قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الثاني والعشرون والأخير

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الثاني والعشرون والأخير

رواية حب في الزمن البائد للكاتبة سارة ح ش الفصل الثاني والعشرون والأخير

النهاية
(لوجين)
كان يقود السيارة بابتسامة لا أعرف حقاً سببها. هل هو بسبب عودتي؟ أم بسبب تقبّلي لحقيقة زواجه ولم اجبره على الأنفصال؟!
ولا أعلم أنا لِما قلبي منقبض بذلك الشكل الفضيع. هل لأنه متزوج؟ أم لأنه تزوجها وهو معجب بها بل وربما يحبها؟!

كل شي بداخلي يرفضها ويمقتها بقوة، رغم إني لم أخض معها حديث أكثر من دقيقتين، ولكن لا استطيع أن اتقبل فكرة وجودها في حياته. هي بدت جميلة وذات روح لطيفة ومرحة. وهذا أكثر ما يجعلني أكرهها!
ربما لو قارن بيني وبينها من ناحية الشكل والتصرفات فسيفضلها على بالتأكيد!
- رسلان أنا حقاً لا أرغب بالذهاب!
قلت بسخط فرد ببرود: - أعرف، ولكن عليكِ ذلك!
فأصبحت نبرة صوتي أكثر حدة: - لا أعرف حقاً غايتك من كل هذا؟!

مد يده من غير أن ينظر نحوي وقرصني من خدي بخفة وقال: - لا لغاية حبيبتي ولكن هذا ما يجب أن يحصل.
- ولماذا؟!
- أولاً عليكِ أن تزوري أمي وتعرف بعودتكِ.
- يمكننا أن نتقابل في أي مكان آخر غير منزلكم!
- وثانياً عليكِ أن تقابلي رهف!
زفرت باستياء وأنا أكاد أمزقه بين أسناني كلما ذكر أسمها وقلت له بعصبية لم أسعى لكتمها: - ولِما على مقابلتها؟ هل تظن إننا سنصبح صديقتان مقربتان مثلاً ونتشارك المنزل ذاته؟!

- ليس لهذا الحد ولكن لا أريد هذا النفور بينكما وكأنكما خضتما الحرب لسنين.
صمتُ من غير تعليق لوهلة قبل أن أعود مجدداً لأقول بينما أكتف يداي أمام صدري وأنظر للطريق أمامي:
- هل تعرف هي إنك متزوج حين ارتبطت بك؟ أم لم تخبرها بذلك لأنك لم تتوقع عودتي؟!
- كانت تعرف بكل شيء.
- هلّا حددت معنى كل شيء؟!
تبسم وهو يفهم مقصدي فسحب يدي وقبّلها برقة ثم شابك أصابعي مع أصابعه وقال:.

- تعرف إنكِ حبي الأول وإني مهووس بكِ منذ أن عرفت ما معنى الحب!
بقيت أنظر له بنظرات جامدة تنبعث منها بعض الشرارات فاختفت الابتسامة من وجهه بينما يقول لي:
- ماذا هناك؟
فقلت بينما أضيق عيناي:
- لقد قلت حبي الأول
- أجل،؟!
- ولكنك لم تقل الأخير!
بقي ينظر لي ببلاهة ثم سألني:
- أأنتِ جادة؟ تركتِ كل الغزل الذي ألقيته على مسامعكِ وركزتِ بهذه الكلمة؟!
- هل تحبها؟!

أفلت يدي من يده وهو يقول بضجر: - استغفرالله العظيم من كل ذنب عظيم!
فقلت بينما أكاد أبكي: - إذاً أنت تحبها؟
فقال بضيق: - ولِما عساي سأكرهها؟ هل هي عدوتي؟!
فقلت بسخط طفولي: - حسناً يا رسلان فلتحبها كما تشاء. ليحترق كلاكما بالجحيم!
ضحك على دعائي الأحمق ودموعي البلهاء وعاد ليمسك يدي مرة اخرى ليقبلها ويقول: - حسناً يا حبي الأول والأخير والوحيد، هل أنتِ راضية الان؟!

حاولت بشدة أن احتفظ بشخصية العصبية التي أتلبسها الان، ولكني حقاً لم أستطع كبح ابتسامتي الظهور على وجهي، أنا حقاً لستُ سريعة الإرضاء حسب رأي الأغلبية بي. ولكن لا أعلم ما يحصل لي حين أكون بجانبه. تتغير كل شخصيتي حتى من دون أن ألاحظ ذلك!

وصلنا الى منزلهم فأخذت نفساً عميقاً أُهيء نفسي من أجل اللقاء. كان رسلان قد أخبرهم بقدومنا لذلك هم كانوا مستعدين مسبقاً. يا ترى هل هي تأخذ ذات الأنفاس العميقة لتستعد لهذا اللقاء الذي ربما لا ترغب به أيضاً ولكن رسلان يفرضه عليها؟ أم هي واثقة جيداً مما تعنيه لهُ فلا يهمها عودة زوجته الأولى التي لن تغير شيء من طبيعة العلاقة التي بينهما؟!

تقدم قبلي ليفتح الباب بينما أنا أتبعه بصمت. وهذه هي النقطة الاولى التي سجلتها بعقلي من أجل أن أشاجره عليها لاحقاً حين نكون بمفردنا. لم يكلف نفسه حتى أن يمسك بيدي ويسير قربي. هل يخاف على مشاعرها أم ماذا؟ حسناً يا رسلان. لتتحمل أبواب الجحيم التي فتحتها على نفسك!

سرنا في ممر طويل من الرخام الأبيض تقع على جانبه الأيمن حديقة صغيرة كانت مرتبة ومزينة بالزهور بشكل خاطف للأنفاس وتتوسطها أرجوحة صغيرة لابد أنها من اجل أبنها. في نهاية الممر كان يقبع باب خشبي يؤدي الى المطبخ. فتحه رسلان وربما تذكر حينها فقط إني معه، فالتفت نحوي وتبسم ومد يده إلى ليضعها على ظهري وندخل. لم أبادله الابتسامة، ليس لأني كنت غاضبة، بل لأن توتري لم يسمح لي أن أنتبه على ابتسامته.

دخلنا الى المطبخ فوقع بصري اولاً عليها. كانت تقف أمام الطباخ وعلى وجهها ابتسامة عريضة وهي تنظر نحونا وكأنها لا تستقبل ضرّتها بل أختها أو زوجة أخيها. هل يعقل أنها لطيفة للحد الذي لا تدع غيرتها تؤثر عليها؟!

أزحت نظراتي عنها حين شق مسامعي صوت الهلهولة التي أطلقتها الخالة ندى وهي تتقدم إلي. صفقت وأنشدت بعض الأهازيج التي كنت اسمعها في الأعراس في فترة التسعينات. لا أعلم هل لأنهم لا يمتلكون أهازيج جديدة؟ أم لأن الخالة ندى لا تزال عالقة في تلك الحقبة ولم تخرج منها بعد؟ ربما هي لا تزال عالقة، فأنا عالقة أيضاً. هذه الهلهولة التي لم أسمعها منذ سنوات قد أعادت ألي ذكرى وقعت من تسع سنوات. ورقة بيضاء مطوية في يدي ورأسي على صدر الخالة سعاد وصوت هلاهل أمي والخالة سعاد يرن في أذني بينما لا تزال قدمي تؤلمني قليلاً من صندوق التفاح الذي تعثرت به، عدت الان فجأة الى عام 1999 وتناسيت إننا في 2008!

تبسمت وتناسيت ما حولي من شحنات كهربائية وسلمت جسدي بين يداها وهي تضمني بقوة وتبكي بينما تقول:
- الان فقط عادت سعادتي وأنتِ تعيدين السعادة لابني برجوعكِ!
ثم نظرت إلى بلوم من بين دموعها وقالت:
- لِما تركتهِ ورحلتِ كل هذه السنوات؟!
قبّلتها من أعلى رأسها وقلت بأسف:
- أقسم أن الأمر لم يكن بيدي خالتي!
- أنتِ لا تعلمين ما الذي مر به بغيابكِ!

شعرت حقاً بالخجل في لحظتها من نفسي، حين كان يحبني بتلك القوة وقدم كل تلك التضحية ومن ثم اتركه بكل تلك البساطة فقط لأن الأوضاع التي يعيش هو وسطها لم تكن آمنة. بينما هو لم يفكر بذلك حين رمى نفسه بنفسه لجحيم سجون صدام من أجلي. قال رسلان في الحال حين شاهد الانكسار بعينيّ:
- ليس هذا هو الوقت المناسب لهذا النوع من الأحاديث يا أمي!

اومأت بابتسامة وكأنها تعتذر وصمتت فنظر هو، كما فعلت أنا، نحو رهف التي تقدمت الينا وفاجئتني حين سحبتني هي الأخرى لتقبلني على كِلا وجنتيّ ثم قالت بابتسامة:
- سمعت الكثير عنكِ. كنت حقاً متشوقة للقائكِ!

تبسمت بتكلف ولم أرد بشيء فنظرت باستغراب وشيء من الأحراج نحو رسلان الذي اومئ لها بشيء ما جعلها تسكت دون أن تضيف تعليق على برودي اتجاهها وعادت نحو الطباخ مدعية إكمال عملها. نظرت نحو الخالة ندى فوجدتها تنظر بجمود ما بيني وبينها وهي تكتم خلف شفتيها لوم لم تفصح عنه خوفاً من رسلان، كدت أن أقسم من فوري إني لم أتعمد هذا البرود ولكني ببساطة لا يمكنني التصرف بإعتيادية معها. ليس كرهاً ولكن الموقف غريب حقاً. كيف أعمالها بشكل طبيعي؟ لا أستطيع فعل ذلك أشعر أن الموقف سيكون غريب حقاً!

- لابد إنكِ متعبة. من الأفضل أن تصعدي نحو غرفتكِ لتضعي حقيبة سفركِ وتغيري ملابسكِ. وأن لم تحضري الملابس فبأمكانكِ إستعارة البعض من رهف!
قالتها الخالة ندى بعد ذلك الصمت الذي طغى علينا فقلت بابتسامة:
- لا، لا داعي. أحضرت لي ملابس منزلية مناسبة!
منحتني ابتسامة مجاملة كنت أدرك أنها لم تعنيها وأن تفكيرها كان كله عند الموقف الغريب الذي حصل بيني وبين رهف.
وضع رسلان يده على ظهري وقال:.

- دعيني أرشدكِ الى غرفتكِ.
حينها التفتت تلك ال رهف نحونا وقالت بابتسامة لطيفة ولكن كان واضحاً جداً بعض الجمود في نبرتها:
- يمكن للخالة ندى أن تفعل ذلك يا رسلان. أبقى هنا أنا أحتاجك.
رفعت حاجبي بحدة. هل سنبدأ من الان؟ ما هذه السخافة؟ وبدل أن يعترض رسلان وجدته يمد حقيبتي نحوي ويقول:
- أسبقيني أنتِ.

لم أستطع أن أعترض وسحبت حقيبتي وتبعت الخالة ندى بصمت. قبل أن أخرج من المطبخ التفتُ نحوهما فوجدتها تنظر لي وكأنها تنتظر خروجي لتتحدث، حسناً يا رهف. لم تعرفي مع من تورطتِ!
صعدت الى الأعلى وأنا أغلي ولكني لم أعكس ذلك على ملامحي. كانت الخالة ندى تتحدث طوال الطريق وحتى بعد وصولنا للغرفة ولكني لم أركز بأي كلمة كانت تقولها واكتفيت بالايماء برأسي من غير رد. وصلنا الى الغرفة فتركتني بمفردي لأرتاح.

وضعت حقيبة سفري فوق السرير ووقفت أمام المرآة أزفر بضيق ولا أعلم ما يراودني في هذه اللحظة. ولكن ما أعلمه أن بقائه معها في الأسفل وأرسالي نحو الاعلى جعل شيء بداخلي ينقبض بشدة. شيء مستعد الان أن يحرقهما ويراقبها باستمتاع!
بعد عشر دقائق تقريباً دخل رسلان الى الغرفة والابتسامة على وجهه. ولكنها لم تكن بسبب وجودي بكل تأكيد بل من شيء قالته رهف على الأغلب!

كنت أستند بأطراف أصابعي على منضدة المرآة وأنظر إليه بجمود. أقترب مني وحضنني من الخلف وهو يستند بذقنه على كتفي ويسحب نفساً عميقاً من بين خصلات شعري كدت أن أقسم أن أنفاسه كانت الحياة بحد ذاتها لكلينا!
وضعت يدي فوق يداه التي تلتفان من الخلف وترتبطان أمام بطني وقلت بينما ألصق ظهري على صدره وأستند برأسي على جبينه وقلت:
- ماذا كانت تريد؟!
قال بصوت مثقل وكأنه مخدر وبعالم آخر:
- لا تشغلي بالكِ أنتِ!

تنهدت بقلة حيلة وقلت:
- أتمنى. ولكن كل ما بك يشغلني!
شعرت بابتسامته وهو يزيد من ضغط يديه حولي وهمس لي مرة اخرى:
- هل كل ما سنكون معاً سيكون موضوعنا رهف؟!
- أخبرتك أن الأمر ليس بتلك السهولة ولا يمكنني تقبله بهذه البساطة!
أدارني أليه وأحاط وجهي بين يديه وهو يقول:
- لا تتقبليه.
ثم مرر أنفه فوق ملامح وجهي وكأنه يتنفسها وأكمل:
- فأكثر ما يرضيني إنكِ لا تتقبليه!

تبسمت ورفعت يداي لأحيط رأسه وأغمضت عيناي لأقول بهمس مماثل:
- أنا أحبك.
ضمني بقوة بين ذراعيه وقال:
- أعلم، أعترفتِ لي بذلك بيوم خطوبة أبن عمي عصام!
ضحكت وأنا أضربه بخفة وأقول:
- هل عليك أن تذكرني!
قهقه ضاحكاً وعاد لينظر نحوي وهو يحيط وجهي مجدداً بين يداه ويحرك أبهاميه بشكل دائري فوق وجنتاي:.

- أتعلمين ما الذي فعلته لي بيومها؟ لقد قلبتِ كل الموازين وبعثرتني وشتتني وجمعتني. كلها بآن واحد. لقد منحتني الحياة والموت معاً. لا أعلم كيف سيطرت على نفسي وقتها ولم أعترف لكِ بكل شيء ولم أهرع لأضمكِ بقوة ولا أفلتكِ أبداً!
تنهدت بحسرة وأنا أقول:
- يا ليتك لو فعلت!
ثم أكملت:
- ولكن هذا كله لا يهم الان. أنه كحلم سيء قد مضى!

بقي يحدق بعيناي دون أن أشعر أنه سيمل ولو فعل ذلك لأيام متواصلة. أنه يُشعرني كما لو كنت الشيء المثالي في حياته الفوضوية. يشعرني كما لو كنت الوحيدة التي يتنفس من خلالها!
قال بعد لحظات وهو يعيد خصلات شعري خلف أذني:
- لم نتحدث بخصوص قدومكِ. هل يعلم ابويكِ؟!
زفرت بضيق وأنا اتذكر هذا الأمر وقلت له:
- أمي تظن إني بسفرة سياحية. سيجن جنونها أن أدركت إني دخلت العراق وحدي!
- ماذا تعنين؟ هل يرفضان قدومكِ؟!

- مع هذه الأوضاع؟ مستحيل أن يسمحا لي بالتفكير بالوصول الى الحدود!
- وبالتالي؟ كيف سنحل أمر بقائكِ؟!
جعدت ملامحي فوراً وقلت له باستنكار:
- بقائي؟ أنا لن أبقى يا رسلان. هذا مستحيل!
قطب حاجبيه بعدم قهم وقال لي:
- ماذا تعنين؟ هل أتيتِ لإلقاء التحية فقط ثم العودة؟!
- ليس هكذا. ولكن أنت من ستأتي معي. أليس كذلك؟!
سحب يداه فوراً وتراجع خطوتين نحو الوراء وقال لي:
- ولِما على أنا أن اتبعكِ وليس أنتِ من تبقين؟

فقلت فوراً بنفور:
- كيف يمكنني أن أفعل ذلك؟ ألا ترى أوضاع العراق يا رسلان؟!
فقال بعصبية:
- أجل. ولكنه وطننا يا لوجين. ولو عشت به وحيداً وبذلة وفقيراً لا أجد ما اطعم به نفسي وعائلتي فهو أهون بكثير من ألتجئ لبلد غريب يشعرني دائماً إني لا أنتمي له!
- صعب على أن أبقى هنا. عملي ودراستي وأسرتي، كلها هناك يا رسلان!
- وماذا لدي هنا أنا؟ ألا أملك أسرة وعمل؟!

- ولكنك ستجد الفرصة هناك لتعمل أفضل من هذا ويمكنك أخذ أسرتك معك. أما أنا فأن جئت فسأحطم كل ما بنيته وسأتخلى عن أسرتي، فمن المستحيل أن يقبلوا بالعودة الى هنا ولا سيما أن خالي كان في جيش صدام وأمي وأبي كانا من ذوي العلاقة القوية بسياسيّ الدولة. سيقتلونهم فور عودتهم!
- تخلي عنهم وتعالي وحدكِ. تخلي عن كل هذا وابقي معي. ألم أفعل أنا هذا فيما مضى؟ لما لا تفعليه أنتِ هذه المرة؟!

كان نقاشنا حاد بما فيه الكفاية ليجعلني عصبية. ليجعلني أتحامق بكلامي دون أنتبه على ما تفوهت به فعلاً وأنا أرد عليه بعصبية وتهكم:
- ما جعلتك تتركه كان محل البقالة يا رسلان. أما الآن فأنت تطالبني بترك مهنة الطبية التي أسعى لها منذ طفولتي!

بهتت ملامح كلانا بعد هذه العبارة الساذجة وعديمة الأحساس. في الوقت الذي ارتسم الندم على ملامحي كان التجهم يرتسم فوق ملامحه هو. تقدم نحوي وقال بينما يرفع سبابته بعصبية:.

- لم أترك محل بقالة فقط يا لوجين. حين قررت أن أهرب معكِ لم أكن أظن أن حكم صدام قابل للزوال. حين هربت معكِ تركت عائلتي التي لن أراها للأبد. تركت وطني الذي لن تطئ قدمي أرضه ما أن أعبر حدوده، كل هذا لم يكن سيؤثر بي ويجعلني أتراجع عن قراري. فالبنسبة لي أنتِ كنتِ العائلة والوطن وكل شيء، ولكن على ما يبدو إني لستُ كذلك بالنسبة لكِ!

كدت أن ابرر له سذاجة ما قلت وأفسر ما قلت، ولكنه لم يعطني فرصة لفعل ذلك بل قام فوراً بإنهاء جملته وخرج من الغرفة مغلقاً الباب خلفه بعنف. حسناً عملياً هذا أول شجار نخوضه في حياتنا الزوجية!

حلّ المساء وأنا لا ازال وحيدة في غرفتي. لا هو أشفق وصعد لرؤيتي ولا أنا تركت ترددي ونزلت. شعرت فجأة إني لا أنتمي لهم. أشعر ببعض النقم بداخل الخالة ندى اتجاهي لأني تسببت في سجن ابنها لثلاث سنوات وتركته لسنين طويلة دون أن أسأل عن حاله. وكنت أجد أن رهف تبادلني الكره ذاته ولكنها اكثر لطفاً من أن تبين هذا. وربما هي تخشى رد فعل رسلان أن فعلت وتتجنب غضبه، لِما لا أفعل أنا ذلك بحق السماء بدل أن أتسبب الان بتركه لي والذهاب إليها؟ حتى رسلان شعرت أنه لم يعد يعرفني ولا أنا أعرفه وأصبح ينتمي لهن وحدهن. لقد تركني منذ اليوم الاول كل هذه الساعات الطويلة، فما الذي سيفعله بي بعد سنة؟!

ومع هذه الفكرة التي تخاطرت لي مططت شفتاي بضيق وأنا أقول:
- وبكل برود يريد أن أترك كل شيء وأبقى معه في الوقت الذي سيتركني ويذهب لتلك الملونة!
أعلم أنه لقب غريب بعض الشيء ولكنها كانت تملك ألوان الطيف. حمرة وجنتيها واصفرار شعرها وخضرة عيناها. وفوق هذا كله امرأة لطيفة لا ترفض له طلب ولا تعكر مزاجه على ما يبدو. أنها المرأة المثالية للرجال!

طُرق باب الغرفة بينما كنت أجلس على سريري شاردة بذهني بعيداً. زفرت بضيق وأنا أطرد كل أفكاري السوداء وقلت:
- تفضل!
مدت رأسها فقط من الباب بابتسامة واسعة وهي تقول:
- هل يمكنني الدخول؟!
بل هي يمكنني يا عزيزتي رهف أن أغلق الباب الان على رأسك وأحشره به لأقطعه؟!
- بالطبع تفضلي. ذاتاً البيت بيتكم فلِما ستطلبين الاذن؟!
تبسمت وهي تدرك مقصدي فأغلقت الباب وقابلتني في الجلوس على السرير وقالت بلطف:.

- وبيتكِ أيضاً يا لوجين. أن أردته أن يصبح!
رفعت بصري من فوق ذلك الخيط الذي كنت اعبث به وحدقت بها بجمود وبعض الاستغراب وكأني ادركت لِما تلمح فأومئت لي في الحال وهي تقول:
- نعم أخبرني أخبرني!
فقلت بعصبية:
- رائع جداً! هل أنت الصدر الحنون الذي يلتجئ له كلما تشاجرنا أنا وهو؟ وهل سيخبركِ بكل مشاكلنا؟ بصفتكِ ماذا؟!

تبسمت مرة اخرى وتمنيت أن أضع شريط لازق مليء بالغراء على شفتيها لتلتصقا الى الأبد ولا تبتسم لتستفزني!
- أنا أشعر بكِ وأعرف أنكِ تودين حالياً قتلي وشرب دمائي، كل يوم كأس على الفطور!
وبدل أن أنكر وأدعي اللطف وجدتني أصحح لها جملتها:
- بل بعد كل وجبة. هكذا ينصح الاطباء!
ضحكت بقهقهة حتى شككت بصحة عقلها. أو أن تتعمد أن لا تغضب لتغيضني. في الحقيقة مهما فعلت هي كانت ستستفزني على اية حال!
أكملت ضحكها وقالت:.

- لرسلان طرق غريبة ليعرف حجم محبته لدى أحدهم!
قطبت حاجباي بعدم فهم فنهضت واقفة وسحبتني من يدي وهي تقول:
- هيا يا سيدة هتلر لقد حضّرت العشاء دعينا ننزل قبل أن يبرد!
نزلت وانا غائبة الذهن تماماً. أقف حيث جملة رهف الأخيرة، أو بالأصح التي ما قبل الأخيرة، هنالك شيء غامض يجري وأنا البلهاء الوحيدة التي لا تفهمه.

جلسنا على طاولة الطعام حيث رسلان كان في الجهة المقابلة مني وليس بقربي. كانت مائدة مستديرة الشكل ومتوسطة الحجم، يجلس على طرفين متقابلين الخالة ندى ورهف بينما أنا أجلس على يمين رهف ورسلان وابنها يجلسون على يسارها. وبالطبع ذلك الصغير رفض أن يجلس بكرسيه الذي يجاور أمه وأصر أن يجلس بحضن بابا كما يناديه، لذلك، الملونة تركت كرسيها لتجلس هي بجوار رسلان مدعية أنها تمسح بقايا الطعام عن فم ابنها خشية أن يلوث ملابسه بينما يطعمه رسلان رغم أنها كانت تستطيع تأجيل ذلك لاحقاً بعد الانتهاء. أما ذلك المستفز الاخر فكان يتجاهلني تماماَ ويتحدث الى الصغير وهو يضعه على قدمه وينشغل بملاعبته واضحاكه. عائلة سعيدة بحق!

كانوا يتحدثون بمواضيع مختلفة ويذكرون اسماء لم أسمع بها من قبل. زارتنا ام فلان وتوعك ابا فلان وعلينا الذهاب لبيت فلان. اسماء اشخاص ومتاجر وشوارع جديدة لم أسمع بها من قبل. أنا فعلاً لم أعد أنتمي الى هنا. لقد نبذني العراق قبل أن أنبذه. أو كما يقول القيصر نُفيت واستوطن الاغراب في بلدي، استباح الاغراب محلتي وبلدي. وقلب حبيبي وحياته!

شعرت بشيء ينقبض كلما تحركت عيناي عليهم يخوضون حديثهم متجاهلين وجودي تماماً. قد لا أتهم الخالة ندى، وحتى الملونة، بذلك فحديثهم يبدو عفوياً. ولكن أعرف جيداً ان رسلان يحاول خلق مواضيع عشوائية معهن ليغض طرفه عني ويجد سبب ليتجاهلني. أو قد لا يحتاج. فقد كان واضح بالنسبة لهن عدم اهتمامه بي منذ جلوسه بهذا الشكل بعيداً عني ومعاملتي كضيفة غير مرغوب بها!

شعرت بالاختناق من هذا الوضع ولكني أكملت طعامي على اية حال. لم أرغب بخلق موضوع شيق بالنسبة للخالة ندى ورهف ليغتاباني به حين أنهض بضجر من الطعام وأصعد لغرفتي وتبدأ النميمنة بكوني بدأت اتدلل عليه من اليوم الاول. حسناً هن لا يبدوان هذا النوع من النساء ولكن كل النساء تحب النميمة لذلك لا ثقة لي بأحد!

أنهيت الطعام على مضض ولم أعرض على رهف المساعدة بخصوص الصحون رغم أنه لم يكن من اللائق أن لا أفعل، ولكن ما بي من هموم تتجاوز تفكيري باللباقة وحسن السلوك!
صعدت الى الغرفة بحجة إرهاقي من السفر وفرق التوقيت فقط لأبتعد عن هذا الصمت القاتل الذي يستحوذ على رغم ضجيجهم.
ما أن دخلت للغرفة حتى تفاجئت به يفتح الباب ليدخل من بعدي. نظرت له ما بين استغراب وجمود بينما يتجه نحو خزانته ليخرج بعض الملابس!
- هل ستستحم؟!

سألته لأخلق أي كلام بيني وبينه فقال ببرود وهو يوليني ظهره:
- إن لم يكن لديكِ مانع!
- ولِما سيكون لدي؟!
نظر لي باستخفاف وهو يقول:
- كانت عبارة تهكمية بالمناسبة!
زفرت بضيق وقلت بينما أكتف يداي الى صدري:
- هل سيستمر الوضع بيننا على هذا النحو يا رسلان؟!
- أنتِ لن تبقي كثيراً على اية حال. لذلك تحمليه لحين رحيلكِ!
واتجه نحو الحمام الذي بداخل الغرفة فقلت بتلكأ:
- وما أدراك؟ ربما أكون قد غيرت رأيّ؟!

توقف لوهلة دون أن ينظر إلى ثم انطلقت ضحكة قصيرة مستهزئة من بين شفتاه وهو ينظر نحوي ليقول ساخراً:
- غيرتِ رأيكِ؟ تعنين أشفقتِ على وبدأتِ تفكرين بالموضوع؟ هل يعقل أن لوجين عادل بجلالة قدرها ستترك كل شيء من أجل ابن البقال رسلان؟!
فقلت فوراً بحزن وشيء من الندم:
- رسلان توقف. تعلم جيداً إني لم أعني ذلك!
تغيرت نبرته من البرود الى الحدة فوراً وهو يقول:.

- أتعلمين لوجين؟ قد لا تصدقين ولكني حقاً لم أعد أبالي بما كنتِ تعنيه!
وتركني نحو الحمام صافعاً بابه بقوة كما فعل سابقاً مع باب الغرفة. أنه عصبي منذ أن تعرفت به لليوم ولا يوجد لديه أي مجال للنقاش. أنه يعكس الصورة المثالية للرجل الشرقي بحق!

وقفت أمام النافذة المطلة على الشارع أراقب الاضواء البعيدة والخافتة بضجر. لم تعد بغداد مضيئة كما عهدتها. أنها ساكنة ومملة وكأنها تخاف أن ترفع صوتها فينهار ما تبقى منها. أصبحت موحشة. ولكن للآن لم تفقد سحرها. لا يزال قلبي يخفق معها وبأسمها. لا تزال تُشعرك كما لو كانت أمك التي تحتضنك رغم ألمها. بغداد التي هجرتها وتركتها مثل البقية ليستحوذ عليها غيري دون أن أطالب بها. مثلما فعلت برسلان!

خرج بعد عشر دقائق من الحمام وهو يرتدي بنطال بيتي قصير من الجينز وفانيلا سوداء بنصف أكمام. هل هو الوقت الملائم لأقول أنه يبدو وسيماً حقاً؟!
أستمررت بالتحديق به ولكنه لم يمنحني حتى نظرة خاطفة. استلقى فوق فراشه وبدأ بالعبث بازرار هاتفه كما لو كان يكتب رسالة لأحدهم
- هل يمكنني أن أحصل على رقم هاتفك؟!
قلتها بعفوية ولكني تفاجئت به يضحك فوراً ثم يكتم ضحكته بصعوبة فقلت باستغراب:
- هل قلت شيئاً مضحكاً؟!

هز رأسه بالنفي ثم قال:
- لا. ولكنه بدا غريباً فقط أن فتاة تطلب رقم شاب. هنا في العراق يحصل العكس!
تقدمت لأجلس بجواره وأنا أكتف يداي الى صدري وقلت:
- اوه حقاً؟ وهل جربت هذا من قبل؟!
نظر لي بعيون باسمة ثم عاد ليحدق بهاتفه بينما يمد يده نحوي ويقول:
- أعطني هاتفك
سحبته من المنضدة المجاورة لي وناولته اياه ليمسكه بيد وهاتفه باليد الاخرى وبدأ يتسجيل عدة أرقام. لحظات حتى أعاده لي وهو يقول:.

- سجلت فيه رقمي وأرقام بقية العائلة في حال أحتجتِ إلى أي شيء.
- وهل من ضمن العائلة...
قاطعني فوراً:
- أجل. رقم رهف أيضاً.
زفرت بضيق وأنا أتمتم:
- لو كنت أوشك على الموت فلن أتصل بها لأسأل عنك!
لم أنظر إليه ولكني شعرت به يكتم ابتسامته. وهنا فجأة خطرت على بالي عبارة رهف. لرسلان طرق غريبة ليعرف حجم محبته لدى احدهم. هل يعقل أن هذا المستفز، وبطريقة ما، يتعمد استفزازي برهف ليثير غيرتي؟!

لم أنتبه على نظرات المحقق كونان التي كانت تتلبسني وأنا أحدق به إلى أن قال لي وهو ينظر لي باستغراب:
- ماذا هناك؟
فقلت بارتباك:
- لاشيء. لا تشغل بالك!
ثم قلت فوراً متلافية الغوص بهذا الموضوع:
- مع من تتراسل على اية حال؟!
- زميلي في العمل.
- هل تطلب إجازة؟!
- أحاول أقناعه بأن يشغل مكاني غداً
- وأن لم يقتنع؟ ستذهب؟!
نظر لي وقال بنبرة ذات معنى:.

- هل يزعجكِ أن أبتعد عنكِ لمسافة تبعد ساعة مع احتساب الازدحامات المرورية؟!
فقلت بانزعاج:
- كفاك تصرفات طفولية يا رسلان!
فقال بتهكم:
- تصرفات طفولية؟ أهكذا تفسرين الأمر؟!
فقلت بانزعاج والعبرة تخنقني:
- هل سنتشاجر من جديد؟ على مر التسع سنوات التي مرت تخيلت ألف طريقة للقائنا كيف ستكون، ولكني لم أخمن أبداً أنه سيكون بهذا السوء وأنك سترفض التحدث ألي وأن تحدثت فستفعل ذلك بعصبية!

بقي يحدق داخل عيناي الدامعة وشيء من تأنيب الضمير ينعكس داخل عيناه وكأنه هو أيضاً لم يحسب للقائنا هذا الحساب.
أشحت وجهي عنه وأنا امسح دموعي فترك هواتفنا جانباً وتفاجئت به يلف يداه من حول خصري ويستكين برأسه على صدري ويقول بصوت ثقيل كالذي يشعر بالنعاس:
- إذاً لننسى ما حصل الان. دعيني فقط أشعر بالانتماء مجدداً قبل أن تغربيني برحيلك!

شعرت بقلبي يعتصر مع عبارته هذه فلففت كلتا يداي حول رأسه وضممته إلى بقوة أكبر بينما أنفي يستقر بين شعيرات رأسه الندية أثر استحمامه الحديث فرطبتها أكثر بدموعي وأنا أقول:.

- أن خانني التعبير في طرح فكرتي يا رسلان فلا تصرخ بوجهي وتتخاصم معي. لا، بل أصرخ بوجهي ولكن لا تتخاصم معي وتكف عن الحديث فهذا يقتلني. أن اخطأت أحضني بين يداك ولا توليني ظهرك. لا تتجاهل حزني وبكائي. لقد هربت من العالم بأسره واخترتك لأتوارى عنهم. فهل ستتركني أيضاً؟!
ضم يداه حولي أكثر وقال:
- من المستحيل أن اتركك. تعلمين إني لن أفعل. ولكن فكرة رحيلكِ مجدداً تفقدني صوابي!

سكت من غير تعليق. لم أدافع عن نفسي ولم أعترف بذنبي، لقد صمتُ وحسب وكأن الخرس ملجأي الوحيد كي لا يقتلني النقاش وهو يدور حول دائرة مفرغة مركزها ذنبي أنا لا غير!
- رسلان؟!
قلتها بخفوت وقد لاحظ رسلان ذلك الخوف الذي يشوبها فرقع رأسه عن صدري ونظر داخل عيناي مباشرةٍ منتظراً تتمة سبب ندائي، فازدردت ريقي وأنا أقول بتردد:
- ماذا. ما الذي حصل له؟!
قطب حاجبيه بعد فهم فقلت بصوت مرتبك:
- كا. كامل!

استرخت ملامحه وزفر أنفاسه وهو يقول:
- لقد تم قتله بعد سقوط النظام مباشرةٍ وقبل أن يتمكن من الهرب. لقد آذى الكثير من الناس لذلك كان لديه الكثير من الاعداء الذي ينتظرون الفرصة للأنتقام منه، ولكن ما الذي ذكركِ به؟!
- لم أنساه للحظة.
ثم وضعت يدي على صدره حيث آثار السياط وكأني أشاهدها من خلف الملابس وقلت:
- ولا أنت فعلت ذلك!
أمسك أصابعي التي امررها على صدرها وقبّلها برقة وقال:.

- بالنسبة لي لا أعتبرها علامات أندم عليها. أنها اعترافاتي لكِ بمقدار حبي وإلى أي مدى سأذهب بهذا الحب لأحميكِ وتكونين لي، أنه قربان بسيط قدمته لأحظى بكِ.
ثم لمس لي وجنتاي بيده وهو ينظر لعيناي بحب هامساً:
- ومقارنة بما ربحته. هذه الآثار لا شيء!

كنت أغوص داخل عيناه ولمسته الناعمة فوق وجهي لدرجة إني نسيت عمّا نتناقش من الأساس. كان قلبي ينبض بعنف للحد الذي تخيلته سيقف بعد لحظة أو ينسى كيف ينبض. كيف لحب مرت عليه كل هذه السنين وخاض كل هذه المعاناة أن يستمر بالنمو بهذا الشكل الربيعي دون أن يذبل؟!

استيقظت صباح اليوم التالي ليقع بصري على ملامحه القريبة من وجهي وهو يغط بنوم عميق بينما انفاسه تداعب بشرتي. تبسمت ومددت أصابعي لأمررها على وجنتيه فتحرك بانزعاج قليلاً ولف يديه حولي أكثر وعاد ليغط بالنوم الذي لم يستيقظ منه من الأساس. تبسمت وعدت لأمرر أصابعي بهدوء على وجهه مروراً بتلك المنطقة الفاصلة بين حاجبيه والتي ولا أراها مسترخية دون أن يقطبها إلا نادراً، يا لعصبيته وجنونه التي أحبهما كثيراً!

ألصقت شفتاي برقة على جبينه ومنحته قبلة طويلة وسحبت نفسي رويداً من بين يداه لأخرج من الغرفة بهدوء دون أن يستيقظ.
نزلت نحو المطبخ لأجد الخالة ندى هناك تضحك مع رامز الذي تجلسه في حجرها وتطعمه فطوره
- صباح الخير.
قلتها بينما أدلف إلى المطبخ فنظرت لي بابتسامة بشوشة وهي تقول لي:
- صباح الخير يا ابنتي. نوم الهنا. أتمنى أن نومكِ كان مريح؟!
جلست على الكرسي المجاور لها وقلت:
- أجل كثيراً. شكراً لكِ!

ثم نظرت نحو الصغير الذي يحدق بي بعيناه الخضراوين الواسعة فتبسمت وبعثرت شعره بيدي وقلت:
- مرحباً ايها الملاك. ما اسمك؟!
تبسم بخجل وخبئ وجهه داخل حضن الخالة ندى التي ضحكت على خجله وضمته إليها أكثر. نظرت نحوها وقلت:
- كم كان عمره حين تزوجا؟!
- بضع شهور فقط.
- أي لا يعرف أن.
فقاطعتني قبل أن أنهي جملتي:
- لالا. لا يعرف!
ثم تنهدت بحسرة وهي تقول:.

- رهف المسكينة تفكر كثيراً باليوم الذي سيفترق به عن رسلان. لا هو ولا رسلان سيتحملان ذلك. أنه متعلق برسلان كثيراً لدرجة أن كثير من البعثات خارج البلد قد فوتها رسلان فقط لأن رامز لا يمكنه أن يفارقه لأكثر من يومين.
فقلت وأنا أظن أنها ستفرقه عن رسلان بسبب ظهوري في حياته:
- ولماذا ستفرقه عن رسلان؟ هل بسبب عودتنا لبعض؟!

- لالا. ليس من أجل هذا بل من أجل سفرها. من جهة هي تريد أن يتم السفر والزواج بأسرع وقت من اجل أن يعتاد رامز على حازم ولن تضطر في المستقبل أن تخبره عن أبيه الحقيقي. مع أحترامي لكِ يا ابنتي ولكن والد رامز كان رجل حقير ومجرم لذلك هي تريد أن تمحو ذلك الماضي تماماً. ولكن من جهة أخرى تفكر كيف سيفترق رسلان ورامز عن بعضهما لاسيما أنها ستهاجر الى أمريكا والسفر إلى هناك ودخول أمريكا سيكون صعباً وقد لا يتمكن رسلان من زيارتهم.

كان من المفترض أن أقاطعها في بداية حديثها حين كانت تتحدث بجمل غير مفهومة عن زواج وسفر وحازم. ولكن هل جربت أن تكون في صدمة وفضول بآن واحد؟ حقاً لم أتمكن من التحدث بشيء وأنا الان فقط أدرك معنى جملة رهف التي قالتها لي. لقد كان ذلك الأحمق يتلاعب بي منذ البداية ورهف المتعاونة كانت تسايره في خطته ليحرقوا لي أعصابي!

رغم الغضب الشديد الذي شعرت به في لحظتها إلا إني لم أجعل الخالة ندى تشعر بذلك وادّعيت إني أعرف كل شيء بخصوص رهف. لقد كنت أخشى أن أعلن عن صدمتي فتتوقف عن سرد الأحداث لي بعد أن تدرك أن رسلان اخفاها عني.
قلت مدعية الاعتيادية:
- هل تطلقت منه وتزوجت من رسلان لتتخلص منه؟!
فقالت مسترسلة بشرح التفاصيل لي:.

- لا ليس هكذا. لقد كان زوجها، لا يرحم الله روحه أو جسده، بحزب البعث وكان ذو رتبة قوية في الحزب. تزوجها قبل سقوط النظام بسنة وكان يسيء معاملتها كثيراً ويضرب المسكينة كل يوم حتى أنه كسر أحد اضلاعها ذات مرة ولم تتمكن من فعل أي شيء لأنها لم يكن لديها أي أحد سوى أبيها الذي كان في السجن انذاك مع رسلان. بعد السقوط أخذها وهرب الى الأردن فلم يستطع أبيها الوصول إليها أو أن تعود هي إليه وبقيا هناك إلى عام 2005. شاء الله أن يُصاب زوجها بمرض السرطان وكانت حامل في شهرها الثالث. مات هو بعد مدة قصيرة لا تتجاوز الخمس شهور فعادت هي حينها للعراق نحو أبيها. ولكن هذه الفتاة المسكينة اعطاها الله الجمال وأخذ منها الحظ. مات والدها بعد فترة ولم يتبقى لديها أي أحد سوى أبن عمها حازم والذي يعيش في أمريكا منذ سنين وكان يحبها من قبل أن تتزوج ولكن كان صعباً عليه أن يعود للعراق في زمن صدام لأن أسرة رهف كلها متهمة بخيانة نظام صدام ولذلك أخذ عمها أسرته وهرب ووقع أبيها ضحية سجون صدام. لذلك اضطرت أن تتزوج بعد دخول أبيها للسجن فلا يوجد أحد ليقف بجانبها. بعد أن سمع حازم بخبر عودتها طلب الزواج منها بعد أن تنجب وتنهي عدتها. شاءت الظروف أن يموت والدها يرحمه الله لتعود وحيدة مجدداً ولم يتمكن حازم من أتمام إجراءات سحبها نحو أمريكا ليتزوجا، كونها كانت مرتبطة بأحد جنود صدام الحزبيين ذو الرتبة العالية. بدأ معاملة سحبها وبدأ التحقيق في ماضيها ووكّل أفضل المحامين فقط ليتمكن من اثبات بياض سجلها. وهو على هذه الحال منذ ثلاث سنوات. لم يتمكن رسلان مع هذه الأوضاع السيئة التي يمر بها العراق أن يترك رهف، آمانة صديقه المقرب، وحيدة ولم يتمكن من جعلها تعيش معنا ببساطة دون نسب يجمعها بنا.

ثم تنهدت بحسرة قبل ان تكمل:.

- فالناس لم تعد ناسنا ذاتهم الذين عرفناهم فيما مضى يا ابنتي. ظهر كثير ممن لا يخافون الله وممن يغتابون وينافقون ويرمون البلاء على المحصنات. اصبح سوء الظن أسهل بكثير من حسن الظن وأن بقيت امرأة من دون رجل في منزل رجل من دون امرأة فالناس سيبدأون بسرد شتى أنواع القصص والاشاعات عنها. لذلك عقدنا قرانهم عند الشيخ وأصبحت أمام الناس زوجته. وايضاً من اجل أن لا يترتب عليها أثم ببقائها معه في المنزل أو تتضايق من لبس الحجاب بشكل دائمي منه ومن أبيه. لذلك تزوجا شرعاً فقط ولم يتزوجا قانونياً كي لا يعيق أمر المعاملة التي يقوم بها حازم والتي كادت تنتهي ان شاء الله وستذهب الى أمريكا في نهاية هذه السنة.

منطقياً فمي لم يكن مفتوحاً. ولكن أنا كنت أشعر به مفتوحاً على أوسعه لدرجة سيتسع لابتلاع رسلان ورهف في هذه اللحظة ومضغهما بقوة بين اسناني ثم تمريرهما لمعدتي كل تحل الباقي من تحليلهما بعصارتها الصفراء وسلخ وجوههما الساخرة والضاحكة تلك، حسناً لأتوقف هنا دون أن أتمادى بعقلي الأجرامي الغريب الأطوار!
- أبنتي؟ هل أنتِ معي؟!

قالتها الخالة ندى بسبب تحديقي بها كالبلهاء. أو ربما كان واضح على نظراتي الخطط الشيطانية التي أرسمها بعقلي الآن!
وقبل أن أرد على الخالة ندى وأجد سبباً مناسباً لهذا الجمود المفاجئ، قاطع لي صوتي صوت رهف الناعم والناعس وهي تدخل الى المطبخ قائلة بكل هدوء وتفاؤل صباحي:
- صباح الخير!
ردت الخالة ندى تحيتها بلباقة فالتفت اليها أنا بدوري وقلت بابتسامو مبالغ جداً بلطافتها بينما أرد عليها:.

- صباح الخير يا حبيبتي الغالية رهف صباح الخير!
طرفت بعيناها ببلاهة ونظرت نحو الخالة ندى وكأنها تسألها ما بالها هذه فنهضت من فوري وسحبتها من يدها لأجلسها قسراً في مكاني وقلت:
- لا بد إنكِ جائعة غاليتي رهف بعد نوم الليل الطويل ذاك. سأعد لكِ الفطور.
- أأ.
- لالا. لا تقولي أي شيء عزيزتي. لقد أتعبتكِ كثيراً البارحة بتجهيز العشاء ومن ثم غسل الصحون وحدكِ لذلك دعيني أعد من أجلكِ الفطور. أنا أصر!

نظرت لي بتشكيك بادئ الأمر ثم قالت بتردد:
- حسناً. إن كنتِ مصرة عزيزتي لوجين!
- مصرة كثيراً عزيزتي رهف. كثيراً!
واستدرت عنها أتوعدها بسري واتجهت نحو الطباخ لأبدأ بأعداد الفطور. لم ترفض طلب ذلك الأحمق المجنون لأنها السيدة اللطيفة أليس كذلك؟ إذاً لأستغل أنا هذا اللطف وأنتقم مما فعلاه. ولابدأ بها!

وضعت طبق البيض المخفوق أمامها بعد خمس دقائق مع كوب من الشاي الساخن. ولا تزال تنظر لي بتشكيك واستغراب. وهي محقة بذلك على اية حال!
جلست على الكرسي المجاور لها ورسمت أكثر ملامح بريئة أجيدها مع أبي حين اطلب منه شيء لأجعله يوافق وقلت بنبرة فتاة يتيمة الابوين وتعيش مشردة في الملاجئ:.

- أتمنى من أعماق قلبي أن يعجبكِ طبق البيض خاصتي. أعني أنا أعرف إني فاشلة في الطبخ ولستُ بمثل مهاراتكِ ولكن أتمنى أن ينال أعجابكِ!
وها قد نجحت بأخراج تلك اللطيفة التي تسيطر عليها وهي تقول لي فوراً في محاولة منها لمواساتي:
- بالطبع سيعجبني حبيبتي ما هذا الكلام؟ كيف لن يعجبني؟

وأخذت قطعة خبزة وأخذت لقمة من البيض لتتوقف عن المضغ فوراً وتدمع عيناها وتحمر وجنتيها. حسناً كنت أتوقع رد فعل أكبر مع ملعقتان كبيرتان ملح وملعقة كبيرة فلفل أسود!
نظرت لي بعيون تكاد تبكي معها فطليت ملامحي بوجه اليتيمة من جديد وكأني أنتظر رأيها بفارغ الصبر وقلت بنبرة بريئة:
- كيف هو؟ هل أعجبكِ؟!
نظرت لي الرقيقة بشفقة وأحسست بضميرها يتحرك اتجاهي حين شاهدت فكيها يعودان للعمل بصعوبة وتقول بنبرة مختنقة:.

- أكاد أبكي من لذتها!
أدّعيت التأثر والأمتنان لها. ولكني لم اطلق سراحها بل جلست أشاهدها تمضغ بقية البيض وأنا أشك أنها بعد دقائق ستفقد وعيها!
بعد دقيقتين طلب رامز من الخالة ندى أن تلاعبه في الحديقة فرضخت له وخرجا. انتظرت لحظة خروجهما من الباب وقلت فوراً بابتسامة:
- إذاً كيف حال حازم يا رهف؟!

أول ما نطقت أسم حازم قامت ببصق الشاي الذي في فمها وسعلت بشدة نتيجة وقوف اللقمة داخل مريئها فطبطبت على ظهرها وأعطيتها كأس ماء بارد وقلت مدعية التأثر:
- سلامتكِ من الشر غاليتي. لقد أصابتكِ العين والعياذ بالله!
نظرت لي وقالت تحاول الهرب:
- سأذهب لأرى رامز بدل أن يعذب جدته!
اجلستها قسراً مرةٍ أخرى وأنا أقول:
- من رامز يا أم رامز؟ أنا من سأجعلكِ رامز الان وأُنسيكِ كيف تنطقين أسمكِ أنتِ وذلك الوغد رسلان!

فقالت فوراً تحاول أن تتملص من الموضوع:
- أسمعيني أولاً. أنتِ تعرفين أن رسلان استغلالي وعديم الضمير.
- وبعد؟!
- أنا أنسانة ضعيفة جداً أمام الذهب ولكن الخالة ندى أصبحت توبخني كلما اشتريت قطعة جديدة لأني ابذر أموالي وكل الأموال التي يعطيني أياها رسلان لي وليس لرامز على المصوغات الذهبية والخالة ندى قالت أن هذا يكفي.
- ما دخل هذا بكذبتكما؟!

- المشكلة إني رأيت أم نجوى جارتنا قد اشترت أسورة جديدة وجاءت الحقودة لتريني إياها لأنها تعلم إني ضعيفة أمام الذهب وتعلم أن الخالة ندى قد منعتي. فذهبت و.
وسكتت وهي تنظر لي ببراءة علِّ فهمت الأمر فهتفت بها:
- و؟!
فأكملت في الحال:.

- ذهبت واشتريت اسورة أجمل منها سراً. ولكن رسلان اكتشف أمري وبقي يهددني أنه سيخبر الخالة ندى. وحين جئتِ أنتِ وقرر أن يفعل ذلك هددني أما أن أشترك بكذبته أو أن يخبر الخالة ندى بشأن أسورتي وتبقى لشهر كامل توبخني!
طحنت اسناني بغيض أكاد أطحنها هي وقلت باستياء ربما بدا مضحكاً لأنها كانت تبدو بالكاد تكتم ضحكتها:.

- هل تعرفين ما الذي حصل لي حين عرفت أنه متزوج؟ هل تعرفين مقدار الغضب والسخط والحزن والذي تولد بداخلي كلها بآن واحد؟!
رسمت البراءة داخل عينيها لعل هذا يؤثر بي، ولكنه لم يفعل بل قمت بأخذ قارورة الماء التي كانت قربي وصعدت راكضة نحو غرفة ذلك المستفز الثاني!
اول ما وصلت اليه قمت بسكب القارورة الباردة عليه فاستيقظ شاهقاً بفزع فقلت فوراً:.

- أجل هذا هو شعوري بالضبط حين عرفت بأمرك أنت ورهف. وكأن أحدهم أفزعني بقارورة ماء بارد كهذا!
بقي يحدق بي لثواني غير مستوعب ما يحصل ثم أطلق ضحكة بقهقهة بينما يعيد إلقاء نفسه على الفراش فقلت بغيض:
- رسلان أنا لا أضحك. هل تظن أن التلاعب بمشاعري لعبة؟
أوقف قهقهته للحظات وقال بينما يظل محتفظاً بابتسامته العريضة:
- أجل. ولعبة مسلية كثيراً أيضاً!

حدقت به ببلاهة فنهض عن السرير حاملاً معه منشفته وتقدم نحوي وقال بابتسامة استفزتني:
- بعد سنوات من الحرمان كنت اريد الارتواء من هذه الغيرة والحب والتملك. كنت أريد أن أعيشه وليس أن أشعر به فقط. كنت أتلذذ بهذا الحب وهو يعذبكِ لأنه كلما أحرقكِ كلما بدوتِ أجمل!
ثم مرر عيناه بحب على ملامحي المذهولة والمأخوذة بكلامه ثم ثبت عيناه داخل عيناي وقال:.

- من الأفضل أن تبتعدي عن طريقي إن أردتِ. لأن الأمر لو كان عائد لي ما كنت سأسمح لكِ بالتحرك خطوة. لذلك ابتعدي دام الأمر لا يزال عائداً لكِ!
ومر من جانبي ورحل وكأنه لم يكن أبداً على مسافة انشات مني. لم أكن أدرك لحظتها ما كان يقصد رسلان بالضبط. هل كان يعني الابتعاد عن طريقه في تلك اللحظة؟ أم الابتعاد عن حياته؟ ولكن ما أعلمه أن هناك جرح بداخله مني لن يبرأ بسهولة!

(رسلان)
مر اسبوع علينا بحلوهِ دون مرّه. كانت أجمل أيامي وهي معي.
استيقظ صباحاً على ملامحها القريبة مني ورائحتها التي تحتلني، أو استيقظ على صوتها وهي تهمس بحب قرب اذني.
لم أنسى ولكني تناسيت كل غضبي منها وعتابي وأردت أن أعيش كل لحظة معها دون أن أهدرها. لقد أهدرت الكثير من عمري بعيداً عنها ولم يعد بي طاقة للمزيد، فليتأجل عتبي منها لإشعار آخر!

ولكنه كان أسبوع فقط قبل أن تعيدني للجحيم مرة اخرى، كنت أجلس في السيارة خلف المقود أطالع الطريق من خلال نظارتي الشمسية القاتمة التي تحجب عيناي الخائبة وتستر خلفها كل نظرات انكساري، بينما هي كانت تجلس بالمقعد المجاور لي لا تخفي بكائها ولا تحجب عني صوت نحيبها ولا تتردد في الافصاح عن مشاعرها مثلي. كانت تكسر نفسها أمامي في الوقت الذي أخفي انكساري عنها. وكأنها تحاول أن تثبت لي أنها تتعذب أيضاً وليست عديمة المشاعر اتجاهي!

- رسلان؟ أرجوك قل شيئاً!
رددت بصوت ثقيل دون أن أنظر لها:
- لا شيء يُقال يا لوجين. لا شيء من حقه أن يحل المسألة دون أن يجرح أحد فينا!
تنهدت قبل أن أكمل:
- نحن نقف هنا منذ نصف ساعة من دون جدوى. إنزلي نحو طائرتكِ قبل أن تفوتكِ.
- رسلان أنا.
وهنا نظرت لها وأنا أقول بحدة:
- لوجين لا تهمني أياً من تبريراتكِ. هل تظنين أن قلتِ أي شيء الان فستخمدين النار التي بي وتغلقين جرحي؟ دامكِ غير موجودة معي فجرحي موجود!

ثم قلت بألم:.

- أنا أحبكِ يا لوجين. هل تعرفين ما معنى أحبكِ؟ يعني إني سأكون أنانياً ومتملكاً. يعني إني سأحرمكِ من العالم بأجمعهِ لأحظى بكِ واحرم نفسي أيضاً لأكون قربكِ، أنا لا أريد تبريرات لرحيلكِ. هل تعرفين شيئاً؟ تباً لتبريراتكِ أنها لا تعنيني. أنا أريدكِ أنتِ فقط. أما أن تكوني قربي أو لا أريد سماع شيء آخر، خروجي معكِ صعب وسيستغرق وقت غير معلوم. ولكن عودتكِ الى هنا سهلة. فأيهم تظنين القرار الأنسب؟!

انفرجت شفتيها كادت أن تبرر من جديد فقلت بحدة أشد:.

- أعرف. لا مستقبل لكِ في العراق ولا تناسبكِ أوضاعه ولن تألفي العيش به بعدما دمروه، نعم تشوهت ملامحه ولكنه ذاته. أناسنا يا لوجين ومعارفنا واصدقائنا وحتى الهواء ملكنا. في الغربة لا شيء به لنا، في المستقبل حين أعود مع ابني من مدرسته أريد أن أجعله يمر من قرب سوق الكاظمية لأحكي له كل يوم قصة سقوط صندوق التفاح بسببكِ. أريد أن آخذه نحو بقالتنا وأخبره عن عدد المرات التي جئتني فيها ونبض قلبي لكِ، أن آخذه نحو شارعنا وأحكي له لحظة اعترافكِ لي، هذا تاريخي يا لوجين. حين أذهب معكِ للغربة فلن يبقى تاريخ لي ولا ذكريات ستخطر على بالي كلما شققت الطريق في سوق الكاظمية أو لفحتني رائحة شاي مقهى العم سمير أو سمعت صوت راديو معطل كراديو العم يحيى، أنا كلي هنا يا لوجين وأنتِ كذلك. أنا لا أنتمي للعالم الذي جئتني منه ولن أستطيع التأقلم معهُ!

عصرت عيناها بقوة لتخرج ما تبقى من الدمع فأدركت انها تعاني في اتخاذ قراراها وانها ما بين نارين. وهذا اكثر ما اوجعني وخيب ظني. أنا في مستوى كفة الميزان ذاتها مع وظيفتها ولا أعلى بشيء عليها.
كززت على أسناني بغيض وقلت بعصبية كانت واضحة:
- أنزلي نحو طائرتكِ لوجين!
تأتأت شفاههها مرة اخرى تكاد أن تتحدث فنهرتها بحدة:
- بحق السماء أنزلي فحسب!

لحظات سكن فيها المكان إلا من صوت أنفاسنا حتى سمعتها تكسره مرة اخرى وهي تقول بنبرة ضعيفة:
- وداعاً رسلان!
ونزلت من السيارة ولم يتبقى سوى اثار عطرها الذي لا يزال عالقاً في روحي.
افترقنا في يومها وكأننا لم نحب بعضنا ولم نحارب الدنيا للبقاء مع بعضنا، يمكنني أن اختصر شعوري بكلمة واحد. كنت خائب الظن فحسب!

ربما نحن في مرحلة ما سننضج فجأة في لحظة. سنرى ما لم نراه سابقاً. ستتجلى الرؤيا كثيراً للحد الذي تتمنى فيه لو أنك بقيت اعمى.
هل أحبها؟ أجل افعل. وربما هذا أكثر ما يوجعني في الأمر. أن قلبي لا يزال متشبث بها ولا يمكنني اقتلاعها من داخلي!

لم استطع في يومها العودة مبكراً الى المنزل. كانت مجرد ايام قليلة التي تواجدت فيها لوجين في حياتي مرة اخرى بعد سنين من الغياب. ولكني لم اعتاد الغياب واعتدت وجودها ورائحتها بقربي كل ليلة.
جبت شوارع بغداد لساعات طويلة وكأني أبحث عن بقايا طيفها لعلها تكون قد تركته لي. ولكن لا شيء قد تبقى سوى ذكريات غابرة في عقلي!

دقت الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل والشوارع شبه خالية من المارة والسيارات ولا شيء لأحشر نفسي وسطه وأضيع دون أن يلاحظني أحد فألملم بقايا ذاتي وأخفي وجع روحي. شعرت أن أحزاني أصبح عارية للملأ والجميع سيلاحظ ذلك العاشق المجنون الذي يجوب الشوارع لا لهدف معين فقط ليهرب من رائحة. أو يبحث عن رائحة. لا أعلم!
وصلت نحو منزلنا وركنت سيارتي عند الباب ولم أملك المزاج الكافي للنزول وفتح الباب لأدخلها.

سارت قدماي الثقيلة ووقفت كالابله أمام الباب لا أعرف هل افتحه؟ أم أنتظر لحين خروج أحدهم ليسحبني من يدي ويدخلني قسراً؟ ربما بعد ساعة أو عشر ساعات لا فرق!
دفعت الباب بيدي ووجدته مفتوح من الاشاس فدخلت ونظراتي تلتصق بالارض وكأني أخاف أن ترفعها فتصطدم بأحدهم فيسألني عن سبب هذا الذبول فأضطر للحديث!
دخلت نحو المنزل فوجدته يغط بسكون موحش بدا لي رغم أنه على هذا الحال كل يوم في مثل هذا الوقت.

وضعت قدمي على السلم فسمعت صوت امي يناديني من الصالة، تنهدت بتعب وتمنيت حقاً لو أنها قد توهمت بالاسم ولا تقصدني أنا لأكمل مسيري نحو الأعلى، ولكن صوتها انطلق مرة اخرى بأسمي فزفرت بقلة حيلة وتوجهت نحو الصالة لأجدها هناك تؤدي صلاة الليل كعادتها. اقتربت منها وقبّلت رأسها بتعب وفلت بصوت مجهد:
- مرحبا امي.
مسحت بإحدى يديها على وجهي وبالاخؤى تقبض على مسبحتها البيضاء وقالت:.

- مرحباً يا روح أمك. أين كنت حبيبي؟ لقد تأخرت اليوم؟
اغمضت عيناي بتعب وقلت:
- كان لدي عمل.
- لا يجوز أن تترك زوجتك كل هذا الوقت. وكذلك رامي سأل عنك كثيراً. لم يتبقى الكثير ويفارقك المسكين عليك أن تقضي المزيد من الوقت معه!
زفرت مرة اخرى بتعب وانا اقول وبعض الضيق يعتمر في صدري:
- حسناً أمي سأفعل سأفعل. سأصعد لأرتاح.
وودعتها ورحلت وسؤال خطر على عقلي. منذ متى ورهف تنتظرني؟ أو أن أمي توبخني لأني تركتها؟

ولكن تعب روحي وجسدي منعني من مداولة السؤال في رأسي كثيراً لذلك لم ابالي، حتى فتحت باب الغرفة!
هل عساكم تذكرون شعوري قبل أسبوع من الان؟ ذلك الشعور الذي يكتنفنا حين نرى شيء ليس من المفترض أن يتواجد أو أن يُرى امامنا.
لقد كانت هي، مرةٍ اخرى!
كانت بالوضع ذاته تتمدد على السرير وتغط بالنوم كالملائكة. هل أحلم؟!
أم هو واقع آخر قد حقق حلمي وجعلني اراها؟!

تقدمت قدماي الثقيلة بعجز وتردد نحوها أكاد اركض لحظة وأكاد اتوقف لحظة اخرى اراقبها من بعيد خشية أن اقترب ويتلاشى سرابها...
وجدت نفسي أجلس على حافة السرير قربها وأمد يدي مرةٍ اخرى نحو وجهها ولكنني مررتها على ملامحها من غير أن ألمسها، ولكن أنفاسها الهادئة قد لامستني...

قرّبت وجهي من وجهها الى ان احتدمت انفاسنا واستنشقتها لينتابني شيء من اليقين من انها هي. وقبل أن ألمس وجهها وجدت رموشها الكثيفة تنفصل عن بعضها كما حدث سابقاً تماماً وتطلعت بعيناي للحظات قبل أن تستوعب وجودي وتبتسم وتقول بصوت لا يزال ثقيلاً من النوم:
- هل عدت؟!
تبسمت بدوري وقلت بصوت خافت:
- لا. لا زلت في الطريق!
- حسناً يا ظريف أيقظني حين تعود!
وعادت بكل بلاهة لتغمض عيناها فصرخت بها:
- لوجين؟!

فتحت عيناها مفزوعة فقلت فورا بابتسامة:
- أحبكِ!
تبسمت بخجل ورفعت يداها لتحيط رأسي المنحني عليها فتقربني منها اكثر وهمست قائلة:
- انتظرتك طويلاً يا رسلان!
- لِما لم تخبريني إنكِ لم تذهبي؟
- لا أعني انتظاري لك اليوم، أعني ما انقضى من عمري وأنا انتظرك، بعد كل هذا الانتظار كان سخافة مني أن أرحل!
مررت اصبعي برقة فوق شفتيها وقلت بهمس:.

- إذاً عليكِ أن تقرري الان. لأنه بعد خمس دقائق لن أسمح لكِ بالرحيل حتى وأن أردتِ هجري.
هزت رأسها رافضة وهي تجيبني بهمس مشابه:
- لقد تعبت من الابتعاد. حان الوقت لنقترب رسلان!
- واسرتكِ؟!
- اتصلت بهم. لقد فقدت امي اعصابها وجن جنونها مسبقاً.
- وأبيكِ؟!
- ساخط لأني قررت ونفذت من غير استشارتهم. ولكنه غير معترض على بقائي
- وعملكِ؟!
- سيتم قبولي هنا بكل سهولة.

وقبل أن أطرح سؤالي الاخر وضعت اصابعها فوق شفتي لتغلقها وقالت:
- هل ستستمر بالتحقيق فقط؟!
وتبسمت بعد جملتها فضحكت وقبلها اصابعها الساكنة على فمي وقلت:
- منذ متى فسدت اخلاقكِ حبيبتي؟!
ضحكت وقالت:
- هذه مساوئ أن تبتعد عني عزيزي.

ضحكت واغرقت رأسي في عنقها لتأسرني رائحتها وتنقلني نحو عالم اخر. هذه السعادة التي غمرتني بلحظتها كانت مشابهة للسعادة التي أحسست بها يوم اعترفت لي بحبها ويوم ارتبطت بها وعقدنا قراننا. بماذا يمكن أن يشعر أحدهم حين يكون بين يداه الشخص الذي أحبه طوال سنين؟!

بالنسبة لي. كنت أشعر بالاكتمال. نعم أنا متأكد إني سأتشاجر معها كثيراً من الان فصاعداً. ولكن سيكون ما أجمله من شجار حيث أنا وهي سنكون معاً كل يوم وكل لحظة لما تبقى من عمرنا. ألن يشعركم هذا بالاكتمال؟!

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة