قصص و روايات - قصص بوليسية :

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والأربعون

رواية حي الورد للكاتب علي اليوسفي الفصل السادس والأربعون

(((إكرام اللئيم كمن يجمع ماءه في غربال، في النهاية لن يجد سوى الثقوب))).

أخر محطةٍ لها قبل الانطلاق نحو حتفها البائس كانت لوداع قائدها و رفقائها، استقبلها اللواء جلال في مكتبه بحفاوةٍ بالغة، عانقها عناق الوداع ثم قبلها فوق جبينها قائلاً بحنان ممزوج بالرجاء: مهما فعلتِ يا مياس، فقط إبقِ بخير أرجوكِ.

هزت رأسها بابتسامة كاذبة لتطمئنه لكنها زادت من نار قلقه الذي بان واضحاً على محياه العجوز، سمعت جلبةً خفيفة خارجاً ثم صوت طارق ينادي باسمها، استدارت للخلف لتراه يندفع إليها ليعانقها بدوره و من خلفه كان إيهاب و قد بدى أنهما أتيا علما بوجودها فأتيا لوداعها، ابتعد طارق عنها و لم يكلف نفسه عناء إخفاء خوفه و جزعه من كل ما يحدث، اقترب إيهاب بدوره ليودعها فيما ظلّت أنظارها معلقة على الباب خلفه تنتظر ظهوره هو الآخر، أدرك طارق ذلك من نظراتها فهمس يخبرها: لم يأتي مياس.

التفتت ناحيته بحاجبين منعقدين ليضيف بمقتٍ واضح: أويس، لم يأتِ بعد، و لا أظنه سيفعل.
أتعلمون ما الأمر الجيد في كل أحداث الصباح؟
أنها خففت عن قلبها احتقانه، لولا أنها بكت في سيارتها قبل القدوم إلى هنا لانفجرت دموعها دون القدرة على التوقف.
رسمت اللا مبالاة على وجهها لتجيبه بكذب: و من قال لك أنني انتظره يا طارق؟ فليفعل ما بدا له، أنا لا أهتمّ البتة.

بهتت ملامح طارق لنفيها ما رآه واضحاً في مقلتيها و قبل أن يعقب صدح هاتف اللواء معلناً عن اتصال، طالع الشاشة لثانية قبل أن يعود إليها قائلاً بنبرة بدت مهتزة رغم محاولته الثبات: هذا الخفاش!
تبسمت ساخرة لتقول: توقعت هذا، أجب الاتصال سيدي.
فعل جلال كما طلبت ليفتح مكبر الصوت من فوره و يرمي الهاتف فوق الطاولة، كانت هي أول من يجيب باعتداد: ماذا تريد يا خفاش؟

تراءت لها ضحكته المقيتة حين قهقه بخفة قبل أن يردف بنبرة ذات معنى: مياس مياس! كيف حالك اليوم عزيزتي؟
استندت بكفيها فوق الطاولة لتحصر الهاتف بينهما ثم تعقب بثبات جاد: أخبرني بما تريد دون التطرق إلى تلك التفاهات.
اصطنع الحزن و هو يخبرها: لا مياس، هكذا سأزعل منك، و أنتِ تعلمين أن زعلي سيء جداً.

زفرت من أنفها بانزعاج من تباهيه الدائم بنفسه و يبدو أنه شعر بها فأضاف: على كل، أنا اتصلتُ لأذكركِ بموعدنا ليس إلا.
تابعت مياس بدورها: ما الذي يضمن لي أنكَ لن تنفجر القنابل في حال سلمتُ نفسي لك؟
لا ينكر إعجابه الذي زاد أضعافا بها، فها هي رغم أنها محصورة في زاوية ضيقة لا تستسلم بسهولة، سمعها تردف بنبرة قوية رغم ضعف موقفها: أريد ضماناً يا خفاش، كيف سأسلمك نفسي دون أن أُأمن المدينة؟

لم يتأخر إذ أجاب بغرور: الضمان الوحيد هنا هو كلمتي و أنتِ مياس، قدومك إلي هو الضمان المؤكد الذي أستطيع تقديمه لك.
سارعت لتردف: لكن ما مصير القنابل إن قبلتُ شرطك؟ لربما اتخذت القنابل نقطة تهديد دائمة للمدينة؟

إنها مفاوِضةٌ جيدة جداً، لو أنها تعمل في مجال إدارة الأعمال لنجحت نجاحاً باهراً إذ أنها لا تترك نقطة ضعف واحدة في اتفاقها مع الخصم، هكذا حادث خطاب نفسه أثناء تفكيره في إجابة جيدة لكليهما فأردف: إن التزمتِ بموعدنا مياس، سأرسل إلى اللواء رسالة بمواقع القنابل غداً في الساعة العاشرة صباحاً، و لا داعي لأن أخبرك ما الذي سيحصل لو شعرتُ بنيتكم في غدري، و إن تأخرتِ بعد الساعة العاشرة بدقيقة فقط أول قنبلة ستنفجر.

أغلق عقب تهديده الأخير ليتركها تجزّ على أسنانها بعنف كبير، كان البقية يراقبونها بمشاعر مختلطة، فعلاً كان الله في عونها على هذا البلاء العظيم، فمصير مدينة كاملة بسكانها تعتمد عليها، أغمضت عينيها للحظات تستعيد فيها السيطرة على مشاعرها الغاضبة، ثم قالت مياس بجدية موجهةً حديثها الهادئ إلى اللواء جلال: سأذهب الآن سيدي، أرجوك أن تكثفوا جهودكم لإيجاد القنابل و تعطيلها في أسرع وقت، لا أصدق الخفاش و لا أستطيع ضمان أفعاله، لربما خدعنا.

اقترب جلال مجيباً: لا تقلقي مياس، أعدكِ أن نبذل كل ما في وسعنا، و سنجدها قبل الغد.
أماءت مرة أخيرة قبل أن تستدير لتخرج، تجمدت عند الباب حين سمعت سؤال طارق الذي بدى أقرب للاستجداء: هل سنراكِ مجدداً مياس؟

لم تحبذ بأن نكذب عليه و إن لامست نبرته قلبها، بطريقة ما بات طارق يذكرها برائد، صديقها الصدوق الذي غدى غدراً، ارتفع صدرها بنفسٍ متوتر رغم إظهارها العكس فأجابته بصراحة تامة: لا أعرف طارق، تمنى لي الحظ.
خرجت عقبها دون أن تسمع ردّه، فيما تابعها الثلاثة الباقون باستغراب، الحظ؟
منذ متى و مياس تعتمد على الحظ؟

ربما أخفت غضبها عنهم، إلا أنها لا تنكر المرار الذي تشكّل في حلقها، و الخيبة التي شعرت بها حين لم يأتِ لوداعها، أهو غاضبٌ منها إلى هذه الدرجة ليستكثر عليها توديعها حتى؟
أغلقت باب سيارتها بقوة تنمّ عن غضبٍ واضح، أهذا ما يريده حقاً؟ أن تذهب دون أن تودعه؟ حسناً فليكن إذاً!

أدارت سيارتها لتسير في طريق الموت و نهايته المؤكدة، الجحيم الأسود، تحركت فوق طريق الغابة متجهةً إلى نهاية الجبل عبر طريق ترابيّ غير ممهّد جيداً، كان قلبها يخفق وجلاً و قلقاً، أثناء قيادتها ارتسم أمامها صورٌ كثيرة، عليا عمار، رائدة أروى، سعاد كمال، سعيد و سارة و جميع من تعرفهم، في النهاية أتت صورته هو لتطغى على جميع من سبق، أغمضت عينيها زافرةً بعمق لتسيطر على عبراتها المخذولة، صدح رنين هاتفٍ مسنود أمامها على مقدمة السيارة، استغربت الأمر بداية معتقدةً أنه هاتفها لكنها حين حملته رأته هاتفاً جديداً ليس لها، ظنت أنه ربما الخفاش يعبث معها، ما لبثت أن زال استغرابها إذ رأت رقم أويس الذي تحفظه عن ظهر قلب، التهى عقلها عن التفكير في أمر الجهاز و لكثرة انزعاجها منه رفضت الاتصال و رمت الهاتف مكانه و هي تدمدم بامتعاض: لم تكلف نفسك حتى المجيئ لرؤيتي فماذا تريد الآن؟

بعد لحظة تعالى صوت إشعار الرسائل فعادت تأخذ الجهاز لتجد رسالةً من أويس، حاولت فتح الهاتف لتجده بدون رمزٍ سري، دلفت إلى تطبيق الرسائل النصية القصيرة الواتسآب فلم تجد سوى رقمه هو لتقرأ رسالته ذات المغزى: لم أتمكن من القدوم لرؤيتك لأني لم أستطع ترككِ وحيدة.
أهذا لغزٌ ما؟

تطلعت على الطريق أمامها أثناء تفكيرها بمغزى حديثه، ما كادت تشرد بتفكير للحظة حتى عاد الإشعار لتجد رسالة ثانية كان فحواها: بالمناسبة سرعتكِ جيدة، حافظي عليها هكذا.
توسعت عيناها بدهشة و كادت تضغط على الفرامل لولا رسالته التالية كأنه قرأ أفكارها: لا أنصحكِ بالتوقف فبالتأكيد أنتِ مراقبة من الخفاش.
كيف له أن يعلم بماذا تفكر؟
سؤال أحمق بلا ريب، السؤال الذي يجب أن تسأله أين هو أويس الآن؟

وزعت أنظارها بين الطريق و الهاتف لتكتب له رسالة أثناء محاولتها الموازنة بين قيادة السيارة و الكتابة: أين أنت بالضبط؟ إن كنتَ تتبعني فأنصحكَ بالتراجع، كما قلتْ مؤكد أنني مراقبة من الخفاش و إن رآك سيظنّ أننا خدعناه.
بعد إرسالها تلك الكلمات دمدمت مياس تحادث نفسها: دائماً ما كنتَ أحمقاً يا أويس، إن رآك خطاب الآن سيفجر واحدة من قنابله، فتصبح المصيبة اثنتين...

أتتها رسالةٌ منه لتفتحها من فورها فوجدت محتواها: و من قال أنني أتبعك؟ هل رأيتِ سيارةً ما تلاحقك أو شيئا من هذا القبيل؟
ثوانٍ قليلة حتى وصلت رسالة ثانية مكتوب فيها: لا تقلقي لا أحد يتبعكِ، تأكدت من هذا بنفسي.
لم تحبذ جو الألغاز هذا في خضمّ ما هي متجهةٌ إليه لتطلب الاتصال به، ما هي إلا لحظات معدودة حتى أتاها صوته بهدوء مستفز: نعم مياس؟
زمجرت تهاجمه بانزعاج: أين أنت تماماً أويس؟

أجابها بنبرة أثارت حفيظتها: أنا بجانبكِ مياس لستُ بعيداً عنك.
صاحت بعدم راحة: لا وقت لألغازكَ الآن أويس و أجبني...
قطعت حديثها متعمدة حين توارد إلى ذهنها مكانه، هتفت بدهشة و قد تغضن جبينها بضيق: أنتَ في صندوق السيارة، صحيح؟
صمت دون الإجابة على سؤالها فأيقنت أن الجواب صحيح، توسعت عيناها بدهشة و بصعوبة بالغة سيطرت على نفسها فقالت تلقائياً: أيها المخبول!

مثّل الانزعاج ليردف: بالمناسبة أنا أكبر منكِ، لستُ ابن جيرانك الذي كان يلعب معكِ في الحارة لتنعتيني بألفاظ كهذه!
صاحت به غير عابئةٍ بحديثه: ما الذي كنتَ تفكر فيه أيها الأحمق لتحبس نفسك في صندوق سيارتي؟ أتظنّ أنّ الخفاش سيستقبلك بالأحضان؟ أم تعتقد أنك ستتسلل بسهولة إلى مقره؟
قاطعها بنبرة سمجة كانت عليها كالنار فوق البارود: لا، بل سأدخل معك بكل بساطة.

صرخت و قد فقدت هدوءها فانفجرت فعلياً: أويس لا تجعلني أجنّ الآن و أخبرني ما الذي تفكر فيه؟
تحولت نبرته إلى الجدية تماماً و هو يخبرها بكل صدق: لا يهم ما أفكر فيه مياس، مهما كان لن أتركك لوحدك في مواجهة ذلك المختلّ عقلياً...
هاجمته من جديد: أنت تظنّ أنّ الأمر لعبة صحيح؟ إما هذا أو أنك قد جننتَ تماماً!

تأفف أويس ليخبرها برفق جاد: لا مياس، لم أجنّ بعد و لا أعتقد الأمر لعبة ما، فقط لم أستطع تركك تواجهينه وحدك و أنتِ لا تعرفين ما الذي يخطط له بعد.
نفذت نبرته إليها محملةً بمشاعر صادقة، زفرت نفسها بقوة و هدأت نبرتها نسبياً و هي تردف قائلة بعقلانية: أويس، أنت لم ترَ صور مقره التي طلبها اللواء جلال، إنه محصنٌ بدرجة كبيرة، دخولك لن يكنْ هيّناً بالمرة، و إن أمسكوك لن يترددوا في قتلك لحظة واحدة.

في هذه اللحظة لمحت بطرف عينها رجلٌ يبدو و كأنه من البدو بعبائته السميكة و عصاه التي يهشّ بها على غنمه التي يرعاها هنا في هذا المكان البعيد من الغابة، حيث لا ماء و لا زرع للغنم، لم تحتجْ لأكثر من دقيقة تفكير لتدرك أنه جاسوس الخفاش ليمنع اقتراب أحدهم من مقره المحصّن، و ربما ليتأكد إن كان هناك من يتبع مياس، انتبهت إلى حديث أويس الذي عقب بتبرم منزعج: أنتِ تشككين في قدراتي مياس و هذا يحزنني، ثم من أخبركِ أنني لم أشاهد صور الأقمار الصناعية؟

زوت ما بين حاجبيها سرعان ما استوعبت الأمر فهتفت بدهشة طفيفة: اللواء جلال يعلم بفعلتك الخرقاء صحيح؟
همهم بموافقة فأضافت بسخرية: حسناً لا أستغرب هذا منك فقد اعتدتُ على حماقاتك، الغريب كيف وافق اللواء جلال على هذا الهراء الغبي؟

زفر بانزعاج لألفاظها غير المتزنة ثم سمعها تضيف بتساؤل لم يبدُ و كأنه سؤال جاد على أية حال: و ما هي خطتكَ يا عبقري زمانك؟ هلّا أخبرتني بها فقط لأستطيع استيعابها قبل أن تتسبب بمقتل كلينا؟
عقب أويس ليخبرها بجدية تامة رغم تهكمها: الجهة الغربية من المبنى قريبة جداً من الغابة و الحرس فيها قليل، هذا ما أظهرته الصور، سأحاول التسلل إلى هناك و قد أستطيع الدخول منها إلى المبنى.

لم يبدُ عليها الرضا لما قاله فأضافت: الخفاش ليس أحمقاً ليُسقط مراقبة تلك الجهة أويس، أخشى أنّ في الأمر إنّ!
علّق يطمئنها: لا تقلقي مياس، لن أُلقي بنفسي إلى التهلكة، إذا شعرتُ بشيءٍ مريب سأتراجع.
شعرت بقلبها يخفق خوفاً عليه هو هذه المرة، لم تجدْ ما تخبره به سوى أن ضمّت شفتيها بقوة قبل أن تعقب بلهجة راجية: عدْني أنكَ لن تخاطر بنفسك أويس؟

شعر بقلقها عليه و هذا أعطاه دفعةً كبيرة و شجاعة لم يشعر بها قبلاً، ابتسم بحنان قائلاً: أعدكِ مياس، لن أخاطر بنفسي إلا دفاعاً عنكِ و لأجلك.
اقتربت من مكان مقرّ الخفاش المحمي جيداً فهمست تخبره: لقد اقتربنا أويس، ماذا ستفعل الآن؟
أخبرها فيما هو يحاول فتح الصندوق من الخلف: هدّأي السرعة قليلاً لأستطيع القفز.
حاضر.

قالتها و قد هدّأت سرعة سيارتها قليلاً للحظات ثم عادت تزيد السرعة، صاحت في الهاتف: هل ترجلتَ أويس؟ أخبرني؟
لم يأتها ردّه في البداية فساورها القلق فعادت تنادي: أويس؟ أجبني؟ هل أنت بخير؟
لم يجب أيضاً وللحظة ظنّت أنّ مكروهاً ما قد أصابه، تجعدت تقاسيمها بقلق واضح حتى أتاها صوته يهتف بلهاث: أنا بخير لا تقلقي، هي صخرة وضيعة فقط من اخترق طريقي.

تنفست الصعداء براحة ثم سخرت: تستحق هذا، تظنّ نفسك في أحد أفلام هوليود و أنك البطل المنقذ؟
قهقه بتسلية على إجابتها ثم سمعها تضيف: لقد وصلتُ أويس، سأغلق الاتصال.
سارع يهتف: مياس.
همهمت تنتظره أن يتابع جملته فعقب بصدق: مهما حدث لن أتخلى عنكِ، فقط كوني بخير لأجلي.

مسّتها كلماته بطريقة لم تتوقعها أبداً، و لوهلة كادت تضعف و تتراجع أمام سيل مشاعره الصادقة لكنها عادت لتنهر نفسها، لا يجوز أن تجزع أمام رجاء القلب و تترك مصير الآلاف بيد مختلٍّ نفسي و عقلي، أخبرته بجدية: سأكون بخير إن كنتَ أنت كذلك.

لم ترغب بسماع جوابه لئلا تضعف مجدداً فأغلقت الاتصال من فورها، بعد لحظات قصيرة وصلت مياس إلى ساحة ترابية مفرغة تماماً من الأشجار، و هناك اصطفّ بضعة رجال مدججين بالأسلحة أشاروا إليها بأن تتوقف، تعرفتْ عليهم بأنهم رجال الخفاش فأوقفت سيارتها محافظة على ملامح جدية، وقف أحدهم قرب بابها مخاطباً إياها برسمية بالغة: عليكِ أن تترجلي هنا آنسة مياس، سنتابع مشياً على الأقدام حتى نصل إلى المقرّ.

جالت بعينيها عليهم فرأت الجدية التامة مرتسمة على وجوههم، ما إن تلاقت أنظارها بهم حتى أخفضوا رؤوسهم باحترام، يبدو أنها الأوامر، لكن جذبتها تلك الصفة التي ألقاها الشاب فقالت بتهكم مغرور: آنسة! ألم يخبركَ أحدهم بهويتي يا هذا؟
أخفض سهيل نظراته عنها مجيبا بتهذيب غريب للغاية: أعتذر إليكِ آنسة مياس، هكذا تلقينا الأوامر.

عاث القلق داخلها فبعثر حساباتها تماماً، رمقته بعدم راحة لكنها فتحت الباب لتترجل إلى الأسفل فابتعد سهيل بضع خطوات ثم قال بأدب: هلْ لي أن أطلب منكِ إبقاء هاتفكِ هنا آنستي؟ سنجلبه إليكِ بعد قليل.

تبسمت ساخرة من طلبه الغريب إلا أنها أدركت أنها أوامر الخفاش بلا ريب، تحرك أحدهم لتتبعه تدبّ الأرض بخطوات جبارة، رفعت رأسها و فردت أكتافها كأنها فعلاً لا تخشى ما ينتظرها، تبعها سهيل بخطوات أقرب للجري ليواكب مشيتها السريعة، تأملها من الخلف فلم يجدْ في اعتقاده شيئا محدداً قد يجذب الرجال فيها، ما المميز بها لتجعل الخفاش بجلالة قدره يتنازل لها كل هذا التنازل؟

مشت بين الأشجار مسافة ليست بقصيرة قبل أن يطلّ عليها مقرّ الخفاش المختفي، كان صرحاً جميلاً و موقعه أجمل، لولا أنه يحوي الشر شخصياً بين جدرانه لكان مكاناً رائعاً للاصطياف و الاستجمام، و هناك، أمام البوابة الحديدية العظيمة بلونها الأسود وقف خطاب باعتداد قلّ مثيله، تباطأت خطواتها تلقائياً حتى توقفت تماماً حالما لمحت ابتسامته الخبيثة الواسعة، استراب سهيل في أمر توقفها المفاجئ فتطلع من خلفها فأصابته المفاجأة بدوره، إنها المرة الأولى منذ بناء هذا المقر قبل عشر سنوات التي ينزل فيها خطاب إلى هذا المستوى، إما أنه قد جنّ تماماً أو أنه تعقل؟ أيهما أسبق؟

عبأت مياس صدرها بنفسٍ عميق ثم تابعت مسيرها بملامح جادة حتى وقفت أمام خطاب مباشرة، تفحصته بنظراتها لتجده شاباً عادياً، وسيم الخلقة و حسنُ المظهر، لا توحي تقاسيمه البسيطة بمدى الشرّ و الخبث الذي تنطق به أفعاله، و حين دققت النظر في عينيه الرمادية وجدتْ الذكاء الحاد يلتمع فيهما، لوهلة تسرّب الخوف ليبان على قسماتها سرعان ما سيطرت عليه لتحجمه ما إن سمعته يردف بنبرة تهكمية معبقة بالعجرفة: يقال أنكِ لا يجب أن تنظري في عيون الضبع مباشرةً، إذ أنه قد يسحركِ حتى يلتهمكِ.

شقت ثغرها بسمة هادئة لتجيب بتذاكي: سمعتُ هذا أيضاً، لكنك خفاشٌ و لستَ ضبعاً.

قهقه بصوت مسموع لم يهزّ فيها شعرة، كان تفكيرها حينها منصباً على مكان أويس و تأمل بكل صدق ألا يتهوّر فيلقي بنفسه في التهلكة، طالعت الرجال حولها فوجدت الجميع مطرقٌ برأسه في حضرة سيدهم المخبول، يبدو أنهم يخافونه لدرجة لا تصدق، مرت ثوان حتى هدأت ضحكته ثم عقب بإعجاب بادٍ في مقلتيه: جوابكِ على رأس لسانك، و هذا أكثر ما يعجبني فيكِ مياس.
رفع يده متطلعاً إلى ساعته ليردف: في موعدكِ تماماً.

علقت بجدية تامة: لقد وفيتُ لكَ بقسمي من الاتفاق، ماذا عنك؟
سرعان ما أجاب: لا تقلقي، و أنا عند وعدي كذلك.
تجعدت ملامحها بانزعاج و هي تشتمّ رائحة الكحول المعقم منشراً بكثرة حولها و أقوى الروائح تصدر عنه، يا له من وسواس قوي لديه، و قبل أن تعلق على حديثه ابتعد إلى الجانب ماداً يده أمامه بحركة نبيلة قائلا بتهذيب: تفضلي من هنا آنستي.

رفعت أحد حاجبيها بدهشة لم تتمكن من إخفائها فعقب خطاب باعتيادية و بسمة خبيثة تتراقص فوق شفتيه: السيدات أولاً، صحيح؟

حدجته بنظرة مغتاظة ثم تحركت لتخطو إلى الداخل، وجدتْ أمامها ممرٌ طويل سارت فيه حتى بلغت السلم فصعدت عليه و من خلفها كان الخفاش و بعده سهيل، أثناء سيرها تفحصت المكان بعينيها فوجدتْه عادياً ليس فيه ما يميزه سوى لون الجدران الأبيض الناصع و ندرة الأبواب، فخلال سيرها في هذا الطابق لم تجد إلا باباً واحداً مغلقاً، الطابق الثاني كانت جدرانه باللون ذاته و فيه أبواباً أكثر، وقفت أمام إحداها فأخبرها خطاب: تابعي الصعود، أنا أعيش في الطابق الأخير.

التفتت إلى الخلف لتجده هو و أحد خادميه فقط من يتبعها و قد تشاءمت من هذا، إلا أنها تابعت المشي إلى الطابق الأخير كما أخبرها، الغريب في هذا المبنى عدا رائحة المنظفات القوية جداً كانت عدم وجود مصعدٍ كهربائي يصل بين الطوابق، كذلك لم ترَ حتى الآن حتى لو أنثى واحدة و هذا مريبٌ بعض الشيء، وصلت أخيراً إلى ممرّ واسع تعرفت على أنه الطابق الأخير لأن تصميمه كان مختلفاً عن البقية، جدرانه مدهونةٌ باللون البني و أبوابه القليلة أيضاً، توقفت عند آخر درجةٍ دون الالتفات للخلف فتجاوزها سهيل بسلاسة ليفتح بوابة بنية ضخمة قريبة منها، شاهدت خطاب يتحرك ليدخل إليها فتبعته، لا تنكر أن هذه الصالة الكبيرة أبهرتها بتصميمها الراقي للغاية، بجدرانها الزجاجية النظيفة لدرجة أنها رأت انعكاسها واضحاً عليها، أرضيتها من الخشب البني المصقول و سقفٍ مماثل، و أضواءٌ عديدة غطت السقف لكن أكثر ما جذب انتباهها كانت الثريا الضخمة المعلقة بالسقف تتدلى بأضوائها الجذابة و شكلها الأثري، و كمن قرأ أفكارها نطق خطاب حين وقف أمامها: إنها ثريا ملكية، تم أخذها من متحف اللوفر في باريس، لكنها أعجبتني فلم أشأ بيعها.

عقبت و هي تخفض نظرها ناحيته بنبرة ساخرة: تقصد أنك سرقتها؟

بادلها بسمةً هادئة غير آبهٍ بتعليقها المستفز، خطى إلى الأمام لتنتبه إلى المائدة الطويلة في منتصف صالة الطعام، كانت ملأى بالأطباق لكنّ معظمها مغطىً، الأواني نظيفة و لامعة كالمتوقع و مرتبة بشكل زائد عن المألوف، وقف خطاب أمام كرسيّ ما على رأس الطاولة و قد سبقه سهيل إليه، و قبل أن يسحب الأخير المقعد التفت خطاب صوبها مشيراً إلى مقعد قريب قائلاً: تفضلي مياس، لا يصحّ أن تظلي واقفةً هكذا في حضرة الطعام.

بمَ يفكر هذا الماكر تماماً؟
دعوتها إلى هنا، معاملته المهذبة و رقيه في التعامل معها، و أخيراً دعوته لها لمشاركته الطعام، هذا كله يخبرها بأن ما يخطط له فاق التوقعات، تقدمت بتردد حتى باتت قريبة من الطاولة، لكنها لم تجلس حين قالت معقبةً بسخرية: أتظنّ أنني حمقاء لتخدعني بسهولة يا خفاش؟

منذ أن ألقى بنفسه من سيارتها و طمأنها أغلق أويس جهازه نهائياً، وضعه في جيبه الخلفي ثم أخرج سلاحه الملقم و سار بخطوات سريعة بين الأشجار، إلى أن رآى مياس تصطفّ بسيارتها عند ساحة ترابية صغيرة و من أمامها اصطفّ عدد من الرجال المجهزين بأسلحتهم فتحفز في وقفته، أيعقل أنّ الخفاش من أرسلهم ليخلصوا عليها؟

رفع سلاحه و تأهب مستعداً لأي نية غدرٍ من ناحيتهم، شاهدها و هي تترجل ثم تتحرك أمامهم و هم يتبعونها باحترام فلحق بهم محاذراً إصدار أقلّ صوت، و محافظاً على نفسه مختفياً بين الأشجار حتى رآه، رآى الخفاش واقفاً ينتظر فريسته، لم تدمْ مدة وقوفهما سوى لحظات معدودة ثم غابت مياس في الداخل يتبعها خطاب و أحد خُدّامه، أما الرجال الآخرين فقد توزعوا في أنحاء المقرّ لحراسته، أما الجانب الغربي و الذي أخبر مياس عنه لم يكن فيه سوى شخصين، عاد أويس ليختفي بين الشجيرات ثم تقدم ناحية الحانب الغربي حيث كانت بوابةٌ صغيرة تؤدي إلى المطبخ، شاهد أحدهما يهامس رفيقه ثم يبتعد متخلياً عن سلاحه، على ما يبدو يريد قضاء حاجته بعيداً بين الأشجار، استغلّ أويس هذا فتسلل إلى الرجل الآخر الذي كان يتلهى بهاتفه فضربه على رأسه ليسقط الآخر طريح الأرض، لم يضيعْ أويس الوقت فتقدّم ليلتصق بالباب بظهره، حاول النظر من خلال نافذة زجاجية صغيرة في أعلاه فوجده فارغاً تماماً، دفع الباب ببطء ليدلف بهدوء محاولاً عدم إصدار أي صوت، لكنه ما كاد يخطو متراً داخله حتى خرج ثلاثة رجالٍ أشدّاء من حيث لا يعلم مصوبين أسلحةً رشّاشة على رأسه هاتفين بصوت جهوري: قفْ حيث أنت و ارفع يديك للأعلى.

أصابته الدهشة لكنها لم تدم طويلاً حين تقدم الرجل الذي ضربه قبل لحظة ليباغته فيكبله من الخلف مدمدماً بسخط: يدك ثقيلة جداً يا رجل، كدتَ تقتلني!
استوعب أويس وقتها أنه وقع في فخٍ معدٍّ بإحكام فحاول المقاومة لكن عبثاً، فقد تمّ اقتياده بين الرجال الأربعة إلى داخل المقرّ، إلى المجهول...

طالعها خطاب بدهشة ليعلق باستغراب: أخدعك؟ أين الخداع في دعوتي لكِ إلى الطعام مياس؟
لم تتغير ملامحها إلا أن خطاب قال ببراءة خادعة و بسمة سامة: أتعتقدين أنني قد أُسمم لكِ طعامك مياس؟ إن كنتِ فكرتِ باحتمالية هذا فأنتِ تجرحين كبريائي، لكن لا بأس.

رمته بنظرةٍ مُغتاظة و قد نجح بطريقة ما بإزعاجها، سرعان ما سيطرت مياس على مشاعرها لتسحب الكرسي و تجلس فوقه بهدوء تنتظر استيضاح نواياه، تنبهت الآن إلى وجود مقعدٍ آخر قبالتها، راودها الشك فبالتأكيد هذا الكرسي ليس لخادمه الواقف خلفه عاقداً كفيه خلف ظهره، فلم تمنع نفسها من السؤال النزق: هل تنتظر أحداً آخر؟

لم يجب في البداية فناظرته باستغراب لتجد الخبث بأقبح معانيه مرتسماً فوق صفحة وجهه ثم أجاب بغموض مربك: إنه ضيف عزيز سيحضر بعد لحظات، لا تقلقي لن يتأخر.

قالها بطريقة جعلت مياس تفكر في هوية الضيف المنتظر، و للحق فهي لم تتوقع سوى أن يكون الشيخ الذي من المتوقع أن يعقد قرانها على هذا الماثل بجانبها، راحت تفكر تلقائياً في طريقة دفاعية لكنها و قبل أن تفكر بشيء سمع كلاهما صوت صراخٍ في الخارج، جرى سهيل ليفتح الباب البني الضخم فيما تستدير مياس لترى مصدر الصراخ، ما لبثت أن هبطت الصدمة فوق رأسها حين رأت أويس مكبلاً و مقتاداً هكذا، هدأت مقاومته نسبياً ما إن رآها بينما تلتفت هي ببطء صوب خطاب لتجده يطالعها بنظرةٍ تنمّ عن سابق معرفته بقدوم أويس، الآن و قد ارتعش جسدها ظاهرياً إذ استبدّ بها الخوف من خطورة هذا الرجل، إذاً حين أخبر أويس بأنه سيتزوج مياس تلك كانت مجرد خدعة فقط ليستدرجه، كان مدركاً تماماً لمشاعر أويس حيالها، إذاً لقد وقع كلاهما في الفخ فهل من منقذ؟

تحرّر أويس من مقيديه فأشار لهم سهيل بالرحيل، فتحدث خطاب مخاطباً إياه بنبرة ذات معنى: أهلا بكَ يا حضرة النقيب، لقد كنا بانتظارك و للحق فأنت لم تتأخر، تفضل لتجلس مكانك.

قالها و هو يشير إلى الكرسي المقابل لمياس فرمقه أويس بغلّ واضح، إلا أنه تحرك بتحدي ليجلس قبالة مياس التي بان الذعر واضحا على محياها رغم محاولتها إخفاءه، حافظ خطاب على ابتسامته الماكرة و هو يرفع كلتا يديه متحدثاً ببساطة كأنهما ضيفان عاديان: تفضلا و باشرا طعامكما.
رماه أويس باستحقار متحدثاً: و كأننا سنخدع بكرمك الزائف صحيح؟

اصطنع خطاب الحزن فلوى فمه معقباً: لا يجوز أن تُشكك في كرم مضيفك يا حضرة النقيب، لكني سأتجاوز عن إساءتكِ و أثبت لك حُسنَ نيّتي.

رفع إصبعه السبابة مشيراً إلى سهيل الذي تقدم ليرفع الغطاء عن طبق أويس فظهر الطبق المحضر بعناية تحته، بواسطة شوكةٍ منفردة أخذ سهيل قطعة من طبق أويس ليناوله إلى خطاب الذي حملها بواسطة منشفة ورقية من على الطاولة ليتناولها بتلذذ، ثم أشار إلى أويس ليتناول طبقه، التفت ناحية مياس أثناء مسحه لفمه بمنشفة ثانية و هو يشير لها بأن يتذوق طبقها أمام عينيها لتتأكد من خلوّه من السموم، راقبته بحقد و في عقلها آلاف المؤتمرات المنعقدة لتفكر في اللعبة التي يلعبها الخفاش، تبسمت بتهكم ما إن انتبهت له و هي ترفع غطاء طبقها قائلة باستهزاء ناقم: حتى لو كان فيه سماً سأتناوله، فالموت أفضل من الجلوس معك على أية حال.

استهجن مقاله بسخرية موحيّة: تؤ تؤ تؤ مياس، أنتِ هكذا ستحزينني حقاً، هل سمعتِ عن عريس يسمّم عروسه قبل الزواج بقليل؟

أدركت أنه يلعب على أوتارها ليغضبها فقط فأخذتْ قطعةً كبيرة من طبقها لتدسّها في فمها ثم بدأت تمضغها بشراهة و هي تنظر في عينيه مباشرة، و للحق رغم انزعاجه الواضح من تصرفها الفاقد لأدنى معايير الرقي و التحضر، إلا أنه قد أُسعدَ بتحديها له، شرع يتناول طعامه هو الآخر بأدب و تهذيب كبيرين، أيضاً أويس فعل مثل مياس حالما رآها تتناول ما في طبقها هكذا، يبدو أنه نوع من التحدي ضد الخفاش و هو أراد المشاركة، تحدثت مياس فجأة و هي تضع أدوات الطعام من يدها مصدرةً صوتاً مسموعاً: بالمناسبة، لماذا كان خادمكِ يناديني بآنسة؟ ألا يعرف من أنا؟ أم أنها لعبة حقيرة منك؟

اقتحمت قسماته ابتسامة باردة ليضع الشوكة و السكين بهدوء تام في مكانيهما بترتيب زائد، شبك كفيه مستنداً بمرفقيه فوق الطاولة يسأل بدوره متجاوزاً عن فظاظتها في طرح سؤالها: أخبريني أنتِ أولاَ مياس، ما الذي دفعك لأن تكوني ضابط شرطة؟
قابلته بتهكم بارد لتجيبه باستحقار: لا أعلم، لأقبض على أمثالك مثلا؟

لم يتأثر بتهكمها الواضح للسامع بل ظلّ يطالعها بانتصار و هي تشعر بتثاقل رأسها، تجعدت قسماتها بانزعاج لتضع يدها تتحسس على جبينها بعنف بينما يرفع خطاب شوكته ليتناول من طبقها باستفزاز، لم يكن أويس بأفضل حالاً إذ أنه شعر بتكاسل أجفانه و صداع شديد يضرب رأسه، دارت الصالة من حوله و بدأ يرى خطاب ثلاثة أشخاص، أيقنت مياس أن كليهما قد وقع ضحية خديعة جديدة من الخفاش، مادت بها الأرض و تكاد تفقد قدرتها على التحكم بجسدها فهمست بصعوبة: ما الذي يحدث؟

وقف خطاب في هذه اللحظة أمامها ليخبرها: لكل حصانٍ كبوة مياس، صحيح؟
أنّت بصوت مسموع و هي بالكاد تسمعه يضيف: لقد حذرتكِ من قبل، أخبرتكِ أنكِ لستِ ندّاً لي، و أنني أخطر بكثير مما توقعين لكنكِ أبيتِ إلا التحدي، و ها هي النتيجة.

أخرج علبة المعقم الصغيرة من جيب سرواله ليسكب منها فوق يديه مضيفاً بهمس مريض تناهى إلى سمعها بوضوح: الآن ابتدأت الجولة النهائية، و أستطيع أن أقول مسبقاً، من يضحك أخيراً يضحك كثيرا.

لم تعد تسمع أكثر من هذا إذ سحبتها موجة سوداء لتغرقها في دوامات لا نهائية، لم تدرك أن أوبس ما زال يقاوم رغم الخدر الذي سرى في جسده، لكنه في النهاية سقط صريعاً بدوره، حالما تأكد خطاب من نوم كليهما أشار إلى سهيل الذي هزّ رأسه بطاعة ثم خرج لينادي على الرجال لمساعدته في تنفيذ الخطوة التالية، أما خطاب فقد اتجه ليقف أمام النافذة يطالع المدينة الساحرة بمنظرها البهيّ، سمع بعض الجلبة من خلفه و سؤال سهيل: هل ننظف الطاولة أيضاً سيدي؟

أجاب ببرود دون التطلع نحوه: لا، دعها مكانها، لربما احتجتها فيما بعد.
تحرك سهيل ليغطي الأطباق فيما عمل البقية على تنفيذ أوامر رئيسهم المختلّ...

هل نامت فعلاً!

لا تعلم طول المدة التي استغرقتها مياس في غفلتها تلك، تناهى إلى سمعها همهماتٍ هامسة غير مفهومة، شعرت بألم قاتل يفتك برأسها فجاهدت لتفتح عينيها بصعوبة بالغة، بحركة لا إرادية أرادت تحريك يدها لكنها عجزت تماماً عن فعلها، موجات عصبية متلاحقة أُرسلت إلى عقلها السابح ما بين الغفلة و الانتباه لتدرك مياس أنها جالسةٌ على مقعدٍ ما، ربما هو ذاته المقعد الذي كانت تجلس فوقه إلى مائدة طعام الخفاش، الفارق الآن أن كفيها مربوطتان إلى يديّ المقعد، و قد تولّى أحدهم مهمة نزع سترتها الجلدية.

اهتزّ رأسها بوهن شديد تحاول إجلاء الغشاوة المسيطرة على مقلتيها، حتى تمكنت من رؤية الخفاش واقفاً هناك أمام نافذته مولياً إياها ظهره، دون سيطرة تأوهت مياس بصوتٍ وصل إلى مسامعه فالتفت إليها و على محياه ابتسامة باردة هاتفاً بإعجاب: استفقتِ؟ لم أتوقع أن تستيقظي بهذه السرعة، على عكس رفيقك.
قالها و هو يشير بيده إلى مكان ما بقربها، تطلعت حيث أشار لتجد أويس كحالها مقيداً فوق مقعده إلا أنه لم يزل مخدراً.

لقد استيقظت تماماً، فلماذا إذاً ما تزال رؤيتها مشوشة؟
أدركت في التوّ أنها محتجزة رفقة أويس داخل صندوق زجاجي يتسع لكليهما فقط، رغم خطورة الموقف لكنها وجدت نفسها تبتسم بخفة لتقول ساخرة بنبرة ناعسة: تسجنني داخل قفص زجاجي يا خفاش؟ يا لكَ من رجل كريم!
رغم تهكمها إلا أنها لم تهزّ فيه شعرة واحدة، تقدم حيال القفص معقباً بهدوء مستفزّ: ما زلنا في طور الإحماء يا مياس، فلا تستعجلي و تحكمي عليّ.

أنهى جملته حين وقف أمامها مباشرةً و ما زالت بسمته الباردة مرسومة بعناية، لسببٍ ما شعرت مياس بالقلق يعصف بكيانها رغم إخفائها ذلك ببراعة، فيما يرفع خطاب يده ليتطلع ناحية ساعته قائلاً: تعلمين؟ لم تغفلي أكثر من ساعة واحدة؟
رفعت ذقنها بإباء مجيبة باستهزاءٍ مترفع: لا تنسى أنك تتعامل مع الذئب.
انحنى ناحيتها ليقابل وجهها من خارج القفص ليردف بإعجاب: معكِ حق، فعلاً نسيت للحظة مع من أتعامل هنا.

تشابكت أنظارهما بتحدٍ للحظات لم يدركا مدتها حتى اعتدل خطاب واقفاً ليخفي كفيه في جيبي سرواله القماشي الأسود، في هذه اللحظة بدأ أويس بالاستفاقة ليتمتم من بين نعاسه: أين أنا؟ ما الذي حدث؟
أجابه الخفاش بتفاخر مريع: إيستازولام، عقار منوم سريع المفعول.
تبسمت ساخرة قائلة: لا يحتاج الأمر إلى ذكاء لأعلم أنكَ دسسته لنا في الطعام.

انتبهت هنا إلى فكرة فعقدت ملامحها لتسأله: لكن كيف لم تتأثر به و قد تناولت من أطباقنا؟
أمال رأسه بحاجبين متلاقيين ليعقب باستهجان ساخر: تسألينني حقاً مياس؟ فعلاً سأغير نظرتي في ذكائك.
فهمت مقصده لتجيب جادة: تأخذه منذ مدة طويلة لدرجة أنه لم يعد يؤثر فيك، صحيح؟
أشار بسبابته بتملق مقيت: الآن أعجبتني.

أثناء مشاحنتهما استفاق أويس تماماً ليدرك وضعه مسجوناً رفقة مياس في قفص زجاجي، فسأل خطاب ساخراً: هل نخيفك و نحن أحرار إلى هذه الدرجة حتى تقيدنا و تسجننا يا خفاش؟ و في صندوق من الزجاج؟
تطلع خطاب ناحيته معقباً بنبرة شريرة: لا أخاف منكما، لكن العرض القادم لن يكون مسلياً إذا تمّ في منطقة مفتوحة.

لم ترحها نبرته، تابعته و هو ينحني إلى الأرض، شاهدته يمدّ يده ليضغط زراً ما من الخارج، فظهر صندوق صغير معتم و هو يُفتح ثم تخرج منه بضع حشرات صغيرة، في الواقع هي ليست حشرات بل، نملٌ!

لم يعرف كلاهما ماهيّة هذا النمل لكنه بالتأكيد ليس مؤشراً على الخير، كان طول واحدتها يبلغ اثنين سنتمتر (٢سم)، ذات جسدٍ اسطوانيّ غريب بنهاية مدببة، لونها أسود و لها شعر بني يميل للإحمرار يغطي قوائمها، انتشرت تلك النملات بسرعة داخل الصندوق و تلقائياً راح أويس و مياس يبعدانها بأقدامهما الحرة، لم يعرفا أنهما يستفزان النمل أكثر و بمقاومتهما تلك جعلا النمل أكثر عدائية، شبك خطاب كفيه خلف ظهره يراقبهما بانتشاء، شاهد إحدى النملات تتسلق على طول قدم مياس كأنها تبحث عن نقطة ظاهرة من جسدها لتلدغها، و قد وُفقت في مسعاها حين وصلت إلى كفها المقيّد دون انتباه مياس، ابتسم بظفر حين صاحت بألم عقب لدغة النملة، هتف أويس باسمها ليتلهى لجزءٍ من الثانية كانت كافية لتقرصه نملة أخرى تسللت تحت سرواله فصرخ بوجع هو الآخر، ارتفع صدر خطاب باعتداد حقير ليسهب متحدثاً: نملة الرصاصة، حشرة لا تجدونها سوى في غابات أميركا الجنوبية و الوسطى، و بالمناسبة هي اسمٌ على مسمى.

شعر كلاهما بألم حارق مكان اللدغة، حاولت مياس احتماله قدر إمكانها فكزت على أسنانها بقوة عظيمة، إلا أنها فشلت في النهاية فتأوهت بصوت مسموع و هي تحرّك أصابع كفها المصاب، ليعقب خطاب بارتياح مريض: ألم لدغتها يعادل ألم الإصابة بطلق ناري، صحيح مياس؟
طالعته بمقلٍ نارية لتعقب من بين أسنانها المتلاقية بكمد: أيها الحقير!

قهقه بصوت عالٍ ليزيد من احتراقهما، فيما هما يقاومان الألم بكل بسالةٍ و بالفعل كما قال، كان الألم يعادل رصاصةً عادية، انخفض ناحيتهما ليعقب بصوتٍ مريض: ألم اللدغة سيدوم أربعاً و عشرين ساعة قبل أن يخفّ، لكن أثناء هذا سأستمتع بعذابكما...
قاطعه أويس مزمجراً بضراوة: أيها النذل الوضيع! لماذا لم تقتلنا و حسب يا جبان؟

ظلّ خطاب محافظاً على سعادته الماكرة حين أجاب بصدق: صدقني قتلكما أسهل بكثير مما دبرته لكما، لكني لم أفعل لسببين، الأول أني لن أقتل عروسي قبل عقد قراننا.
صرّت على أسنانها بحنق من نبرته المريضة ثم سمعته يضيف: و السبب الثاني أنني لا أطيق منظر الدم، و أنا أريد أن تموت ميتةً بطيئة للغاية يا أويس..

قابله أويس بتحدي و رغم الألم الذي يشعر به الآن إلا أنه صاح بصوت واثق: لن أموت قبل أن أقتلك يا خفاش، صدقني سأفعلها حتى لو كانت آخر شيءٍ أفعله في حياتي، سأقتلك..
صرخ بكلمته الأخيرة بصوت عالٍ زاد من انتشاء خطاب لما يراه من الألم المرتسم على وجهيهما، لم يدرك أنه يتعامل مع الذئاب، و من يتعامل مع الذئاب عليه أن يحتمل مخالبها...

الفصل التالي
لم يكتب بعد...
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة