قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل العشرون

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل العشرون

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل العشرون

- أنتِ أشبهُ بِـ كحلةٍ بغدادية، وأجمل من شَارع المُتنبي لِأنكِ إمرأةٌ ذات عيون أدبية وفي عُمقها رواياتٌ عاطفية وعلى شفتيكِ حِبرٌ من المَملكة العثمانية ولكنّه بِاللّون الوردي، أحبّكِ -
ـ دوستويفسكي.

بعد مرور شهر..
توقفت أمام معرض اللوحات الخاص بجاسم، تطلعت إليه بتمعن قبل أن تثب إلى الداخل، فغرت فمها بانبهار وهي تُوزِع نظراتها على السقف متأملة
الإضاءه الموزعة بطريقة فنِّية لتوضيح الألوان والرسومات جيدًا، حيثُ كان هُناك العديد من اللوحات الفنية الرائعة التي نالت إعجابها..

توقفت أمام لوحة فتاة ريفية، حزينة الوجه دامعة، الأعين نظرتها يملأها الإنكسار، ولا تعرف لما شعرت بهذا الحنين و الإنتماء تجاهها بسبب نظرتها الحزينة، تذكرها بنفسها بقدرٍ كبير..
تبسمت واستدارت صائحة للرجل الذي مره من جانبها: لو سمحت انا عايزة اللوحة دي.
ألقي نظرة سريعة على اللوحة ثم لها وأعتذر باحترام: للأسف مش للبيع..

عبست ملامحها وأحبطت وهي تعود للتحديق بها بحزن، ليبتسم الرجل ويضيف كي لا تحزن: بس ممكن أحكيلك حكايتها..
لاحت ابتسامة على شفتيها وهي تبعد خصلات شعرها القصير النحاسية خلف أذنها تناظره باهتمام ليتابع: البنت دي إسمها ريمة وكـ..
ـ ريمة؟، قالتها مستعجبة وهي تحدق بها ثم عاجلته بسؤالها: ممكن أقابل جاسم؟
اعتذر ثانيةً وهو يبتسم بأسف: للأسف مسافر القاهرة لو تحبي أساعدك في أي حاجة اتفضلي!

ضغطت على جانب شفتيها بأسنانها بقوة ثم طلبت: ممكن اعرف ازاى اتواصل معاه أو اخد رقمه؟
أعتذر ثالثا أصابها بالحنق: للأسف مانع إن حد يا خد رقمه، اللي بيحتاجه بيجي المعرض يشوفه فيه لما يكون موجود..
أومأت بتفهم ثم قالت بنبرة هادئة: لما يرجع تبقي قوله إن ريمة محتاجة تتكلم معاه وانا هتصرف وهوصله..
حرك شفتيه وكاد يتحدث لكن قاطعه صوت غرام الطفولي المتذمر: مش هنمشي بقى يا عمتو؟

ربتت على شعرها بحنان وهي تطمئنها: لأ هنمشي يا حبيبتي خلاص، شكرا ليك..
ومضت في طريقها إلى الخارج مع غرام وهي تفكر بعمق لأن قُصيّ سيعنفها لو علم أنها عادت دون أن تخبره، لكنها أخبرته قبلا وأكدت أنها ستأتي بعد شهر! هو من إلتهي ولم ينتبه لمرور الوقت..
تذمرت وهي تضرب الأرض بقدميها ووجها يعلوه الحمرة من الحرارة: انا حرانه اوي الجو هنا حَر قلعيني..

قهقهت ريمة وهي تراقبها ثم جلست القرفصاء وخلعت عنها المعطف المبطن الثقيل ووافقها الرأي قائلة: عندك حق الجو هنا دلع بالنسبة للي كُنا عايشين فيه..
ـ ودلوقتي هنروح فين؟، سألتها بحزن طفولي وهي تقوس شفتيها..
قرصت وجنتها بخفة وهي تستقيم واقفه قائلة بحماس: هنروح القاهرة عشان نشوف مامي..
قفزت وهي تضحك بفرح ثم سألتها بلطافة وهي تحرك أهدابها: عيد ميلادي بكره هتبقى معايا بجد؟

أومأت ريمة وهي تداعب وجنتها بحنان ثم أمسكت كفها بين يديها ومضت في طريقها إلى القاهرة..

القاهرة في وسط المدينة..
في أحد العمارات الممتلئة بمعامل التحاليل الطبية وعيادات الأطباء المشهورين..

دخل وليد عيادته الخاصة بابتسامته الخلابه المعتادة التي تسرق لُب الفتيات، طريقة سيرة الواثقة، ارتفاع حاجبه الدائم بغرور، وسامته المُجفلة لمن يراها، نظراته العميقة التي تخترق دواخل من يحادثه، صفيره باستمتاع عِندما يكون عقله رائق خالٍ من زخم من الأفكار، ثلاثيني ولم يغزو الشيب شعره، بل لا يملك شعرًا باختياره، تهور العشرينات، أصلع ويملك ذقنا طويلة وشارب كث، تبسم بعبث عِندما تناهى إلى مسامعه صوت مساعدته وهي تتحدث في الهاتف بتكاسل..

ـ ألو، أه هيوصل النهاردة، معادك الساعة 5 مع السلامه..
ـ الله الله بتتكلمي من غير نفس كمان بتبوظى شُغلي؟!، وبخها بمزاح متصنعًا الجدية..
هبَّت واقفة بتفاجئ قائلة بابتسامة مُرحبة: دكتور وليد حمد لله على السلامة..

ابتسم ملاطفًا وجلس مقابلها براحة، يوزع أنظاره المتلهفة على عيادته بشوق كمن ترك حبيبته لفترةٍ طويلة، فهو مُحبًا لعمله، والجزء المفضل لهُ هو جلوسه والإستماع إلى المشكلات المستعصية التي تواجه بني البشر..
صاح فجأة عِندما تذكر شيءً أفزعها: صح عملتي فرحك ولا لسه؟

تبدلت معالم وجهها لأخرى حزينه وهي تقول: لسه فرحى آخر الأسبوع الجاي و بحاول أخلص الرفايع بسرعة عشان هي اللي معطلاني، و النهاردة كُنت نازلة أجيب بس حضرتك كلمتني وقُلت إنك راجع..
ارتفع حاجبه أكثر وسألها باقتضاب: أصدق أني أنا معطلك؟
اتسعت عيناها ونفَّت سريعًا بخجل: لا طبعًا يا دكتور مش قصدي انا بس باحكيلك أحزاني..

أمرها بحزم لا يليق مع ابتسامته وهو يخرج حافظة أمواله: خدي دول وأنزلي كملي حاجتك ولما تلاقي بنت تشتغل مكانك ابعتيها..
رفضت تلك الأموال وهي تزيحها من أمامها: أنا مشتغلتش لما كُنت مسافر حضرتك مقدرش اقبلهم..
تجاهل قولها وضرب فخذيه بكفيه وهو يقف ثم طردها برفق: يلا براا والمرة الجاية اشوفك جاية بـ أبنك معاكِ
تبسمت بعذوبة ثم شكرته بامتنان: بجد مش عارفة أشكرك ازاي..

قال بابتسامة لطيفة: هاتيلي واحدة بدالك وهتكوني خدمتيني خدمه العُمر
احتجت تلك المره بسبب شعورها بالمسؤولية: بس مين هيشتغل معاك الاسابيع اللي جاية؟
ـ انا همَّشي نفسي متقلقيش ومبروك مقدماً، باركها بابتسامةٍ مبهجة وقبل أن ترد كان يتابع بتضرع: بس قبل ما تمشي اعمليلي قهوة الحاجة اللي هفتقدها حقيقي..

أنحنت له برأسها بلباقةٍ وهي تبسط يدها كأنها تحادث أميرًا بينما تقول بطاعة: من عنيا الاتنين، وذهبت لتحضرها بينما هو دلف إلى غرفة مكتبه..

ـ أنا زهجت، صاحت لمار بضجر وهي تدور بالمقعد وبيدها بعض الأوراق تلوح بهم أمام وجهها، لكن لم تجد ردًا، منهُ يتجاهلها كالمعتاد بسبب ثرثرتها و حنقها الذي لا يعرف متى ينتهي، هتفت متبرمة وهي تقذف الأوراق من يدها: أنت مش بتشتغل معايا ليه ورامي كُل الشغل عليا؟

رمقها بطرف عينيه من خلف نظارته بينما يهتف بتكبُر مُتقن: بس يا موظفة بدل ما اطردك من النُص بتاعي، نعم لقد زاح سعيد عن طريقة، لا بل ألقي به بعيدا وأصبح من الماضي الآن..
رفعت كلا حاجبيها بتفاجئ ثم ضحكت بتقطع وهي تسأله باستنكار: ايه ده؟ بتقولي انا الكلام ده؟ بتتكبر عليا وانا اللى قولتلك سجِلُّه! انا صاحبة الفضل عليك يا ناكر الجميل؟!

كان يقلب عينيه وهو يهز رأسهُ منتظرا انتهاء تلك الدراما التي كانت تطرب بها مسامعه لشهرٍ كامل كُل يوم دون رحمة لأذنيه..
ـ خلصتي خلاص يلا كملي شُغل وأنتِ ساكته، قال بلا مبالاة وهو يعود للعبث في الهاتف وثوانٍ فقط و تأفف بضيق هادرًا: أنا عايز أرجع البلد..
وبثانية وجد مقعدها يلتصق بمقعده سريعًا تلاه قولها بنبرة متمنيه وعيناها تلمع كـ طفلة بريئة: خُدني معاك بليييز..

دفع كرسيها بعيدًا عنهُ بضجر مغمغمًا بحنق: تيجي فين اتنيلي..
صرَّت على أسنانها بغيظ وهي تراقبه ثم قالت بأمر كأنها تنتقم منهُ: كده! طب أنت اللي هتدفع حق القهوة ماشي بقالي شهر بدفع أنا اومال لو مكنتش اتفقت معاك أنك تدفع كُنت هتعمل ايه؟
هتف وهو يضيق عينيه ويكاد يضربها بلوحة مفاتيح الحاسوب الذي أمامه: يا باندا يا باندا ده أنتِ عاملة زي البلاعة أبص جنبي ارجع ملاقيش القهوة وكمان ادفع!

برمت شفتيها باعتراض وهي تطرف بعينيها ثم قالت ببراءة: ما أنت هتسيبها تبرد الله!، رشقها بنظرة ساخطة لتكشر بوجهه وثانيةً أخرى كانت ستخرج لسانها لهُ لكنها امتنعت وتذكرت شيء مهم فأخبرته: وعلى فكرة بقى الراجل اللي بيراقب رنا قالي إنها بتروح كُل خميس night club في وسط البلد بتقابل حد هناك..

همهم باهتمام وهو يمسح على ذقنه بكفه بنظرة غامضة ثم وقف ولملم حاجياته بينما يقول: كل حاجة هتبان، أنا طالع دلوقتي لأن عندنا إجتماع ولما تخلصي شُغل تبقى روحي لنادين تساعديها ممكن؟، قال الأخيرة وهو يعلم أنها لن ترفض فقد توطدت علاقتهم كثيرا في تلك الفترة..
سألت باهتمام وهي تنتقل من مكانها وجلست على كرسيه: أساعدها في ايه؟

ـ النهاردة عيد ميلاد ليلى، قالها بابتسامة جذابة لتضيق عينيها بخبث وهي تغمزه بعبث: حلو حلو بس مالك فرحان كده ليه؟ هتتقدملها ولا حاجة؟
زفر بإحباط وهو يرمقها بنظراتٍ ساخطة لأنها ذكرته بما يحدث حوله، لأنها الآن حماته ليس أكثر من هذا، فلا يحلم..
التفت دون الحديث وتابع سيره لكن استوقفه قولها: تبقى اطمن على العربية قبل ماتركب لا يكون سعيد حاطط قُنبلة هنا أو شايل الفرامل من هنا كده يعني..

سحق شفتيه بِغل بسبب تلك المستفزة لقد جعلته يتشائم لكنه هز كتفيه وقال بلا مبالاة فهذا آخر ما يكترث لها: ولا يهزني..
تبسمت وهي تدلك عنقها قائلةً بجزعٍ منهُ جعلته يرغب بالفتك بها: ماهو يا عمّار أنت مش هتلحق تتهز أنت هتتفجر على طول!
ـ إلهي تتفجري من كُتر الاكل يا بعيدة روحي، قالها بضجر وتركها تضحك عليه غادر لكن توسعت عيناها فجأة ولحقت به تسأله متلهفة: آدم هيجي عيد الميلاد؟ ما تجيب رقمه اعزمه أنا..

دفعها من وجهها بحنق وهتف بضجر قبل أن يغادر: اقعدي يا بومة..
ـ هيك بنكون اتفقنا وان شاء الله يصير كِل شي مثل ما خطتنا ليلى..
ابتسمت ليلى وقالت بلطف: ان شاء الله..
ـ انا سمعت حكي هيك انه صارت مشاكل بينك وبين سعيد و شاركتي حدى تانى صحيح هالكلام؟، سألتها باهتمام
خللت ليلي أناملها داخل شعرها وهي تومئ بخفة ثم قالت ووجهها يمتقع أثناء تذكر ما حدث ذلك اليوم: اه حصلت مُشكلة كده لغيت معاه كل حاجة بسببها..

ـ وكيف لقيتي شريك بـ هاي السرعة ليلى فيديني من خِبرتك؟
ابتسمت ليلى وحركت شفتيها كي تتحدث لكن عمّار اقتحم غرفة المكتب بدون طرق كما أعتاد أن يفعل لكن رنا لم تلحق به بعد أن أصبح رئيسًا عليها ولأنها سئمت الحديث معهُ بسبب سخريته والتحدث معها بتدني..
تقدم من المكتب بخطواتٍ ثابتة دون أن ينتبه لتلك الجالسة تتفحصه بتدقيق متسائلا بنبرة هادئة أصبحت تصاحبه من شهرٍ تقريبا: الإجتماع مش يلا بينا؟!.

ـ هاد هوي موهيك؟!، سألت بابتسامة أنثوية مدللة..
رفع عمّار نظارته ومال بجذعة مصافحًا لها بابتسامة خلابة: ولو مش هو هبقي هو عمّار الصعيدي..
ابتسمت بدلال وهي ترحب به: أهلين عمّار سُمعتك سابئتك اتشرفت فيك كتير..
جلس على الكرسي مقابلها وهو يبتسم مجاملًا: الشرف ليا يا؟
ـ أروى مدام أروى، تناهى إلى مسامعه الصوت الذي يتوق سماعة، نافذ، حانق، غاضب، ليتها تغير الباردة..

اعتلي ثغره ابتسامة جانبية واستأنف رافعًا التكليف بينهما: مش باين عليكِ خالص يا أروي..
ـ هاد من ذوقك عمّار، الصراحة كان بدي استثمر هون بـ مصر ومو بعرف من وين إبدأ فيك تساعدني؟
ـ تكرم عيونك حبيبتي أكيد فيني، قالها بعبثٍ خالص ممازحًا وهو يبتسم بوجهها رغم أنهُ لا يفهم شيء بهذا العمل لكن آدم معهُ..
ضحكت بصوتٍ رقيق مُدلل وهي تثني عليه: كتير مهضوم عمّار ما أحلي عيونك..

ومادخل عيناه بهذا تلك الـ ستصفعها؟ كان هذا سؤال ليلى المسكينة التي تكز على أسنانها، سحقت شفتيها بقوة أسفل أسنانها وهي تهز قدميها بتوتر والشرار يتطاير من عينيها تجاهه تخترقه بغضبٍ جامح، لا يحق لها أن تشعر به..

ألقي عليها نظرة سريعة مستمتعه وهو يرفع حاجبه الأيسر وكأنه يخبرها ماذا ومادخلك أنتِ؟ أخفضي بصرك قبل أن أفقأ عيناكِ الساحرة هذه ، نظر لأروي وقال معتذرًا: دلوقتي عندنا اجتماع لكن ممكن تاخدي رقمي و تتصلي في أي وقت تحتاجي فيه حاجة..

ـ أكيد رح اتصل، أومأ لها وأملاها رقمه بابتسامة مريحة، فرؤيتها غاضبة تغسله من الداخل، يشعر أنهُ لا يهدر هذا الوقت هباءًا لأنه سيحزن لو كان مازال لا يعني لها شيء إلى الآن، فصبره بدأ ينفذ ولا يُريد أن يصدر منها تصرفًا يجعله ينبذها لأن كرامته لن تسمح لهُ أن يظل أكثر من هذا مع مزيدًا من الاهانات..
حملت أروى حقيبتها ووقفت تصافح ليلي بابتسامة: اتشرفت فيكِ كتير ليلي..

بادلتها ابتسامتها بأخرى جاهدت كي تظهر طبيعية: أنا أكتر مدام أروى..
انتقلت إلى عمّار تصافحة بابتسامة أكثر أنثويه: تشرفت عمّار..
ـ أنا أكتر، غادرت تحت أنظار عمّار الذي قرر متابعة هذا الابتذال وتصنع الاهتمام فهي من تطرة للتطبع بطباعٍ أخرى..
عاد بنظراته إليها لتلتقط عينيه ذلك العصير الذي أمامها بفضول، أخذ الكوب وارتشف منهُ رشفة بتردد ثم قال بابتسامة بلهاء بعد تذوقه: تُفاح! كُنت فاكرها خمرة..

رفعت طرف شفتيها بسخط تجاه هذا التافه ليزداد أكثر عِندما طلب منها: اشربي الباقي عشان تجري ورايا، يا إلهي ذلك الفلاح يُصدق تخاريف الأمهات القديمة، فكانت تسمع تلك الأقاويل كثيرا في طفولتها من أم مريم مُربيتها..
وبغضبٍ مكتوم وسألته: مخدتش عنوانها ليه؟
قال ببساطة استفزها أيَّما استفزاز: هتتخض مني كده مش بالسرعة دي بس لما تكلمني هسألها حاضر تابعي معايا؟

ـ عمّاار، كانت نبرتها مُحذرة أكثر من كونها غاضبة ليرد بابتسامة وهو يذكرها بمكانتها جيدا: نعم يا حماتي؟ في حاجة؟
سكتت ثوانٍ تذكر نفسها بهذا قبل أن تتمادى معهُ كأنهُ أحد ممتلكاتها، أومأت ومعالم وجهها تتبدل لأخرى باردة: لأ مفيش يلا بينا هنتأخر، وحملت حقيبتها و تقدمته في السير دون أن تبس بحرفٍ أخر..

فتح لها باب السيارة بلباقة وهو يتنحى جانبًا، صفقة خلفها بعنف رغمًا عنهُ بسرعة عِندما ضرب وميضًا قويا عينيه، استقل السيارة سريعًا، أخرج منديلا ورقيا من الداخل ونظف به عيناه التي أدمعت وهو يشتم بهمس غاضب فهذا ما كان ينقصه عينيه لا تتحمل..
انتابها القلق وهي تراقبه بتحفظ ثم سألته بهدوء: عمّار في حاجة؟

هزَّ رأسهُ بنفي ثم ترجل من السيارة وبحث حولها عن ذلك الذي إلتقط لهُ صور فهو متأكد أنهُ خرج من آله تصوير قوية، زفر عِندما لم يجد شيء ثم استقل السيارة وذهب..
أسندت رأسها فوق النافذة وظلت تتأمل الطريق وهي تفكر في أحداث الشهر الماضي بنوعٍ من الخيبة..

ففي صباح اليوم التالي من خطبة نادين كما اتفقوا، صعد إلى مكتبها كما يفعل، فكانت حالتها مزرية منهكة ومريضة لكنها أبت أن تستسلم أو تعترف أنها مريضة لكن شحوبها بشكلٍ ظاهر فضحها، أدرك أنها لن تتركه يُمرضها ولن يصنع لها كماداتٍ باردة لهذا فضل مصارحتها بالحقيقة بدلا من تضييع الوقت، ولأنه يعلم أيضًا أنها لن تصدق هذا بعث لها التسجيل في رسالة وتركها تسمعها وحدها، لأنهُ لا يُريد رؤيتها تبكِ..

وقد كان هذا بمثابة جميلًا لها لأنها من فرط شعورها بالخيبة بكَت بقهر وهي تسمع حديثه عنها وعن الأموال وهي تستعيد ذكرياتها القديمة معهُ، لقد كان حقيقيًا بطريقة لا تجعلها تصدق أن خلف كلماته هذا الشخص البغيض، حسبت أنهُ ظهرها وحاميها وسيظل بجانبها دائمًا في هذه الحياة القاسية، لكنها استفاقت على صفعة الحياة مجددًا وهي تذكرها بكونها وحدها وستظل وحدها ضائعة منبوذة لا تعرف سوى الوحدة..

هاتفته وطلبت منهُ المجئ بكل هدوء، فأتي سعيا مرتديا وجه القلق والخوف الذي يخصها لتسمعه التسجيل وهي تنظر لهُ بحيرةٍ كانت تنهش داخلها و تمنت أن ينكر، أن يتحجج بأي شيء قد يشعرها ولو بقدر قليل من الإهتمام من ناحيته، لكنه صارحها بكل شيء بتبجح وأزال هذا الوجه سريعا وكانت تلك الصفعة الحقيقة التي تلقتها، مؤلمة أكثر من صفعات عمّار لها، حديثها معهُ لم يتخطي الخمس دقائق بعد أن أخبرته بانتهاء كُل شيء بينهما في العمل وأعطته أمواله بكل هدوء وبقيت رنا وحدها هي عينيه في الشركة حتى يتصرف، لأنه سيؤذيه بشدّة ذلك الذي حسب نفسه ذكيًا وتسرع في فضحه..

طلبت عمّار بعدها ولأنهُ لاحظ حالتها لم يتناقش أو يسألها في أي شيء فقد أطاعها ووافقها على كُل ما تُريد وهو لم يكن يستمع لها بقدر تأمل وجهها الحزين بقلب منقبض بسبب شعورها بالخذلان، ومنذُ ذلك اليوم وهي هادئة معهُ، يتبادلان أطراف الحديث معًا باحترام وخصوصًا عنِدما بدأت تطلب منهُ الإتيان معها للاجتماعات المهمة لكونه شريك مهم وهذا ما غيَّر نظرتها لهُ بسبب تعقله ورزانته وسط رجال الأعمال المهمين و لباقته في الحديث وثقته اللامتناهية، فأين كان كُل هذا؟ اكتشفت به كثيرًا من الأشياء الجيدة التي كانت غافلةً عنها أو رفضت رؤيتها من البداية لكنها بدأت في الظهور شيءً فشيء، وما جعلها تقتنع به أكثر مقابلتها لـ قُصيّ في منتصف الشهر في أحد المقاهي، فالتفكير في كون عمّار طبيب كان يفتك برأسها، ووجب أن تقابله كي تفهم..

رفعت رأسها من فوق النافذة، نظرت لهُ مرة أخيرة متفحصة وهي تعود للشرود في تلك المحادثة التي خاضتها مع قُصيّ..
تأففت بغيظ وهي تحدق في قُصيّ الذي يبتسم باستمتاع وهو يُراقب ذلك الفضول المُشع في عينيها لتقول بغلظة: هتفضل تضحك كتير ومش هتتكلم؟!
أسند وجنته على راحة يديه و سألها بنبرة هادئة وهو يبتسم: اتكلم في ايه؟
قالت بتردد وهي تحدق في قدح قهوتها: كلمني عن عمّار..

ارتشف من قهوته وهو يبتسم وكم رغبت في لكمه بسبب ذلك التشفي الذي تراه في عينيه أنهُ سعيد بحيرتها، سعيد..
ـ عمّار ياستي مش وحيد عنده أخ أسمه آسر عايش في أمريكا مع أمه اللى هي أم عمّار مش زوجة ثانية ولا حاجة، ومن قبل ما تسألي هي زمان سابت عمّار وهو صغير مع أبوه وخدت آسر ومشيت وتحديدًا في الأيام اللي بدأت فيها مشاكل مع عيلتك وعليتهم..
قالت بتردد وهي تضيق عينيها: أصدق هربت!.

هزَّ رأسهُ بخفة وهو يمط شفتيه وتابع: متهيألي كده، عمّار بعدها كمل حياته مع أبوه وطبعًا مرات عمهُ حُسنه هي اللي ربته، وبعدين جه القاهرة ودخل ثانوي هنا وكان قاعد عند حد من قرايب أمه..
سألته بحيرة: يعني أمه مش من الصعيد؟، أومأ واستأنف بتهكم: أكيد لو من هناك مكنتش تتجرأ وتعمل كده وخصوصا أنها مش متجوزة أي حد دي جوازة الهنا بس معرفش السبب اللي خلاها تاخد واحد وتسيب التانى ولا عمّار نفسه يعرف..

مسدت جبهتها وهي تفكر ثم سألته: بقيتوا صحاب إزاى؟
ابتسم بحنين وهو يتذكر تلك الأيام، أيام البراءة وبدأ بالحديث: عمّار كان دحيح أوي يعني مكنش في دماغه حاجة غير المذاكرة ومكنش بيدي لحد فُرصة كان أشطر واحد في الفصل وده كان بيضايقني أنا، فقررت اتنمر عليه قام ضربني، بس ومن ساعتها بقينا أصحاب..

ـ وآدم، ضحك باستمتاع وتابع: آدم كان هادي جدا و نظراته كانت باردة كُنت ابصله أحس إنه بيقولي أنت ولا حاجة يالا أنت تافه يا فاشل، كان يجي الصبح ويفضل لأخر اليوم ساكت ميفتحش بؤه بكلمة ولا كان مصاحب حد كان في حالة وده ضايقنى عشان مبحبش التجاهل فـ خدت نفسي وروحت اتنمر عليه لقيت عمّار ضربني ودافع عنهُ بس ومن ساعتها بقينا صحاب و توبت عن التنمر، عمّار جاب مجموع كبير ودخل طِب وانا وآدم اترمينا فى تجارة بس كده..

ضحكت بخفة على قصتهم ثم سألته باهتمام: طب هو مشتغلش دكتور قبل كده؟

نفي وبدأ يقص عليها وامارات الأسف ترتسم على وجهه كلما تعمق أكثر في الحديث: لأ طبعًا اتخرج واشتغل فترة في مستشفى كبيرة وكان مبسوط جدًا بشغله، كان شاطر جدًا ده لو كان فضل شغال لحد دلوقتي فيها كان زمانه ماسك المستشفى نفسها، لو تشوفيه زمان وتشوفيه دلوقتي مش هتعرفيه! لكن أقول ايه أبوه السبب هو اللي بوظ كُل حاجة، مهنش عليه يسيبه يعمل حاجة بيحبها، كل شويه كان يتصل بيه تعالي شوف مش عارفة ايه، تابع ايه كُل شويه، حاول عمّار يوفق بين الشغل ومطالب ابوه بس لقى نفسه مقصر في الشُغل جامد ومعرفش يكمل بالنظام ده قام ساب الشُغل وبقي عايش بين هنا وهناك ولما حس بالفراغ فتح معرض عربيات هنا وسابني اشغله أنا لأن أبوه بردو كان بيطلبه كتير أكتر من الأول، وبدأ بعدها الزن أتجوز أتجوز هتفضل أعزب لحد أمتي عايزين نشوف ولادك وكلام من ده، سافر شرم مش عارف السبب هو قال في حاجة مهمة رايح يعملها وجاي ولما جه لقيته بيقول أنه لقي عروسة وهيتقدملها وبعدين جه يقول دي أمها حلوه اوي هاتجوز أمها..

تخضب وجهها بحمرة خفيفة إثر قوله الأخير ثم سألته بارتباك حاولت إخفاءه: طيب وهو مفكرش يرجع الشُغل؟

أبتسم بعبثٍ ظهر جليا على معالم وجهه وهو يقول بمكر: هو رافض بس لو حد مهم مثلا زيك كلمه ممكن يرجع ده طبعا بعد ما يقولك هو ويحكيلك كل حاجة لأني حاسس إني خاين عشان حكتلك ولو عرِف بجد احتمال كبير نخسر بعض لسانك ياريت تربطيه لحد ما علاقتك تتحسن بيه اكتر من كده، وصمت يُراقب تعابير وجهها الهادئة واستطرد: وبصي مش عشان عمّار صاحبي بس بجد مش هتلاقي زيه تاني هو ولا وِحش ولا قاسي ولا كل اللي في دماغك بس الظروف هي اللي عملت فيه كده، أصل ايه اللي يجبره ويخليه يستحمل أسلوبك معاه وميردش عليكِ؟

احتجت مدافعة عن نفسها لأنها ولأول مرة تشعر أنها مخطئة: هو اللي أتعامل من غير احترام الأول..
رفع كلا حاجبيه وقال مستفهما: عشان خدتيه في الرجلين أنا واحد بكره عيلتك هكرهك من غير ماعرفك ليه؟ أنتِ عملتي معاه كده!.

ـ طيب خلاص، قالت بحنق وهي تقطب كلا حاجبيها بضيق عاقدة يديها أمام صدرها بعدم رضى ليقول بانتصار وهو يبتسم: انا عندي حق ومش عارفه تقولى ايه؟ متشوفيش عمّار بعينك شوفيه بقلبك هو غلط في ليلي بس مغلطش في ندى!، ازدردت ريقها وهي تضغط على قدح القهوة، فما الفرق هي واحدة..

أخذ شهيقا طويلا من الأعماق، ثم لملم أغراضه وهو يقف كي يغادر لكن استوقفته لهفتها في السؤال بشفقةٍ استشفها: طيب وهي مامته مرجعتش تاني ولا شافها؟!
هزّ رأسه بنفي واجاب: آسر ساعات بينزل لكن هي لأ، أومأت بتفهم والأفكار تتلاعب داخل رأسها ليقف كي يغادر لكن أوقفته جعلته يجلس ليقول وهو يبتسم: قولي أنك عايزه تعرفي قصة حياته بقي بس للأسف مش معايا الحاجة حُسنه لو قابلتيها اسأليها..

ـ هو أخر سؤال بس وبسيط، عمّار نظرة ضعيف من زمان ولا دى نظارة ستايل كده عادي؟.
تنهد وقال وهو يتذكر بتشوش فذاكرته لا تسعفه كثيرا: أنا مش عارف حصل ايه بالظبط بس هو عمل فيها عملية قبل كده، لازم امشى بقى، متنسيش، شوفيه بقلبك..

وغادر وتركها غارقة في دوامة أفكارها، فماذا حدث كي تتركه؟ ولمَ لم يقابلها ويفهم يحق لهُ أن يعرف لمَ تخلت عنهُ! وهروبها هل لهُ دخل بمقتل أبناء عمه؟ لمَ هربت في هذا الوقت تحديدا؟ ولمَ الغبي ترك العمل؟ ولمَ لايتحدث بصراحة ويظل يكذب هل يُحب أن يُقلل الجميع من شأنه؟! والكثير الكثير من الأفكار كانت تعصف برأسها..

خرجت من شرودها على صوت هتافة بإسمها، ناظرته بتشوش كأنهُ انتزعها من عالمٍ آخر سائلةً باستفهام: في حاجة؟

ـ وصلنا، أومأت وهي تستعد للنزول ليترجل هو سريعًا بدوره ويفتح لها الباب بلباقة قبل أن تفعل، وضعت قدمها خارج السيارة وهي تترجل باستقامة لتهب رياح قوية داعبت خصلات شعرها المصففة بقوة، تخدرت حواسهُ إثرها لثوانٍ وهو يستنشق عبيرها الأخاذ الذي لفحة مع نسمات الهواء أذهبت بعقله، استفاق على صفق الباب بقوة لكن ليس بيده بل كانت هي من صفقته وتركته ودلفت داخل المطعم، زفر وهو يستدير وذهب خلفها محادثًا نفسه بالصبر فقط الصبر..

بينما في هذا الوقت تحديدًا في غرفة نادين..

كانت تذرع الغرفة من ركنٍ لأخر وهي تشد شعرها بقوة كـ طائر جريح، تبكِ بانهيار وهي تفكر، وتفكر، عقلها سينفجر، يُجب أن تجد حلاً لمشكلتها يُجب أن تنهي هذا لأنها لم تعد قادرة على التمثيل وتصنُع اللامبالاة أكثر من هذا، داخلها يحترق ولا أحد منتبها لها، هل لتلك الدرجة اتقنت دورها ولم تلاحظها حتى والدتها التي تستطيع معرفة ما يضايقها قبل أن تتحدث! لم تلاحظ حتى أنكسارها، ممتنه لأنها لا تلاحظها لأنها لو فعلت لن تتركها قبل أن تعرف القصة كاملةً و لا تستطيع فعل هذا، لا تستطيع خذلانها بعد كل ما عاشته من أجلها، وهذا ما يقهرها هي حتى لم تنجح في صون نفسها من أجلها..

توقفت عن الحركة عندما تناهى إلى سمعها صوت رنين هاتفها، ركضت والتقطه من فوق السرير بسرعة وردت بلهفة مستنجدة بها كمن وجدت مخدرها بعد عناء: سهى حصل ايه؟ وصلتي لحاجة ولا لسه؟
أتاها صوت صديقتها الأسف: مفيش يا نادين أسفة..
تزايد نحيبها وهي تلطم وجهها صارخةً بها بجنون: يعني ايه هعمل ايه انا؟ مش هيصدق لو قلت لهُ مش هيصدق..

هدئتها صديقتها بشفقةٍ وهي تشعر بالذنب لأجلها: لازم يصدقك يا نادين أنتِ مالكيش ذنب والله انا من ساعتها وانا بدور ومش سايبه حد بسأل كُله، لم تقابل قولها سوى بالنواح والبُكاء وهي تجلس أرضًا بجانب السرير منهزمة خاسرة تفكر في مصيبتها، أغلقت الهاتف وظلت محلها تبكِ دون التحرك حتى رن مجددًا..

التقطته وتحدث بصوتٍ مبحوح: الو، لمار! حاضر هلبس وجاية، لأ محضرتش حاجة لسه هشتري ابعتيله رساله قوليله يأخرها شويه، مع السلامة، أغلقت الهاتف ودلفت إلى دورة المياه تغسل وجهها، خرجت بعد دقائق، توقفت أمام الخزانة تنتفي ملابس كي تذهب وتشتري الكعك والزينة من أجل عيد مولد والدتها، فهذه المرة الأولي التي ستحتفل بها لأنها ترفض الاحتفال دوماً وأخبرت عمّار بهذا لكنهُ أصر على الاحتفال بها..

في المطعم الآن..
انتهى الاجتماع بسلام وحان موعد الغداء..
الجميع ذهب عداها هي وهو فقط، انشغل بالهاتف قليلا يقرأ الرسالة التى أتته من لمار جعلته يبتسم فهذا يعني المزيد من الوقت معها، سيأخذها معهُ إلى مكانٍ ما سيجعلها تجرب شيءً لم تفعله قط..

استفاق من شروده بسبب شعوره بشيءً حارق يسقط فوق فخذه، الحساء، هبَّ واقفًا بسرعة وهو يلعن من تحت أنفاسه لتشهق النادلة وتسارع بأخذ منديلا من فوق الطاولة وهي تعتذر بخوفٍ من أن تطرد وبدأت بتنظيف بنطالة بسرعة لكن يد ناعمة أوقفتها، أخذته ليلى من يدها ببعض الحدَّة قائلةً من بين أسنانها بابتسامة انحسرت غير قادرة على الظهور: حصل خير شوفي شغلك أنتِ..
أومأت قائلة بامتنان: شكرًا..

ابتسم عمّار ابتسامه عابثة منتظرًا أن تنظف هي لكنها فاجأته واخرجته من حلمه الوردي بقذفه بوجهه وهي تقول بجمود: نضف نفسك أنت صغير؟، يبدو أن الهدوء لن يطول بينهما..

أمسكه قبل أن يسقط ثم ضمه بقوة راغبًا في خنقها به لكن ليس اليوم بالتأكيد، تركها ودلف إلى دورة المياه ينظف الملابس لتجلس فوق مقعدها وهي تنفخ أوداجها بغضبٍ والنيران تندلع داخل صدرها زاحفةً حتى أطرافها فلن تجلس تبعد عنهُ النساء، فلن تسير معهُ في الطريق مُجددًا وجوده مع لمار في المكتب أهون، لتنشغل بـ لمار، هذه ماقصتها معهُ يلتصق بها معظم الوقت أيضًا؟!.

مال على بنطاله أمام الحوض ينظفه ليخترق أذنه صوت صراخ رجل وهو يطرق الباب دورة المياه بقوة موبخًا تلك التي تختبأ داخله: أنتِ يا مها الزفت أخرجي بدل ما أكسر الباب ده عليكِ..
أتاه صوتها من الداخل بـ عند وإصرا ر: مش خارجة يا خرتيت يا خنزير يا خاين أنا غلطانة إني اتجوزت واحد زيك..

صاح هادرًا بغضب وهو يكاد يهشم الباب: انا لحقت اتجوزك عشان اخونك يا نحس؟ اخرجي ايه اللي مدخلك حمام الرجالة استخبي في حته ثانية..
قهقهة عمّار وهو يحدق في ظهره عبر المرآة، فمن المريح أن يرى شخصًا آخر يتم نعته بـ خنزير وخرتيت، ليس هو الوحيد على الكوكب هذا مُريح..

زفر وأقترب يغسل وجهه بعنف وهو يتنفس بثوران بسبب تلك المجنونة التي علق معها كي يبعدها عن شقيقة فراس، سأله عمّار بخفوت: أنت ضربتها بالقلم قبل كده؟
رفع فارس رأسهُ وهو يرمش بتفكير ثم قال والمياه تتقطر من وجهه: أه مرة..
ابتسم عمّار وربت على كتفه قائلا: كل ما تضرب أكتر هتتشتم أكتر ربنا معاك..
كاد يرد لكن اندفعت مها وركضت كالفأر خارجًا ليزمجر فارس وركضً خلفها بسرعة البرق..

قهقهة عمّار وخرج بعد إنتهاء تنظيفه، وقف بعيدًا يراقبها بثقب كيف تحدق في النادلات بتفحص وشمول كأنها تنتقي عروس لإبنها، لكن لمَ كل هذا التهجم في نظراتها بالتأكيد تلك ليست غيرة!.
ـ مش بتاكلي ليه؟، قال وهو يجلس مقابلها لتهز رأسها قائلة بدون شهية: مش عايزة، مش هنمشي بقى؟

أومأ وهو يتذوق الحساء الساخن الذي أتت النادلة بغيرة بخجل وندم: لا هنمشي بس عايز اكلمك في موضوع كده، نادين كلمتنى امبارح و عايزاني اروح معاها شرم!
قطبت جبينها بضيق وهي تومئ بخفة ثم قالت: آه قالتلي انها عايزه تروح عشان خلصت امتحانات تغير جو بس مقلتش انها عايزاك تروح معاها؟.

توقف عن تناول الطعام ثم قال بنبرة كانت أقرب للتهكم: أنا مش بقولك أننا رايحين انا عايز اعرف أنتِ إزاي توافقي إنها تسافر سواء لوحدها أو معايا؟!
قطبت كلا حاجبيها بانزعاج وهي تنظر لهُ ليتابع قبل أن تتحدث: عارف أنك مش بيهون عليكِ تزعليها وبتوافقيها على كُل حاجة عشان متحسش بالنص صح؟! بس مينفعش! ليه ماتروحيش معاها أنتِ وتقضوا وقت مع بعض؟

لعقت شفتيها بشهية وهي تراقب كيف يأكل بتلذذ جعل لعابها يسيل على الطعام ومعدتها تصرخ مطالبة به، رفع رأسه عِندما طال صمتها لتتسع ابتسامته مكرًا مراقبا ملامحها عن كثب وتسليط نظرها في طبقة برغبة لأول مرة يراها..
سألها بتردد وخبث وهو يقلب الطعام: أطلبلك تاكلي؟، أومأت بدون وعي وهي تعض شفتيها ومقلتيها تكاد تسقط فوق الطاولة متربصة بالطعام الذي علق بجانب شفتيه، وكم بدت لطيفة وبريق الرغبة يشِع في عينيها.

طلب لها الطعام وحثها على الرد على سؤاله حتى يأتي الطعام: مردتيش على سؤالى؟.
تنحنحت تجلي حنجرتها ثم أجابت بهدوء وهي تتجاهل الطعام: نادين بتسافر مع صحابها مش لوحدها، وأنا بثق فيها..
ـ الثقة مش كفاية؟! تعرفي أنتِ إيه عن اللي بيحصل في شرم والساحل؟!
تهجمت ملامحها وقالت باستنكار: أنت بتشككنى فيها؟

نفى قبل أن تفهمه خطأ وتنفعل من لا شيء ممتص غضبها: مش بشكك ولا بقولك عليها حاجة مش كويسة؟ انا قابلتها هناك ولو كُنت شايفها مش كويسة عمري ما كُنت هاجي ولا اقابلك عشان أخطبها! كل الموضوع اني بقولك خفي شويه ومش كل ما تطلب تسافر توافقي نادين بريئة بس اللي هتقابلهم مش كده، الأكل جه كُلي عشان هنروح في حته..

رفعت الملعقة بتردد وبدأت تتناول الطعام الدسم والأفكار تتداخل وتتشابك في رأسها وتتعقد أكثر أثناء تفكيرها في نادين بقلق، مرت دقائق عليهما، انتهت من تناول الطعام بشهية وأنهت طبقها كاملاً على غير عادتها، حدقت في الطبق الفارغ أمامها بحسرة وهي تقف قائلة بحزن وتأنيب الضمير يغمرها كمن ارتكب جريمة: انا كلت كُل ده؟

برم عمّار شفتيه بسخرية ثم صاح بانفعال: مش معقول تخنتي، هبط نظرها بتلقائية فوق جسدها بجزع ليهز رأسهُ بسخرية ثم التقط حقيبتها و وضعها بين يدها، وشابك أنامله معها وسار بها إلى الخارج وهو يتمتم بإزدراء: هتتحسبي على الجوع اللى بتجوعيه لنفسك ده..
كانت تحدق في قبضته التي تمسك بها باستنكار وحنق إزداد أكثر بسبب انسياقها و سيرها خلفه بخنوع!
دمدمت وهي تحاول التملص من قبضته بقوة وضيق: سيب إيدي ماسكني ليه؟!

تجاهلها ولم يفلتها قط حتى وصل إلى السيارة وأشرف على صعودها وغادر وهو يردد أنهُ سيأخدها إلى مكانٍ ما، فاليوم سيخترق جميع قوانينها..

أطلت من خلف باب جامعتها أخيرًا بعد اجتياز الاختبار الأخير، شاردة تطرق برأسها، نظرها مُعلق على حذائها تسير بتباطؤ مُثيرًا لأعصابه وهو الذي يقف ينتظرها من نصف ساعةٍ تقريبًا..
توقفت أمامه ومعالم وجهها مجهولة لا يظهر عليها تعبيرًا مُعين لا بالفرح أو بالحزن يبدو أنه الإحباط الذي يصاحبها بعد خوض كُل مادة لا تتوفق بها..
سألها جاسم بيأس مترقبًا أجابه تسعده: عملتي ايه؟

زمت شفتيها وهي تناوله القلم وزجاجة المياه التي لم تمسها وبإحباطٍ قالت: حليت سؤالين بس ومش عارف صح ولا غلط..
سأل بجزع: اثنين من كام؟
ـ تلاتة يعني ممكن أجيب مقبول بعد درجات الرأفة ده لو عندهم يعني، قالت باستياء وهي تعقد يديها أمام صدرها..

زفر بضيق وهو يقذف زجاجة المياه داخل السيارة من النافذة ثم صاح فجأة أفزعها: أنتِ عارفة لو منجحتيش في المادة دى بالذات هعمل فيكِ ايه؟ أنا سهرت طول الليل عليها يعني أقل من امتياز مش هقبل..

ضحكت على خيبتها حتى أدمعت عينيها وأخذت تبكِ بتقطع وهي تخفي عينيها براحة يدها، ضمها إلى صدره بذراعيه بحنان يهدئها برقة يبث داخلها الاطمئنان، وقبل أن يتحدث همست هي من وسط بكائها وهي تدس نفسها داخل أحضانه: هسقط يا جاسم هسقط..

واساها وهو يُمرر يديه على طول ظهرها برفق قائلاً بلا بأس: أنتِ عملتي اللي عليكِ مش مهم الباقي، سكت قليلا واستطرد ممازحًا عِندما شعر بـ بلل قميصه من على الصدر إثر عبراتها: متقلقيش انا اللي هصحح الورق..
ضحكت بنعومة وهي ترفع رأسها ليمحي عبراتها ببطء ورقة كأنها زجاج هش بابتسامة عابسة وهو يحسها على الذهاب: يلا اركبي عشان نروح ناكل في أي حته شكلك مكلتيش ولا حتى شربتى ميه..

أومأت بخفة وقبل أن تحط قدمها داخل السيارة التفتت وأخذت تتطلع حولها بريبة وقبلها يخفق بعُنف، فهي تشعر بأن هُناك من يُراقبها، مُنذُ عودتها تشعر بأن هُناك يحوم حولها..
ـ في حاجة يا عشق؟، قطع وصله تحديقها حولها سؤال جاسم باستفهام، هزَّت رأسها بنفي وقالت بهدوء وهي تصعد للسيارة: لأ مفيش، يلا بينا..

نظر حول السيارة بريبة ثم هز كتفيه مع رأسهُ وصعد السيارة وغادر، ليصل آدم بعد ذهابه مباشرةً ويصِّف سيارته مكان سيارة جاسم..
ترجل وجلس على مقدمة السيارة ينتظر خروج تالين بابتسامتها الرقيقة المعتادة التي تخبره أنها صنعت جيدًا في الداخل..
ظلّ خمس دقائق جالسًا ينتظرها وهو يفكر في خطوته القادمة، لكنهُ سيتراجع لن يتقدم معها ولن يفعل شيء سوى بطلبها هي، يكفي علمها بكونه يُحبها ماذا يفعل لها أكثر..

خرج من شروده على صوتها الناعم الذي يدغدغ حواسه كُلما سمع أسمه من بين شفتيها: آدم..
ابتسم بسرور وهو يقفز من فوق السيارة ليستقر أمامها سائلا بصوتٍ رخيم: عملتي إيه؟
ضمت قبضتها لقلبها بسعادة وهتفت بحماس: حليت كويس الحمد لله، ثم صمتت لثوانٍ تحرك أهدابها بقوة وصاحت بصوتٍ مُرتفع: هجيب امتياز..
ضحك بفرحة وهو يطالعها بفخرٍ شديد ثم فتح باب السيارة من أجلها وقال بتهذيب: اتفضلي يا حضرة الدكتورة..

ابتسمت بعذوبة رغم شحوب وجهها في الأونه الأخيرة وهي تصعد إلى السيارة..
ـ هتاكلي فين؟، سألها بهدوء وهو يحدق في المرآة أثناء قيادته..
ردت بنبرة عادية: أي مكان مش مهم، صح مش قابلت عشق في الكلية النهاردة..
سأل بشك: مع مين؟
قالت وهي تتذكر ما حدث معها في الداخل: انا قابلتها اتكلمنا شويه وبعدين قالت لي لازم تمشي عشان جاسم مستنيها بره..

أومأ بملامح جامدة دون أن يُعقب وتابع قيادته بتركيز حتى قاطعته هي: آدم إحنا هنعمل ايه؟
قال بدون تعبير وهو ينعطف بالسيارة: أحنا مين؟ أصدق أنتِ!، صمت ثم أستطرد يخيرها ببرود دون أن يلقي عليها نظرة: شوفي أنتِ هتعملي إيه، لو عايزة ترجعي لمصطفي أكلمه ويرجعك مش عايزة براحتك بس لازم تعرفي إنه هيعرف أنك مش بيت أهلك لأن شهيرة هتخليه يرجعك ومش هتسيبك..

هزَّت رأسها بإيماءة بالكاد ظهرت لمحها بطرف عينيه وتركها غارقةً في زخم أفكارها وإحباطها من رده الجامد فماذا ظنت أنه سيقول؟ احصلي على الطلاق كي نتزوج ثم يقبلها ويغرقها بكلامه المعسول؟! لن يحدث مجددًا، كان هذا سابقا قبل أن تصفعه وتخبره أنها لن تقبل أن تكون خائنة، وهو لن يجعلها خائنة..
تنبهت حواسه وأوقف السيارة مشدودًا عِندما صاحت فجأة بغثيان وهي على وشك التقيؤ: وقف العربية وقف وقف..

توقف على جانب الطريق وهو يتفحصها بقلق، لتفتح السيارة سريعًا لكن لم تستطع الصمود والسيطرة على نفسها حتى تخرج فـ تقيأت بإعياء وهي تخرج جذعها العلوي من السيارة كادت تسقط على وجهها..
رفعها آدم من ذراعها برفق ثم نظف حول فمها بأحد المناديل برقة وهو يسألها بذعر احتل قلبه بسبب اصفرار وجهها بهذا القدر: مالك خدتي برد؟ حاسه بإيه؟

التقطت أنفاسها بصعوبة وهي ترخي رأسها فوق المقعد وجبينها يتفصد عرقًا بغزارة و وجهها إزداد شحوبًا لتوصد جفنيها قليلا بقوة تستعيد نفسها وقوتها ثم قالت بين أنفاسها المتسارعة بإرهاق: مش عارفه، بقالي كام يوم تعبانة كُنت فاكراه برد بس مبقتش عارفة..
جفف جبهتها براحة يده متحسسًا حرارتها، وبقلقٍ ينخر عظامه قال وهو يدير محرك السيارة: هاخدك المستشفى..

في شقة سالي في أحد البنايات الضخمة، داخل غرفة نومها..
كانت تتمطى وهي تتقلب عارية أسفل الغطاء الناعم الوثير الذي كان يحوطها، فتحت عينيها بثقل لتبصر مصطفي يقف أمام المرآة يُمشط شعره بعد أن أخذ حمامًا دافئ، ابتسمت وهي ترفع ذراعها تلوح لهُ، رآها عبر المرآة لتتسع ابتسامته ويعود بخطواته إليها..

قبل شفتيها بنهم وهو يضم خصرها إليه بحميمية ويديه تعبث بجرأة مستبيحًا لنفسه تلمس أي موضع في جسدها دون خجل بتلك الورقة التي وقعاها معًا..
فصل القبلة لاهثًا وهو يبتسم باتساع و يديه تداعب وجنتها برقة لترفع نفسها قليلًا وهي تثبت الملائه على صدرها مُداعبة أنفها بأنفه وهي تسأل بدلال أنثوي: جبت الورقة؟

أومأ وهو يقربها إليه أكثر حتى التحم صدريهما هامسًا من بين شفتيها بخدر وهو يستنشق رائحتها بانتشاء: أه جبتها، أول مرة اشوف حد بيدي ورقة جوازه لمراته بإيديه بدل ما ياخد بتاعتها هي..
لثَّمت جبهته بنعومة وهمست بدلال مغوي: هُمه مش سالي يا بيبي..
اتسعت ابتسامته وهو يمرر أطراف أنامله على ذراعها العاري بحركة غير بريئة وهو يعدها بصدق: صدقيني جوازنا هيبقي رسمي قُريب أنتِ عارفة أنا بحبك أد إيه..

أومأت وطرف شفتيها يرتفع بسخرية قائلةً وهي تسند رأسها فوق ذراعة المُعضل: عارفة طبعًا زي ما أنا عارفة إن شهيرة هي اللي مسيطرة عليك..
تبدلت ملامحه لأخرى منزعجة، ابتعد عنها ووقف يتابع غلق ازراره المغلقة ولا يعرف حتى ما يفعل لقد عكَّرت صفوه..
استعد للذهاب بعد أن قذف ورقة الزواج بجانبها لتستوقفة بقولها: آدم كلمني و فسخ خطوبتنا..

قطب كلا حاجبيه مستذكرا، فحديث آدم عن رغبته في الزواج وتكوين العائلة يذكره! ماذا حدث؟!
أومأ بتفهم وهو يهز رأسهُ ثم قال قبل أن يغادر: ماشي، خلي بالك من نفسك..
ـ شهيرة عامله ايه؟ الوقعة مكسحتهاش؟!، سألت بسخرية وهي تقرأ ورقة الزواج الخاصة بها جعلته يتوقف أمام الباب زافراً بضيق ثم استدار وهدر بغضب: سالي، لو سمحتي دي أمي ومسمحلكيش مهما أضايق واشتكي هتفضل أمي وحماتك ياريت تبطلى الطريقة دي بقي!

لفت الملائه حول جسدها بطريقة مُبعثرة وغادرت السرير، تقدمت منهُ بغضبٍ سافر صائحة بعصبية وتحدٍ وهي تضرب صدره بقوة: لا مش هبطل عارف ليه؟ لأنك معلقني بسببها ولو مكنتش مسيطرة عليك مكنش ده هيبقى حالنا دلوقتي! نفسي يبقي عندي بيت وولاد ونعيش زي أي اثنين لكن طول ما أنت مطاوعها ودلدول تحت رجليـ، صرخت بألم عندما هوى على وجنتها بصفعة قاسية أصابتها بطنين كادت تسقط إثرها لكنها تماسكت، رفعت رأسها بقوة وعلامات الذهول شقت طريقها لوجهها وهي تنظر إليه بعدم تصديق! هل صفعها الآن!.

ازدردت ريقها بغصه وشفتيها ترتجف من المهانة التي تشعر بها، ضمت قبضتها بقوة ثم هدرت بشراسة والغدر يشق طريقة لعينيها الدامعتين: هندِمك يا مصطفي هتندم، وتركته ودلفت إلى دورة المياه وصفعت الباب خلفها بقوة، وهو تأفف بغضب وهو يحملق في كفه الذي صفعها مؤنبًا نفسهُ ثم غادر عائدًا إلى المنزل..

صعد إلى غُرفته في المنزل لـ يتفاجأ بجلوس والدته على سريره تنتظره، خلع سترته وهو يأخذ شهيقًا طويلًا يُروح به عن نفسه ثم سألها عن حالها وهو يخلع حذاءه: عاملة ايه النهاردة يا أمي خدتى العلاج؟
أومأت وهي تقف متكئة على عصاها بضعف، لوقتٍ مؤقت حتى تتعافى نهائيا لأنها تضررت كثيرا من الوقعة، كانت قوية على جسدها ليتحمله دون ضرر..
ـ الحمد الله يا حبيبي أه خدته، انا كنت بدور عليك عشان نتغدى سوا..

تثاءب وتأسف وهو يدلك نحره: مش جعان خالص دلوقتي كُلي أنتِ انا هرتاح شويه..
أومأت لهُ وهي تتحامل على نفسها، تسير ببطء وهي تقضم شفتيها بألم، أغلقت الباب خلفها وهي تهز رأسها
بسخرية مما يحدث معها، ابنها لم يساعدها حتى بالخروج من الغرفة وتركها رغم أنها قالت غداء وهي لا تستطيع أن تصنعه..

لفحتها تلك الذكريات التي كانت كـ صفعةٍ قاسيةٍ توقظها، ذكريات حرصت على عدم تذكرها ودفنها عميقًا في أكثر الأماكن سوداوية داخلها لكن انقباض قلبها حُزنًا لا يضاهيه حُزنًا الآن، تتذكر دائما لحظات مرضها وضعفها عِندما لا يكون بجانبها سوى آدم يعتني بها، يمرضها ويطهو من أجلها ويظل بجانبها حتى تتحسن، لن تنسى، لطالما كانت تغير لأنه يملك جمال وطيبة والدته التي جعلتها تشعر بوجودها وسيطرتها عليهم حتى بعد موتها، المشكلة كانت تكمن هُنا، لم تستطيع أن تحبه قط رغم أنها من ربته، الغيرة والحقد النسائي كان يسيطر عليها فهي اختطفت زوجها ولم يعد كما في السابق بفضلها علاوة على هذا تركت طفلا يفسد عليها حياتها! كيف تستطيع أن تحبه كيف؟، هذا أبن نوال وسيظل هكذا، لم يكن أبن شهيرة قط ولم يتطبع بطبعها و يصطبغ بصبغتها، كُل شيء تفعله يكون بدافع الغيرة ليس إلا وتعترف بهذا..

والآن عادت إلى غرفتها بتباطؤ، أبطأ من السلحفاة نفسها، تمدد فوق سريرها وهاتفت الخادمة كي تأتي من أجلها يبدو أن أملها في أن تأكل من يدِ ابنها لن يحدث قط..

داخل المستشفي..
كان آدم يدور حول نفسه في الممر خارج الغرفة بقلق منتظر خروج الطبيب بقلب مُنقبض ولا يعلم لمَ، جلس على المقعد وبدأ يهز قدميه بقوة وتوتر بالغ ورقبته معلقة فوق الباب المغلق في ترقب للطبيب كي يطمئن وياليته لم يستعجل بهذا القدر..
خرج الطبيب والابتسامة تزين ثغره لـ يصفع آدم بقوة أسقطه من سابع سماء لأقصى بقاع الأرض بقوله بسرور: مبروك المدام حامل..

تسمر محله وظل جالسًا يحملق في الطبيب بعد أن كاد يقف، قدميه لم تعد تحملانه، ذهوله كان ظاهرًا بطريقة مبالغًا بها، كان يعرف أنهُ منحوس، لكنهُ تأكد من هذا الآن، حامل يعني طفل في المنتصف، طفل يعني استمرار علاقتها مع والده كي لا يتأزم نفسيًا، هو مقصي من حياتها لا وجود لهُ بمستقبلها لا وجود لهُ وهذا ما يجب أن يستوعبه ويبتعد عنها..
استعاد رباطة جأشه ثم وقف وسأل الطبيب بوجه شاحب ونبرة أقرب للارتعاش: متأكد؟

أومأ بثقة وقال مؤكدًا من جديد: طبعًا مُتأكد مبروك يتربي في عزك..
تركه الطبيب ومضى في طريقه تاركًا آدم يقف يُحدق فى الباب بتردد لا يُريد الدخول..
بينما هي في الداخل كانت تضع يدها على معدتها تتحسسها برقة، مُضطربة لا تعرف ماهية مشاعرها، لكنها متأكدة أنها سعيدة تتغير مع التغيرات التي تطرأ على حياتها..

غمرها الدفء وهي تفكر في كونه سيكبر كُل يوم داخلها حتى يأتي إلى هذه الحياة وتحمله في يومٍ ما بين يديها، هذا شعور يدغدغ غريزتها الأمومية ومن الآن أصبحت تتوق لرؤيته..

استفاقت من شرودها على أطراف أنامله الناعمة التي كانت تمر فوق وجنتها برقةٍ بالغة، ابتسمت ابتسامة مهزوزة وهي تتهرب من نظراته كأنها أجرمت في حقه ليقابلها بأخرى سعيدة مسرورة قبل أن يضمها إلى صدره بقوة، لفت ذراعيها حول خصره تستكين برأسها فوق كتفه براحة كانت تفتقدها لتفاجئ قبل تظفر براحتها بجسده يهتز وهو يشدد قبضته حولها أكثر، هل يبكِ؟، اتسعت عيناها ورفعت رأسها مبتعدة عنهُ للخلف لتفرغ شفتيها بتعجب وهي تراه يضحك، يضحك، يضحك حتى أدمعت عيناه، هذا ليس ضحك ليس من المفترض أن يكون ضحكًا!

رفعت راحة يدها إلى وجنته تتحسسها برقة سائلةً إياه بحزن بسبب حاله: بتضحك على ايه يا آدم؟!
هزَّ رأسهُ بلا بأس وهو يرفع يدها من على وجهه مقبلاً باطنها وهو يغمض عينيه لتنسل تلك العبرة التي خانته من بين أجفانه أشعرتها بالذنب تجاهه..
فتح عينيه الحمراء ثم لثَّم جبهتها بحنان وهو يدفن يده بشعرها هامسًا بدفء مزق نياط قلبه: مبسوط عشانك، مبروك..
هتفت بإسمه بصوتٍ موجوع وهي تشعر بشفتيه على جبهتها: آدم..

ابتعد وأبعد خصله خلف أذنها وهو يبتسم قائلًا بغصه مؤلمة: هتبقي أم جميلة يا تالين..

انسابت عبراتها وهي تنظر لهُ بتأنيب ليمسح عبراتها بحنان وهو يحثها على الذهاب بابتسامة ماخفى خلفها من ألمٍ كان أعظم: يلا عشان تاكلي، لازم تهتمي بأكلك و هنتفق مع دكتور دلوقتي عشان تتابعي معاها لحد معاد الولادة، ثم تهرب منها عِندما لم يستطع التحمل أكثر: أنا هشوف دكتور ارتاحي أنتِ لحد ما ألاقي واحد واجي أخدك، وقبل أن ترد كان يغلق الباب خلفه وذهب..

فى منزل قُصيّ، في غُرفة النوم..
كان يجلس على السرير يضع الحاسوب فوق فخذيه يعمل بتركيز غير عابئا بالتى تجلس بجانبه على الطرف الآخر تتأمله تارة، تعبث في شعرة تارة أخرى، تمرر يدها فوق صدره المعضل، هذا ما تفعله من شهرٍ تقريبًا تتحرش به طوال الوقت كي يلتفت إليها، لا تتقبل فكرة أنهُ لم يعد يرغبها قط..

أغلقت الحاسوب فوق أنامله جعلته يرفع نظره إليها، سحبت أنامله خارجًا ثم وضعت الحاسوب بعيد و أراحت رأسها محلهُ فوق فخذيه وظلت تتبادل معه النظرات، إنها عشق متجسدة أمامه لكن بأعين بنية الآن. لا يعرف إلى الآن سِر صبغ شعرها..
تنهد بيأس وهو يحاول عدم التفكير بها والتطلع لحالها، رفع يده وأخذ يمسح على شعرها بخفة ونطق بنبرة ضيق جلية: عايزة إيه يا جـنّـة؟.

زحفت برأسها أكثر حتى صدره ثم لفت يديها حول رقبته هامسة بنبرة ضارعة غلب عليها الشوق: هعوز ايه غيرك أنت يا قُصيّ؟! هتفضل زعلان مني كده كتير؟!
ابتسم في وجهها بسخرية ومازال يمسح على شعرها برفق صامتًا لا يتحدث حتى رأي عينيها تدمع..

ـ عينك تعبتك مش كده؟، أومأت وهي تمحي تلك الدموع التي لا مناسبة لها قائلة بإزدراء: العدسة كانت بتفضل ساعات طويلة في عيني مكنتش بقدر اشيلها غير وقت النوم بس، لم يعقب ومازالت نظراته الجامدة تتفحص ملامحها، تنهدت بـ هم ورفعت نفسها قليلا تتناول هاتفها عِندما سمعت صوت رسالة نصية ومن دون إنتباه ضغطت على معدته بـ مرفقها أطلق إثرها صيحة متألمة..

رفعت نفسها بجزع وناظرته بقلق وهي ترى تقليص ملامحه بألم، مسدت محل مرفقها فوق معدته بقلق وهي تسأله بحنو: قُصيّ إنت كويس؟ إنت مش بتنام كويس وبتاكل بالعافية وخسيت وتحت عينك بقي أسود مالك؟!
هزَّ رأسهُ بلا مبالاه قائلا بنبرة فضولية وهو يحدق في هاتفها: مفيش أنا كويس، مين بعتلك رسالة؟!

ابتسمت وعادت تتوسد صدره وهي تفتح الهاتف لتسمع زمجرته الوحشية وهو ينزع الهاتف من يدها بعنف عِندما أبصر تلك الصورة التى تضعها..
ـ صوره غرام دي جبتيها منين؟!، سألها بغضبٍ جامح لترد عليه بهدوء وثبات لكنها لم تستطع السيطرة على تلك الرجفة وهي تتحدث عنها: ريمة بتبعتلي كُل حاجة مش عشان تطمني عليها لأ، عشان تندمني وتوريني اني بضيع أحلى لحظات ممكن تعيشها أي أم وانا ضيعتها..

غمغم بسخرية وهو ينظر إليها بقسوة خالصة لتأخذ الهاتف من يده وبدأت تمرر أناملها على ملامح طفلتها بأعين دامعة وقلبٍ مُلتاع قائلةً بندم وهي تذرف الدموع: عارفة اني قاسية ومستاهلش بس هي بنتي يا قُصيّ حته مني و هتبقي معايا فى الأخر كُلها كام شهر بس..
ـ والسنين اللى فاتت؟، سألها بأكثر نبره متهكمة حملها يوما..

أمسكت يده بقوة قائلة بلهفة وهي تتطلع للمستقبل: عارفه اني قصرت معاها وحرمتها مني بس هعوضها والله هعوضها..
ابتسم ابتسامة غريبة وقال برفق وهو يربت على رأسها كـ جرو: مين قالك انها محرومة منك؟ دي عارفاكِ وبتشوف صورك دايمًا أول ما هتشوفك هتعرفك..

ابتسمت بعدم تصديق وسألته بأملٍ أحياه داخلها و عبراتها لا تتوقف عن الهطول: بجد يا قُصيّ عارفاني يعني لما تشوفني هتعرفني ومش هحتاج أشرح انا كُنت فين وبعيدة عنها ليه؟
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يؤكد بثقة: ولا تقولي أي حاجة هي عارفاكِ..
عانقته بقوة وهي تقول بامتنان وتأثر: شكرا يا قُصيّ..
ربت على ظهرها وابتسامته الساخرة تتسع لأقصى شفتيه قائلا بـ وِد: على ايه بس أنتِ مراتي ومهما حصل هتفضلي أم بنتي..

طبعت قُبلة رقيقة على رقبته ممتنه بينما تقول بابتسامة رقيقة: كُنت عارفة إنك هتسامحني وهترجع قُصيّ بتاع زمان، سكتت وابتعدت قليلا ثم فتحت الهاتف تُريه الصور التي أتتها الآن وهي تقول ببراءة اختبأ خلفها خُبثٍ كبير: شوف حتي جاسم سامح عشق رغم اللى حصل و بيروح معاها الامتحانات شوف حاضنها ازاي؟ شايف نظرته يا قُصيّ؟ بيحبها وسامحها وإنت مش قادر تسامحني!
أتاها صوته الجامد بملامح مكفهرة: أنا مش جاسم!

أومأت وهي تمحي الدموع بطرف أناملها قائلةً بنبرة مستفزة: فعلا أنت مش جاسم هو أحسن..
زمجر بخشونة هادرًا بتحذير: بنت حبيب..
رفعت حاجبها الأيسر باستمتاع وهي ترفع يدها لذقنه الطويلة تداعبها وهي تسأل بتلذذ بسبب عودة الذكريات الخاصة بهذا الأسم: بقالك كتير مش بتناديني بالأسم ده؟ رجعت تكرهني تاني يا قُصيّ؟!
ودفعها بعيدًا عنهُ وذهابه كانت إجابة حصلت عليها..

دلف إلى دورة المياه بغضب كبحه كي لا يخرجه عليها هي تلك المتبجحة، قصدت أن تُريه كيف يعانق جاسم عشق فكل شيء تفعله تقصده، وضع رأسهُ أسفل المياه الباردة لعل النيران المتأججة داخل صدره تنطفئ، رفع رأسهُ بقوة يجففها بالمنشفة أمام المرآة محدقا في انعكاسه بجمود، فما بال هذا الشحوب والتعب؟، تجاهل هذا وراح يحدق في زجاجة الغسول و السائل الكريمي والمرطبات الخاصة بـ جـنّـة التى تستخدمهم عشق من البداية ووجب عليه عِندما رآهم أن يأتي بمثلهم إلى جـنّـة كي تتغير رائحة شعرها وجسدها..

جمعهم معًا بغضب وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ثم حملهم وخرج إلى الغرفة كعاصفة هوجاء ومنها صوب الأسفل مباشرةً وتحديدًا إلى صندوق القمامة، هرولت خلفه بفضول وترقب لمَ سيفعل، توقفت أمام الباب تُراقب صفعة لغطاء صندوق القامة في طريق عودته إلى الداخل، لمَ يغلقه فهو للعامة ليس ملكة؟

تنحت جانبا تفسح لهُ الطريق ليصفع الباب بقوة خلفه ووقف يحدق بها بتهجم، ازدردت ريقها وهي تقترب بخطوات حثيثة ترى هل طريقتها في استمالته مازالت تنجح مثل سابقا أم لا..

أمسكت بـ كفه، وضعته فوق قلبها النابض ببطء أي فوق جسدها العاري بسبب منامتها التي لا تخفي الكثير ليشعر بتلك الانتفاضة أسفل كفه البارد ونعومة بشرتها الدافئة، مازالت رائعة كما هي، أبعد كفه بضجر لكنها أعادته بإصرار تضمه إليها وهي تقترب حتى تلاصق صدريهما معًا وتلاقت أعينهما تحت غيمة الحُب وأخرى الكره..
توسله بنبرة مفعمة بالمشاعر: بُصلي يا قُصيّ..

ازدرد ريقه بحلق جاف متهربا من نظراتها والرغبة بدأت تزحف إلى أوصاله، رفع كفه من فوق صدرها بقوة وهو يهز رأسهُ برفض ثم أبعدها عن طريقة وسار لكنها لحقت به و توقفت أمامه تنظر إليه برجاء ليصرخ بها بعصبية: عايزة ايه؟
عانقته بقوة وحميمية حتى التحمت مفاتنها بجسده متعمدة، وبهمسٍ شديد وصوتٍ مغوي نطقت: عايزاك يا قُصيّ وأنت عارف..

دفعها عنهُ متأففًا بنفاذِ صبر وهدر برفض أقرب للاشمئزاز: وأنا مش عايزك وأنتِ عارفة..
تحرك لكنها أحاطت ذراعيه بيديها تتودد إليه بحب: قُصيّ أنا مراتك و بحبك وبتحبني ليه منـ..
قاطعها صارخًا بحدة: لا مش بحبك كُنت بحبك..
ارتجفت شفتيها واغرورقت عيناها بالدموع مع انتفاضة قلبها وهي تسأله بحالةٍ مُضنية وقبضتها تشتد فوق ملابسه: كُل ده عشان عشق؟ أنت بتاعي أنا أنت فاهم ومش هسيبك ليها..

ردَّ ببرودٍ غُلف بقسوة: كُنت، كُنت كُل حاجة لكن أنتِ استغنيتي، دفعها بنهاية حديثة وصعد إلي الغرفة لتتهاوي وتسقط محلها تبكِ بمهانة وذُل إلي ما آلت إليه علاقتهما، تستحق، هي لا تعرف كيف تستعيده..
مرت الساعات ومضى اليوم وحل الليل..
حدق في انعكاسه مرة أخيرة وهو يمشط شعره ثم نثر عطره وحمل هاتفه وحافظة أمواله وترك مفتاح سيارته فـ آدم ينتظره في الأسفل..

استوقفه سؤال جـنّـة باهتمام وهي تجلس على طرف السرير تقلب الدعوة التي أتتهم بين يديها باهتمام: رايح فين؟
رد ببرود: عيد ميلاد..
سألته بحنو: طيب مش هتاكل؟
نظر اليها بدون تعبير وتمتم: شكرا مليش نفس..
اقتربت منهُ وهي تبتسم بعذوبة، عدلت ياقة قميصة وهي تقول بحنان: انا عملتلك المكرونة زي ما بتحبها..

قال بسخرية: كُليها أنتِ، ومال يقبل وجنتها وتركها تقف محلها وغادر، شدَّت شعرها بقوة زافرةً بغضب وهي تلهث، أخذت الدعوة تقرأ محتواها ليعتلي ثغرها ابتسامة خبيثة، وضعت ساق فوق الأخرى وأخذت تحدق في السقف وهي تلف أحد خصلاتها حول سبابتها تفكر بما ستفعل باستمتاع..

توقفت وسط فساتين الزفاف عاقدة يديها أمام صدرها ببرود والأستنكار يشِع من مقلتيها تجاهه الذي يقف يعقد يديه أمام صدره بالمثل، فما بال تلك الملامح لمَ لا تبتسم و تقفز فرحًا تلك الكئيبة المتكبرة!
ـ جايبني هنا ليه؟، سألت ليلى بدون تعبير
فرك حاجبه الأيسر وهو يخفض رأسه يلوك بلسانه داخل شفتيه بتفكير حتى قال متحجج بنادين لأنها لا تفهم: جبتك تختاري فستان لـ نادين..

رفعت طرف شفتيها باستنكار ثم قالت بتهكم وهي تتحرك بين الفساتين المعروضة أمامها: نادين تختاره لنفسها هو انا اللى هختاره؟
أبعد نظره عنها بضجر تلك مدمرة اللحظات ثم لوح لأحد الفتيات وهمس في أذنها بشيءً ما وهو يأشر على أحد الفساتين..

أومأت بابتسامة لبقة تحت نظرات ليلى الحارقة التى كانت ترشقها بها أثناء مرورها بجانبها ظنا أنها ذاهبة لمكانٍ ما، لكنها توقفت أمامها ثم شملتها بنظرة متفحصة تقيمية قبل أن تأخذ الفستان وتضعه داخل غرفة القياس، عادت أمامها من جديد ثم أمسكت يدها برفق كـ طفلة عنيدة لا تريد الذهاب وهتفت برقة: ممكن تيجي معايا؟

نظرت ليلى لها بارتياب ثم إلى عمّار الذي يلوح لها بإيجاب كي تذهب بتلك النظرة الماكرة والبريق الذي يتلألأ داخل خضراوية تعرفه جيّدًا، تمتمت وهي تحرك أهدابها بسرعة تحاول تجميع كلمة عندما أخذتها الفتاة خلفها: ثـ، ثواني، أنا، أنا، مش العروسة!
ـ جوزك قلي اني خجولة بزيادة بس متتكسفيش احنا بنات زى بعض، قالتها ببشاشة وهي تأخذها..

استدارت تنظر إلى عمّار لتجده يقف يتكأ على الحائط يعقد يديه أمام صدره وهو يُراقبها باستمتاع، كشرت في وجهه ليبعث لها قبلة في الهواء، احتدت نظراتها الشرسة له من خلف الستار الذي أغلقته الفتاة ليفصل بينهم..
ساعدتها بخلع معطفها السميك الجلدي الأسود القصير من فوق فستانها وعلقته ثم بادرت بفتح سحاب فستانها النبيذي الضيق لتضع يدها على يديها تمنعها قائلة: أنا هغير مش محتاجة مساعدة شكرا..

أذعنت لها وخرجت بهدوء لتجلس ليلى على الكرسي الموجود، تحدق في الفستان بدون تعبير، تلك المزحة ثقيلة على قلبها ولن تصمد، هي لطالما منعت نفسها عن أي شيء قد يؤثر عليها سلباً ويجعلها تكره نمط حياتها الروتيني و رتابته وتسعى للتغير، وضعت نادين في المقدمة دائمًا ووهبت حياتها لأجلها لما تخيب الآن وتضل الطريق وتلتفت لتفاهات، أي شيء قد يلامس قلبها ويحرك مشاعرها لا يوجد مسمى لهُ سوى تفاهات، كاذبة تعرف، تبالغ بتفكيرها وهي تتوق وتتمنى تلك التفاهات..

تنهدت تنهيدة قوية خرجت من أعماقها وهي تحدق بالفستان ببرود كأنهُ عدو، عزمت على قياسه فلن تخاف تجربته بالتأكيد، خلعت فستانها ليتبدل بفستان الزفاف، علقت فستانها بأنامل مرتجفة وهي تزدرد ريقها بصعوبة، تجمعت الدموع داخل عينيها وهي ترى انعكاسها في المرآة، عروسًا جميلة لطالما كانت جميلة، لم ترى نفسها بهذا الجمال يومًا قط، فلو ظن عمّار أنهُ لمس وترا حساسًا لديها لقد نجح بجدارة، انسلت عبراتها واحدة تلو الأخرى وهي ترى نفسها تُجر وتُباع في عُمر الخامسة عشر دون شيء فقط بعقدٍ مُوقع..

لملمت شعرها وهي تعض شفتيها كي لا يسمع أنينها، رفعته إلى الأعلى وتأملت نفسها برؤية ضبابية منكسرة ثم حررته وأجهشت في بكاءٍ مرير وهي تغمر وجهها بين راحة يدها، فوالدها هذا الذي دمر حياتها لن تسامحه مهما حيت لن تسامحه أبدًا، يا إلهي كم هى وحيدة بائسة، ولبي النداء وآنس وحدتها..

اخترقت تلك الرائحة المألوفة أنفها، استحل لنفسه اعتقال خصرها بذراعه وضمها بقوة من الخلف حتى التحم ظهرها بصدره، ليغمرها الدفء، انتفاضتها المفاجئة آلمته، صوت نحيبها مزق نياط قلبه..
همسهِ الناعم بجانب أذنها من أوج مشاعره بعثرها: مش نفسك تلبسيه؟، ظلت تبكِ دون الردّ.

مرَّغ أنفهُ في شعرها بانتشاء وهو يضمها أكثر ولا يعلم أين ستذهب أكثر من هذا، همس بين خصلاتها جعلها تتاطير متضرعا كي تقبل به: مش عايزة تحبي وتتحبي وتبدأي من جديد؟!، ازداد نحيبها ليهبط من شعرها إلى نحرها المكشوف لهُ ببذخ ممررا أنفه عليه نافثًا أنفاسه الحارة فوق خلايا جلدها أذابها، ارتجفت بشكلٍ ملحوظ وقد ثار قلبها وثقلت أنفاسها، حاولت التحرر والهروب لكن قبضته الفولاذية أبت أن تحررها وارتفعت عن خصرها حتى معدتها مشتده حولها أكثر فأكثر..

سار الخدر في جسدة وثقلت أنفاسه وهمس بإرهاق وأنفه تمر على نحرها ببطء ألهبها: أنتِ بتسويني على نار هادية..
همست باسمه بأنفاسها المثقلة وهي تقبض على جانبي الفستان، تغمض عينيها بقوة وصدرها يعلو ويهبط باضطراب وكان هذا كافيًا ليأخذه إلى عالمٍ آخر: عـ، عمـ، عمّار..
ردّ بتهدج وهو يدس رأسهُ في رقبتها أكثر: عمّار هيحصله حاجة لو متجوزكيش في أقرب وقت..
لتجيب بـ كلمتان مرتعشتان وهي تنتحب: بنتي بتحبك..

شهقت بتفاجئ وهي تشعر بنفسها تدور حتى أصبحت مواجهة لهُ وانتقلت يديه إلى ظهرها ليخترق سؤاله المفعم بالأمل أذنيها: ولو موضوع نادين انتهي تتجوزيني؟!
أطرقت برأسها وتمتمت بخجل من نفسها لأول مرة تشعر به: أنا أكبر منك!

رفع رأسها وهو يبتسم ابتسامة عذبة وقلبه يقفز داخله: ده مش عُذر، انسلت عبراتها وهي تعض شفتيها بقوة وأعادت طرق رأسها لكنه لم يسمح لها تلك المرة، محي عبراتها وهمس بدفء و عينيه تجول على ملامحها الناعمة: متعيطيش انا هعوضك، اسمحيلي أدخل حياتك..
ضحكت رغمًا عنها برقة تسببت في ذرف المزيد الدموع وهي تقول ببحة: تدخل حياتي اكتر من كده؟ فين؟

ـ هنا، قال وهو يأشر على قلبها ليستطرد وهو يداعب وجنتها بنعومة و خضراويه تخترق نهر العسل خاصتها: عايز أشوف نفسي في عيونك، نفسي أعيش الحُب اللى بتمناه معاكِ وأنتِ مراتي..
توردت وجنتيها و اخفضت رأسها بارتباك ولكي تهرب من هذا الحصار المعلن عليها همست راغبة: عايزة أروح..
كاد يلقي على مسامعها ردًا يبكيها تلك المتكبرة مدمرة اللحظات لكن صوت الفتاة تسلل من الخارج إليهم: محتاجين مساعدة؟ في مشكلة؟

ـ لأ شكرًا، قال عمّار ببرود وهو يحرر جسدها أخيرًا واستدار على عقبيه وذهب لتتنفس الصعداء لكن كتمت نفسها مع شهقتها عِندما عاد وسحبها من خصرها بقوة لتصطدم بصدره و بتلقائية أراحت يديها على صدره الذي انقبض إثر ملمس يدها الناعمة وازداد ضخ الدماء في أنحاء جسده، صنعت تواصلا بصريًا معهُ لـ تحتجز داخل غابته الواسعة بتيه وهي تشعر بخفقات قلبه الجنونية تضرب راحة يدها..

ـ هتلبسية وهتتزفي بيه معايا، وهتحبيني بجنون يا ندى، ده لو لسه محبتنيش ولو مش واخدة بالك أنتِ بتغيري عليا، ألقاهم في وجهها دفعةً واحدة بتحدٍ ووعيد والأخيرة كانت بتهكم استشفت به الذُل وكم كان طفولي في طريقة إلقائه بسبب تهربها منهُ، وتركها وغادر..

تهاوت على المقعد بعد ذهابه تريح قدميها الهلامية وهي تلهث، وحرارة جسدها ارتفعت وهي تطرف بعينيها بتعجب إزاء قوله! فمن تلك التى تغير؟ ولمَ ندى! وماذا يحدث لها بحق الجحيم؟ أنه رجل أبنتها!، يُجب أن توقف هذا..
طوال طريق عودتها كانت تحدق من النافذة بشرود وهي تقبض على حقيبتها بقوة تتوعده بغضب..
أوقف السيارة أمام منزلها وظل واقفا ينتظر ذهابها..

حرك شفتيه وكاد ينبهها على وصولهم لكنها التفتت صائحة بحدّة جعلته يتعجب: دي أول وآخر تتخطي حدودك معايا فاهم؟
حرك أهدابه متعجبًا وهو يهز رأسهُ بخفة ثم أمرها بدون تعبير: انزلي..
ـ أنت بتطردني؟، قالتها باستنكار وهي تنظر حولها تستوعب ما قال
أومأ قائلا بنزق: العربية بتاعتي وبقولك انزلي يلا..

صرّت على أسنانها واكفهر وجهها بغضب ثم ضربت كتفه بحقيبتها بقوة وهي تتمتم من الغيظ: طظ فيها عربيتك، وترجلت بعصبية ثم صفقت الباب في وجهه وذهبت تحت نظراته الجامدة المشوبة بسخرية وهو يرفع حاجبه غير متأثرة بمَ فعلت، أخفض ذراعه بعد ذهابها عن المقود ثم مسدها براحة يده مغمغما بألم: تقيلة أوي، حطة فيها ايه؟

وضعت المفتاح داخل المقبض بعصبية و مازالت شفتيها تتمتم بالكلمات من فرط حنقها، تركت الباب مفتوح بقلق خلفها عِندما وجدت المنزل مُظلم والسكون يعم المكان..
بسطت يدها بجانب إطار الباب تتحسس الحائط باحثة عن زر الضوء وهي تهتف باسم نادين بخوف: نادين، أنتِ هنا؟!، لارد، سكون..
استعمر الخوف قلبها وادمعت عينيها وصاحت بنبرة مرتجفة: حبيبتي أنتِ هنـ..؟!

أفزعها صدوح صوت المفرقعات وصوتهم الجماعي المرح تزامناً مع فتح الأضواء: Surprise
فغرت شفتيها بتفاجئ وهي تستقبل نادين التى اندفعت تعانقها بقوة قائلة بسعادة: كُل سنه وأنتِ طيبة يا أجمل مامي في الدنيا..
ضحكت بعدم تصديق وهي تربت على ظهرها و عينيها تجيل في غرفة الجلوس المُزينه، وفوق تلك البالونات الوردية والبيضاء التي تفترش الأرضية، والكعكة ذات الطابقين تخصها!، عيد مولدها لقد نسيت هذا..

أجابتها بنبرة ممتنه وهي تضمها أكثر وقلبها يخفق فرحًا: وأنتِ طيبة يا حبيبتي..
قبلتها ثم بدأت بالرد على التهاني الموجهة إليها بابتسامة عذبة متعجبة بسبب وجود قُصيّ وآدم وإختفاء عمّار الذي طـ، توقف ضخ الأفكار في رأسها عِندما سمعت صوت نادين تهتف بحماس: عمّار جبت الشمع؟

استدرات ليلى على عقبيها وهي تقطب كلا حاجبيها بتعجب تراقب تقدمه منها بابتسامة جذابة حاملًا بين يديه صندوق أسود مخملي، بسطت كفيها أمامها عِندما أشار برأسهُ بخفة، وضع الصندوق بين يديها هامسًا وكأن لاشيء حدث في الخارج: كل سنة وأنتِ طيبة والسنة الجاية نحتفل بيه وإحنا مع بعض، ضحكت بخفوت وهي تهز رأسها فهذا ليس وقت شجار، لطالما كرهت هذا اليوم وكرهت تذكره والاحتفال به، لكن الآن قلبها يقفز فرحًا بحيوية ونشاط..

أجابت والسعادة تغمرها والبسمة لا تفارقها: وأنت طيب يا عمّار، أومأ بابتسامة حانية ثم أخذ نادين إلى منتصف غرفة الجلوس وهو يتمتم: تعالى نولع الشمعة
راقبتهم ليلى بابتسامة باهتة حتى توقفت رنا أمامها عزولا، وضعت صندوق مُزين فوق الخاص بـ عمّار وهي تعايدها بابتسامة لا تليق بتعابير وجهها: كل سنة وأنتِ طيبة يا ليلى..

تفاجأت ليلى في بادئ الأمر بسبب وجودها سرعان ما تداركت نفسها ورسمت بسمة على وجهها وأجابت ملاطفة: وأنتِ طيبة يا رنا نورتيني، أومأت لها بابتسامة ثم تركتها وجلست على الأريكة..
راقبتها بتعجب ليتسلل إليها صوت لمار الهامس بأسف: كُنت فاكره إنك بتحبيها أوي عشان كده عزمتها..
ابتسمت ليلى وهي تهز رأسها بلا بأس، تنظر إليها بامتنان ثم شكرتها: شكرًا ليكِ يا لمار..

عانقتها بحنان كـ شقيقة وهي تعايدها: كُل سنة وأنتِ طيبة، وعلى فكرة دي فكرة عمّار هو أخرِّك لحد ما خلصنا..
خفق قلبها بعنفٍ شديد وأخذت تبحث عنهُ بعينيها بلهفة لتتوقف على ظهره وهو يميل بجذعه فوق الطاولة مستغرقا في عمل شيءً ما..
ـ عمّار عايزة أتكلم معاك شويه، نطقت نادين بعبوس وهي تنظر لهُ لـ يصلها رده الهادئ بعد ثواني قليلة: بُكره يا نادين، تنهدت بحزن وآثرت الصمت..

اختفى عمّار عن ناظريها مع توقف قُصيّ أمامها وهو يضيق عينيه مشاكسا: قافشة في البوكس اوي كده ليه؟
هبطت بنظراتها فوقه بارتباك ثم قالت بتلعثم: لـ، لا، عادي، مسكاه!
قهقهة وهو يُراقب توردها ثم قدم لها هديته الصغيرة المغلقة بعناية التي لا يتخطى حجمها حجم ثمرة فراولة أصابت في نفسها التعجب والحيرة بما يوجد داخلها..

حركت شفتيها وكادت تسأله بفضول لكن آدم ازاحه من أمامه وقدم هديته بابتسامة اغتصبها لاحظتها لمار لتعبس بحزن، فهو منذ مجيئه شارد وحزين..
ـ انا بجد متشكرة ومبسوطه بوجودكم معايا مش هنسي اليوم ده أبدًا، قالت ليلى بامتنان..
ليرد قُصيّ بغرور: مش محتاجة كلام إحنا عارفين..
كشرت بوجهه وكادت ترد لكن نادين اندفعت بينهم وحملت الهدايا من يدِ ليلى وقالت بعجله: انا هطلعهم اوضتك بسرعة عشان تطفي الشمع، يلا..

أومأت وسارت ناحية المنضدة الدائرية، ليسأل قُصيّ آدم بهمس: معاك كبريت ولاعه أي حاجة؟
هز رأسهُ بنفي وسأله بتعجب: ليه؟
قال وهو يضع يديه داخل جيب بنطاله: معايا ديناميت عاوز اولعه..
وبخه آدم بحدّة: ديناميت ايه يا تافه أنت بلاش..
ـ هروح أجيب كبريت بسرعة، قالت لمار بحماس وهي تهرول إلى المطبخ ليضحك قُصيّ وهو يحدق بابتعادها: بدأت تعجبني.

توقفت ليلى أمام الكعكة مقابل عمّار الذي أشعل الشمعة الوحيدة التى أتي بها لم تكن رقما ولا اثنين بل كانت كلمة شهرين يخرج منها اللهب..
نظرت لها بتعجب ثم سألته بعدم فهم: شهرين!

رفع رأسه ونظر لها من خلف ضوء الشمعة بابتسامة أظهرت نواجذه لـ ينطفأ الضوء وتبدأ الشمعة تنوس وتعبث داخل مقلتيه حتى استقرت صورة ليلى داخلها ليهمس بعبث صانعا تواصلا بصريا مع نهر العسل الذي يتلألأ منهُ الضوء: أنتِ اتولدتي من جديد لما أنا دخلت حياتك و انا دخلتها من شهرين بس الباقي مش محسوب.

رفعت كلا حاجبيها بتفاجئ وهي تبتسم فهذا غير متوقع!، ضحكت بخفة بسبب تلك الثقة وهي تحدق في الشمعة ثم قالت ما لم يتوقعة: بس أنت داخل حياتي من شهرين ويوم يا عمّار..
ـ شهرين ويوم و 18 ساعة إلا دقيقتين، قال وهو يرفع حاجبيه بثقة، فهو مهتم أكثر منها، صدح صوت فرقعة تلته صرخة أنثوية وفرقعة تلتها صرخة أخرى مُزِجت مع صوت قهقهات قُصيّ المتسلية..
زفر عمّار وصاح بوعيد: قُصيّ ولع النور وتعالي بدل ما اجيلك..

صدح صوت فرقعة أخري مع صرخة أنثوية تخص ليلى، تنبهت حواسه وكاد يقترب لكنها أخذت تضحك بقوة والسعادة تغمرها جعلته يتوقف يتأمل ضحكتها المداعبة لحواسه وصوتها العازف على اوتار قلبه..

تجمعوا حول الطاولة بابتسامة وبدأوا بغناء أغنية الميلاد المتعارف عليها ليظل هو على وضعه جامد يتأمل ضحكتها وبهجتها التي لم يراها قبلا أثناء غنائها معهم وهي تحوط نادين أسفل ضوء الشمعة الساحر، فهذه الذكرى الجميلة لن يجرؤ على نسيانها قط ستظل قابعة في ذهنه..
أطفأت الشمعة وهرولت لمار تضيء الأنوار ليستيقظ عمّار من صفونه بها على قبضه قُصيّ التي ضربت ذراعه بخفة كي يستيقظ: فوق..

تنهد عمّار بتعب وهتف بشرود: ليلى حلم جميل هيتحول لكابوس..
ضم قُصيّ شفتيه باستياء ثم نظر لآدم الذي تغلفة هالة الكآبة: وأنت مالك من ساعة ماجيت مش مظبوط؟
ـ تالين حامل، قال بسخرية التفتا إثرها الأثنين بتفاجئ ليسأله قُصيّ بجزع: منك؟
تسللت شهقة من بينهم كانت شهقة لمار التي سألت بصدمة: أنت متجوز؟

هزّ رأسهُ بنفي أقرب للسخرية وهتف وعينيه تنتقل بين قُصيّ وعمّار: تالين حلم جميل عمره ما هيتحقق، وتركهم وخرج يستنشق بعض الهواء النقي لأنه يكاد يختنق، هرولت خلفه لمار، لتصدم بجسد كان يدخل من الباب أثناء خروجها، شهقت بتفاجئ وتابعت خروجها متمتمة بتعجب: سعيد؟!
هتف قُصيّ بتعجب وهو يهز كتفيه: هو انا مبحلمش زيكم ليه؟
ـ أنكل سعيد نورت، تلاشت البسمة وتهجمت الملامح واستدارت ليلى متعجبة عِندما سمعت نادين!

ربت سعيد على وجنتها بحنان ثم ساقته ساقه إلى محل وقوف ليلى، توقف أمامها والندم أخذ نصيبه من معالم وجهه..

تحدث بندم لائمًا نفسه أمامهم: أنا جاي أتأسف قدامهم كلهم و أعترف اني غلطت في حقك، أنا مهما دورت مش هلاقي واحدة زيك أنا آسف و بتمنى تقبلي اعتذاري، وعشان أثبتلك حُسن نيتي فلوسي وكُل ما أملك كل حاجة هتبقى تحت رجلك ورهن إشارتك، هزت رأسها بعدم فهم وهي تنظر إليه بترقب ليرفع يده ويخرج علبة مخملية من جيب سترته، فتحها أمام وجهها واستطرد طالبًا بتضرع وتمني: اتجوزينى، اديني فرصة ثانية اثبتلك اني مش وِحش..

فكت رنا عقده يديها بصدمة والغِل ينهش احشائها من الحقد وهي تحدق في أناملها التى قربتها منهُ كي يلبسها الخاتم، هل وافقت بتلك السهولة؟ المغفلة هذا فخًا آخر!.
ازدرت نادين ريقها بتوتر بسبب هذا الصمت المطبق، حدقت في وجه والدتها التي تنظر إلى الخاتم بأعين دامعة، التفتت تنظر إلى عمّار ولا تستطيع وصف ماتراه سوى أن الجحيم مُتجسد أمامها وثانية أخرى سيفقأ عينا سعيد ثم يقتلع رأسهُ من محلها..

رفعت رأسها وهي تستنشق ما بأنفها ثم اغتصبت ابتسامه وهي ترحب به بغصه مؤلمة: محصلش حاجة يا سعيد ولا يهمك، أنا مش هلاقي احسن منك، انا، انا، لازم اجيب طبق، وهربت وتركته يقف وسارعت بذهابها إلى المطبخ بخطواتٍ شبه راكضة وهي تكتم شهقتها، لم تكن تعرف أنها تجيد الكذب إلى هذا الحد، هي مجبرة على فعل هذا، يُجب أن تبعد عمّار عنها يُجب أن يبتعد، سواء كان يكذب أم لا لم يعد يفرق معها فحياتها ليست بذلك الجمال وسعيد هو سيفسدها عليها، فقط تتمنى أن تتحلى بالصبر حتى ينتهي هذا بسلام..

نزع كوب المياه الغازية من يدِ قُصيّ بقوة و ارتشفه في رمق واحد ثم ناوله الكوب وذهب صوب المطبخ بخطواتٍ جحيمية..
حدق قُصيّ في الكوب الفارغ بتعجب ثم صاح: على فكرة دي شويبس عادي!

بسطت كفها و مررت أناملها فوق الخاتم وهي تعض شفتيها المرتجفة بقوة وعبراتها تهطل بغزارة، لقد تم إفساد يومها وتلاشت سعادتها، تنبهت حواسها و ثارت حفيظتها عِندما استنشقت رائحته، هو لن يؤذيها بالتأكيد، استدارت كي تذهب لتجد نفسها تُدفع بهمجية التصق إثرها ظهرها في حافة الحوض مشرفًا عليها بقامته المهيبة..

رفعت نظرها لهُ لتخفض عينيها سريعا مهابةً وخوفًا منهُ وهي ترى نظراته الزاهقة لروحها تخترقها بلا هوادة، سارت رجفة بسيطة فى أنحاء جسدها وهي تشعر به يرفع كفها و أنامله تمتد لأخراج ذلك الخاتم بقوة، ضمت قبضتها بقوة فوقه وهي تهز رأسها برفض وإصرار على عدم خلعه..

زمجر بغضب وهو يضغط على عظامها بقوة جعلها تطلق صيحة متألمة وعبراتها تتسابق على وجنتيها، فهي لا تعرف كيف يضبط نفسه بأعجوبة كي لا يؤذيها وهي كالغبية لا تتعظ أبدًا وتستمر بتصرفاتها المستفزة التي تجعله يفقد صوابه ويؤذيها وفي النهاية تنعته بالهمجي..

صرخ بوجهها بنبرة جهورية موحشة أرعدت دواخلها جعلتها ترتجف وتغلق عينيها بخوف: افتحي ايدك، فتحتها بانصياع وهي تنتحب لينتزع الخاتم من يدها بقسوة كأنه يستأصل ورم خبيث كاد يكسر بنصرها إثره..
قبض على فكها بقسوة جعلها تفتح عينيها الحمراء المتورمة تناظره بوهن..

هسهس بتحذير وقبضته تشتد فوق فكها جعل ملامحها تتقلص بألم: انا بحذرك لآخر مرة، لو مبطلتيش تتصرفي بغباء والله هزعلك، أنتِ مش هتتجوزي غيري فاهمة؟، أنهي قوله الأخير بحدّة لتصرخ به بانهيار وهي تصفع يده عنها: لأ مش فاهمة، ابعد عني انا بكرهك..
قال بتزلف وهو يمسك ذقنها بقسوة: هتكرهيني أكتر لو مسمعتيش الكلام لأني جبت أخرى منك خلاص وزهقت..

أتاه صوت سعيد المحتج من الخلف: ايه اللي بيحصل هنا؟، توحشت ملامح عمّار وثار وانقبضت عضلات صدره وغلت الدماء داخل عروقه عِندما سمع صوته، استدار وقذف الخاتم بوجهه عقبة قوله بحدّة: مفيش جواز و اتفضل اخرج برا..
زفر سعيد وسأل بعصبية: ايه اللي بيحصل هنا يا ليلي..

كور قبضته وتقدم منهُ كـ عاصفة هوجاء، ضرب كتفه بعنف جعله يترنح وهو يسأله باستهجان: مش عاجبك انا؟ ليلي هتعملك ايه يعني؟ براا وخُد القرف ده معاك، وازاح الخاتم بقدمه ليتدحرج وحثه على الخروج بوحشية عِندما لم يجد ردة فعل: قُلت براااااا..
نظر لهُ سعيد بوجه مكفهر من الغضب وتوعده بإصرار سينفذه: مش هسيبك..

ـ يلي يا(، )! من هنا، شهقت رنا بتفاجئ ووضعت يدها على فمها بصدمة ليطردها هي الأخرى بـ مقتٍ شديد: أنتِ واقفة بتعملي ايه؟ براا أنتِ كمان..
أومأت سريعا ثم انحنت واخذت الخاتم و ركضت إلى الخارج كي تلحق به..
التقط أنفاسه المتسارعة بثوران ثم استدار ورشقها بنظرةٍ حارقة وهتف بتهديد: دي أخر مرة هحذرك فيها..
قالت بنشيج وهي تتهاوى جالسة على الأرضية الباردة: بكرهك، بكرهك، شملها بنظرةٍ قاسية صاغرة ثم استدار وذهب..

غمرت وجهها بين راحتيّ يديها، تبكِ بصوتٍ مكتوم وهي تهز رأسها رافضة ما يحدث داخلها من تضارب مشاعر، هي لا تكذب تكرهه، لا تنجذب إليه، ولا تهتم لهُ، لا تُحب رائحته، تكرهه..
وقف قُصيّ من مكانه بعد سماع كُل شيء بالتأكيد، قال و امارة الأسف تظهر على وجهه بسبب ماحدث: انا ماشي عشان تعبان هكلمك بكرة واهدي كده وبراحة..
ـ فين نادين؟، سأله من بين أنفاسه وهو يبحث عنها بعينيه..

ردَّ بهدوء وهو يأشر على الأعلى - قاصدًا غرفتها-: جالها تليفون قبل ما تهجم على المطبخ خدته وطلعت، انا ماشي بقي، أومأ لهُ بهدوء وجلس على الأريكة بعد ذهابه، يعتصر رأسهُ بين يديه بقوة ونبرتها ترن داخل أذنيه بكرهك، بكرهك، لقد أتت في الصميم تلك المرة..

لمَ الحزن تلك ليست المرة الأولى التي تقولها، لقد سأم وملّ هذا التجريح فهو يشعر ويملك قلبًا أيضًا!، كُلما ظن أنه تقدم معها تعيده إلى نقطة البداية من جديد، ماذا يفعل، لا يستطيع مجابهتها، نظراتها تدمره، واذيتها تؤلمه، فماذا يفعل معها..
ـ مامي فين؟، سألت نادين وهي تجلس بجانبه..
رفع رأسه وقال باقتضاب: في المطبخ..
تنحنحت ثم طلبت منهُ برجاء: عمّار أنا عايزة أتكلم معاك..

قال وهو يقف كي يذهب: بُكره يا نادين بُكره، واعملي حسابك مفيش سفر، انا ماشي، وتركها تقف تحدق في أثرة بحزن..
دفع قُصيّ الأرجوحة في الحديقة بقوة لتشهق لمار بخضة وتعانق آدم بقوة مدثرة نفسها بأحضانه بحميمة، غمزها قُصيّ بتواطؤ هاتفًا بخبث: اي خدمة..
ابتعدت سريعًا عن صدر آدم وهي تحمحم، هل تم الإمساك بها؟ هذا الخبيث لاحظ أعجابها به، وقف آدم بهدوء وكأن شيءً لم يحدث ثم سأل: رايح فين؟
قال بهدوء: ماشي..

ـ خدني معاك، أتاه صوت عمّار الغاضب من الخلف..
هبَّت لمار واقفة وسألت بحزن: عيد الميلاد خلص؟
قال عمّار بوجه مكفهر سائم: بلا عيد ميلاد بلا زفت انا مسافر، وتركهم وغادر، هرول قُصيّ خلفه لأنه لم يأتي بالسيارة، بينما لوح آدم بيديه باعتراض وهو يحدق في أثرهما بسبب تركه وحده معها، تنهد بعمق واستدار يسألها باستفهام: معاكِ عربية؟
هزَّت رأسها بحزن وهي تزم شفتيها ليقول بهدوء وهو يسبقها للخارج: تعالي هوصلك..

صاحت بسعادة وهي تدور حول نفسها ثم قفزت بفرح وركضت إلى الخارج..
وصل قُصيّ إلى منزله بعد بعض يجر قدميه خلفه، يصعد السلم بتعب مضاعف لا يعرف مصدره، وجد الغرفة مظلمة ويبدو أن جـنّـة نائمة، بدل ملابسه في هدوء وسط الظلام ثم استلقي جوارها بوهن، يتوسد مرفقة وظل يحدق في السقف المظلم بأنفاس متسارعة حارة..

تحركت جـنّـة بعدم راحة، توسدت صدره وأحاطت خصره قائلة بنعاس وهي تدس نفسها بأحضانة: العب في شعري مش عارفة انام..
تنهد وهو ينظر لها في الظلام مستسلمًا، خلل أنامله داخل شعرها وأخذ يدلك رأسها برفق ونعومه حتى غفيت وغفي بعد بعض الوقت هو الأخر وهو يضمها إليه..

في هذا الوقت، كان آدم يقف أمام العمارة التي تمكث بها لمار متعجبًا وهو يتساءل في نفسه سبب وصوله إلى هُنا؟ عمّار قال سابقا إنها لم تجعله يوصلها إلى المنزل من قبل لما سمحت لهُ أن يوصلها هو إلى هُنا؟!
تنبه وخرج من شروده ليجدها تنظر إليه بابتسامة عذبة، تحمحم ثم قال معتذرًا: آسف سرحت، أنتِ قاعدة هنا؟
أومأت بحماس ثم أشارت إلى الأعلى من النافذة قائلة بـ وِد: قاعدة في الدور التالت الشقة اللى على اليمين..

أومأ بتفهم وهو يحدق عبر النافذة في الأعلى لـ تُكرر قولها وهي تُضيق عينيها: في الدور التالت الشقة اللى على اليمين..
أومأ من جديد وهو يرفع حاجبيه مراقبًا ترجلها من السيارة، أدار المقود وكاد يذهب لكنها أدخلت رأسها من النافذة وأكدت عليه: الدور التالت الشقة اللى على اليمين..
ضحك وهو يومئ بقوة وقال وهو ينظر إلي وجهها الباسم: الدور التالت الشقة اللى على اليمين عرِفت خلاص، هبقي اجي اغير لك الامبوبه..

ضحكت برقة ثم لوحت له مودعة ودلفت من مدخل العمارة إلى الأعلى مباشرةً، راقبها بابتسامة حتى اختفت عن وقع أنظارة ثم استدار بالسيارة وغادر..
وصل بعد بعض الوقت، دلف إلى الشقة وأغلق الباب خلفه بخفة كي لا يصدر صوتًا ويزعجها لو كانت نائمة، سار تجاه غرفته لكن استوقفه الضوء المنبعث من الشرفة ونسمات الهواء الباردة التي تطايرت إثرها الستائر..

وضع الهاتف من يده فوق المنضدة الدائرية التي في غرفة الجلوس تتوسط الأثاث، تردد في الدخول لكن الشوق تمكن منهُ وجعله يتطفل عليها بقلبٍ يخفق كمراهق، دلف بتسلل كي يرى ما تفعل ليبتسم بدفء عِندما وجدها غافية على المقعد مستغرقة في النوم وشعرها يرفرف حول وجهها بنعومة تضم وشاح ثقيل عليها مطالبةً بالدفء، خلع سترته الصوفية ووضعها فوق جذعها العلوي برفق وعينيه تمر على ملامحها الناعمة بحنان، قرص وجنتها المكتسبة حمرة بخفة وهو يبتسم ثم استدار واستند بمرفقيه على سور الشُرفة الزجاجى وأخذ يحدق في النهر يتابع تموجاته الهادئة بشرود..

إستقام زافرًا بقوة، نظر إليها مجددًا والنيران تتأجج بين جنبات صدره، فهو يعلم أنهُ خسرها وللأبد فلا فرصة لهُ معها بعد الآن..

اشتدت الرياح وزحفت البرودة إلى جسده، سعُل بخفة وهو يفرك يديه معًا ثم مال عليها ووضع يد أسفل فخذيها والأخرى خلف ظهرها وحملها لتستقر رأسها فوق صدره، وذهب بها إلى غُرفتها، سطحها فوق السرير، دثرها أسفل الغطاء جيّدًا ثم أخذ الهاتف الذي كانت تقبض عليه بقوة بين يديها كـ طفلة وهو يبتسم، وضعه على الكومود ثم مسح على شعرها المفترش الوسادة برقة، لثَّم جبهتها بحنان ثم ذهب إلى غُرفته وهو يفكر بمصطفي الآن، ماذا يفعل؟ بالتأكيد نائمًا في أحضان سالي الخروف عديم الاحساس..

دقت الثانية عشر وحلّ مُنتصف الليل..
كانت مسطحة على السرير تعانق وسادتها بقوة، تحرك جفنيها المتورم بثقل ونظرها معلق على الشرفة تراقب تراقص اوراق الشجر من الخارج إثر الرياح بسكون، إنه تمامًا كالرياح، يأتي دائمًا دون سابق إنذار، أحيانا لطيفا مداعبًا، وأحياناً عاصفًا باردًا، إنهُ عمّار..
طرقات رقيقة على الباب أخرجتها من شرودها، أذنت لها بالدخول بصوتٍ خافت لم يصل لها لكن رغم هذا دخلت..

تمددت بجانبها ظنًا أنها نائمة لكن وجدتها مستيقظة تبتسم في وجهها..
زمت شفتيها وطلبت بعبوس: ينفع أنام جنبك النهاردة؟
ـ طبعًا، قالت بحنان وهي تبعد الوسادة عنها وفتحت يديها لتقترب نادين وتدثر نفسها بأحضانها بقوة..
قبلت ليلى رأسها بحنان سائلةً: مالك ياحبيبتي زعلانة ليه؟
أجابت بعبوس: عيد الميلاد باظ وعمّار قلي متسافريش و أنكل سعيد عايز يتجوزك أنتِ بجد هتتجوزيه؟ ده كبير اوي!

ضحكت ليلى بخفة ورفعت يدها تتأمل بنصرها المكتسب حمرة الذي مازال يرتجف إلى الآن، أخذت تبسط كفها وتضمه بشكل متكرر كي يتوقف هذا الارتجاف فهو أتلف اعصابها..
ـ مفيش جواز خلاص متقلقيش من هنا ورايح هبقي فاضيالك أنتِ وتجهيزات فرحك وبس..
أثار القول حفيظتها جعلها ترفع رأسها وتسألها بابتسامة مهزوزة: فرحي!
أومأت وهي تقرص وجنتها بخفة: اه مش عايزة؟
نفيت بشرود: لا عايزة بس مش دلوقتي انا لسه مخلصتش جامعة..

مسحت على شعرها بحنان قائلة وهي تحدق في العدم: اكيد مش هتتجوزى بُكره يا حبيبتي لسه بدري، هزت رأسها بإيجاب وهي تدفع بنفسها لأحضانها أكثر باحثة عن الدفء والاطمئنان لتستطرد ليلى: تعرفي ايه عن عمّار؟ تعرفي إنه عنده أخ وأم؟!
توسعت عينيها بتفاجئ ورفعت رأسها تسألها بتعجب: بجد! ازاي؟ مش عايشين معاه ليه عمره ما اتكلم عنهم؟
أجابت بهدوء: مش عارفة مش هو اللي قلي وشكله مش ناوي يقول أنا بعرفك أنتِ بس..

أومأت بتفهم ثم عادت تتوسد صدرها بإحباط: كده هسافر لوحدي..
احتل الخوف كيانها وخصوصا وهي تسترجع حديث عمّارفاقترحت: خليكِ لما الجو يبدأ يدفي شويه ونبقي نسافر سوى؟، نادين!، لم يأتها رد..

ـ نادين!، قالت بتعجب عندما وجدتها غفيت! كانت تتحدث معها الآن ما هذا؟! تبسمت ثم قبلت رأسها ووضعت الغطاء فوقهما وتابعت تحديقها في الشرفة، لتفتح نادين عينيها ببطء وظلت صامته تخفي نفسها، فيُجب عليها أن تذهب ولن تتناقش في هذا ستذهب يعني ستذهب، سواء بـ عمّار أو بغير عمّار..
وفي هذه الأثناء تحديدًا..

كانت عشق تقف في شرفة شقتهم المستأجرة تحوط كتفيها بوشاح ثقيل ترفع شعرها بمشبك الشعر غير مكترثة للرياح القوية التي جعلتها ترتجف نسبيا وينسل شعرها من المشبك ويتحرر ويتطاير بقوة كأنها تقف أمام طائرة تهبط من السماء أمامها، تحدق في شرفة البناية المقابلة لها باهتمام وتركيز، تراقب ذلك الرجل الذي يقف فوق سلم خشبي ينظف اللافتة الخاصة به من الأتربة، ليس هذا ما لفت نظرها بل كم الوقت الذي استغرقه!، فهي منذُ أن دلفت إلى الشرفة وهو يقف ينظف اللافتة بتفانِ، نصف ساعة أو أكثر و الفضول يقتلها لهذا تقف تنتظر انتهائه كي ترى ما المنقوش عليها ولمَ ينظفها هو بنفسه؟

سقط فجأة من فوق السلم الخشبي لتنفجر ضاحكة تصفق بيدها بعفوية دون أن تنتبه لصدي صوتها الذي تكرر في هذا السكون وقد يكون سمعه، اتسعت عينيها تزامنًا مع شهقتها وركضها إلى الداخل عِندما وجدته يقف باستقامة يحدق ناحيتها، لم ترى ملامحه لكن متأكدة أنهُ متهجم و يُريد الفتك بها..

تمتم بكلمات غير مفهومة تعبر عن حنقه وهو يعاود الصعود يتابع تنظيف اللافتة التي هجرها لفترة، لتتابع هي الأخرى مراقبته عن طريق إخراج جزءًا من رأسها من جانب الإطار خلسة وهي تبتسم منتظرة أن يسقط مرة أخرى لكنه لم يسقط بل أضاء اللافتة ليتلألأ أسمه المنقوش باللون الأبيض فوق اللون الأزرق الداكن بإسم عيادة / كُلنا معاك للطب النفسي دكتور وليد الدسوقي.

أعادت قراءتها مرارًا وتكرارًا، أزاحت باب الشرفة ودلفت باهتمام، ظلت تحدق في الأسم بشرود وهي تفكر، فهي بحاجة إلى طبيب..

ابتسم وليد باتساع ونزل من على السلم بفخر وانتباه كي لا يسقط، حانت منهُ التفاتة ليبصرها تقف تحدق ناحيته، تأفف بضيق بسبب عدم رؤيته لتلك الوقحة التي ضحكت عليه، الأضواء لديها مغلقة ولا يرى سوى منامة بيضاء وفوقها وشاح كريمي لا غير هذا، لا ملامح، صعد السُلم مجددًا، أطفأ اللافتة لأنهُ ذاهب ودلف يستعد للمغادرة..

أضاءت الشُرفة فجأة جعلتها تفرك عينيها وهي تخفض رأسها تزامنًا مع دلوف جاسم وهتافه باسمها بحنان: عشق! أنتِ لسه منمتيش؟
ابتسمت وهي تعدل الوشاح فوقها قائلة بهدوء: كُنت داخلة دلوقتي، أومأ بتفهم ثم قال بعد تفكير دام لخمس دقائق وهو يحدق بمشبك الشعر الساقط: عشق في دعوة جاتلي لـ حفلة بكرة تروحي ولا نرجع إسكندرية على طول؟

هزَّت كتفيها وهي تبرم شفتيها قائلة بنبرة عادية: مش هتفرق اي حاجة عاوز تروح نروح مش عايز عادي.

ابتسم وانحنى يلتقط مشبك الشعر، انتصب واقفا ثم لملم خصلاتها المتطايرة وجمعهم مع بقية شعرها بشغف وثبتهم بالمشبك، ليستوقف هذا المشهد وليد عن أغلاق النافذة، قرب رأسهُ وراقب ما يحدث بتركيز لكنهُ لم يرى وجهها فقط ظهرها وابتسامه ذلك الرجل الذي يقف أمامها، يبدو عاشقًا لها من نظراته، يحسده حقًا بالتأكيد سعيد، زم شفتيه مراقبًا محاوطته لها بحميمة وأخذها معهُ إلى الداخل وهو يمسد ذراعها من البرودة، أطلق صفيرًا شاعريًا وهو يضيق عينيه بمكر فماذا سوف يفعل معها في الداخل يا تري لكي يغمرها الدفء؟

تمتم بخيبة أمل وهو يغلق النافذة: يا بخته..
وانتهى وأغلق عيادته وذهب..

اليوم التالي في منتصف النهار..
نظر إلى فعل يده بابتسامة راضية ثم حمل صينية الطعام الذي حضره بحب وصعد به إلى الأعلى..

طرق على الباب بخفة وهو يهتف باسمها: تالين، تالين، لم يأته رد، وقف قليلاً يُفكر فيما قد تكون تفعله في الداخل، تنهد بقلق ثم أدار المقبض ودلف، وضع الصينية فوق الطاولة وبحث عنها بأنظاره بلهفة عِندما وجد السرير فارغ، تقدم وكاد يطرق على باب دورة المياه لتتوقف قبضته في الهواء عندما فتح الباب وأطلت عليه بوجه شاحب وجبين يتفصد عرقًا..

سارت خطوتين بترنح والثالثة سقطت بتعب لكن يديه حالت هذا، أحاطها بقوة ورفعها من خصرها بقلق وهو يتحسس جبهتها: أنتِ كويسة؟
نفت بهز رأسها بوهن شاعرة بالغثيان، ساعدها على التسطح فوق السرير، وضع وسادةً خلف ظهرها وعدل من جلستها كي تكون مُريحة أكثر ثم وضع صينية الطعام على فخذيها وبدأ بإطعامها برفق وهو يبسط كفه أسفل الملعقة كي لا يتساقط الحساء عليها..

أكلت من بين يديه وهي تبلع غصتها المريرة، شعرت بالحرقة داخل عينيها لتبدأ بتحريك أهدابها بقوة كي لا تبكِ لكن شفتيها التي أخذت في الارتعاش كان لها رأيًا آخر، ستظل ممنونة لهُ طوال حياتها، فلم يحني عليها أحدًا في هذه الحياة بقدرة قط..
أمسك ذقنها برقة وقال بحنو وهو يضع الملعقة بين شفتيها: متفكريش كتير وكُلى..

أومأت وقد انسلت عبرة حارقة من بين جفنيها رغمًا عنها قام بمحيها سريعًا بحزن، يحثها على تناول الطعام بهدوء وبقلبٍ مُلتاع قال: تالين، أرجوكِ أنتِ بتتعبيني بلاش عياط ها! أنتِ هتبقي أم لازم تبقي مبسوطة وتهتمي بنفسك وبصحتك عشانه بلاش زعل ها؟

أومأت بطاعة وهي تمسك كفه بين يدها تضغط عليه تستمد منهُ قوتها المسلوبة، رفع يده الأخرى وداعب وجنتها برقة مبعدًا شعرها خلف أذنها لتحرك رأسها ضد يده بنعومة وهي تغمض عينيها بخدر، قبلت باطن يده قبله سطحية لينتفض قلبه ويثور داخله ضاربًا قفصه الصدري بعنف، لثَّم جبينها بحنان وصدره يعلو ويهبط باضطراب هامسًا بلهاث كي يخرج قبل أن يحدث مالايحمد عقباة: في حاجات مهمة لازم أخرج أجبيها مش هتأخر كملي أكلك، تمام، أومأت وهي تزدرد ريقها، تخفض رأسها بخجل و بارتباك أمسكت الملعقة وتابعت تناول الطعام..

تقلب عمّار بعدم راحة وهو يدس رأسهُ أسفل الوسادة بقوة بسبب رنين الهاتف المزعج، غمغم بغضب ثم التقطه وأجاب بحدّة جلية كانت ناعسة رغم هذا: الو؟
هتفت باستنكار وهي تسمع صوته الناعس: والله؟ أنت نايم الشغل يابيه؟
غمغم بغضب وهو يستقيم جالسًا: مش جاي تاني ومسافر سلام..
ـ لأ لأ، استنـ، أغلق بوجهها لتهتف بحزن وهي تدبدب بقدميها أرضًا متذمرة: ملحقتش اخد رقم آدم اووف..

قذف الهاتف بعيدا وقفز مغادرًا الفراش، دلف يغتسل بملامح متهجمه بتقطيبه كلا حاجبيه بوجوم منذُ أمس لم تتبدل ملامحه..
خرج بعد بعض الوقت يجفف شعره بحركة عصبية سريعة لكن استوقفه رنين الهاتف، تناوله بضيق لم يختفي حتى بعد رؤية أسمها..
أجاب ببرود: نعم؟
ردت بعملية وهي تغلق المكنسة الكهربائية وقد توقفت عن التنظيف: ممكن تيجي عايزاك..

انتفخت أنفه بغضب كالثور حقًا الآن وسحق شفتيه بغضب مستشفًا في نبرتها الأمر فمن تظن نفسها؟!
هدأ نفسه بـ شهيقًا طويل عميق ثم هدر رافضًا: لأ مش جاي، سلام، أبعد الهاتف عن أذنهُ وكاد يغلقه لكن صوتها الضارع الحزين في طلبه استوقفه: عمّار لو سمحت تعالى..
تنهد وهو يغمض عينيه بقوة هامسًا لنفسه بالرفض، الرفض لا محالة..

شتم نفسهُ وهو يكز على أسنانه بغضب ثم قال بغلظة: طيب جاي، أغلق الهاتف وقذفه ثم ألقي نفسه فوق السرير وأخذ يحدق في السقف بنظراتٍ خاوية، فهو يخشى السفر، يخاف أن يذهب وعِندما يعود يجدها متزوجة تلك المتهورة عديمة العقل، يجزم أنها تملك عقل جاموسًا..
سيذهب إليها لكن في الوقت الذي يُريد فلتنتظر هي من تحتاجه..

أغلق جاسم الباب بقدمه بابتسامة، تحرك صوب الداخل وهو يهتف بإسمها أثناء تحريك الأكياس البلاستيكية في يده: عشق، ياعشق..
أتت مهرولة من الداخل وهي تبتسم قائلة بهدوء: نعم..
ناولها أحد الأكياس وهتف بحماس: جبتلك فستان عشان الحفلة شوفيه ووريني..
ابتسمت وهي تخرجه بهدوء لتتسع ابتسامتها أكثر عِندما رأت لونه الكريمي، هذا أجمل من الأسود الذي كانت تُفكر به سيكون رائعًا عليها..

عانقته بقوة شاكرةً لهُ بامتنان: جميل أوي ياجاسم تسلم ايدك، قبّل قمَّه رأسها وهو يربت على ظهرها بحنان لتستطرد: انا عملت الاكل وجهزت الشُنط ناكل وبعدين أقيسه تمام..
قرص وجنتها بخفة وهمس بابتسامة: تمام..

قلَّب قُصي الدعوة بين يديه وهو يبرم شفتيه ثم قذفها بعدم اهتمام وسأل جـنّـة: هتروحي؟
هزَّت رأسها بنفي وقالت بإحباط: لو كانت تنكرية كُنت روحت عارف أني بحب الحفلات دي..
لاحت ابتسامة ساخرة أعلى شفتيه وهو ينظر إليها ثم قال مؤكدًا: عندك حق ومش محتاجة تتنكري أنتِ متنكرة جاهزة..

ابتلعت سخريته ولم تُعقب عليها وظلت ساكنة لثوانٍ حتى وقف فأمسكت يده وسألته بلهفة لم يغفلها ولم تخفيها هي مع بريق عينيها الراغب: هتروح؟!
قال بنبرة عادية وهو يبعد يدها عن ساعده: هفكر وأنا باخد دُش، وتركها ودلف إلى دورة المياه تحت نظراتها المتربصة به حتى أختفي خلف الباب..

هبَّت واقفة سريعا والتقطت الهاتف وطلبت الرجل المتعقب لـ عشق وجاسم وهي تذرع الغرفة من ركنٍ لأخر بتوتر: الو عملت ايه؟ مُتأكد طيب تشتري نفس الفستان و تبعتهولي على البيت فورًا ومش عايزة تأخير سلام..
أغلقت الهاتف وقذفته من يدها وهي تعض شفتيها بقوة، أخذت تفرك يديها بتوتر وهي تكتم أنينها ورغبتها في الانتشاء، ازدردت ريقها بألم وهي تمسد جبينها بأنامل مرتجفة ورغبتها تتضاعف وتفقدها سيطرتها على أعصابها..

فتحت الخزانة بتحفز وهي تلهث باضطراب وحلق جاف، أخرجت شريط الحبوب المخدرة من أسفل الملابس وظلت تحدق به برغبة وتردد وهي تفكر في عواقب هذا، إن أخذت الآن مفعوله لن يزول سوى بعد إثنا عشر ساعة وهي تحتاج أن تكون مُستيقظة كي تُلقن عشق درسًا قاسيًا، ضعفت أمام رؤية الحبوب ولم تستطع السيطرة على رغبتها وضربت بعزيمتها على التوقف عن التعاطي عرض الحائط وأخرجت حبه صغيرة لكن انتفض جسدها وسقطت من يدها مع الشريط عِندما سمعت صوت قُصيّ يهتف بإسمها من الداخل..

وضعت يدها على قلبها المنتفض بقوة وهي تغلق عينيها، هدأت من روعها وهي تمسد محل قلبها بيد و تشد على أطراف شعرها بيدها الأخرى، تكز على أسنانها بقوة في محاولة مستميتة كي تسيطر على نفسها لكي لاتنفضح أمامه اليوم..
ـ جـنّـة هاتي فوطة، أعاد بحنق من الداخل.

أثارت النبرة حفيظتها، فتحت عينيها الراغبة، انحنت وأخذت الشريط تخفيه مكانه ثم أخذت منشفة من فوق أحد الرفوف وتحركت بـ آليه بعد أن إرتشفت كوب المياه كاملا من الظمأ الذي تشعر به..

طرقه تلتها طرقه فوق الباب، فتح ومدّ كفه المبلل لها ليجدها تضعها في يده وهي تدفع الباب بقدمها تريد الدخول، أخرج نصف رأسهُ التي تقطر مياه ودفعها من جبهتها بضجر وهو ينتزع المنشفة من يدها لتترنح إلى الخلف تزامنا مع سؤاله بتهكم استشفت بها سخرية: رايحة فين؟
حركت أهدابها بسرعة متعجبة ثم قالت ببساطة وهي تهز كتفيها: هدخل معاك مش عايز تتليف؟

نظر لها بقرف ثم هدر بمقتٍ شديد: امشي شوفي أنتِ رايحة فين امشي، وصفع الباب في وجهها في نهاية حديثة، جلست على طرف السرير وظلت ساكنة وهالة الهدوء تغلفها كأنها لم تتعرض لأي شيء مهين الآن، أتتها رسالة نصية، فتحتها لتبتسم بخبث ثم هرولت إلى الأسفل، فتحت الباب وأخذت الحقيبة التي وجدتها وصعدت بها إلى غُرفتها، أخفتها داخل الخزانة تزامنا مع خروج قُصيّ..

تفحصها بنظراتٍ متعجبة ثم سألها باستفهام: بتعملي ايه هنا؟
قالت بدلال وهي تقترب منهُ: بحضرلك البدلة..
تشدق بسخرية: كتر خيرك مش عايز شكرا
ابتسمت وساقيها تسوقها إليه، مررت أناملها فوق صدره المعضل العاري مراقبة خط المياه التي تتقطر من شعره في طريقها لصدره هامسة برغبة وعينيها تتجول مابين عينيه شفتيه بنظراتٍ حميمية: مفيش شكرا بين راجل ومراته، هاهي تستميله مجددًا تتودد إليه تذكره بأنها زوجته كي يقترب..

أمسك بكفها نازعًا إياه من فوق صدره ضاغطًا عليه بنفاذ صبر وهو يبتسم ابتسامة مبتسرة ثم هتف بهدوء وعلى مهل كي تفهم: جـنّـة افهمي بقي احنا مش هنرجع تاني زي الأول وأخرتنا الطلاق لكن في الوقت المناسب ولحد الوقت ده ياريت تبطلى الحركات دي، أنتِ عارفة أنك جميلة وأنا راجل معاكِ ولو حصل بينا حاجة مش هتحصل حُبًا فيكِ فاهمة؟ وفري مجهودك بقي و متتعبيش نفسك وابقي بدلي قمصان النوم بـ بيجامات عادي يعني أنتِ مش عروسة!، أنهي حديثة ببرود وأولاها ظهره وبدأ يخرج ملابس تحت نظراتها الجامدة والنيران تتأكلها حية من الشوق..

اماءت لنفسها بتفهم وهي تخفض رأسها وكلماته ترن داخل أذنيها، عاقدة يديها أمام صدرها تفكر بعمق، حدقت في ظهره قليلا ثم سألته بقلق: أنت مروحتش للدكتور!
أجاب بعدم اهتمام: لأ أروح ليه؟
صاحت بعصبية وهي تلوح بيدها: مش ملاحظ شكلك ولا مطنش روح للدكتور مش هسكت عليك أكتر من كده!
ضحك بسخرية وهو يستدير إليها سائلا ببرود: بجد! خايفة عليا..

أدمعت عينيها وهي تنظر إليه بعتاب، اقتربت واحتضنت وجهه بين يديها وهتفت بنبرة صادقة خرجت مرتعشة وهي تنظر داخل عينيه بحب: قُصيّ أنت بتقول ايه؟ انا معنديش أغلى مـ، صفع يديها بحدّة وهدر بغضب مُزِج بسأم من كثرة سماعه لهذا: متقوليش أغلى أنتِ انانيه ومش هتتغيري وابعدي عني بقي، ودفعها بعيدًا عنهُ وترك الغرفة ثائرًا ودمائه تغلي من الغضب..

مساءًا، في الفندق الذي يقام به الحفلة..
صاحت ريمة بغضب إلى الحارس الذي يمنعها من الدخول وهي تمسك بيد غرام: يعني ايه اسمي مش موجود عالقايمة أنت عارف أنا أخت مين دخلني لو سمحت وابعد عن الطريق..
ردّ عليها بنفاذ صبر وهو يتنحى جانبًا لبقية المدعوين: لو سمحتي يا آنسة امشي أنتِ مش هتخدلى متحاوليش..

اكفهر وجهها من فرط الغضب وهي ترشقه بنظراتٍ نارية فهي منذ نصف ساعة تقف أمامه كالطفلة تتوسل وهو بوهيمي لا يجعلها تمر فماذا سيحدث أن دخلت لن تفتعل المشكلات..
حاولت بيأس وهي تطلب برجاء: أرجوك دخلني أرجوك أنا مش هعمل مشاكل هي بس هتشوف مامتها ارجوك النهاردة عيد ميلادها..

زفر بغضب وقال بنفاذ صبر وهو يحدق بغرام العابسة: يا آنسة روحي احتفلي بيها بعيد دي أوامر اسمك موجود تدخلى مش موجود متدخليش ومش معاكِ الدعوة كمان اتفضلى بقي بدل ما اخليهم يشيلوكِ ويرموكِ بعيد..
ـ يرموا مين؟ ازاي تكلم أختي كده؟، استدارت بتفاجئ لتتسع عينيها حتى كادت تسقط من محجريها تزامنًا مع شهقة ذاهلة خرجت من بين شفتيها وهي ترى جاسم! جاسم؟!

أحاط خصرها بابتسامة حانية ليتبعثر كيانها ويقرع قلبها وهي تحملق به بفاه فاغر على مصراعيه لا تصدق أنهُ هو، أعطى الحارس الدعوة وهو يسألها باستنكار: ليه جيتي بدري كده..
رمشت بقوة قائلة بتلعثم غير قادرة على تكوين حرف واحد صحيح: أنـ، أنـ، انا، انا..

ضحك ملاطفا يتابع مسرحيته أمام الحارس الذي ينظر إليهم بشك: مش مهم اهم حاجة لقيتك اسبقيني انا لسه مستني عشق زي ما أنتِ عارفة، يلا، أومأت ببلاهة وهي تنظر لهُ مرة أخيرة ثم هرولت إلى الداخل وهي تسترجع قوله، عشق! هُنا هذا اليوم لن يمر مرور الكرام..

إبتسم بهدوء وهو يُراقب ظهرها الذي يبتعد بسرعة، تجر الطفلة خلفها كأنها تهرب من شيئًا ما، يتمنى ألا يكون أخطأ بمساعدتها، خرج من شروده على صوت رقيق فضولي ويدٍ ناعمه تترفق يده: مين دي؟
ابتسم بعشق وهو يسير بها إلى الداخل ثم همس بجانب أذنها: كانت محتاجة مُساعدة بس..

في منزل ليلى..
ذرعت غرفة الجلوس ذهابًا وجيئة وهي تلكم راحة يدها بقبضتها بغضب متوعدة له عِندما يصل هذا الـ، لا تجد لهُ وصفًا ذلك الكائن الصغير، صغير؟ هذا طفل بجسد بغل هذا هو عمّار، يُجب أن يأتي الآن نادين في الخارج تشتري بعض الأشياء ويجب أن تحادثه على انفراد قبل أن تعود نادين..

فتحت الباب بغضب كي تخرج تستنشق هواء نقي في الحديقة لتجده يقف أمامها يضع يديه في جيب بنطاله ينظر إليها ببرود دون أن يلقي التحية حتى، يبدو أنهُ وصل الآن..
نظرت له بشراسة ثم صاحت به بغضب: أنت مقولتش ليه انك هتيجي بليـ..
ـ مكنتش فاضي ووطي صوتك انا مش أطرش، قاطعها ببرود وهو يتحدث من أنفه بنبرة نافذة كانت جلية و لاحظتها بقوة، فهو لا يطيقها منذُ أمس..

نظرت لهُ بتمعن وهي تعقد يديها أمام صدرها، حركت شفتيها كي تتحدث لكن قاطعها سؤاله بعدم إهتمام ونزق: خير؟ معطلانى عن سفري عشان تتفرجي عليا؟
رفعت كلا حاجبيها وهي تحرك رأسها بخفه ثم قالت باستفزاز متعمد: عارف ان احلى حاجة ممكن أسمعها انك أخيرًا هتمشي بس قبل ما تمشي كلم نادين وقولها متسافرش، عشان مُصره واتخانقنا النهاردة..

اعتلي جانب شفتيه ابتسامة ساخرة غاضبة بسبب ثقتها الزائدة تلك، مسح وجهه بعصبية حتى أحمر فهو يوشك على صفعها يديه تحكه ويُريد أن يصفعها، هدأ نفسه ثم هدر بخشونة ورفضٍ قاطع: مبكلمش حد ولا هقول ولا هعيد بنتك عندك أنتِ حُرة فيها ولو صدف و اتكلمت معاها مش هقولها غير كلمتين اثنين بس، أنا هتجوز أمك ليه عشان انا بصراحة مش بحبك و استغليتك عشان أوصلها معنديش غير كده..

شحب وجهها وهي تحدق خلفه بصدمة وبعدم استيعاب تمتمت وهي تنظر إليه: عمّار، أنت، أنـ..
قاطعها بحدّة رغم تعجبه من حالة صدمتها لأنها تعرف كُل هذا سابقًا: انا فيا كُل العبر أنتِ عندك حق، وعشان اثبتلك أنا اول ما هشوف نادين هقولها مش بحبك وعمري ماحبيتـ..

انهمرت عبراتها بغزارة وصرخت به بانهيار وهي تضرب صدره بقبضتها كي يصمت: أسكت، أسكت، نادين، نادين هو بيهزر مش قصده، سقطت الحقيبة من يدها فوق العشب وهي تهز رأسها بصدمة، عائدة إلى الخلف بخطواتٍ مترنحة، توزع نظراتها عليهما بخذلان وركضت مبتعدة عن المنزل..
دفعته من أمامها وركضت خلفها وهي تصرخ باسمها بقوة وهي تبكِ، ركل أطار الباب بغضب وهو يلعن نفسه ثم التفت وركض خلفهما..

قطعت الطريق ركضًا وسط السيارات دون الإلتفات، دون أن تكترث بـ نداء والدتها التي تركض خلفها دون أن تنتبه إلى تلك السيارة المسرعة ناحيتها دون توقف..
صرخ باسمها بقوة وقلبه ينتفض داخله من الخوف: لــيــلــى
كادت تلتفت لكن صرخت بهلع وهي تشعر بمن يدفعها بقوة من وسط الطريق لتسقط بقسوة عقبها صوت ارتطام قوي..
تأوهت بألم وهي ترفع جسدها بوهن لتجحظ عينيها و تصرخ بذعر: عمّاااااار.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة