقان وانت عارف هي فين! بقى بتقرطسني مع بنتك!
وأشار إليها و: - بنتك اللي راحت رفعت قضية عليا وعايزة تحبسني، وكمان عايزة تخلعني وتخلي سيرتي على كل لسان. ده انا هدفنها حية قبل ما تعملها
وبسط ذراعه كي يطولها ولكن إبراهيم مثّل حائلًا ليمنعه و: - أهدا يامحمد، طالما مش عارفين تعيشوا مع بعض بالمعروف فارقوا بالمعروف.

- بعد إيه؟ بعد ما عملتلي فضيحة
وقفت نغم بجوار صديقتها تحاول دعمها، بينما كانت ملك تخشى أن يتراجع والدها عن دعمها في أول مرة بحياتها، وخرجت عن صمتها ذلك و: - انت اللي اضطرتني لكده، أنا طلبت منك الطلاق وكان جزائي الحبسة والضرب. طالما مش هتطلقني بالمعروف، يبقى القانون هو اللي يطلقني منك ويجيبلي حقي.

فصاح فيها بينما كان إبراهيم يمسك به بصعوبة بالغة: - كتك كسر حُقك، انتي ليكي عين تفتحي بؤقك. انا بس لو اطولك هربيكي صح
ف صاح فيه إبراهيم وهو يدفعه: - يابني بس بقى، أنا مش قادر على الفرهده دي
ف تشجعت ملك وهي تسرد عليه ما تنوى فعله: - بكرة لما نقف قدام النيابة وتحكم بتحويل القضية وتتحبس انت اللي هتتربى، وكمان هخلعك. مش كده بس، أنا هخلي سيرتك على كل لسان بعد كل اللي عملته فيا.

طال ذراعها أخيرًا واعتصره حينما كانت نغم تحاول تخليصها منه بصعوبة: - هقتلك ياملك. هقتلك
تخلصت من قبضته اللعينة وصرخت فيه: - مش مهم، على الأقل هكون اتخلصت منك للأبد
ف تدخل إبراهيم لحلّ هذا الوضع من جذورهِ و: - لو طلقتها هتتنازل عن القضية وعن الخلع، مش كده ياملك؟

ذُهلت ملك، هي لم تفكر في ذلك. هي فكرت في الإنتقام منه وتخليص حقها وحق دموعها وآلامها منه، ولكن إن كانت حُريتها هي البديل للتخلص من تعاستها، ستوافق حتمًا.
صمتت لحظتين اثنين وسرعان ما أجابت مقتنصة تلك الفرصة الثمينة لمساومته: - أيوة، ورقة طلاقي قدام قضية الخلع وقضية العنف.

رمقها بنظرة غامضة، وكأنه يُقلّب الفكرة في ذهنهِ قليلًا. ابتعد خطوات للخلف والجميع ينتظر أن يُجيب، حتى أفاض ب: - هطلقك عشان مش انا الراجل اللي يقبل يتخلع، وملكيش عندي أي حقوق ولا طلبات
ف أسرعت قائلة: - مش عايزة حاجه، حتى باقي هدومي مش عايزاها
- انتي طالق
قالها ببرودة لم تصدقها قطّ، وأتبع حديثه ب: - ورقتك هتوصلك وتاني يوم تروحي تتنازلي
التفت موليها ظهره و: - وإلا هتندمي.

وكأن صدرها الذي كان گكتلة من حميم أصبح باردًا رطبًا. تساقطت عليه قطرات من ندى، لم تصدق إنها الآن حُرة، هل يعقل أن الأمر انتهى هنا. كيف؟ وكيف ستنسى ذلك العذاب الذي عاشت في بؤرته. لا تدري، لم تحس بالسعادة رغم ذلك وكأن فرحتها لم تكتمل بعد.
خرج محمد من الشُقة وصفق الباب، ترجل على الدرج وهو يتمتم: - هتدفعي التمن غالي أوي ياملك، أوي. أفرحيلك يومين، وبعدها هكون عملك الأسود..
أيام قلائل.

أيام فصلت بينها وبين لحظتها تلك، تشعر بنفسها تتنفس براحة لم تستشعرها منذ فترة طويلة، كأن همًّا كان يجثو على صدرها وتفتت بمجرد أن حصلت على وثيقة خلاصها.
مُطلقة. تلك الوصمة التي تُعيّر بها النساء في مجتمعنا، ولكنها وسام شرف لها تحس بقيمته الكبيرة.

جمعت ملك شعرها القصير بضيق وهي تتذكر تلك اللحظات المُهينة التي تعمد فيها إذلالها، نفضت رأسها محاولة نسيان ذلك الحقير الذي كان زوجها يومًا، وتأهبت للخروج من غرفتها القديمة التي اشتاقت لها، حينما كانت تقضي أغلب الوقت فيها برفقة عمتها هبه.

كان إبراهيم يحلي بالخارج والحزن مُخيمًا عليه، گالذي انشغل عقله بأمر صعب لا يستطيع الخروج منه. وقبل أن يهمّ بإشعال سيجارته كانت ملك تلتقطها من فمه و: - أمبارح طول الليل مبطلتش كحة بسبب السجاير يابابا، كفاية
وجلست أمامه: - أحضر الفطار؟
كانت نظراته لها غريبة، لم تفهم مغزاها الآن، ولكنه لم يطل فيها. أجفل بصره وهو يردف: - ناويه على إيه ياملك بعد ما نفذتي اللي في دماغك!؟

كانت تودّ لو إنها تُخبره عن أحلامها وأمانيها، ولكنها تعلم إنه ليس الإنسان الذي سيتقبل آرائها وطموحاتها الواسعة بسهولة. ف قررت تأجيل الإفصاح له ريثما تكون مستعدة لمجابهته. وحاولت أن تقنعه بعدم تفكيرها في المستقبل بعدما حدث معها: - مش عارفه، أديني قاعدة معاك وواخدة بحسك
ف تنهد إبراهيم و: - بس انا مش هعيش ليكي العمر كله ياملك، خلاص مش فاضل كتير.

انقبض قلبها من تلميحاته الصريحة و: - بعد الشر ربنا يبارك في عمرك يابابا
- ده مش شر، الموت علينا حق. وأنا خايف أسيبك في الدنيا لوحدك
تضايق صدرها كثيرًا من مجرد فكرة فقدانه وأن تكون جزعًا لا حياة فيه، ابتلعت ريقها وتناولت زجاجة المياه وهي تقول: - متقولش كده. مش عايزاك تخاف عليا، طول ماانت معايا كل حاجه سهله يابابا.

أضاء هاتفها بدون صوت حيث كانت خاصية الصمت مُفعلة به. بدت مرتبكة مع رؤية الإضاءة وأسرعت تمسك به، فسألها إبراهيم: - مين بيكلمك بدري كده؟
ف نهضت عن جلستها و: - دي نغم، هرد عليها جوا عشان كانت عايزاني في موضوع
ودلفت للداخل في عجالة. وكأنه لم يقتنع، تغير لون وجهها والتوتر الذي تجلّى على معالم وجهها جعله يشعر بالقلق حيالها. واستجاب لفضوله اللحوح وراح يتلصص عليها كي يستكشف ماذا تدخر خلف توترها.

وقف أمام باب غرفتها الموصد وحاول يستمع لبعض كلماتها الخافتة، ف التقطت مسامعه عبارة واضحة: - مش هعرف اكلم معاك طول ما بابا موجود، لما ينزل هتصل بيك
ارتفع حاجبيه وحدقت عيناه في ذهول، خاصة حينما أستمع لباقي العبارة: - حاضر هاجي، بس شوية كده.

ذكرى سيئة للغاية هجمت بشراسة على عقله الآن، كأنه يرى ويسمع صوت منار في اللحظات الأخيرة قبيل أن يكون رسول عزرائيل لها. آلمته رأسه، وأحس بنفس الحرارة تنبعث من صدره المُستشيط. ولكن الآن ابنته، يبدو إنها سارت على النهج الذي سلكته والدتها الخائنة، ولكنه لن يسمح بتكرار المأساة من جديد. لن يتركها تضيع من بين يديه، سحب إبراهيم نفسه من أمام غرفتها بثقل شديد تكالب عليه. وجلس يفكر، كيف سيكشف حقيقة الأمر، وماذا سيفعل؟

تحسس صدره الساخن وهو يتنفس بصعوبة من قسوة تلك المشاهد القديمة التي اعتقد إنه نساها، ولكنها كانت محفورة بذهنه تحتاج فقط من يستثيرها.
خرجت ملك من غرفتها وأقبلت عليه وهي تردف ب: - أنا هروح لنغم شوية بعد الضهر يابابا
فأومأ برأسه: - ماشي، متتأخريش. وأنا هقعد النهاردة عشان مش قادر أنزل المحل
ونهض عن مجلسه و: - هدخل ارتاح شوية عشان كنت سهران طول الليل
- ماشي.

ولج لغرفته وأوصدها عليه، تاركًا إياها تعتقد إنها حُرة. كي تخطئ وتترك ثغرة من خلفها، يستطيع بها إبراهيم الوصول للأمر.

كانت الإستعدادات على أهبّتها لديه كي يسافر للعاصمة الألمانية برلين مساء اليوم، لقضاء يومان سينهي فيهما عملًا يخصه. وضع يزيد تذكرة السفر المرفقة بجواز السفر خاصته في جيب معطفه ثم تركه جانبًا، وراح يتفقد شيئًا هامًا. فتح خزانته الخاصة الكبيرة التي تأخذ مساحة نصف الحائط المُقدر ب متران تقريبًا، وسحب مبلغ من المال النقدي. ليتفاجأ بمشهد ما.

كان يضع بداخل الخزانة شاشة صغيرة تعرض ما تبثه كاميرا المراقبة المزروعة في غرفة مكتبه بالشركة، رآها هي. رغدة.
وهي تعبث في أدراج مكتبه، تحفزت حواسه، وراقب ما تقوم به بتركيز ودقة شديدين. حتى استنبط إنها تضع ملف ما وتغلق الدرج، ثم استعادت ثباتها وخرجت من الغرفة بحرص.

برقت عينا يزيد وهو يستعيد في ذهنه، ماذا كان يوجد في درج مكتبه الثالث. ابتعد قليلًا وعقله منشغلًا بما رأى، يبدو إنها لُعبة جديدة يستعد لها الثنائي المُعادي له.
أوفض نحو هاتفه وبدأ يتصل بأحدهم، ولكن الرسالة المُسجلة أجابت عليه: الهاتف المطلوب مغلق أو غير متاح، برجاء،.

لم يستكمل سماعها وأغلق المكالمة فورًا، ثم لجأ لأحد التطبيقات الشهيرة للدردشات الصوتية والمرئية وبدأ في تسجيل مقطع صوتي: - أفتح درج مكتبي التالت هتلاقي file على الوش، شوف ده بتاع إيه وبلغني فورًا
وأرسل المقطع. شرد وهو ينظر لتلك الشاشة التي أنقذته للمرة الألف، ثم غمغم ب عصبية: - هتعملي فيا إيه تاني يارغدة؟

بعدما أوهمها إنه ذهب ليتابع أمور العمل بالمتجر الخاص به، راح يتجسس عليها وحرص حرصًا شديدًا على أن لا تشعر بوجودهِ. تلك الكلمات التي سمعها بمحض الصدفة أشعلت نيران الشك برأسه وجعلته يتذكر أمورًا عصيبة أعتقد إنه نساها يومًا.
ترجلت ملك من سيارة الأجرة أمام بناية راقية، ثم دلفت للداخل بخطى متعجلة. ترجل إبراهيم أيضًا من السيارة التي كانت تقله أثناء مراقبتها، وراح يتفقد تلك البناية الغريبة.

وقف بالخارج لحظات، حتى خرج له فرد الأمن وهو يسأله: - أيوة ياحج، بتدور على حاجه؟
فسأله على الفور: - هي البنت اللي لسه داخله دي طلعت فين؟
ف تنغض جبين فرد الأمن بذهول و: - وحضرتك بتسأل ليه؟ تعرفها؟
فكرّ إبراهيم سريعًا في كذبة يبرر بها، ولكنه لم يجد. ف قلص على نفسهِ المسافات و: - دي بنتي، وانا عايز اعرف هي جاية عند مين؟ يعني لما خرجت كانت تعبانة شوية وانا قلقان عليها، بس.

أومأ فرد الأمن رأسه مُصدقًا ما قال، وأفاض له: - دي بتيجي هنا لدكتور نفسي في الدور التاني، ليها كام شهر كده بتزوره
ارتفع حاجبيه بذهول و: - دكتور نفسي!
- آه
وكأن تقلصًا أصاب معدته فور عمله بأمر گهذا، طأطأ رأسه يفكر قبل أن يعاود تساؤلاته: - طب آ، يعني الدكتور ده كويس! أقصد يعني شاطر؟
- من ناحية شاطر فهو باين عليه شاطر أوي. بس يعني. آ عينه زايغة حبتين
ف اضطرب وهو يسأل بتخوف: - يعني إيه؟

فأجاب فرد الأمن بصراحة مُطلقة: - يعني بتاع نسوان من الآخر
گأنها كانت عبارة كافية لأن يُصدر حكمه حيال ما سيفعله، الفكرة ولدت في ذهنه منذ الصباح، ولكنها ترعرعت الآن وترسخت في عقله أكثر. عليه اتخاذ خطوة لحمايتها من نفسها خاصة بعدما حصلت على كامل حريتها.
غادر إبراهيم وفي صدره غصة. مُرّة ومؤلمة، غصة اعتاد عليها في زمن ما. وها هي تعاوده من جديد.

ترك النادل المشروبات الساخنة على الطاولة وأنصرف، بينما كان يزيد ناظرًا لعمه الذي كبر أضعاف عمره من فرط الهمّ. زفر وهو يسحب الكوب خاصته و: - أنا معاك في اللي بتفكر فيه، بس مين قالك إن يونس هيوافق؟
تنهد إبراهيم و: - دي مهمة لازم يقوم بيها يايزيد، ولا عايزني أتفرج على بنتي الوحيدة وهي بتحصل الفاجرة أمها.

- مقولتش كده، لكن انت متعرفش يونس زيي. يونس مثالي شوية، تربية كاريمان هانم، ماانت عارف إنه قضى أغلب حياته مع نينة
كأن إبراهيم كان له نظرة أخرى ل يونس أوضحها قائلًا: - يبقى انت اللي متعرفش يونس كويس، الأسود اللي جواه بيطلع في الوقت المناسب بس. لما يحتاجه، وده الفرق بينكم
قطب يزيد جبينه وهو يترك الكوب و: - فعلًا ده الفرق.

ونظر في ساعة اليد خاصته: - معلش مضطر امشي، فاضل 3 ساعات على طيارتي، ويونس قرب يوصل القاهرة. لما يوصل هيكلمك. تكون فكرت في كلامنا. يمكن تغير رأيك
أومأ إبراهيم برأسه بينما نهض يزيد مستعدًا للرحيل. بدا وكأنه سيفكر في قراره جيدًا مرة أخرى، لعله بالفعل يتراجع.
جلس إبراهيم على المائدة بينما كانت ملك تُعد الطعام له. لا بد من مدخل قوي يستطيع به استدراج ملك لكي تبوح بما بداخلها، حتى يكون حكمه أخير ومقنع.

جلست قبالته وقد انفتحت شهيتها، رفعت بصرها نحوه لتجدهُ واجمًا هكذا. فسألته بعد أن ابتلعت طعامها: - مش بتاكل ليه يابابا؟
ف أجفل بصره و: - هاكل أهو، بس عايز أسألك عن حاجه. انتي عمرك ما كلمتيني عن أحلامك، ولا نفسك في إيه!

ارتفع حاجبيها تلقائيًا من سؤاله الذي لم تتوقعه قط، وصمتت قليلًا كأنها تفكر في الأحلام الكثيرة التي شيّدتها أعلى ناطحات السحاب. لاحت ابتسامة آمله في مستقبل مُبهج سيُعوض الأيام القاسية التي مضت، بينما ظل إبراهيم يتطلع لوجهها الذي أشرق وتفتحت فيه الزهور، حتى خرجت عن صمتها قائلة: - عايزة أكمل تعليمي، عايزة أعيش الحياة اللي استاهلها وكل البنات اللي زيي عايشينها.

التقط والدها الملعقة وكأنه سيتناول، ثم قال متعمدًا استثارتها: - يعني مش هتفكري تجوزي تاني؟ أقصد يمكن تلاقي الإنسان اللي يستحقك
ف أجفلت بصرها بتردد، هل تخبره الحقيقة أم تخشاه گالعادة؟، فقطع عليها تفكيرها ذلك مؤيدًا الرأي الذي ستختاره هي كي يكون مقنعًا: - يعني لو لقيتي اللي تحبيه ويحبك، مفيش مانع تبدئي من جديد
ف انشرح صدرها بسعادة تجلّت على ملامحها وهي تسأل غير مصدقة: - بجد؟ بجد يابابا ده رأيك؟

بينما قلبهِ تأذى لكنه لم يُظهر ذلك كي يتمكن من الوصول لمبتغاه، وقال مراوغًا: - طبعًا ده رأيي، أنا يهمني سعادتك ياملك
ضحكت من فرط السعادة، ولم تستطع التحكم في نفسها أكثر من ذلك ولم تكبح رغبتها المُلحّة في إخباره بما يجيش به صدرها: - الصراحة كده أنا لقيت الحد ده
أرتعد قلبهُ، وتسائل بهدوء ما قبل العاصفة: - حد! حد مين؟ وعرفتيه أمتى؟

ف أطرقت رأسها بضيق وهي تذكر كيف تعرفت إلى ذاك المجهول: - الدكتور بتاعي، كنت بتعالج عنده كم فترة
- وبعدين؟
فركت أصابعها بتوتر و: - بيحبني أوي، و، هو اللي ساعدني إني آخد حريتي
وقبل أن ينهض إبراهيم عن مكانه كانت تلحق به عندما شعرت ببوادر غضبه و: - بس هو هييجي يقابلك أكيد، أكيد هييجي
فأردف بنبرة مقتضبة: - ينور
استمعت لصوت الباب ف راحت تتفقد من الزائر لتجدها نغم ف دعتها و: - أدخلي يانغم.

فناولتها نغم حقيبة صغيرة و: - خدي يالوكا، نسيتي البيچامة بتاعتك عندي
دلف إبراهيم للداخل وهو يتعرج، متحسسًا صدره المُصاب بفرط الألم في الفترات الأخيرة، وكأنه كان بحاجه ل همّ جديد.

أوصد باب الغرفة وجلس رويدًا رويدًا. يكاد يبكي بصوت مكتوم لكنه يتماسك بصعوبة بالغة، سحب هاتفه الصغير عن الكومود وبدأ يُجري اتصالًا هامًا يرتبط بقراره المصيري التي سيتخذه بشأنها، والذي لا رجعه فيه مهما حدث. أجاب الطرف الآخر، ف تنهد إبراهيم ب تعب و: - انت فين يايونس، أنا مستنيك يابني.

الوقت الذي قضتهُ ملك أمام المرآه تستعد للنزول كي تبتاع بعض الحوائج برفقة نغم لم يكن طويلًا، ولكن ما استغرق منها وقت حقًا هو نظرها لشعرها الذي دفنته قبل آوانه. وضعت حجاب الرأس ببعض الإمتعاض والتمرد، أحست برغبة شديدة في تقطيعه عن رأسها وتركه حُرًا بلا قيود. ولكنها لن تقدر على قرار گهذا الآن.

تلوت شفتيها بسخط وخرجت من الغرفة، فرأت والدها يضع الشاي بنفسه على الطاولة و: - تعالي ياملك، أشربي شوية شاي قبل ما تنزلي
ثم نظر لساعة الحائط و: - الساعة 10! مش عارف لزومها إيه النزلة دي السعادي
- معلش، المحل جمب البيت يابابا. هقابل نغم نجيب حاجه وأرجع على طول
تناولت كوب الشاي و: - تسلم إيدك يارب
وأعربت عن تعجبها من موقفه ولينهِ الذي لم يُظهره هكذا من قبل: - أول مرة تعمل شاي بنفسك!

فرمقها بغرابة قبيل أن يبدأ ب ارتشاف الفنجان خاصتهِ و: - أهي مرة من نفسي
تأففت منزعجة من سخونته المفرطة و: - سخن جدًا، أنا هجيب شنطتي عشان انزل ع طول
ودلفت، نظر إبراهيم للكوب الذي تركته. وظلت عيناه عليه حتى عادت من جديد وحملته لترتشف منه رشفة واحدة، ثم تحركت نحو الباب و: - تسلم إيدك يارب
- متتأخريش
- حاضر.

أغلقت الباب، ف زفر إبراهيم وهو يطبق جفونه قائلًا: - يارب مكونش أتأخرت عليكي ياملك، يارب ما تكوني غلطتي الغلطة دي
كانت ملك تنظر لهاتفها كي تتصل ب صديقتها قبل أن تغادر البناية، ولكنها أحست بتشويش في نظرها، اعتصرت جفونها محاولة إن ترى جيدًا. ولكن ثقلًا يجثو عليهن.
تنهدت وهي تردف: - إيه بس الزغلله دي!

خرجت من البناية وهي تحس ب انخفاض في مُعدل قدرتها على السير، ف لمحت ذلك الظل الذي يقف أمامها، يبدو إنه رجل، رجل يستند على سيارته المصفوفة أمام البناية وينظر نحوها. تجاهلته رغم ملامحه المألوفة إليها شيئًا ما، وراحت تصطدم بحجر وقع أسفل قدمها، وقبل إن تترك جسدها الرخو يسقط مفترشًا على الأرض. كان يتناولها بذراعيه وهو يردف بصوت خافت قليلًا: - حاسبي.

ساعدها على الوقوف بينما كانت هي قد فقدت قدرتها على البصر والتفكير وحتى على التركيز، بينما أردف هو: - أزيك ياملك؟

لم تستطع المقاومة، واستسلمت لنوبة من الخِدر سيطرت عليها لتترك رأسها تترنج للخلف. ف رفعها بذراعيه مستندة إلى صدره وفتح باب السيارة الخلفي كي يضعها بالداخل برفق بالغ. بينما كان إبراهيم قد هبط عن شُقته وهي يحمل حقيبة ملك الكبيرة، وعندما أغلق يونس الباب عليها والتفت ليجده ناوله إبراهيم الحقيبة و: - دي شنطة هدومها
التقطها يونس و: - ماشي.

وسحبها كي يضعها بالمؤخرة تاركًا إياه ينظر إليها وهي فاقدة للوعي أثر مُخدر تم دسهِ في كوب الشاي الساخن. كان يحس بالحزن وهو يراها هكذا، ولكنه مقتنع أن ذلك من أجل حمايتها. وقف يونس أمامها و: - عايز حاجه قبل ما امشي ياعمي؟
ف أمسك إبراهيم بكفه وقبض عليه وهو يوصيه: - ملك أمانة في رقبتك يايونس
ف أومأ و: - حاضر ياعمي، متقلقش
- أوعدني، أوعدني إنك تحافظ على الأمانة
فقال بصدق استشعره إبراهيم: - وعد أحافظ عليها.

ثم ترك يده، واستدار كي يجلس خلف المقود. نظر لها في المرآه، ثم غمغم وهو يقوم بتشغيل السيارة: - أستعدي ياملك، رحلتنا هتكون طويلة
وتحرك بها ليخرج من هذا الممر النائي الذي تقع فيه بناية إبراهيم ثم إلى الشارع الرئيسي محافظًا على وجود زجاج داكن لا يُظهر من بالداخل، كي يكون الأمر أكثر أمانًا لهما.
لقد انتهت إقامة صلاة الفجر.

ومازال الليل ساكنًا عنان السماء، وقف يونس أسفل غطاء الليل بداخل الشرفة الملحقية بالغرفة التي ستكون ملك ضيفة فيها، وقد استنزف كمية كبيرة من السجائر منتهزًا فرصة عدم وجود المسؤول عن الحديقة والذي كان سيبوبخه لا محالة من أجل أعقاب السجائر التي يقذفها من الشرفة بعدم تركيز فتسقط بين المزروعات والحشائش الصغيرة.
ألقى يونس بآخر سيجارة في الهواء، ثم دخل.

كانت مُلك لا تزال نائمة مُغطاه بغطاء ناعم مريح، تتململ ولكنها مغمضة العينين. جلس يونس أمامها منتظرًا اللحظة التي ستصحو فيها، حتى بدأت أهدابها تتحرك أولًا، ثم جفنيها. ف اقترب يونس قليلًا بمقعده ومدّ جسده للأمام، تطلع إليها بتركيز متأهب للخطوة القادمة، حتى بدأت تشعر بشكل خفيف وتأن متأثرة بآلام عضلاتها المُتيبسة.

حتى تلاقت عيناها مع ذلك الوجه، ف حدقت فجأة واتسعت عيناها المُحمرة واضطربت دقات قلبها. وقبل أن تتسائل عن هويته كان يستبقها قائلًا: - صباح الخير يابنت عمي
ف رددت بصوت متقطع مبحوح: - ي. يزيد!
ف ابتسم نافيًا توقعها الخاطئ: - تؤ، يونس..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة