قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل السابع عشر

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل السابع عشر

رواية حب خاطئ للكاتبة هاجر الحبشي الفصل السابع عشر

- لا تُشدد قبضتك فوق الشيء الذي تحبهُ بشدّة، لأنك هكذا تسحقه لا تحتفظ به -.

ابتسم سامي من مجلسه وهو يُراقب ما يحدث بتسلية وتشفي شاعرًا بالانتشاء من فرط سعادته بما يحدث، قُصيّ هذا الرجل يعجبه حقًا..
وقف من محله عندما شعر بتوقف كل شيءً من حوله عدي الشاب الذي يقف أمام المكبرات الصوتية، يضع سماعات الأذن الكبيرة فوق أذنه ورأسه تهتز بشجن مع الموسيقي أثناء تحريك أنامله فوق المؤثرات الصوتية وبدأ بالقفز عاليًا منفصلًا عن العالم مع الموسيقى الخاصة به..

ارتشف كوب المياه وهو يبتسم بجانبية ثم سار تجاهه وهو يقهقه بصوت عالٍ غير مسموع بالطبع، توقف بجانبه وهو يهز رأسه، نزع السماعات من فوق أُذنه جذب انتباهه جعله يرفع رأسه وهو يبعدها عن أُذنه نهائيًا ناظرًا لهُ باستفهام؟!
أمره بهدوء وهو يلتقط المِذياع من جانبه: أطفي الاغاني دي أطفي، انخفض الصوت بالتدريج حتى تلاشي وبقي فقط صوت همهمات الحضور المختلطة التي لم يفهم منها شيء لكن يعلم ماذا يقولون كيف لا يعلم؟!

تنفس بهدوء ليسمع صوت أنفاسه التى ترددت داخل المذِياع عقبة قوله بهدوءٍ وأسف مُتصنع التفكير: طيب يا جماعة آسفين لسوء الفهم ده وزي ما انتوا شايفين مفيش فرح فإذا تكرمتوا يعني ممكن تتفضلوا وانت كمان معاهم وتعالى لِم عِدتك بعدين..

نظر لهُ الشاب بتعجب ثم خرج مع الحشد الذي كان يخرج برقابٍ ملتوية وهم يتطلعون على جاسم الذي جلس محلهُ مُنهزمًا، عاجزًا، مُحطمًا، لقد دمرت كُل شيء، أسقطته نحو الهاوية دون عودة، غيرت حالته من السعادة العارمة إلى حزنٍ مُطلق، هي لطالما كانت تنجح في جعله يحزن لكن تلك المرة دمرتهُ كُليًا دون رحمة، لا يعلم علام يحزن عليها أم على نفسه!

مازال لم يستوعب ما سمعه مازال يُكذِب أُذنيه، قُصيّ حقير ويعلم لكن هي لا ليست مثلة! ليست ساقطة، لقد صدمته بها تلك المرة وفاقت التوقعات، فاقت التوقعات حقا، ليته يحلم، ليته لم يجدها، ليته لم يُحبها يومًا، هو لم يجني من الحُب سوى الألم وهذا ليس جديدًا عليه، هو منبوذ في الحُب..

إنتفض جسد عشق عِندما وضع سامي يده حول ذراعها واوقفها معهُ ببطء متمتمًا بخذلان وأسف أخفي خلفه سعادة لا توصف: قومي يا عشق قومي، رفعت رأسها ونظرت لهُ باحتقار، فهذا الحقير يستغل وضعها ولن يتركها بسلام دون قتله..

نزعت ذراعها من بين يديه بحدّة وحركت شفتيها كي تشتمة بلذاعة لكنها هوجمت من قِبل روحية عِندما اهتاجت واندفعت تجاهها وهي تحدجها بشراسة وأخذت تصفعها بقسوة، شعرت بتخدر وجنتيها إثرها وهي تهوي وتسقط أرضًا بضعف باكية بحرقة..

وقف سامي أمام روحية عزولًا كي يحميها لكن روحية دفعته بشراسة وجثت أمامها وهي تلهث بتعب بسبب انفعالها، قبضت على شعرها بقوة وهي تسألها باهتياج بأعين جاحظة من فرط الانفعال: الكلام اللي سمعته ده صح؟
هزت رأسها بإيماءة خافته وهي تكتم شهقتها أثناء تحديقها داخل عينا خالتها و رؤيه ذلك القهر الذي استعمرها..
حاولت التحدث بتردد دون خوف قائلة: خالتو أنـ..

صرخت بألم وهي تتلقى صفعة أخرى مع قول خالتها بقهر وهي تحتجز شعرها بين قبضتها: خالتو ايه ياحقيره يا رخيصة انتِ خليتي فيها خالتو؟ فضحينا و وعريتينا قُدام الناس وبكل بجاحة بترفعي عينك في عيني وعايشة في بيتي يا خاينة يا ناكرة الجميل!

نفضت يدها عن شعرها بعنف صارخةً بها بقوة وهي تقف: منكرتش الجميل، وانتِ معطفتيش عليا على فكرة! انا عندي فلوس امي ابويا وبيتي، انتِ اللي خدتيني بمزاجك محدش ضربك على ايدك، وانتِ برضه اللي جوزتيني لإبنك عشان مليش حد في الدنيا، انا بكرهك بكرهك وعمري ما حبيتك، ولو زعلانة اوى على ابنك خليكِ فاكرة إن كل ده حصل بسببك انتِ، انتِ السبب..

توقفت روحية عن الحركة وهي تحملق بها مستنكرة كم الوقاحة والتبجح الذي تتحدث به دون خجل! شعرت ببوادر الأزمة التي ستأتيها لكنها لم تهتم بل صفعتها بقسوة أكبر جعلت وجهها يلتفت للجهه الأخرى تبعثر شعرها إثرها وهي تعنفها: امك وابوكِ لو كانوا عايشين كانوا دبحوكِ..

ضحكت عشق وسط بكائها وهي تهز رأسها يمينًا ويسارًا بأسى قائلةً بحسرة وإنكسار وهي تنظر داخل عينا خالتها دون خجل: هُمه لو كانوا عايشين مكنتش هبقى كده ولا هبقي هنا، بس نصيبي خلاني ابقى معاكِ والمفروض انك تتحملي النتايج، وتحولت نبرتها إلى نبرة مُتحدية وهي تضيف: عايزة تقتليني عشان جبتلك العار؟ اقتليني مش هتفرق كتير ومش خايفة ولا باقية على حاجـ، توقفت الكلمة بحلقها عِندما سقطت أمامها مغشيًا عليها..

هرع إليها سامي بقلق وأخذ يصفع وجنتها محاولًا أن يجعلها تستيقظ بقلق: مرات عمي، مرات عمي، صاح باسم جاسم بصوتٍ مُرتفع أخرجه من الدوامة التي ابتلعته أثناء تحديقة بعشق وهي تتحدث: جااااسم..
هب واقفًا من محله كمن استيقظ الآن من تنويمه المغنطيسي، هرع إليها بخوفٍ استعمر قلبه، جثى أمامها محاولًا ايقاظها بلهفة كما فعل سامي لكنها لم تستيقظ..

حملها سريعًا وركض بها إلى الخارج وقلبه ينتفض داخله قلقًا عليها تبعه سامي تاركين عشق خلفهم تقف وحدها..

زفرت انفاسها المرتعشة بتقطع وهي تضع يدها فوق جبهتها بألم و لهاثِها بانفعال هو ما يسمع، نظرت في القاعة الفارغة حولها بضياع بأعين غائرة، تلتقط أنفاسها بثقل، محت عبراتها بأنامل مُرتجفة، ثم جلست على أحد المقاعد القريبة الملحقة بأحد الطاولات، ظلت ساكنة قليلًا تستعيد رباطة جأشها وهي تسند مرفقيها فوقها لخمس دقائق فقط كانت ساكنة تحدق في العدم ثم اجهشت في بُكاء مرير وأسندت رأسها فوق الطاولة تبكِ بحرقة كالأطفال دون توقف، قُصيّ قد دمرها تلك المرة، ليته جرحها بالكلمات أهون من خيانتها بتلك الطريقة، لقد أتت في الصميم، هما خائنان وهذا طبيعي في تلك العلاقة الخاطئة من البداية..

توقفت بعد بعض الوقت وهي تشهق باختناق، ثم سيطرت على نفسها وخرجت من القاعة ثم الفندق بدون وِجهه محدده، لا تعلم إلى أين سوف تذهب لا تملك أحدًا تلجأ إليه..
لفح الهواء البارد وجهها المُلتهب من كثرة الصفعات التي تلقتها في الداخل شعرت بالحرقة والألم إثرها في آنٍ واحد، بحثت عن سيارة أجرة بعينيها الحمراء المُرهقة وهي تتلفت حولها لكن شهقت بخضة عِندما وجدت من يضع يديه على كتفها بقوة كصديق حميم..

هتف سامي بمكر وهو يرفع حاجبيه: تاني؟ هتهربي تاني؟! عايزه تقهريها منك أكتر؟

حاولت التملص من بين يديه وهي تضرب صدره بقوة كما كانت تظن وهي تكاد تبكِ من جديد لكنه كان يضحك بتسلية واستصغار وهو يحدق في صدره الذي من المفترض أنها تضربه، سار وسحبها معهُ عنوة، دفعها داخل السيارة وصفق الباب خلفها ومن ثم ركض إلى الإتجاه الآخر بسرعة قبل أن تهرب واستقل السيارة وأغلقها من الداخل كي لا تفكر وتلقي نفسها، فهي مجنونة و تستطيع فعلها..

مرت دقائق عليه وهو يقود السيارة والصمت يطبق في المكان دون أن ينبس أيًا منهما بحرف، ظلت عشق تحدق من النافذة بشرود وهي تضم قبضتها بقوة حتى ابيضت، تبتلع غصتها بين الحين والآخر كي لا تبكِ ويشفق عليها حقيرًا مثله..
توقف أمام المستشفى وأطفأ المُحرك ثم ترجل من و السيارة وفتح لها الباب والابتسامة تعتلي ثغرة، طالعته بريبة وتعجب بسبب موقفه هذا تجاهها!

وكأنه قرأ أفكارها ليقول مبررًا ذلك السلام النفسي: لأ ما انا اكيد مش هعمل حاجة دلوقتي! ارجعي الأول واستقري وبعدين اشوف هعمل معاكِ ايه، اصلي برضه مش هسيبك ياعشق وحقيقي انا بحب قُصيّ جدًا، بصقت في وجهه بغضب ورفعت يدها كي تصفعه لكنه أمسكها بقوة وقام بلويها خلف ظهرها بقسوة رجعلها تتألم وهو يمسح وجهه المكفهر بيده الأخرى تزامنًا مع زمجرته الغاضبة ثم سحبها خلفه بعنف إلى داخل المستشفي..

كان جاسم في هذا الوقت يقطع الممر ذهابًا وإيابًا أمام غرفة والدته بخوف وهو يدعو لها أن تصبح بخير، توقف عِندما أبصر سامي يتقدم وعشق تجر قدميها خلفه كي لا تظهر بوضوح..
توقفت في زاوية بجانب الحائط بعيدًا عنهُ دون أن تقترب أكثر توليه ظهرها وهي تسند جسدها على الحائط، بينما سامي هو من تقدم منهُ وسأله بقلق: ايه الأخبار؟
هزّ رأسهُ بأعصاب تالفة وهو يضم قبضته قائلًا بحزن: مش عارف ومحدش لسه خرج من عندها..

هز سامي رأسهُ متفهمًا ووقف بجانبه يفكر قليلا واضعًا يديه في جيب بنطاله محملقًا في ظهر عشق، ابتسم بخبث عُندما جاءته تلك الفكرة ثم اقترب من جاسم أكثر ووقف بجانبه قائلًا بهمس: جاسم عشق جـ، أوقفه عِندما رفع كفه أمام وجهه يمنعه من التكملة قائلًا بعصبية: سامي متجبش سريتها قُدامي وخُدها وامشي من هنا مش عايزها..

وكزه سامي بمرفقه ثم حاوط منكبه وهمس بخبث: جاسم لازم تقعد وتتكلم معاها د، قاطعة صارخًا بحدة جذبت الأنظار: ده وقت كلام يا سامي؟!
ابتسم سامي بإحراج ثم أعاد بتوتر وهو يضرب ذراعه بضيق ضاغطًا على أعصابة بحديثة: دي كانت هتهرب وانا مسكتها بالعافية وجبتها هنا! فوق يا جاسم عايزها ترجعله تاني ولا ايه؟ دي مراتك ولا نسيت؟ لازم تعاقبها ده شرفك ولا انت مش فارقة معاك؟!

ضم جاسم قبضته بغضب جامح، مطبقًا جفنيه بقوة، كاتمًا قهره داخله قبل أن يفقد السيطرة على نفسه وينهار باكيًا كالأطفال، فحاله والدته هي ما تجعله صامدًا، استدار ولوح لهُ من فوق كتفه قائلًا بخفوت: خُدها وامشي..
تنهد سامي وهو يعقد يديه أمام صدره باقتضاب وعدم رضى يُفكر بعمق، فإن لم ينجح مع جاسم سوف ينجح معها، استدار واتجه إلى عشق الشاردة..

أردف بغرور وهو يرمقها بطرف عينيه أثناء سيره بجانبها بتكبر: تعالي ورايا عشان مش عايز يشوفك..
سارت خلفه بانصياع لكن ليس لأجله ولا خوفًا منهُ بل من أجل جاسم فقط..

أتي بها إلى الكافتريا الخاصة بالمستشفى في الأسفل، جلست عشق على مقعد خاص بطاوله في المنتصف، وظلّت تُراقب تحرك سامي هُنا وهُناك حتى أتي بقهوةٍ لها، وضع أمامها قدح القهوة بهدوء ثم أخرج من جيب بنطاله علبة أنيقة معدنية فضية مملوءة بـ لِفافات التبغ المُفضلة لديها، أخرج هو علبته الخاصة وأخرج منها لِفافة تبغ وأشعلها..

حملتها بهدوء ثم قامت بفتحها بتريث ليرتفع حاجبها الأيسر عقبة نظراتها المستفهمه التي ألقتها عليه؟!
ابتسم بمكر و أردف بنبرة لعوب وهو يقذف عليها القداحة: انا واحد عارف انك بتخوني جوزك مع قُصيّ مش هعرف انتِ بتشربي سجاير ونوعها ايه كمان! عيب عليكِ ده أنا سامي اشربي متتكسفيش ولا كأني موجود..
ابتسمت ببرود وأردفت باستصغار وهي تخرج لِفافة التبغ الرفيعة وتشعلها أمامه: على اساس اني خايفة منك؟!

ابتسم بجانبيه وهو يميل بمقعده إلى الأمام ليقترب منها بوجهه أكثر قائلًا بهمس وهو ينفث الدخان بوجهها: عارف انك بجحة و رخيصة وعديتي مراحل الخوف من زمن..
أستنشقت من لِفافة التبغ خاصتها وهي تبتسم بسخرية ثم سألته باستحقار وهي تلوح بأناملها الممسكة بلِفافة التبغ: وطالما هي كده بتجري ورايا زي الكلب ليه في كُل حته ها؟

قهقهة وهو يعود للخلف مريحًا ظهره على المقعد، ثم أردف بقلة حيلة وهو وهو يهز كتفيه: هكذب عليكِ ليه؟ مش هكذب وهقولك ان ده نوعي المفضل حقيقي يعني..
أومأت بخفة دون النظر لهُ وهي تمرر سبابتها على حواف قدح القهوة قائلة بتعبير مُبهم: وبعدين يعني وأخرتها..
هز كتفه وهو يمط شفتيه قائلًا بنبرة نافذة: أنتِ عارفة اني بحبك ومش هسيبك سواء بجاسم ولا من غير جاسم و افهمي بقي..

قذفت قدح القهوة عليه بغضب ليتأوة بخفة من حرارته النسبية المفاجئة، تلوث قميصه الأبيض والتصق على جسده، حرك رأسهُ باستياءٍ شديد وهو يفكر ليستمع إلى تهديدها المُقيت له وهي تقف: لو مبعدتش عني هقتلك يا سامي هقتلك..
اكفهر وجهه وأخذ الغضب يعصف به ثم وقف ودفعها من كتفها بقوة لتسقط جالسة على المقعد، تركها وغادر ووجهته دورة المياه وقد تركها متعمدًا كي تهرب فهو يُريدها أن تهرب كي يستغل هذا لصالحه..

عاد بعد الوقت وهو يزفر بغضب وعيناه معلقة على تلك البقعة الغبية التي لم تزول بعد من فوق قميصه، شدّ شعرة بعصبية عِندما وجد عشق مازالت تجلس محلها وكما يبدو أنها شاردة وقد تركت زمام الأمور تخرج من بين يديها واستسلمت لما سوف يحدث لها ولن تهرب، وهو لا يُريد هذا هو يُريد أن يتشابك الجميع معًا وتحدث مصائب..

أخرجها من شرودها جلوسه أمامها وهو يبتسم بسذاجةٍ ثم هم بالتحدث بأسف: عشق، انا حاولت مع جاسم وقولتله يسيبك تمشي عشان مفيش فرصة انكم ترجعوا مع بعض بس هو قلي انه مش هيسيبك غير لما ياخد حقه منك ويعلمك الأدب ويذلك عشان اللي عملتيه، و انا خايف عليكِ بجد جاسم طيب بس إنتِ متعرفيش في غضبه ممكن يعمل ايه؟ ده ممكن يغتصبك يا عشق عشان يرد كرامته إنتِ مستوعبة؟!

ازداد شحوب وجهها وأرتجف قلبها بخوف وازدردت ريقها بصعوبة وهي تنظر لهُ ببهوت ليضيف: إهربي ياعشق انا خايف عليكِ بجد! وانا هضرب نفسي بأي حاجة وهقول انك هربتي بعد ما ضربتيني..
تمعنت النظر لهُ قليلا وهي تعقد حاجبيها ثم سألته باهتمام: هتضرب نفسك بـ إيه؟
نظر حوله بتفكير ثم أردف بلا مبالاه: ممكن أعور نفسي او اكسر مثلا الكباية دي علي دماغي عادي يعني..

ابتسمت وهي تهز رأسها بخفة ثم وقفت قائلة بانصياع كـ حملٍ وديع: موافقة بس مش المفروض تضرب نفسك الاول وبعدين امشي؟
هز رأسهُ موافقًا بإيماءة بسيطة وأردف بابتسامة وهو يأخذ الكوب كالأحمق: طبعًا، انا هروح اتصرف وهطلع لجاسم وهقوله انك هربتي اوكيه؟
ابتسمت بإشراق لا يليق بشحوب وجهها بتاتًا وأومأت لهُ بطاعة مراقبة ذهابه من أمامها، لتجلس محلها على الطاولة بعد ذهابه وابتسامة ساخرة تعتلي ثغرها..

في دورة المياة الآن..
دبدب سامي بقدميه في الأرض بقوة وهو يكتم تأوهه، ثم وضع رأسه أسفل صنبور المياه مراقبًا الدماء التي تسيل منها، أخذ محارم ورقية وهو يشتم من تحت أنفاسه بغضب، ثم وضعها فوق جرحة وكتم بها الدماء وهرول إلى الخارج، استقل المصعد في طريقة إلى الطابق الذي يوجد به جاسم..

رفي هذا الوقت كان جاسم يجلس على المقعد خارجًا أمام الغرفة يضع رأسهُ بين يديه مغمومًا، راقبة سامي من بعيد لبعض الوقت يستعد للعرض الهزلي الذي سيقوم به ثم هرع إليه سريعًا وهتف بلهاث وهو يتأوه من بين حديثة بقوة: إلحق يا جاسم عشق ضربتني وهربت..
وقف جاسم من محله عِندما رأي ذلك الحذاء اللامع، نظر لهُ باستفهام قائلًا بتشوش وهو يتفحصه بنظراته: معلش يا سامي مش مركز بتقول ايه وماسك دماغك ليه؟

قضم سامي شفتيه بنفاذِ صبر بسببه ثم هم بالتحدث لكنهُ تجمد عِندما سمع صوتها الهادئ يأتي من خلفه مستفهمًا: سامي سيبتنى وروحت فين؟
كاد جاسم يلتفت لكن الطبيب خرج فهرول إليه سريعًا وتركه، التفت سامي سريعًا ليشعر بفرقعة عظام رقبته إثرها..
اشتعلت عيناه بغضبٍ جامح وتقدم منها ببطء وتروي كي تخافه ولو قليلا، لكنها كانت تقف تبتسم وهي ترفع رأسها بشموخ وتحدي، الغبي تستطيع اللعب بعشر أمثاله..

قبض على ذراعها بقسوة وجرها خلفه إلى الأسفل متأوهًا بسبب الغباء الذي افتعله بنفسه وهو يطلق من بين شفتيه ألفاظًا نابية..
دفعها داخل السيارة بعنف ثم صفق الباب خلفها بقوة، وهو يشتعل من الغضب ليتضاعف أكثر عِندما استقل السيارة ووجدها تبتسم وهي تحدق من النافذة بهدوء وسلام نفسي، كأن لا شيء حدث الليلة، وكأنها لم تكن تبكِ ولم يتم فضحها لا شيء! بل تبتسم بهدوء مثير للأعصاب..

أدار المقود بغضب وهو يسألها باقتضاب: مهربتيش ليه؟
اتسعت ابتسامتها وهي تفتح النافذة كي تستنشق هواء نقى لأن وجوده يؤذيها، رفرفت خصلاتها بنعومة حول وجهها مع الرياح جعلته يتأمل ملامحها الرقيقة ويصمت دون أن ينبس ببنت شفة، ضاغطًا على الجرح بيده بقوة بالأخرى كان يقود..
أردفت بهدوء وعيناها معلقة على الطريق دون أن تنظر لهُ: انا خاينة زي ما قُلت متصدقش اي حاجة اقولها..

وفي هذه الأثناء في التجمع السكني الراقي، توقف قُصيّ بسيارته في الجهة المُقابلة لمنزل جاسم ثم أطفأ المحرك وترجل من السيارة بهدوء..
فتح باب السيارة لها، ساعدها على الترجل وهو يمسك كفها بين يديه، عافر وأخرج معها ذيل الفستان من السيارة ثم صفق الباب واتجه حتى يفتح باب المنزل..

توقفت جـنّـة قليلًا محلها تستكشف المكان وهي تعقد حاجبيها، هي دخلت إلى هُنا من قبل عِندما جاءت مع جاسم تذكر هذا، اتسعت مقلتيها بقوة، هربت شهقة متفاجئة من بين شفتيها وهي تستدير سريعًا وظلت تحملق في المنزل المقابل لها! منزل جاسم! هل سيكونون مُقابل بعضم البعض هكذا؟! كيف سيسير هذا كيف؟!
أجفلت على صُراخ قُصيّ باسمها بحدّة: جـنّـة!

استدارت له بخضة ثم حملت مقدمة فستانها وتقدمت منهُ بخطى حثيثة كي لا تسقط، ولجت داخل المنزل أمامه وهي تزدرد ريقها بخوف، دلف وأغلق الباب خلفه وظل مستندًا بظهره عليه، عاقدًا يديه أمام صدره، مراقبًا صعودها على الدرج ببطء بنظراتٍ تتفرسها بغضب، توقفت أمام الحجرة وولجت إليها..
أخرج زفيرًا متقطعًا وهو يسمع صوت رنين الهاتف داخل جيب معطفه، بالتأكيد عمهُ فهو منذُ يومين لا ينفك عن طلبه..

توقف سامي بالسيارة في الخارج وظل جالسًا ينتظر خروجها لكنها ظلت جامدة محلها ولم تتحرك كأنها ملتصقة في المقعد بغراء..
نظر لها بتعجب ثم رفع كفه وضغط على بوق السيارة أفزعها وهو يقول بتهكم: قاعدة ليه مش هتنزلى؟ ولا بتفكري تهربي؟!

ازدردت ريقها بحلق جاف ثم حركت رأسها ونظرت له بوجه شاحب مصفر جعلته يتعجب، هذا الذي هُناك منزل قَصيّ، لقد مكثت به لأسبوع، وأتي بها هو عِندما كانت مريضة، لماذا أتي بها سامى الآن إلى هُنا الآن؟ ستنهار إن رأتهُ..
تحركت في المقعد بعدم راحة وهي تستدير كي تكون مقابلة ثم سألته بتلكي وهي تتنفس بصعوبة: انت، انت جبتني هنا ليه؟
رفع زاوية شفتيه بسخرية وأردف بضيق: جاسم قاعد هنا وجبتك و هرجعله تاني..

ازداد شحوب وجهها أكثر وارتجفت بخفة شاعرة بتلك القشعريرة التي سارت على طول ظهرها حتى عمودها الفقري ثم سألته: جـ، جاسم، ليه مش قاعد في الشقة؟!
أفزعها رده بصوتٍ مرتفع جعلها تنتفض: وانا اش عرفني تبقي اسأليه لما يرجع يلا انزلي..

ترجل من السيارة وصفق الباب بعنف وسار تجاه المنزل كي يفتحه، وهي خلفه تسير بثقل ورقبتها ملتويه تحدق خلفها تجاه منزل قُصيّ وسيارته بقلبٍ انشطر نصفين، إنه في الداخل مع جـنّـة وحدهما..
تعرقلت ببداية الدرج فصرخت بفزع وهي تشعر بجسدها يهوي أرضًا لكن سامي أنقذها قبل أن تسقط وأحاطها بقوة..

ابتعدت عنهُ منتفضة بسرعة كمن تعرض للدغ ثم هرولت تجاه الباب، ذهب خلفها وهو يبتسم بسخرية ثم أخرج مفتاح المنزل من جيب بنطاله ومازالت يده خلف رأسه يضغط بها على الجرح، فتح لها الباب لتلج بهدوء ثم قال قبل أن يغلقه خلفها: معلش هقفل عليكِ عشان متهربيش، وأغلفة خلفها وغادر..

شعرت بالحرارة داخل عينيها، تنهدت ورفعت رأسها تحدق في السقف وهي ترمش بقوة كي لا تتساقط عبراتها الحارقة المنكسرة، سارت بخطواتٍ متباطئة متكاسلة وشفتيها ترتجف من مقاومتها حتى بدأت تصعد الدرج ببطء وهي تتمسك بالدرابزون بضعف، مُبتلعة غصتها بحسرة وهي تقضم شفتيها بقوة..

اغرورقت عيناها بالعبرات أثناء فتح الغرفة بقوة حتى أصبحت الرؤية لديها مشوشة من الغشاوة، كأنها تعرف مكانها وأين من المفترض أن تذرف ولن تجد مكان يلائمها سوى غرفة النوم، فلن تخجل ولن تتوقف فإن الوسادة خير صديق..

استنشقت ما بأنفها وهي تسيطر على ارتجافها أثناء غلق الباب خلفها، تقدمت من النافذة وهي تمحى عبراتها بانكسار، باعدت بين الستائر كي تستنشق هواء نقي لتتحجّر العبرات داخل مقلتيها، وتتوقف عن الحركة والتنفس في آنٍ واحد، وظلت واقفة تُراقب ذلك المشهد القاتل بالنسبةِ لها كالصنم، إن النيران اندلعت بين ثنايا روحها..
فإن كانا شخصين غير قُصيّ وجـنّـة لتبسمت بنعومة وتمنت لهم السعادة الأبدية..

فهاهو حُب حياتها يقف أمام نافذة الغرفة يُعانق زوجته من الخلف بكل حميمية، متسندًا برأسه فوق رأسها كزوجين سعيدين تم إنهاء زفافهما بخيرٍ بعد معاناة لسنواتٍ طويلة حتى تم هذا التجمع كي يتمم زواجه وأخيرًا لكن من أُخرى غيرها..
حقًا هي ماذا توقعت منهُ؟ هذا أقل شيء قد يبدر عنهُ بعد أن حصل عليها وأخيرًا، لقد أخبرها من قبل ألا تثق به لأنهُ سيخذلها لِمَ تفاجأت هكذا؟!.

لكنها تعلم، جـنّـة كانت المُعتزة بنفسها في الوقت الذي كانت هي تمنحهُ نفسها قلبًا وقالبًا كي يجتمع في النهاية مع الأخرى، هذه هي نهاية القصة المتوقعة، نهاية جميع القصص المشابهة لهذه القصة، لا وجود لمكانٍ لها في حياته بعد الآن..
لو ماتت قبل أن ترى هذا لكانت الآن أكثر راحة ولم يكن ليصل قهرها إلى هذا الحد، لقد نجح بقتلها وتدمير كل شيء جميل داخلها، نجح بتحطيم قلبها تلك المرة..

تهاوت ساقطة منهزمة أسفل النافذة وبدأت تبكِ بتقطع بمقلتين متسعة ذهولًا قبل أن تصرخ عاليًا بقهر وهي تضم رأسها بقوة، بدأت تهتز بعنف وهي ترفع ساقيها إلى أحضانها، فكما يبدو أنها ستبيت تلك الليلة غارقة في دوامة ذكرياتها معهُ السعيدة و الحزينة منها، سوف تندم و توبخ نفسها ثم تكرهها وتكره الحياة وتتمنى الموت..

سوف تظل تبكِ كل يوم وتقضي بقية الليالي القادمة على هذا الحال و الانزواء وحدها داخل الغرفة تنتحب بسبب قلبها المجروح، أو تتغير وتغير كل هذا وتكون قوية وتبدأ حياة جديدة من دونة! وهو يعيش مُقابلها! هي الأكثر حظًا على الإطلاق، هذا مثالي..
الألم الذي لم تتمنى يومًا أن تجربه هاهى الآن تتذوق مرارته بلذاعة على يدِ من، قُصيّ الذي إن طلب حياتها ستمنحها لهُ بكل رضى وسعادة!.

لم تصدق يومًا تلك المقولة التي تقول أن الحُب خدعة؟ والآن لم تعد تؤمن بشيء سوى أن الحُب أكبر خدعة قد تحدث لك في الحياة! لكن أنت وحظك يمكنك أن تحصل على خدعة جيّدة تتلذذ بها وترفعك عاليًا لأقصي حدود السماء، ويمكنك أن تحصل على خدعة تصفعك وتهوي بك إلى القاع من نفس تلك السماء، كما هو الحال معها..
فى غرفة قُصيّ..
تحركت جـنّـة بين يديه بقوة قائلةً بنفور: إبعد عني متلمسنيش..

إبتسم بخطورة ثم شدد قبضته حول خصرها بقوة أكبر هامسًا بجانب أذنها من فوق حجابها جعلها تقشعر وتتجمد محلها في آنٍ واحد: ومين قالك اني هلمسك؟ انا مش طايق ابص في وشك، ودفعها بعيدًا عنهُ بقوة
كـ جربه ارتدت إثرها إلى الخلف وكادت تسقط لكنها تماسكت وتشبثت بمقعدٍ بجانبها..

فتح درج الكومود بغضب، أخرج منهُ بعض الأوراق الرسمية وجواز سفره ثم استدار ونظر لها قائلًا بغضبٍ سافر: انا مسافر، وتركها وترك المنزل وغادر..

مطت شفتيها بعدم إهتمام ثم جلست فوق الكرسي الهزاز الموضوع بجانب النافذة، أراحت ظهرها عليه وأرخت رأسها إلى الخلف ورفعت قدم فوق الأخرى من أسفل فستان الزفاف وأخذت تفكر بعمق وهي تطرق بأناملها فوق يدِ الكرسي وهي تتأرجح به أثناء تحديقها في النافذة المقابلة لها، الخاصة بغرفة عشق..
في منزل آدم في الوقت..

كان جالسًا على مائدة الطعام، يتناول العشاء وحده دون إزعاج حتى قطع ذلك السكون حوله سماع صوت حذاء والدته الذي يستطيع تمييزه يطرق أرضًا بصوت مُرتفع..
وضعت حقيبتها بجانب طبقها فوق الطاولة ثم جلست على المقعد المجاور لهُ وهي تزفر بعصبية..
سألته باقتضاب وهي تطرق على الطاولة بأناملها: فين تالين؟

ترك الملعقة من يده ووضعها فوق الطبق وهو يبتسم ابتسامة صفراء ثم سألها بعدم فهم: شيفاني حارسها الشخصي! اتصلي بيها شوفيها فين أصلي بطلت أبقي سواق الهانم، وعاد يتناول طعامه بهدوء دون أن يعبأ بها وبغضبها..
أخرجت هاتفها بعصبية وهي تتأف لتجده مغلق، لقد نفذت البطارية منها..
طلبت منهُ بلغة آمرة وهي تمد كفها إليه: هات موبايلك موبايلي فصل..

رفع رأسهُ ونظر لها نظرة مبهمة ثم ضحك بسخرية ومدّ يده إليها بالملعقة يدعوها للطعام: اشربي شوربة طعمها حلو هتعجبك..
اختطفتها من يده بغضب وكادت تتحدث لكنهُ باغتها بسؤالٍ جعلها تصمت قليلًا: كنتي فين انتِ يا أمي لحد دلوقتي؟
تهجمت ملامحها و امتقع وجهها وهي تسأله بقوة: انت بتحققك معايا يا آدم؟ نسيت نفسك وانت بتكلم مين؟

ابتسم في وجهها بوداعة ثم أردف مبررًا قوله: لأ عارف انك امي وعارف اني ابنك والمفروض اني راجل البيت وأسألك كنتى فين لحد دلوقتي عشان أطمن ولا ايه؟
بادلته إبتسامته بأخرى باردة قائلة بنفي ورفض: لا مش من حقك، انا أُمك ومسمحش انك تسألني ولا تقولي اعمل ايه ومعملش ايه ولا تتحكم في حياتي أصلًا مفهوم؟!

هز رأسه موافقًا وابتسامته تزداد اتساعًا ثم أردف وهو يضع مرفقيه فوق الطاولة مشابكًا يديه معًا: عندك حق مش هسألك ومليش دعوه بيكِ ان شاء الله حتى تتجوزي تمام، ثم عدل ياقة قميصه من أسفل كنزته الصوفية واسترد قائلًا: بس متهيألي من حقي أعرف بتسحبي في فلوس أبويا بتوديها فين ولا ايه؟!
هبت واقفة بغضب وصاحت بعصبية مُفرطة جعلته يطالعها ببرود: انت بتتجسس عليا ولا ايه؟

عقد حاجبيه وهو يهز رأسه باستنكار ثم أردف بتفاجئ مصطنع: بتجسس! دي مش شركتنا كُلنا ولا خرجتوني من العيلة وانا معرفش؟
ضربت الطاولة بيدها وهي تقول بغضب سافر: لأ من العيلة بس متستاهلش عشان محدش اشتغل ليل نهار ووقف الشركة علي رجليها تاني من بعد وفاة ابوك غير مصطفي فاهم ولا لأ؟!

ضحك بسخرية وهو يفرك منحدر أنفهُ ثم قال بتهكم دون احترام: قولي كده بقي، مصطفى بتاع أمه هو اللي علي الحِجر طبعًا ازاي مفكرتش في الموضوع ده قبل كده؟
إهتاجت وصرخت عليه بحدّة: أخرس يا قليل الادب انت ازاي تكلـ، توقفت عن الحديث عِندما غمغم بلا مُبالاة استفزتها وهو يقلب الطعام: خدوهم بالصوت قبل مايغلبوكم، حدجته بنظراتٍ نارية ثم ضمت قبضتها بغضب وذهبت من أمامه..

قذف الملعقة من يديه بحنق بعد ذهابها ليسقط بصره فوق حقيبتها التي تركتها خلفها، ضيق عينيه وهو يحدق بها بتركيز ثم وقف فجأة وحملها من فوق الطاولة وهو يتمتم بأقوال غير مفهومة بسبب ثقلها، ماذا تحمل داخلها؟

قام بفتحها وقلب جميع محتوياتها فوق المقعد، تأفف وهو يقلب بين حافظة أموالها وأحمر الشفاه والمرآة وبعض الأقلام ذات الألوان المختلفة حتى توقفت يديه فوق ورقة مطوية باهتمام بين الأغراض، حملها باهتمام وكاد يفتحها لكن سمع صوت فتح باب المنزل عقبة صوت عودة خطوات والدته العالية..

أخفاها داخل جيب بنطاله الخلفي سريعًا ثم لملم كُل الأغراض داخل الحقيبة لكنهُ توقف عندما أبصر ذلك الملف الموضوع داخلها ملتصقًا بها ولم يسقط بسبب دسه عنوة، أخرجه سريعًا وتابع ضب أغراضها ثم وضع الحقيبة فوق الطاولة ووضع الملف فوق مقعده وجلس فوقه وكأن لا شيء قد حدث، لكنها ستلاحظ اختفاؤه بالتأكيد..

قطعت تالين بهو المنزل سيرًا ببطء، شاردة بلا حول ولا قوة، في طريقها إلى الأعلى مباشرةً دون أن تلتفت لأي أحد..
توقفت على بداية الدرج عندما صاحت شهيرة باسمها بصوتٍ مرتفع: تـالـيـن، استدارت على عقبيها ونظرت لها بوجه باهت قائلة بوهن: بتنادي يا ماما؟
أومأت وهي تجلس على المقعد: ايوه و تعالي كلميني هنا، هزت رأسها بانصياع وهي تتقدم منهما مبتلعة غصتها بمرارة..

همست شهيرة لأدم بغضبٍ مكتوم: انا مخلصتش كلامي معاك، انا كنت بحط الموبايل في الشحن بس، رفع زاوية شفتيه بسخرية وتابع تصنعه لتناول الطعام..
جلست تالين على المقعد بهدوء ونظرت إلى شهيرة باستفهام لتسألها ببعض الحدّة: كنتي فين ومش بتردي علي موبايلك ليه؟

ردت باحترام وهي تخرج هاتفها من الحقيبة: أنا كُنت عند ماما و موبايلي مفتوح من الصبح! موبايل حضرتك انتِ اللي كان مقفول عشان انا الصبح ملقتش حد فـ نزلت الجامعة اشوف الجدول وبعدين طلعت علي ماما ومن ساعتها وبحاول اتصل بحضرتك بس مقفول هو كان فاصل ولا كنتي في حته مفيهاش شبكة؟!

تحمحمت شهيرة وهي تفكر بالرد ليبتسم آدم بسخرية وهو يحدق بها، ثم دار بنظره يحدق بتالين التي ظلت صامته بعد حديثها ولم تضيف شيءً آخر، لا تبدو أنها بخير، لقد كاد يجن صباحًا عِندما لم يجدها في المنزل، فـ فكر قليلًا ثم ذهب خلفها إلى الجامعة وظل واقفًا بعيد يُراقب الطريق حتى وجدها تخرج بعد ساعتين من الانتظار أمام باب الجامعة، أخذت سيارة أجرة وذهبت، سار خلفها بالسيارة حتى وصلت إلى منزل والدتها، اطمئن عليها وعلى كونها آمنة ثم عاد إلى المنزل..

أخرجه من شرودة سؤال والدته لتالين بتكبر: وعاملين ايه اهلك كويسين؟ لسه برضه قاعدين في الشقة الصغيرة اللي في الحارة الضيقة دى؟
هزت رأسها بانكسار وهي تقضم شفتيها كي لا يلاحظ أحدًا إرتجافها لكنها لم تستطع أن تخفيه بين طيات نبرتها المنكسرة: اه، لسه قاعدين هناك..
زفر آدم بغضب وأخذ يهز قدمه بتوتر ثم سأل والدته باستفزاز: مالها الحارة يا امي؟ علي ما اذكر انك انتِ وبابا جايين من الحارة!

ابتسمت شهيرة وهي تعتصر أناملها بيدها بقوة قائلة من بين أسنانها: هو انا قولت حاجة يا حبيبي برضه؟ عادي بسأل بس، أصل مصطفي احتمال يجي النهاردة او بكره كُنت عايزاكِ تبقي موجوده تستقبليه زي أي زوجة انا غلطانة؟

هزت تالين رأسها بنفي وهي تبتسم ابتسامة باهتة ثم قالت بهدوء كي تسترضيها: انا موجوده اهو يا ماما وبُكره معنديش حاجة مش خارجة وهفضل موجودة ومستنياه متقلقيش، عن إذنك عشان انا تعبانة، أومأت لها بخفة وراقبت ذهابها بتفكير ثم ألقت نظرة باغضة على آدم وأخذت حقيبتها وذهبت إلى الأعلى..

وقف بعد أن تأكد من ذهابها إلى غرفتها ثم أخذ الملف واتجه إلى الخارج، استقل السيارة وأدار المقود ليصدح صوت رنين هاتفه، ضرب جبهته بقوة عِندما تذكر الهاتف لقد قام بنسيه داخل السيارة..
تأوه متفاجئًا عِندما وجد كم المكالمات الفائتة من قُصيّ، أعاد الاتصال به ليبعد الهاتف عن أُذنه سريعا وهو يتأوه بسبب صوته المرتفع الحاد الذي جعله يشعر بالطنين..
صرخ به بغضب: ايه يا قُصيّ الزفت وداني؟

أتاه صوته النافذ من الهاتف بغضب جام: انا مسافر..
توقف آدم قليلًا عن الحديث ثم فكرقليلًا وسأله بتهكم: رايح فين؟ ومع مين؟ عشق هانـ، صرخ به بصوتٍ جمهوري جعله يسقط الهاتف من يده ويضع كفه على أذنه متأوهًا بقوة: انااااا لوحدي مفيش عشق خلاااااص، خلاااااص
رد عليه صائحًا بغضب: ما خلاص خلاص غور في داهية مش عايز أعرف جتك القرف كُله، وحمل الهاتف وأغلقه في وجهه بغضب، وقاد السيارة وذهب إلى وجهته المحددة..

في صباح اليوم التالي..
أنهت ليلى مكالمتها الهاتفية مع نادين وهي تقف أمام الحائط الزجاجي الخاص بمكتبها تُراقب الطريق في الأسفل، كتفت يدها أمام صدرها وهي تتنهد بحزنٍ عميق لأن اليوم الذكري السنوية لوفاة زوجها رحمة الله عليه..

مررت يدها داخل شعرها المُجعد بضيق، فهي أصبحت مُرهقة في الفترة الأخيرة وتصفيف شعرها بات يتعبها فتركته يتجعد كما يحلو لهُ، هي لم تشفي من جراحها بعد، مازالت تلملم ما بقي من روحها حتى تتابع حياتها بطبيعية، إنها مفتقدة إلى هدوء حياتها ورتابتها المعهودة، فتلك الليلة لا تنفك عن مطاردتها في أحلامها كل يوم تجعلها تستيقظ مفزوعة وتظل تبكِ وحدها حتى الصباح، لقد أصبحت شاحبة والهالات السوداء استعمرت أسفل عينيها من أرقها بسبب عجزها عن النوم ساعاتٍ كافية كل تلك الأيام السابقة..

حاولت بشتى الطرق نسيان تلك الليلة وبالأخص نسيان عمّار وإتيانه في تلك الحالة المزرية من أجلها لكنها عاجزة، كان تصرفًا نبيلًا من قبلِه ولن تنكر هذا ويستحق أيضًا الشكر لكنها لا تستطيع إدراك هذا التفكير في كونها ستقف أمامهُ شاكرة ممنونة لا تستطيع تخيّل هذا قط فهو صعب كي تفعلهُ..
قطع شرودها طرق فوق الباب بخفة لـ تأذن بالدخول بصوتٍ خفيض: اتفضل..

دلفت رنا مساعدتها وهي تقلب في الملفات التي تحملها بين يديها باهتمام وهي تقول: دي كل الناس اللي قدمت على الوظيفة الجديدة، أنا عملت معاهم المقابلة كلهم من يومين زي ما طلبتي إلا واحد بس مكنش موجود وحتى الـ cv بتاعة عجيب بجد أنا فضلت أضحك أول ما شوفته شكل صاحبه بيهزر!.

عقدت ليلى حاجبيها بجدية وساقتها قدماها إلى المكتب وهي تطرف بحذائها المرتفع فوق الأرضية، كانت ترتدي بنطال قماش أسود يصل إلى خصرها زينته بحزامٍ رفيع أسود، ضيق من الأعلى و اقدامة واسعة هفهافة من الأسفل، يعلوه كنزة صوفية سوداء ضيقة ملتصقة عليها كـ جلدٍ ثانِ لها تحتضن رقبتها، أدخلتها داخل البنطال، فوقها سترة سوداء أنيقة بأكمام وزينت معصمها بساعةٍ رقيقة كانت تنظر داخلها من حينٍ لآخر..

جلست على مقعدها باستقامة ثم قامت بوضع هاتفها جانبًا فوق جدار المكتب..
أخذت منها الملفات وهي تسألها باستفهام: فين الـ cv الغريب اللي بتقولي عليه؟.
ابتسمت رنا وقالت وهي تحدق بالملفات: أول واحد، محتاجة حاجة ثانية مني؟
هزت ليلى رأسها بنفي قائلة بامتنان: لأ يا رنا شكرًا..
أومأت رنا وهي تبتسم ثم تركتها وغادرت..

جلست على مقعدها في الخارج بهدوء وباشرت عملها ليقاطعها صوت أحدهم بعد انتشار تلك الرائحة الطيبة في المكان: ممكن أقابل ليلى هانم؟
أبعدت نظرها عن الأوراق ورفعت رأسها لتتسع عيناها وتشهق وهي تهب واقفة بتفاجئ..
هتفت بغضب وهي تحدجة بنظراتٍ نارية: انت ازاي تسمح لنفسك انك تيجي هنا تاني بعد اللي عملته؟

غمغم عمّار باستخفاف وأردف بازدراء وهو يلوح لها بمعطفه الأسود الطويل الذي يمسكه بين يده: وانتِ مالك؟ شركة ابوكِ هي؟ خلصي قوللها ان في حد عايز يقابلها عشان الشغل، مش المفروض في مقابلة صح؟
زفرت باستياء وهي تطالعه ببعض الخوف ثم رفعت سماعة الهاتف وتحدثت وهي ترمقه بطرف عينيها أثناء ابتسامته الصفراء لها: في واحد عايز يقابل حضرتك، عشان الشغل، تمام..

صفعت سماعة الهاتف بعنف وهي تتأفف ليسألها باستفهام وهو يبتسم بوداعة: أدخل؟
ردت مستفهمة من بين أسنانها بغضب: هو انت صاحب الـ cv الفاضي؟
ابتسم بمكر وهز رأسهُ قائلًا بغرور: اصلي مبحبش أتكلم عن نفسى كتير..

بادلته إبتسامته بأخرى متهكمة وهي تشير على الغرفة بكفها: إتفضل، هز رأسه بخفة وتقدم للأمام لكنهُ توقف أمام الباب و استدار على عقبيه قائلًأ لها بـ لغة آمرة استفزتها: أنا قهوتي سادة ومتتأخريش عشان مصدع هاا بسرعة، وتركها ودلف إلى الغرفة..
كانت ليلى تبتسم في الداخل وهي تخفض رأسها وعيناها تتجول على الأوراق الفارغة أثناء تقليب الصفحات ببطء، فمن خفيف الظل هذا الذي يشاكسها؟.

عقدت حاجبيها بانزعاج عِندما خطر لها عمّار فجأة فهو الذي يمكنه العبث بتلك الطريقة! لكنهُ ليس هُنا، وما تلك الرائحة الآن؟! بالتأكيد لن تستنشق رائحته لمجرد أنها تفكر به!.
رفعت رأسها بانزعاج لتموت ابتسامتها فوق شفتيها عِندما أبصرته يتقدم منها، ارتجف قلبها بخوف وازدردت ريقها بحلق جاف وهي تراقب تقدمه منها بأعين زائغة وهو يبتسم باتساع وعيناه تقدح مكرًا..

قذفت الملف من يدها بقوة لتتناثر أوراقه أرضًا ويدعسها أثناء تقدمه في طريقه إليها، توقف قليلًا متوجسًا أثار في نفسها التعجب جعلها تناظره باستفهام؟ ليبرر موفقة وهو يعود للسير: مستنيكي ترمي حاجة تاني بس خلاص..
جلس مقابلها فوق المقعد وهو يتنهد ثم سألها عن حالها بابتسامة جذابة: عاملة ايه؟

ضمت قبضتها بقوة حتي ابيضت ثم دفعت بمقعدها إلى الخلف وهي تثبت قدمها أرضًا ووقفت وتقدمت من النافذة وهي تعتصر اناملها بغضبٍ وتوتر، لا تعلم كيفية التصرف معهُ الآن ولا حتى الحديث ماذا يُريد؟

لتبدأ الذكريات الخاصة بتلك الليلة تتوافد على عقلها واحدة تلو الأخرى، عِندما عانقها بحنان وهي تبكِ بحرقة، وعِندما أخبرته أنها تكرهه ثم أسندت رأسها فوق صدره، اللعنة عليه فقط لا تستطيع قول شيءً آخر، بالتأكيد يتراقص بفخر أمام المرآة ويستعرض نفسه عِندما يتذكر عمله البطولي معها..

أعادها لأرض الواقع صوته العميق الهادئ يقول باستفهام: ايه مش هتكلميني؟ احنا متخاصمين؟ طيب انتِ لابسة اسود ليه؟ حداد عليا ولا ايه؟ فاكراني مُت؟!
مسدت جبينها بقوة وهي تحني رأسها متأففه، تفكر بتشوش وهي تزفر بتقطع..

دلفت رنا بهذا الوقت حاملة قدح القهوة بين يدها بملامح لا تفسر، وضعتها فوق الطاولة أمامه بهدوء وهي تصر على أسنانها بقوة، استدارت لتغادر لكن صوت ليلى الموبخ الحاد وهي تعود لمقعدها أوقفها: مين قالك تعملي قهوه مين؟
ازدردت رنا ريقها وقالت متلعثمة: آسـ، آسفة، بس هو اللي طلب قبل ما يدخل!

زادت توبيخًا لها وهي تأشر عليه بكفها أثناء مراقبته لها وهو يبتسم باستمتاع: وكمان بتكذبي وبتقولي واحد عايزني عشان الشُغل شُغل ايه؟
هزت كتفيها وقالت بجهل: مش عارفة بس هو قالي كده بره انا مكذبتش ولا حاجة؟!
زفرت بعصبيه وأردفت بتحذير: دي آخر مرة تسمحي لحاجة زي دي تحصل ولو اتكررت منك تاني محدش هيتحمل النتايج غيرك اتفضلي على شُغلك، أومأت باحترام ومن ثم تركتها وغادرت، وهي تلعن عمّار..

تأففت بغضب ثم نظرت لهُ باقتضاب وصاحت بانفعال: بتضحك علي ايه؟

ضحك بصوتٍ رنان وهو يعدل من جلسته قائلًا بابتسامة وهو يشملها بنظراته الماكرة مدققا في تفاصيلها: حمد الله علي السلامة، طالما انتِ مش هتقولي اقولها انا، عـ، قاطعته بجفاء وهي تلقي على مسامعه كل ما تريد قوله دُفعة واحدة: عمّار لو سمحت انا عايزه اعيش بهدوء من غير توتر ومشاكل ووجودك بس لوحده قدامي مش مطمني، فـ لو سمحت ممكن تخرج من حياتي؟ كل حاجة انتهت خلاص جاي ليه؟ ليه؟

تنهد وهو يأخذ رشفة من قدح قهوته ثم ردّ على سؤالها بجدية دون أن يحيد بنظرة عنها: جيت عشان الشُغل فين الـ cv بصيتي عليه بصة ولا ايه؟
ضربت بكفها فوق مجموعة الملفات القابعة أمامها بغضب قائلةً بسخط: الزفت فاضي وتشتغل ايه اصلا مؤهلك ايه عشان أشغلك هنا؟!

ابتسم وهو يستدير باحثًا عن شيءً في جيب معطفه حتى أخرج لها قلمًا!، وقف ووضعه أمامها قائلًا بابتسامة: قلم أهو اكتبي فيه الشروط اللي انتِ عايزاها وهحاول الاقيها فيا عشان تتبسطي..
أغمضت عيناها بنفاذِ صبر وصاحت متهكمة: انت جاي تهزر؟
هز رأسه بنفي وقال بجدية: انا مش جاي لا اهزر ولا اضايقك بجد، كل الموضوع اني محتاج شُغل عشان بقالي فترة عاطل والمفروض انك تقبليني لأني لقطة وهظبتلك الشُغل عشان انا متحمس!

ضحكت وهي تفرك حاجبها الأيمن ثم أشارت علي الباب وهي تقول ببرود: عمّار شايف الباب اللي هناك ده؟
هز رأسهُ بنفي قاطع وهو يقول بابتسامة: لأ مش شايفة انتِ شايفاه؟
أومأت وهي تأشر عليه بكفها بابتسامة باغضة ثم قالت بأمر من بين أسنانها: ممكن بقي تتفضل تخرج بره بقي ولِم الورق ده معاك وخده اعمل بيه زينة رمضان..
قهقهة بخفة ثم سألها بوداعة وهو يرمش: أخرج ليه متقبلتش ولا ايه؟

زفرت باختناق وهي تتنفس بنفعال ثم قالت باستياء شديد وهي تمسك قلمه تقلبه بين يديها: عمّار معنديش اي سبب يخليني أشغلك هنا؟ و عشان متزعلش مش هعين أي حد ولا كأني عملت إعلان أصلا خلاص، مفيش وظايف ولا مقابلات شكرا ليك المقابلة انتهت تقدر تتفضل بقي..

نظر حوله قليلا وهو يهز رأسهُ بتفهم ثم قال بجمود: تمام، اعتبري عمّار المحترم اللي بيضحك اللي كان عايز الوظيفة مشي، وعمّار الهمجي النكرة اللي مش بتطمني في وجوده هنا، ها هتديني الوظيفة؟!
سألته بتهكم وهي تبتسم بسخرية: انت بتهددني يعني؟ كده هخاف؟

ابتسم بسذاجة ثم سألها باقتضاب: انتِ عمرك ما عملتي حاجة بمزاجك وانتِ راضية أبدًا! لازم تعمليها غصب عنك؟ بتحبي اللي يجبرك صح؟ بجد والله انتِ اللي بتجيبيه لنفسك وفي الأخر أطلع أنا الهمجي صح؟! بصي عشان منتكلمش كتير هشتغل هنا وهتوافقي تمام؟

هربت ضحكة ناعمة خافته من بين شفتيها أثناء تفكيرها بعمق ثم قالت له ومازالت الابتسامة تعتلي ثغرها وهي تريح ظهرها على المقعد غير مكترثة بما قال: بعيد عن كل اللي قولته يا عمّار، انا هعرض عليك عرض كويس ويمشي معاك تسمع؟!

هز رأسهُ بخفة وهو يراقب ابتسامتها الغير مفهومة غير غافلا عن شحوبها والأرق البادي عليها لتتابع بجدية: تحت جنب الشركة بالظبط في محل كبير مقفول والمعروف طبعا ان مش كل اللي شغالين في الشركة مستويات معاها فلوس عشان تطلب فطار كل يوم، عشان كده فكرت ممكن اخد المحل وافتحه مطعم فول وطعمية وهشغلك فيه بس متقلقش مش هتتبهدل خالص انت هتقف تخلل لمون بس..

قذف عليها معطفه باقتضاب ليسقط فوق وجهها، لتعود بالمقعد إلى الخلف وهي تضحك بقوة أثناء قوله بغيظ وهو يضرب جدار المكتب بكفه: تصدقي انا غلطان عشان ملبستش الحزام النهاردة..

أبعدت معطفه المعبأ برائحته عن وجهها وهي ترفع حاجبيها المنمقين أثناء ضحكها قائلةً بتعجب وبتلقائيه كانت تضم معطفه إليها: مالك اتعصبت ليه؟ صدقني انا مش شايفاك غير كده، انت لقطة فعلًا وهتنجح وممكن تطور من ده وبعد كده قدام ممكن تصدر اللمون بره مصر..

مسد جبينه وهو يزفر بنفاذِ صبر قبل أن يقف ويطبق وجهها بين يديه تلك السخيفة، رفع رأسهُ وحدق بها وهو يسند وجنته على راحة يده بملل متابعًا ضحكتها المشرقة التي بدأت تختفى بالتدريج حتى لم يعد لها أثر..
تنهد وقال بهدوء وهو يرفع حاجبه الأيسر: خلاص خلصتي ضحك وتريقة اتكلم؟

أومأت وهي تبعد شعرها إلى الخلف بأناملها النحيفة، تضم شفتيها بقوة كي لا تضحك مجددًا، حرك شفتيه كي يتحدث لكنهُ توقف مضّجرًا عِندما لاحظ ارتعاش شفتيها المثيرتين ستضحك مجددًا!
انفجرت ضاحكة بقوة وهي تخفي وجهها بين راحة يديها حتى أدمعت عيناها، إنها متعبة وبحاجة للبكاء..

خلل أنامله داخل خصلات شعره وهو يحملق بها حتى ضحك معها وهو يهز رأسهُ، ثم قال بعدم فهم مستفهما منها: إنتِ عندك كبت ولا ايه؟ ده مجرد لمون ايه يعني؟
رفعت رأسها وجففت عبراتها بِكُم معطفه بعفوية وهي تعتذر بصوتٍ ناعم: سوري معلش بس انا قُلت اللي عندي خلاص..
هزّ رأسهُ متفهمًا ثم طرق بأنامله فوق الزجاج الموضوع فوق جدار المكتب: حلو الإزاز الجديد ده.

قلبت عينيها وقالت بثبات دون خوف: قديمة دي معايا انا حزام تاخده تجرب؟!
مشط ذقنه بكفه وهو يبتسم بجانبية قائلًا بعدم إهتمام: هعمل بيه ايه؟ انا محتاج وظيفة وهتحتاجيني انا همولك الشركة على فكرة!
عقدت حاجبيها بانزعاج ثم سألته بعدم فهم متبرمة: انت مالك بشركتي؟، وتابعت بتهكم استشعر به الاستصغار: ومين قالك اني محتاجة تمويلك أساسًا؟

هز كتفيه وهو يفكر قليلًا ثم قال بثقة: الممولين اللي معاكِ زي ما انتِ عارفة بيلعبوا في البورصة كتير وللأسف البورصة هتهبط الأيام الجاية وفي ناس هتخرج منها شحاتة ساعتها بقي هتعملي إيه؟
شابكت أناملها معًا قائلة بابتسامة صفراء: ساعتها هعمل اللي اعمله ملكش دعوه، الشركة مش هتقع من غيرهم يعني!

ابتسم بسخرية وقال بنبرة جادة غير مُسلية بالمرة: لا هتقع عشان الشركة دي عبارة عن ورق مش اكتر ولما تشغليني في الحسابات هتعرفي انك بتتسرقي وبتاخدي علي قفاكِ الجميل كمان..
امتقع وجهها من الغضب ثم قالت بنبرة تحذيرية وهي تحدجة بنظرة متدنية: عمّار مش عايزة قلة أدب والزم حدودك ولو فاكر ان الكلام الفارغ اللي قولته عشان اشغلك دخل دماغي تبقي غلطان وشكرا للنصيحة وتوقع المستقبل بتاعك اتفضل بره..

تجهمت ملامحه وقال بدون تعبير وهو ينظر لها نظرة فارغة حطت من قدرها: انتِ فاكرة نفسك ايه بس نفسي اعرف؟ ولا تكوني صدقتي بجد اني محتاج الشغل والملاليم اللي هتديهاني؟
ابتسمت بعصبية وسألته بتغطرس وهي تصر على أسنانها: وطالما انت مش محتاج جاي ليه؟

وقف وهو يزفر باستياء ثم مال بجذعة فوق المكتب واختطف معطفه من بين أحضانها بقوة وهو يقول بسخط حقيقي أثناء تحديقة بوجهها الممتقع ونظراتها الشرسة التي تلقيها عليه: انا غلطان اني عايز اعمل خير بس اقول ايه نمرودة وهتندمي براحتك يا، يا ندى، و ألقي عليها نظرة صاغرة وغادر..
صرخت بغضب جامح استوقفته قبل أن يخرج وهي تقول متوعدة: انت اللي هتندم عشان رجعت تاني..

توقفت يده فوق المقبض واستدار قائلًا لها بثقة: انا مبندمش علي حاجة اختارتها، وانا اخترتك، تعرفي؟ إنتِ اللي هتندمى كتير، سلام، وأدار المقبض ليذهب لكنهُ توقف لبرهة قائلًا بجمود من فوق كتفه قبل ذهابه كان بمثابة تهديد: انا طلبت منك باحترام ومجبش معاكِ متزعليش في الاخر بقي، وكان هذا آخر ما قاله قبل أن يذهب..

صرخت بغضب ودفعت كل متعلقات المكتب بيديها بعنف أسقطتهم أرضًا وهي تتنفس بانفعال قائلة بمقتٍ شديد: بجح وغبي، جتك القرف، اللعنة عليه، إنها تمقته، الدماء تغلي داخل عروقها وجسدها مشتعل من الحرارة من فرط غضبها..
قضمت شفتيها بقوة وهي تطبق جفنيها بعنف، تحاول أن تهدأ من روعها كي لا تلحق به وتقتله..
هدأت قليلًا عِندما رأت إسم نادين يعلو شاشة هاتفها الذي بدأ في الرنين أرضًا..

التقطته وهي تبتسم بنعومة ثم قامت بالرد بصوتٍ حاني: الو، ايوه ياحبيبتي انا نازلالك حالًا مع السلامة، أغلقت الهاتف ثم حملت حقيبتها وغادرت مباشرةً دون الإكتراث بالفوضى التي خلفتها أو الالتفات لشيءٍ آخر..
تعجب عمّار الذي كان لا يزال يقف في الخارج يحادث رنا، سألها باستفهام وهو يعقد حاجبيه بعد إختفاء ليلى: هي رايحة فين؟ عندها اجتماع بره؟!

هزت رنا رأسها بنفي ثم قالت بحزنٍ عميق: لأ، النهاردة الذكري السنوية لوفاة عبد الراحمن بيه..
صمت قليلًا وعاد يسألها وهو يفكر بضيق: ده جوزها؟

أومأت بخفة وهي تضم شفتيها بحزن ثم قامت بالرد على الهاتف الذي بدأ رنينه يعلو، ليعقد عمّار يديه أمام صدره بغضب وغيرة غير مبررة سيطرت عليه بسببها، لقد مات ماذا تُريد به لِمَ تذهب؟ لقد كان عجوزًا وتهتم به إلى هذا القدر! إذًا إن كان شابًا صغيرًا ماذا كانت ستفعل تلك المتكبرة؟! لقد جعلته يغير من شخصٍ ميت بعمر والده الآن!

كاد يذهب لكنهُ توقف عِندما سمع قول رنا في الهاتف: الو، سعيد بيه هي لسه ماشية حالًا، اكيد هتكون مستنياك زي كل سنة، تمام مع السلامة، أغلقت الهاتف لتشهق بفزع عِندما أمسكها عمّار من حاشية ملابسها وسألها بهمس وهو ينظر لها بـ شر جعلها ترتعب: ده سعيد شِريكها؟
أومأت سريعًا وهي على وشك البُكاء من الفزع ليتابع بحنق: بيتصل ليه ومين دي اللي هتستناه زي كُل سنة؟

ازدردت ريقها بحلق جاف قائلة بتلعثم: كـ، كان، عـ، عـ، عاوز ليلي هانم عشان كل سنة بيروحوا المقابر مع بعض لأنه صديق عُمر عبد الرحمن بيه، وكل سنة بتستناه لأنه هو اللي بيجيب القارئ من عنده يقرأ قرآن على القبر..
هزّ رأسهُ بتفهم ثم سألها بغضبٍ مكتوم وهو يهزها بين يديه موبخًا إياها: وهي صغيرة عشان يجبلها هو الشيخ؟
ردت بخوف بنبرة مرتجفة مذعورة: أ، أسألها هي انـ، أنا مالي؟

لوك بلسانه داخل فمه وهو يرمقها بنظرةٍ صلدة، ثم سألها بنفاذِ صبر: فين المقابر دي قولي عنوانها..

رفع رأسه فجأة وهو يسعل بحدّة ثم عطس وبدأ أنفه بالسيلان، بحث عن منديلًا ورقيًا وهو يلعن نفسه بسبب غفيانه في مكتبه وعدم العودة إلى المنزل في البرد أمس كي لا يُصاب بالبرد لكنهُ أصابه بطريقةٍ أو بأخرى..
قلّب الملفات وهو يسعل حتى دلفت عليه مساعدتة التي تفاجأت بوجوده لتقول بابتسامة: حمد الله علي السلامة يافندم..
أومأ لها بخفة وطلب بوهن: انا عايز برشامة برد واي حاجه سُخنه بسرعة..

أومأت بطاعة و استدارت لتذهب لكنها توقفت عِندما تذكرت شيء فقالت: في واحد بقالو كذا يوم بيجي عشان يقابل حضرتك وبيقول انه كلمك وانت مستنيه!
هز آدم رأسه بإيماءة خافته وأمرها بهدوء: دخليه
أومأت بطاعة وغادرت، ليضع ذراعيه فوق المكتب ثم أسند رأسهُ بتعبٍ وهو يفكر بوالدته وبتلك الورقة التي بالتأكيد ستجن عليها الآن إنها مهمة بالنسبةِ لها أكثر من ذلك الملف..

رفع رأسهُ وأخذ الملف الخاص بها أخفاه في أحد الأدراج وأغلق عليه ثم التقط هاتفه الذي صدح صوته وأخذ في الاهتزاز مع دخول الرجل..
تحدث بابتسامة وهو يشير إلى الرجل بكفه على المقعد كي يجلس: الو، حبيبتي جيت امتى؟
أتاه صوت عمّار الناعس وهو يقود: النهارده، من نص ساعة كده، عامل ايه وفين قُصيً تليفونه خارج نطاق الخدمة؟
ردّ آدم باستياءٍ شديد وهو يستنشق ما بأنفه: سافر ومعرفش فين قفلت في وشه قبل ما أعرف..

تنهد عمّار وهو يراقب الطريق في المرآة من خلف نظارته الشمسية قائلًا بضيق: وبعدين انا عايز العربية!
قهقهة آدم ثم سأله متعجبًا موقفة: وانا اللي كنت فاكرك هتقلق عليه؟
ضحك بخفة وهو ينعطف يمينًا: والله محدش محتاج نقلق عليه غيرك صوتك ماله عيان؟
هز رأسهُ بوهن كأنه يراه وقال بلا مُبالاه: ده شوية برد بس..
تنهد عمّار وهو يصف سيارته ثم قال مستفسرًا: المهم بقي قبر ابوك في اني حته بالظبط انا في المقابر دلوقتي..

عقد آدم حاجبيه وسأله بتعجب: اشمعنا بتعمل ايه هناك؟
قال وهو يلتقط هاتفه والورودة ثم ترجل من السيارة: اصلي جاي اعمل حاجة كده ومستخسر اضيع وقت على الفاضي قولت اعمل حاجة مفيدة ده انا حتى جايب ورد..
ابتسم آدم وقال بامتنان حقيقي: عمّار بجد، قاطعه عمّار مضجرًا: بقولك ايه يا عم النحنوح انت اتكلم على طول بلا عمّار بجد ولا بهزاز اتكلم..

ضحك آدم وبدأ في وصف القبر لهُ وهو يتذكر: بص هو مش بعيد اوي مش جوه يعني هتلاقيه بره قريب ركز بس في الأسماء وهتلاقيه، ثم صمت قليلًا وتابع بصوتٍ خافت: عمّار انت صوتك حلو..
همهم لهُ عمًار يحثه على المتابعة ليقول بتردد: ما تقرأ عليه رُبع ده لو مش هيضايقك يعني..
ابتسم عمّار وقال بحب: انت تؤمر، جزء كامل عشان الغالي..

ابتسم آدم وشكره بامتنان: بجد يا عمًار شكرًا، عشان حقيقي في الفترة الأخيرة بطلت أزوره خالص وأهملته، يلا روح دور عليه وانا هبقى اكلمك تاني..
اغلق الهاتف وهو يبتسم ثم اعتذر من الرجل بخجل: آسف اتأخرت في المكالمة..
ابتسم الرجل بهدوء قائلًا بلا بأس: ولا يهمك..
دلفت المساعدة بقهوة من أجله ومشروب ساخن من أجل آدم، قدمتهم بهدوء مع حبوب خفض الحرارة وهي تبتسم بخفة ثم طلبت الانصراف..

أخذ آدم الحبة ثم ارتشف رشفة وعطس بقوة وهو يحني رأسهُ ثم قال معتذرًا بتعب: عفوا عندي برد، امي بقى مالها؟

أما في هذا الوقت تحديدًا في منزل آدم، خرجت تالين من غرفتها ببنطالًا قماشيّ أسود يعلوه سترة صوفية بيضاء واتجهت إلى الأسفل قاصدة الحديقة لكنها توقفت أمام الدرج عِندما أبصرت شهيرة تتجول في غرفة الجلوس بسرعة تبحث عن شيءً ما وسط الأرائك والوسائد وهي تحادث نفسها بعصبيه كالمجنونة!

ناظرتها بتعجب وهي تطلع إلى ملابسها الرسمية، إنها من المفترض أن تذهب إلى العمل لكنها أصبحت متأخرة بسبب تجولها وحيرتها وبحثها الذي بدأ من ساعةٍ تقريبًا..
هزت رأسها وسارت إلى الخارج وهي تتجاهلها كي لا تتصادم معها وتخرج عصبيتها عليها في هذا الصباح، فهي تتحول عِندما يكون مزاجها متعكر..
زفرت شهيرة بنفاذِ صبر وهي تخرج هاتفها من الحقيبة، بسبب عدم توقفه عن الرنين منذُ أن فتحت عينيها صباحًا..

أجابت بعصبية وهي تصرخ بجنون: مش لاقية الورقة مش لاقياها ولا هي ولا الملف! الملف عندى نسخة تانية منه لكن الورقة لأ ومش عارفة هي ممكن تكون فين؟ تقول انشقت الارض وبلعتها مش عارفة هتجنن!

جلست تالين على الأرجوحة في الحديقة أسفل أشعة الشمس بإحباط وظلت تفكر بحزن، فهي أمس كان من المفترض أن تبيت في منزل والديها لكنها عجزت بسبب حالتهم المتقشفة، لم تحتمل مشاهدتهم والجلوس معهم أكثر من تلك الساعات لأنها كانت ستبكِ وتنتحب هُناك بسبب فقرهم وحالتهم المؤسفة التي أدمت قلبها..

تقسم أنها تبعث لهم كل شهر ما تستطيع أن تجمعه وتكونه من مصروفها اليومي الذي تأخذه من مصطفى لكنه بالتأكيد لا يكفي، مازال أشقائها الصغار يرتدون ملابس مرقعة ممزقة ذائبة في هذا الطقس البارد، وهي لا تستطيع أن تطلب من مصطفى أموالًا من أجلهم، تعلم أنهُ لم يمانع ولن يشعر بالضيق لكنهُ أيضًا لن يصمت وسيخبر والدته بعفوية فهو إبن والدته، وهي لن تتوقف عن تذكيرها بهذا كُل خمس دقائق، لأنها لا تتوقف قط عن التباهي بأموالها في كل مكان..

هي فقط أرادت أن تختبر نفسها كي تتشجع وتطلب الطلاق وتعود من حيث جاءت لكنها ضعيفة ولا تملك الشجاعة كي تعود إلى تلك الحياة من جديد وتكافح وحدها، لقد اعتادت على الرفاهية ولا تستطيع العودة ولا تستطيع أيضًا أن تهنأ بسبب ضميرها كُلما تذكرت حال عائلتها المُحزن..
مرت ساعة عليها كـ دقائق وهي مازالت ساكنة محلها تفكر بشرود، أخرجها من شرودها اهتزاز الأرجوحة بها إثر جلوس أحدهم عليها..

ابتسمت بحزن وهتفت باسمة بنبره خافته: آدم
ابتسم بجاذبيه غلب عليها التعب وهو ينظر لها بأعين واهنة بالكاد كان يفتحها ثم أخرج من جيب بنطاله الورقة الخاصة بوالدته، أمسك يدها التي كانت تضعها بجانبها، وضعها داخل يدها وضم أناملها فوقها كطفلة صغيرة وهو يقول بجدية: خلي بالك منها وخبيها في اوضتك دي أمانة..

نظرت بينه وبينها باستفهام ليتابع: هاخدها منك تاني بس أهم حاجة محدش يشوفها معاكِ شيليها تحت المرتبة بين الهدوم وسط كُتبتك تحت مفرش المكتب كده يعني..
هزت رأسها بتفهم وهي تضعها داخل جيب كنزتها دون أن تسأله ما محتواها فهي تثق به وإن أراد أن يخبرها سوف يخبرها، اعتلي ثغره ابتسامة ماكرة وهو ينظر لها بجانبية، لقد وصل لمبتغاه وأعطاها لها، فقط سيجلس ويشاهد ما سيحدث وهو متأكد أن كل شيء سيكون لصالحه..

عقد حاجبيه عِندما لاحظ شرودها فهي لا تبدو بخير من الامس، سألها مستفهمًا بقلق لم يستطع اخفائه: تالين انتِ كويسة؟ من امبارح وانتِ مش طبيعية؟ كلام ماما عن البيت ضايقك؟
هزت رأسها بنفي وهي تبتسم بخفة قائلة بنبرة عادية: لأ متضايقتش ولا حاجة هي مقلتش حاجة غريبة او مش موجوده عادي بقي..

تلفت آدم حوله مراقبًا الطريق ثم تزحزح من مكان جلسته ببطء واقترب منها قليلًا وهز رأسهُ لها يحثها على الاقتراب منهُ، اخفضت رأسها باهتمام منصتةً له..
ليهمس بخفة قائلًا وأنفاسه الحارة من الحمى تضرب صفحة وجهها: أمي دي عارفه أبويا عرِفها إزاي؟
هزت رأسها بنفي وهي تنصت لهُ باهتمام كي تعرف ليتابع بنفس الهمس: كانت بتفرش في السوق وتبيع جبنه..

شهقت بتفاجئ ورفعت رأسها تناظره بصدمة ليبتسم وهو يومئ لها مؤكدًا حديثة وتابع دون خجل بل بتسلية: وهو كان عندهم زريبة و بهايم كان بيلف الصبح بدري ويبيع لبن..
هزت رأسها بذهولٍ وعدم تصديق هي تنظر لهُ بشكٍ واضح..

ابتسم لها ابتسامة حانية وقال برفق وعيناه تضخ عشقًا تجاهها: وده يعلمك ويثبتلك إن ظروفك مش صعبة خالص! انتِ هتبقي دكتورة وقبل ما تتجوزي برضه كنتي هتبقي دكتورة! مش فلوسنا اللي هتخليكِ دكتورة ولا هي اللي عملتك يا تالين، صدقيني مفيش أسهل من إنك تعملي فلوس، تنهد بتعب وأضاف متوسلًا إياها بضيق: ياريت كلامها ميأثرش عليكِ تاني زي ما حصل امبارح وقبله وقبله وقبله دايمًا بتتأثري ليه؟ اديكِ شايفة هي دلوقتي عايشة في ايه وكانت ايه وده يديكِ أمل في بكرة متزعليش نفسك، ولو على أهلك فا أنا جبتلهم شقة مفروشة تمليك بإسمك بس لسه مش جاهزة لما تجهز هديكِ المفتاح عشان تاخدي أهلك وتوديهم هناك..

ظهرت بوادر الرفض على وجهها وهزت رأسها بنفي معترضة هي تحرك شفتيها لكنهُ قطع حديثها قبل أن يبدأ: انا جبتها وانتهي خلاص ولو زعلانة أوي شدي حيلك وخلصي عشان تبقي دكتورة وتكشفيلي انا واصحابي ببلاش، طول العمر..
ابتسمت بنعومة وأدمعت عينيها وهي تقول لهُ بنبرة مرتعشة: آدم كده كتير وأنا مقدرش أقبل شقـ، قاطعها قائلًا بوهن وهو يمسد جبينه بتعب وصل لذروته: دي تاني مرة تكسفيني ومتقبليش هديتي!

بررت موقفها وهي تنظر لهُ بلوم: عشان انت مش بتجبلي غير حاجات غالية مقدرش اتحمل اني اردهالك تاني مرة عربية ومرة شقة!
ابتسم ابتسامة هادئة وقال بقلة حيلة وهو يهز كتفيه: عشان الغالي مش بيتهادي غير للغالي! انا مش شايفك أقل من كده؟ وأصلًا مش عايز مقابل!
ابتسمت باتساع ليبادلها بأخرى حانية إختفت عِندما وقفت وركضت وهي تصيح بسعادة: مصطفي!

وضع رأسهُ بين يديه يعتصرها بقوة والنيران تندلع داخل صدره غضبًا و غيره فهي لم تبتسم لهُ، هو تراجع لبرهة عن ماخطط لهُ وكاد يأخذ منها الورقة كي لا تواجه شيءً سيءً بسببه وتتصادم مع والدته، لكن الآن حقًا يقسم أنهُ لن يهتم لها مجددًا، سيعمل كي تغلق جميع الأبواب أمامها ولن تجِد سِواه وسترضخ لهُ شاءت أم أبت، فالهدوء لا يجدي مع أحدًا بتاتًا لا يجدي..

زفر باختناق ثم وقف وصعد إلى غرفتهُ مباشرةً دون أن يلتفت لهما، فهو سيغفي لأن الحمى تمكنت منهُ وأصبح جسده ثقيلًا..

في هذا الوقت تحديدًا في روسيا..
ترجل قُصيّ من سيارة الأجرة أمام منزله، إرتدي قبعتهُ الصوفية سريعًا ثم أغلق معطفه الثقيل فوق وشاحة وهو يزفر بأنفاس مرتجفة من البرودة، ضم قبضته ونفخ أنفاسه الدافئة داخل قفازة، سار فوق الثلج بتمهل وهو يفتح عينيه بصعوبة بسبب الرياح الشديدة الباردة التي كانت تلفحه، دلف من البوابة الحديدية وهو يراقب أنفاسه المجمدة التي كانت تسبقه..

نظر عبر الزجاج الخارجي بلهفة باحثًا عنها بنظراته أثناء سيره لكن الستائر البيضاء حجبت عنهُ الرؤية، ضغط على الجرس بقوة وهو يهتز من شدّة البرد..
فتحت الخادمة الباب بانزعاج بسبب الضجيج، لكن تفاجأت لبرهة ثم ابتسمت باتساع وهي تبتعد عن الباب تاركة لهُ المجال كي يدلف مرحبه به بلباقة: سيدي! مرحبًا بعودتك..

أومأ بخفة وهو يبتسم ثم دلف لتغلق الباب وراءه وهي تبتسم بخفوت، خلع حذائه ووضعه خلف الباب مكانه كما إعتاد أن يفعل دومًا لأن ريمة ستركض خلفه وتضربه ولن تتركه إن جعل الفوضى تعم المكان..
سألها باستفهام وهو يخلع قفازيه تبعهما قبعته الصوفية: أين غرام وريمة؟
ابتسمت وقالت بلباقة: سيدتي الصغيرة في الأعلي و سيدتي في الخارج تتسوق قليلًا..
عقد حاجبيه بتعجب ثم سألها وهو يحتضن جسده: تتسوق؟ في هذا الطقس البارد؟

ابتسمت بخفة وهي تذكرة: سيدي هذا الطقس دائم لقد نسيت!
هزّ رأسهُ متفهمًا وقال بعد ثوانٍ قليلة من الشرود: نعم معكِ حق لقد نسيت، ضيق عيناه قليلًا ثم تابع بنبرة لعوب: والآن سأصعد إلى غرام و أُريد الحصول على وجبةٍ دسِمة مثلك يا جميلة..
قهقهت بخفة وهو تومئ قائلة بطاعة: أمرك سيدي خمس دقائق فقط وستجد الوجبة جاهزة..

اومأ وتحرك كي يصعد إلى الأعلى لكن تلك الصرخة الطفولية التي وصلت إلى مسامعه بعد ان قذفت دميتها من يدها بتفاجئ وركضت فوق الدرج كي تصل لهُ وهي تصيح بسعادة: بابي، بابي..

اتسعت ابتسامته وجثى على ركبتيه فاتحًا يديه على مصراعيها يستقبلها بحفاوة، اصطدمت بصدره بقوة كـ قوسٍ اخترق قلبه من قوة دفعها، لكنهُ ليس قاتل، بل قوس مُنير منحه حياة وراحة عاجزًا عن إيجادها والشعور بها في حياته، إنها تمنحه السعادة، هي قوس قزح بعد الأمطار الغزيرة..
أحاطها بقوة وهو يقف بها مُقبلًا وجهها عدة قبلات مُتفرقة متلهفة حانية أثناء سيره بها إلى الأريكة الأقرب إليه..

جلس على الأريكة وأجلسها فوق قديمه وأخذ يربت على ظهرها بحنان غير متجاهل قبضتها التي تشتد على ملابسه ورأسها التي تدُسها داخل أحضانه بقوة أكبر، هو مُذنب و مُقصر في حقها وأبٌ سيء يعرف كل هذا، ثانية، اثنتين، ثلاثة، وعلى صوت بكاءها بحرقة وهي تتشبث به بقوة..

شدد قبضته حولها وهو يُقبل رأسها بحنان مُزِج بأسفٍ، لترفع رأسها وهي تشهق بحرقة قائلة بلوم من وسط بكائها وهي تنتفض داخل أحضانها: انا زعلانة منك، متكلمنيش تاني..
محي عبراتها بأسى مُعتذرًا منها بحزن: انا اسف متزعليش مني انتِ عارفة اني بحبك صح؟
صرخت به بحرقة وهي تغمر وجهها بين راحة يديها: لو بتحبني هتفضل معايا وهتاخدني معاك، انت مش بتحبني..

هز رأسهُ بنفي وهو يتألم بسبب حالتها، إحتضن وجهها بين يديه قائلًا بتأثر وعيناه تلمع: صدقيني أنا مش بحب حد فى الدنيا دى قدك انتِ غرام يا حبيبتي انتِ عارفة أنا بحبك قد ايه صح ولا لأ..
اماءت لهُ وهي تزم شفتيها رامشه بأهدابها المُبللة وعينيها تلمع ببريق حزين، ليرفع أنامله ويمحو ما بقي من عبرات عالقة فوق وجنتيها بحنان: مش اتفقنا مش هنعيط عشان احنا شاطرين بتعيطي ليه بقي؟

عادت تنتحب بحزن وهي تدفن رأسها بصدره: عشان انت وحشتني..
تأوه بحزنٍ وضمها إلى صدره بقوة وهو يهدئها بحنان أبوي أثناء تقبيل رأسها: أنا آسف، خلاص متعيطيش متعيطيش عشان خاطري..
هدأت قليلًا بعد بعض الوقت بعد أن أنهكت، غفيت داخل أحضانه وهي تتشبث بملابسه بقبضتها الصغيرة بقوة..
قبل رأسها بحنان ثم حملها برفق وهو يضمها وصعد بها إلى الأعلى كي يضعها في تختِها..

بينما في المطبخ كانت الخادمة تتحدث في الهاتف باختلاس وهمس: سيدي حبيب، لقد عادي قُصيّ!

دلفت ريمة تلك الجميلة اليافعة المحشوة بالملابس التي أظهرتها سمينة بخلاف قدِها النحيل كـ إحدى عارضات الأزياء، تتأففت بشفتيها المكتنزة الصغيرة التي كانت ترتعش بسبب البرودة ومن كثرة الحقائب الثقيلة التي تحملها، صفقت الباب بقدمها بعد أن أخرجت المفتاح من المقبض بصعوبة، وضعت الحقائب جانبًا ثم مالت وبدأت بخلع حذائها الطويل لتتوقف يدها في الهواء متعجبة عِندما أبصرت الحذاء الرجالي أمامها! حملقت به قليلًا وهي تبتسم بعدم تصديق وفي رأسها آلاف الأفكار والتوقعات عن هوية صاحب ذلك الحذاء، إنها تعرف بغلًا واحد فقط يمكنه أن يرتدي ذلك المقاس الكبير..

لتتأكد من جميع ظنونها وتجزم أنهُ هو عِندما سمعت صوته المُحبب إلى قلبها يقول بحنو: وحشتيني..
اتسعت حدقتها بقوة وصرخت بسعادة وهي تقذف حذائها بعيدًا ثم اندفعت راكضه له سريعًا وعانقته بقوة جعلته يترنح إلى الخلف وهو يبتسم ويديه تحتضنان ظهرها بحنان بالغ..
فصلت العناق و هي تضحك بعدم تصديق وظلت ملتصقة به تتأمله بحنان، مدت يدها وربتت على وجنته برقة وهي تقول بأعين دامعة: قُصيّ وحشتني أوي، اتأخرت المرادي؟!

هز رأسهُ متأسفًا وهو يبعد خصلاتها النحاسية خلف أُذنها برقة ثم لثم جبينها بقبلة حانية أثارت في نفسها القلق، وتفاقم أكثر عِندما نظرت داخل عيناه الغامضة ورأت كل هذا الضياع وكم الحزن والهم والخوف الذي كان يستعمرها في آنٍ واحد، عقدت حاجبيها بانزعاج ثم سألته بجزع وهي تضع أناملها الناعمة أسفل ذقنه كي ينظر لها: قُصيّ عملت ايه؟

تأوه بحزن وضمها بقوة مشددًا قبضته حولها ثم هتف باسمها بنبرة مستغيثة وهو يسند رأسه فوق منكبها
كي تنتشله من ضياعة: ريمة..

في مصر في منزل جاسم..
فتح سامي الغرفة الأخيرة وهو يزفر مضجرًا بسبب بحثه لفترةٍ طويلة عنها في أرجاء المنزل حتى ظن أنها هربت، فتح الغرفة، مسحها بنظراته سريعًا بضيق واستدار وكاد يغلق الباب لكنهُ توقف والتفت وهو يعقد حاجبيه عِندما لاحظ تلك الكُتله السوداء تفترش الأرض بجسدها أسفل النافذة..

هرول إليها بقلق، جثى أمامها ظنًا أنها فاقدة للوعي لكن وجدها تتنفس بانتظام، مرر أنامله فوق وجنتها ماحيًا تلك العبرات التي جعلت بشرتها رطبة باردة رغم دفئها، مسح على شعرها بحنان وهو يبتسم بشفقةٍ ونسى نفسهُ بجانبها وظل جالسًا يتأملها بحنان..

تأوهت بخفوت وهي تحرك رأسها بعدم راحة بسبب وضعيتها الغير مُريحة، فتحت عينها بتروي لتنتفض صارخة بفزع حقيقي عائدة إلى الخلف بجسدها سريعًا، التصقت بالحائط بخوف وقلبها يلكم قفصها الصدري بعنف، نظرت لهُ بارتياب بسبب وجوده وجلوسه بتلك الطريقة الغريبة وبسبب تلك الابتسامة الغير مُريحة التي اعتلت ثغرة..
ابتسم بخفة وقال محاولًا تهدئتها: متخافيش جاسم اللي باعتني عشان ارجعلك إسكندرية..

ازدردت ريقها وهي تنظر حولها بتشوش ثم سألتهُ بتلكي وهي ترمش بأهدابها وجفنها المتورم: هو، هو رجع إسكندرية؟
أومأ وهو يبتسم بمكر قائلًا بنبرة مستمتعة: جاسم في الطريق دلوقتي ومعاة مرات عمي وحالتها صعبة جدًا وكرهاكِ جدًا جدًا يعني، كان هياخدك هو بس قالتله انها مش عايزه تشوفك ولا تجتمع معاكِ في مكان واحد عشان كده كان لازم يستعين بأخوه وحبيبه سامي عشان يرجع سِت الحُسن والجمال، وأضاف بسخرية: الغالية..

حدجته بكُره وهي تقول باشمئزاز: مش عارفة بيثق فيك ازاي؟
ضحك بصوتٍ رنان وهو يهز رأسهُ بسخرية ثم غمزها قائلًا بحقارة: زي ما كان بيثق فيكِ يا قمر في ايه مالك؟.
أبعدت نظرها عنهُ بغضب وظلت جالسة محلها ملتزمة الصمت باقتضاب، قطعة هو بقوله وهو يحدق بساعة معصمه: يلا قومي ولا عايزة تفضلي هنا؟ معنديش مانع!

هزت رأسها بنفي قائلة وهي تبلع غصتها بمرارة: لأ مش عايزة هقوم، وضعت راحة يدها فوق الحائط كي تقف باستقامة ثم سارت أمامه بترنح..
استقلت السيارة بهدوء، جلست بجانبه في المقدمة، تفحص وجهها الشاحب بنظراته ثم عرض عليها بهدوء: اجبلك اكل وشك أصفر؟
ردت بنبرة باغضة دون النظر لهُ: ملكش دعوه و سوق وانت ساكت، فأي طعام هذا الذي يُريد منها أن تتناوله؟ إن قُصيّ أطعمها حد الشبع..

ابتسمت جـنّـة بسخرية وهي تراقب السيارة حتى ابتعدت ثم أغلقت الستائر وعادت تستلقي فوق تختِها على معدتها أمام الحاسوب وهي تُلاعب قدميها في الهواء..

في المقابر الآن..
كانت ليلى تضع حجاب أسود فوق رأسها جمعت طرفيه بطريقة معاكسة والقتهم فوق كتفيها، تجلس هي ونادين أمام القبر يستمعان إلى ذلك الصوت العذب الذي يتلو القرآن من مكانٍ قريب جعل قلبها يرفرف وجسدها يقشعر من جماله، إنها لم تشعر بمرور الوقت رغم مرور ساعةٍ عليهما يجلسان يستمعان إليه، إن صوته يريح القلب ويذهب الحزن، من هذا القارئ؟!

تصدق عمّار بصوته العذب ثم وقف وبسط يديه وأخذ يدعو لهُ بالرحمة والمغفرة..
انتهي بعد دقائق، انحني ونظف ملابسه من الأتربة التي التصقت على بنطاله الأسود و معطفه ثم أشار للرجل التُربيّ الذي يحرس ويعتني بالمقابر هُنا، هرول لهُ سريعًا وهو يبتسم..
أخرج عمّار ورقة مالية وأعطاها لهُ وهو يوصيه: خلي بالك من القبر ونضف حواليه ومش عايز اشوف المنظر ده تاني المرة الجاية..

أومأ الرجل بطاعة وهو يقول بابتسامة: تحت أمرك يا بيه، تفحصه عمّار بنظراته قليلًا بتدقيق ثم سأله باستفهام: انت صعيدي؟
أومأ له وهو يبتسم: ايوا يا بيه في حاچِة؟
هزّ عمّار رأسهُ وهو يبتسم قائلًا: بلديتنا يعني..
ابتسم الرجل وصافحة مُرحبًا به ثم سأله: انت هتاجي تاني ميتِه؟
نظر لهُ عمّار بتعجب ثم قال مستفهمًا: ليه عاد؟

مسد على صدره بخفة وهو يقول متحاذقًا: أصل صوتك جميل عشان اكدِه كان بودي لو تشتغل معايِه بما إنك بلدياتي بدل ما كُل اللي بياجي بيچيب شيخ من برِه، وهعطيك متين جنيه..
قهقهة عمّار وهو يحك مُنحدر أنفهُ ثم وضع يده على كتف الرجل وهمس لهُ بخفوت: هات الفلوس اللي خدتها دلوك طلِع..

أخرجها من جيب عباءته وهو ينظر لهُ بتعجب، أخذها عمّار منهُ هو يبتسم وأخذ يربت على كتفه كصديق قائلًا بهمس: اني اكدِه خدت حسابي، سلام..
رمش الرجل بتعجب مراقبًا ابتعاده عنهُ بذهول حتى هتف معترضًا: وااه!
ابتسمت ليلى بأسف وهي تربت على شعر نادين التي تبكِ إحداث صوت، تأوهت بحزن ثم عانقتها بقوة كي تهدأ قائلة بحنان: خلاص يا حبيبتي كفاية..

رفعت نادين وجهها الباكِ وسألتها بقلب منفطر وهي تنتحب: هو لو كان موجود كان هيحبني صح؟!
تساقطت عبراتها بحزن وهي تومئ لها مؤكده على قولها بلهفة وهي تمسح عبراتها الثمينة بحنان: طبعا يا حبيبتي مكنش هيحب حد قدك، انا لحد دلوقتي لسه فاكرة لمعة عينه اول ما عرِف اني حامل، حبيبتي هو شايفك دلوقتي وعارف قد ايه انتِ بتحبيه وهو اكيد بيحبك خليكِ مُتأكده من ده، ولما تفتكريه ويوحشك اوي تبقي تعالى زوريه هيفرح بيكِ..

هزت رأسها وهي تقضم شفتيها كي لا يخرج صوت أنينها لكنها لم تستطيع السيطرة على نفسها وأجهشت في بُكاء مرير، ضمتها ليلى بقوة وأخذت تمسح على شعرها بحنان وهي تهدئها تحت أنظار عمّار الذي كان يقف على بُعد خطواتٍ منهما يضع يديه داخل جيب بنطاله يراقب نادين بشفقةٍ، فهي بحاجة شديدة لوجود أبٍ في حياتها هي بحاجة لأبٍ أكثر من أي شيءٍ آخر..

ابتسم وخرج من حالة حزنه أسرع مما توقع عِندما سقط بصره على ليلى وهي تضمها بتلك القوه، يا إلهي كم هي حنونة، وكم يطوق للحصول على عناقًا دافئًا كهذا، كم هي محظوظة..

إنها تفعل كل شيء وتبذل مجهودًا جبارًا كي لا تشعرها بالنقص، لكن وجود الأب في حياة أبناءه لا يعوض، لكن ليس في حياة الجميع أيضًا، اكفهر وبدأت تقاسيم وجهه تتغير شيءً فشيء مسافرًا بأفكاره إلى جميع الأشياء المزعجة التي يحاول التعايش معها دون أن تعكر صفوة وصفو حياته لكنهُ يفشل دائمًا بالتحكم في مقته الشديد لحياته..

سعل بخفة عِندما هبت رياح مفاجئة، خلع نظارته الشمسية وهو يخفض رأسهُ وبدأ يفرك عينيه بأنامله بقوة إثر الأتربة، رفع رأسهُ على حين غرة ليجد سعيد يقف أمامهُ يطالعه بازدراء؟
عقد عمّار حاجبيه ثم ارتدي النظارة سريعًا بريبة ونظر من خلفها فوجده مازال يقف، خلعها وقلبها وأخذ يحدق في عدستها بتعجب وقبل أن يتحدث ابتعد سعيد وسار تجاه ليلي..
لوك بلسانه داخل فمه مراقبًا سيره ليهمس بسخط: شمام..

هدأت نادين وظلت ساكنة بأحضان والدتها في صمت قطعة قول سعيد مستفهمًا بنبرة مزدرية دون أن يلقي التحية: عينتي جارد امتي؟
زفرت بخفوت وهي تربت على ظهر نادين قبل أن ترفع رأسها وتنظر لهُ قائلة بعدم فهم: نعم؟!
بسط كفه وأشر على عمّار لتشهق وتتسع عيناها بتفاجئ بينما نادين ابتسمت ومحت عبراتها ثم وقفت وركضت لهُ بلهفة..
عانقته بقوة وهي تبتسم بسعادة قائلة بحب: عمّار انت جيت..

ابتسم وهو يمسح على شعرها بحنان ثم قال مداعبًا: لأ لسه هناك..
ضحكت بنعومة ثم رفعت رأسها وسألته بقلق: بقيت كويس الجرح خف..
اتسعت ابتسامته وقرص وجنتها بخفة وهو يقول باستياء: امك معملتهاش وسألتني وانا اتبهدلت بسببها بارك الله فيكِ يا بنتي انا مليش غيرك في البيت ده انا عارف..

قهقهت بنعومة ثم زمت شفتيها وهي تبرر موقف والدتها: مامي مفيش أحن منها والله يا عموري بس انت مش بتدخلها الدخلة الصح بتستفزها وهي بتتعصب بسرعة انت الغلطان!.
ضيق عينيه بتفكير ثم نظر لها بمكر جعلها تبتسم بجانبيه ثم ضربت صدره وهي تسأله بعبث: ايه؟ عايز تتغدى معانا النهاردة؟
رفع حاجبيه بتفاجئ بسبب توصلها لهذا سريعًا سرعان ما تداركه وأحاط كتفها بقوة وهو يقول بنبرة لعوب: انتِ من النهاردة حبيبة قلبي..

قهقهت بخفة وأشرقت ملامحها كأنها لم تكن تبكِ منذُ قليل وهذا ما أثار حفيظة ليلى التي تقدمت مع سعيد كي تستفسر سبب وجوده هُنا، ورؤيه تغير مزاج نادين كليًا و سعادتها بوجوده اخافتها ذلك الغبي، لن يتركها تحيا بسلام..
تمالكت نفسها بصعوبة وهي تضغط على أسنانها بقوة ثم هتفت باسمها بنبرة هادئة على قدر ما استطاعت: نادين يا حبيبتي تعالي مسلمتيش..

ابتسمت نادين بخجل ثم تقدمت وصافحت سعيد مرحبة به وتبعها عمّار سيرًا: ازيك يا أنكل..
ابتسم بخفة وسألها عن حالها: الحمد لله يا حبيبتي انتِ عاملة ايه؟

هزّت رأسها وهي تبتسم بنعومة ثم صححت لهُ عِندما وجدت سعيد يحدق بعمّار: انا الحمد لله، اه عمّار ده يبقـ، صمتت عِندما أحاط عمّار كتفها وضغط عليه جعلها تتوقف وتابع هو وهو يبتسم: عمّار ابن عم ليلى أهلا وسهلا، ثم انتقل بأنظارة إلى كتلة الغضب المشتعلة التي تقف و استرد وهو يرفع حاجبه بتحذير كي لا تتفوه بكلمة: أنا جيت في المعاد اهو يا لي لي عشان متضايقيش..

نظر لهما سعيد بتعجب ثم سألها بنبرة صاغرة استشعر عمّار بها الغضب: مقولتيش يعني ان عندك ولاد عم ولا حتي جبتي سريتهم قبل كده؟
حركت شفتيها وكادت تنفجر به لكن عمّار من سبقها في الحديث بلذاعة مستفهمًا: انت مين انت عشان تقولك؟ ابن خالتها ولا حاجة؟.
زفرت وهي تخفض رأسها، قاضمة شفتيها بقوة، تعتصر أناملها بعنف وهي تهز قدمها بتوتر، ذلك
الخرتيت الذي يقتنص الفُرص..

تحمحم سعيد منظفًا حلقهُ وهو يعقد يديه معًا خلف ظهره ثم قال مبررًا: لأ بس احنا عِشرة عمر ومكنش يـ، قاطعته ليلى وهي تسأله بنبرة نافذة عالية نسبيًا أتي على أثرها التُربىّ: ده مش مكان يسمح فيه للمناقشات الجانبية دي! فين الشيخ؟ انا بقالي ساعة مستنينه هنا ومجبتش حاجة!

برر بهدوء وهو يخرج هاتفه: انا كلمته وكان جاي في الطريق بس بعد كده اتصل وقال في زحمة وممكن يتأخر فـ خليته يرجع لأني عندي اجتماع ومش هطوِل هنا..
عقدت يديها أمام صدرها بغضب وردت بابتسامة متهكمة: عندك اجتماع؟ واحنا هنا نعمل ايه؟ مفيش شيخ غيره؟
كاد يتحدث لكن قاطعهم الرجل وهو يقول مبتسمًا أثناء تأشيرة على عمّار: ولا يهمك يا سِت هانم الجدع موجود اهه..

نظر لهُ عمّار بدون تعبير، لتناظرة ليلى باستفهام وهي تعقد حاجبيها بشدّة..
أعاد الرجل وهو يلوح بيديه شارحًا لها: الجدع اهه صوته زين كان بيقرأ من شويِة يا سِت هانم مسمعتيش ولِّيه؟
فكت عقدة يديها وهي تهز رأسها ذهولًا، بعدم استيعاب لِمَ قال ثم رفعت سبابتها وأشرت عليه باستصغار قائلة باستنكار: ده اللي كان بيقرأ؟!
التفت عمّار وقال لهُ بلوم: كده تطلع عليا سمعة؟

ضرب كتفه بخفة وهو يؤنبه: سمعة زينة ده انتِه هتاخد ثواب كَد اكدِه..
لوي عمًار شفتيه وهو يفكر، ليتحدث سعيد معتذرًا: انا لازم امشي بقى وبجد آسف مرة تانية بس كل حاجة متلغبطه معايا النهاردة اعذريني..
هزت ليلى رأسها بتفهم وهي تحتضن ذراعها، ليرفع يده بتلقائية عِندما لاحظ ورقة الشجرة تلك عالقة على مقدمة شعرها أسفل حجابها، أمسك عمّار قبضته بقوة قبل أن تصل، كان يعتصرها بقسوة بين قبضته جعل ملامحه تنكمش بألم..

سأله من بين أسنانه بصوته الرخيم بغلظة: ايه يا باشا ايدك؟!
نزع سعيد يده من قبضة عمّار وهو يتألم ثم قال باستياء وهو يمسدها بقوه: انا كنت هشيل ورقة الشجرة بس مش أكتر!

غمغم عمّار متهكمًا وهو يرفع حاجبه الأيسر: ليه عِدمت ابن عمها؟ اهي ورقة الشجرة، ورفع كفه وقام بإزالة تلك الورقة الجافة من بين خصلاتها المجعدة ثم مدّ يده في جيب معطفه الداخلي وأخرج وردة بيضاء ذات رائحة طيبة وقام بوضعها فوق أذنها بين شعرها وهو يقول بابتسامة عابثة: قمر في الحجاب يا بنت عمي قمر..
تمتم سعيد بحنق وهو يهز رأسه مبتعدًا عنهم: انسان غريب!.

التفت عمّار وصاح مصححًا لهُ بصوتٍ مرتفع: لا همجي يا بيه اسمها همجي..
سار سعيد دون أن يلتفت لهم حتى اختفى نهائيًا عن وقع أنظارهم..

استدار عمّار ليجد الوردة ترتطم بوجهه بقوة تبعها صراخ ليلى بانفعال بصوتٍ مُرتفع وهي على وشك الجنون: انت مريض ولا مجنون ولـ، قاطعها عِندما مال عليها فجأة حتى ظنت أنهُ سوف يسقط فوقها وسوف ينتهي أمرها وتموت، لكنهُ فاجأها بهمسه بجانب أذنها ببحة رجولية متحدية جعلها تقشعر وتظل جامدة وهو يمد يده داخل جيب معطفه من جديد: انا اللي هقرأ للمرحوم قرآن و هعرفة بنفسي كمان ومتقلقيش هقولة إنك في إيد أمينة، ثم أخرج وردة أخرى لونها أحمر وقام بوضعها فوق أذنها بين شعرها وتابع وهو يمد حرف آل ز : دي أحلى يا، غزاااال، ومن ثم تخطاها وتقدم من القبر وتركها متجمدة محلها..

إنها ستصاب بنوبة قلبية من الغيظ، سوف تنجلط بسببه، هذا البغيض إنها تكرهه، تكرهه، وتكرهه..
ضمت قبضتها بقوة ثم رفعت يدها كي تنتزع تلك الوردة لكن يد نادين الدافئة أوقفتها عِندما قالت برقة: سبيها والله جميلة، انتِ عارفة بيحب يستفزك بس..

هزت ليلى رأسها بنفي واصرار وصدرها يعلو ويهبط من فرط الإنفعال، كادت تتحدث لكن نادين عانقتها بقوة وأخذت تربت على ظهرها برقة كى تهدأ وهي تقول بحنان: اهدي اهدي، أطلقت أنفاسها المرتجفة دفعة واحدة وهي تغمض عينيها بقوة حتى صدح صوت عمّار العذب، يا إلهي لا تُصدق هذا لا تُصدق هذا إنهُ ليس عمّار ليس هو، هي لم تجلس فوق ساعة تستمع لهذا بكل هذه السعادة! لا لم تفعل بالتأكيد لقد كانت تحلم..

تتساءل بنفسها حقًا عن سمات هذا الشخص، لا تعرف أهو سيء أم جيّد لا تعرف، لكن متأكده أنهُ يبلغ درجة من السوء تستحق معاملتها لهُ بتلك الطريقة، يكفي ما فعله معها، هو السبب في كونها تعرضت للتعنيف في تلك الليلة السيئة فهي لن تنساها قط ولن تنظر لشيءٍ آخر جيّد فعله أو قد يفعله من أجلها! لن تغفر لهُ لأنهُ لا يستحق..

جلست فوق أحد الأحجار الضخمة بعيدًا عن القبر، جسدها مشتعلًا تملك شحنات غضب قد تفتك به، ظلت تستمع لهُ وهي تعض شفتيها بقوة أثناء تحديقها بظهره بـ بُغض وكم رغبت في الذهاب وخنقه ووضع الوردة داخل فمه بعد موته يا إلهي سوف يرتاح قلبها وتنطفئ النيران المشتعلة داخل صدرها أن فعلت هذا..

رفعت نظرها تراقب نادين لتتحسر عِندما وجدتها تضم يديها إلى صدرها بتأثر وهي تنظر له بابتسامة حالمة، هذا ماكان ينقصها كي يظل ملتصقًا بها، إلى ماذا يخطط هذا الغبي لقد أخبرها أنها ستندم ماذا سيفعل أكثر؟! ومرّ الوقت بها وهي شاردة تفكر..
انتهي بعد بعض الوقت ثم وقف وانحنى ونظف بنطاله الذي اتسخ وهو يهز رأسهُ، نظف حلقة الجاف وهو يتقدم منهما لتقول نادين بابتسامة رقيقة: محتاج عزومة عشان تبل ريقك صح؟

هبت ليلى واقفة وقالت بحنق قبل أن تدعوه ابنتها الساذجة: مالهوش في ذمتي غير كباية عصير بخمسة جنيه مش اكتر! قال عزومة قال هيتلزق؟
نظرت لها تالين بعتاب، بينما عمّار ارتفعت زاوية شفتيه بسخرية وسألها باستهجان: ليه انتِ كوارع عشان اتلزق فيكِ؟

صرّت على أسنانها بقوة وهي تنظر لهُ والشرار يتطاير من عينيها، لتبتسم فجأة بعصبية و هدأت من نفسها وهي تطلق زفيرًا حارًا على دفعات، فهو لا يستحق الغضب حتى لا يستحق، لن تتعب نفسها من أجله..
ردت ببرود وهي تنظر لهُ نظرة متدنية: تعرف يا عمّار انت مينفعش حد يرد عليك..

هزّ رأسهُ متفهمًا وهو يبتسم باتساع و مقلته تجول فوق وجهها الدائري كالبدر الناصع في تلك الهيئة، إنها شهية قابلة للأكل، ذلك الثغر الفاتن وتلك الشفاه الكرزية الحمراء بسبب عضِها عليها باستمرار تدعوه لتقبيلها كي ينهي ما بدأته هي..

تلك الوجنتين الهلامية الوردية كانت بمثابة فاتح للشهية بالنسبةِ لهُ، وتلك الأعين التي لا تقدح سوي غضبًا وكرهًا تجاهه كم هي فاتنة وتخفي خلفها حُبًا وعشقًا دفينًا لم يناله سواه، إنها تجعله متحمسًا للحياة وبشدّة..
إنها وردة ناعمة تم قطفها مبكرًا لكن رغم هذا لا تزال متفتحة، إنها تمتلك رقة ونعومة تذيب القلب..

ابعد خضراوية عنها وعاد إلى رشده قبل أن يتهور ثم ابتسم وغمرته سعادة لا يعرف مصدرها وردّ في المقابل: وانتِ تعرفي انك قمر في الحجاب؟
انتفخت أوداجها بغضب ثم امسكت بيدِ نادين بنفاذِ صبر وأخذتها وسارت مبتعدة عنهُ..
اتسعت ابتسامته وصاح بصوتٍ مُرتفع: مهما عملتي برضه قمر..

توقفت مع التربيّ قليلًا تتحدث معهُ، التفتت نادين عِندما وجدتها مشغولة وصاحت كي يسمعها قبل أن تذهب: هستناك على العشا، أومأ وهو يلوح لها بابتسامة لتحدجة ليلى بنظرة حارقة قبل أن تأخذها وتذهت نهائيًا..
تنهد باستياء وهو يفكر لاويًا شفتيه بتبرم حتى إنها لم تشكره! متعجرفة..

استدار على عقبيه وحدق في اسم زوجها المحفور فوق القبر قليلًا ثم أخبره بثقة كأنهُ يُحادث شخصًا ما حقيقي موجود: هتجوزها على فكره، السنة الجاية زي النهارده هكون هنا انا وهي، وهي مراتي..

مساءًا، في منزل آدم..
كانوا يجلسون حول مائدة الطعام يتناولون العشاء بهدوء والصمت يخيم المكان دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة تقطع هذا الصمت عدى مصطفى الذي سأل مستفهمًا وهو يلتفت باحثًا عن آدم: فين آدم؟
رفعت شهيرة رأسها باهتمام كأنها لاحظت هذا الآن وكأنها تهتم لهُ..

توقفت تالين عن مضغ الطعام عِندما تذكرته الآن، صحيح لقد تركته صباحًا وسط حديثه وركضت إلى مصطفى وصعدت معه إلى غرفتهما و تناسته تمامًا، لقد كان شاحبًا ومُتعبًا هل هو بخير؟!
ازدردت ريقها وهي تفكر أن كان بإمكانها البحث عنهُ، لكن تراجعت عن فكرتها عندما وجدت شهيرة تقف وهي تقول بحنان أمومي تعجبت لهُ: أنا طالعة أشوفه..
فغرت تالين فمها بذهول وهي تُراقب ذهابها بعدم فهم! مُنذُ متى وهي تقلق عليه؟!

في الأعلى، طرقت فوق الباب عدة طرقات هادئة لكن لم يأتيها رد، قلّبت عينيها وأدارت المقبض ودلفت بهدوء، تسير بخطواتٍ حثيثة وهي تحدق في أرجاء الغرفة باهتمام، لقد مضى وقتٍ طويل على آخر مرة دلفت إلى غرفته..
تقدمت من الفراش عِندما وجدته مسطحًا فوقة وجسده مخفي لا يظهر منهُ شيء ويبدو من حركة جسده أنهُ يرتجف أسفل الغطاء الثقيل!.

شعرت بالإرتياب وتقدمت منهُ بتعجب، أبعدت الغطاء من فوقه بقوة لتجده متكورًا على نفسه كالجنين ينتفض بقوة وجسده يتفصد عرقًا بغزارة من أعلاه لأخمص قدميه، إنهُ محموم..
جلست بجانبه على مقدمة الفراش ثم مدت يدها و خللت أناملها داخل شعرة الرطب من الحمى وهي تسأله بابتسامة متشفية: عيان يا آدم؟

حرك رأسهُ بوهن على قدر ماستطاع كي ينظر لها لكنهُ عجز عن رفعها أكثر بسبب ثقلها، ازدرد ريقة بحلق جاف وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة ثم أغلق عيناه بتعب شاعرًا بالحرارة التي تضخ منها مستمعًا إلى قول والدته وهي تبتعد عنهُ ذاهبة: هجبلك علاج متقلقش مش هتأخر عليك..

ابتسم بألم وهو يحرك يده بصعوبة حتى أمسك طرف الغطاء وأعاده فوق نصفه العلوي لعل الدفء يغمرة لأنهُ مدركًا لما يحدث ويعرف أن والدته لن تعود بالدواء، هي فقط تتمنى موته..
جلست على الطاولة في الأسفل وقالت بابتسامة وهي تعود لتناول الطعام براحة وسلام: متقلقش عليه يا حبيبي طلعت لقيته رايح في النوم الصبح بقي تبقي شوفه..

أومأ لها بتفهم وهو يتناول طعامه بهدوء، توقف وترك الملعقة عِندما اهتز الهاتف داخل جيب بنطاله..
ابتسم عِندما رأي هوية المتصل سرعان ماتدارك تلك البسمة وأخفاها قائلًا عِندما رأي تلك النظرات المستفهمه: دي سالي اكيد عايزة آدم، دي طول الرحلة وهي بتحاول تكلمه بس المكان اللي كُنا فيه مكنش فيه شبكة..
ابتسمت والدته بسخرية وقالت متبرمة: انا نسيت إنهُ خاطب أصلًا..

ابتسم مصطفى وقال ممازحًا وهو يرد على المكالمة: كُلنا نسينا، الو، ثم وقف من محله وصعد إلى الأعلى وهو يتحدث غير مكترث لتلك التي تطالعه بضيق لم تستطيع إخفاءه، لقد سئمت وملّت منهُ..
أخرجها من شرودها سؤال شهيرة المتهكم: مش ناوية تجيبي بيبي ولا ايه؟

خللت أناملها داخل شعرها وهى تتنهد بـ همٍ ثم قالت بقلة حيلة وهي تهز كتفها: والله يا ماما انا مليش ذنب انا عملت كل اللي عليا و اكتر بس هو كُل ما يرجع زي ما حضرتك شايفة ينام و يصحي يخرج ويرجع ينام وبعدين الاقيه بيقولي هسافر تاني؟!
شابكت شهيرة أناملها معًا وقالت باستخفاف: ده مش مُبرر! المفروض تحابي على جوزك وتخليه جنبك يا إما تسافري معاه وتفضلي لازقة فيه ده لو إنتِ سِت شاطرة و ذكية!

عقدت تالين حاجبيها بعدم فهم وهي تهز رأسها بتعجب ثم قالت باستفهام: يعني أعمل إيه أكتر من كده؟ افرض نفسي عليه وهو مش عايزني؟ ده حتي النهاردة أول ماجه سلمت عليه وطلعنا أوضتنا مع بعض جيت أتكلم معاه قالي لما أصحى نتكلم وصحي على العشا ودلـ، قاطعها قول مصطفي وهو يُقّبل وجنتها بعد أن عاد من الأعلى: و دلوقتي خارج نتكلم لما أجي، وتركها وغادر لتبتلع غصتها بمرارة وهي تحدق في ظهره مستنكرة تلك البلادة وبرودة المشاعر والاستخفاف بها من قِبل الجميع، هي مُهمَلة آدم هو الوحيد الذي يهتم..

أبعدت نظرها عن الباب عِندما ذهب، عادت تنظر إلى شهيرة بصمت دون التحدث لتقف وتقول بسأم مُزجِ بضجر وهي تنظر لها بتعالي: خليكِ في المذاكرة يمكن تنفعك، ثم وقفت وذهبت وهي تتأفف وتركتها تجلس وحدها شاعرة بتلك الحرارة والحرقة التي بدأت تغزو عينيها مُهددة بهطول العبرات..

في منزل ليلى..
أسند عمّار وجنته فوق راحة يديه وهو يراقبهما من محل جلوسه أمام طاولة الطعام داخل المطبخ ويفصل بينهما وبينه ذلك الحائط الرخامي، تقدمت نادين حاملة بين يديها أحد الأطباق بحماس وهي تبتسم، وضعته أمامه ثم جلست بجانبه وهي تبتسم بفرح ليسألها بإزدراء: يعني كُل ده وكمان مش طابخين وطالبين من بره؟!

تنهد نادين بإحباط ثم ألقت رأسها فوق الطاولة وقالت باستياء: لما رجعنا انا طلعت ذاكرت شوية ومامي كانت تعبانه ونامت لأنها من ساعة ما رجعت من عندك مش بتعرف تنام كويس وبتشوف كوابيس كل يوم..

هز رأسهُ بتفهم وهو يحدق في ظهرها الذي تصدره لهُ بقلق، هو منذُ الصباح لاحظ وجهها المتعب وعينيها المرهقة، هي ستذبل إن ظلت هكذا، فكر قليلًا ثم قال إلى نادين: طيب ما تنامي إنتِ معاها وتبقي خُديها فى حضنك ومش هتشوف كوابيس! وفي برضه ماسك للهالات السودة طبيعي بيتعمل بالقهوة سهل جدًا وفي واحد تاني بالبُن وهو ناشف قبل ما يتعمل تبقى اعمليه لها وانتوا قاعدين مع بعض مش هياخد وقت عشان شكلها تعبان، بُصي انا هبحث وهجيبلك الوصفة بالظبط وهبعتهالك، ثم أخرج هاتفه من جيب بنطاله وبدأ بالنقر فوق شاشته بتركيز و انغمس في البحث باهتمام وهي ظلت تراقبه بابتسامة رقيقة حتى سألته فجأة: عمّار أكلتك المفضلة ايه؟

ردّ بهدوء وهو ينظر للهاتف بتركيز: كوارع، قهقهت بنعومة ثم تابعت: عارفة، طيب ومشروبك المُفضل؟!
ردّ بعبث و أنامله تتحرك فوق شاشة الهاتف: شوربة كوارع، ضحكت وهي ترفع رأسها ثم وقفت وتحركت تجاه المطبخ كي تأتي ببقية الطعام لكنهُ سحب يدها جعلها تجلس بجانبه وهمس: انا جيت عشان تقوليلي اعمل ايه عشان ترضى عني زي ما قولتي الصبح! ها إزاي؟

ابتسمت نادين ثم قالت لهُ بجدية بنبرة جعلته يشعر كأنها شخصًا كبيرا أمامه: مش محتاج تعملها حاجة يا عمّار إنت انسان جميل و هتقبلك زي ما انت لما تتعود على تصرفاتك..
أراح ظهره على المقعد براحة وهو يضع أنامله فوق شفتيه قائلًا بابتسامة: انا حبيت نفسي و تصرفاتي خلاص..
أبعدت شعرها خلف أُذنها وهي تبتسم بطريقة جعلته يعقد حاجبيه بعدم فهم، لتضيف بجدية وهي تنظر له بشرود: انت تتحب فعلًا..

اعتدل بجلسته وهو يحمحم ثم طرقع أنامله أمام وجهها كي تفيق: لا عودي يا نادين في ايه؟ مش متعود عليـ، توقف عِندما أتت ليلى ووضعت بقية الأطباق أمامهما بتركيز دون أن ترفع بصرها أو تلقي عليه نظرة واحدة..
ازدادت عقدة حاجبيه التي تكاد تأخذ هذا الوضع من كثرة تكرار هذا اليوم، بسبب وضعها أمام مقعدها طبق وحيد وبقية الأطباق قامت برصِّها أمامهما..
لكز ذراع نادين بمرفقه وهو يسألها بهمس: ايه اللي امك هتاكله ده؟

ردت بهمس مماثل وهي تهز كتفيها: سلطة هتاكل ايه يعني!
هز رأسهُ بيأس ثم قال بأسف: لا حول ولا قوة إلا بالله المُرتب خلص ولا ايه؟ اديها أكلي دي قطعتلي قلبي مش واكل ها..
كادت نادين تتحدث لكن رن هاتفه، حمله وكاد يغلقه لكن وجده آدم..
ردّ بقلق تفاقم أكثر عِندما سمع صوته الواهن المبحوح ليقول بسرعة وهو يقف بقلق: انا جايلك، أغلق الهاتف و استدار ليذهب لكن استوقفه قول نادين بحزن: ايه ده هتمشي من غير ما تاكل؟

ابتسم لها بأسف وقال بعجلة من أمره: آدم تعبان ولازم اروحله وبعدين أصلًا انا مكنتش هاكُل كُنت هتسمم، مسد جبينه متنفسًا باختناق وتابع بحنقٍ شديد: حقيقي يعني انتوا لو كان قاعد معاكم مجوسي مكنِتش هتضرب البوز ده انا ماشي سلام..
اكتست ملامح نادين الحزن ونظراتها تتبعه بلهفة حتى اختفى من أمامها، عادت بنظراتها إلى ليلى لتجدها تحدجها بغضب ثم سألتها بتوبيخ: هو في ايه؟ ايه حكايتك مش الموضوع انتهي؟

عضت نادين على شفتها السفلية وهي تعبث بأناملها بتوتر ثم قالت بخفوت وهي تتحاشى النظر لعينيها: مامي انا عايزة ارجعله تاني..

في منزل آدم..
طرق الباب بقوة جعل تالين تنتفض من محلها بفزع، محت عبراتها سريعًا وركضت إلى الباب بقلق، أدارت المقبض وفتحت الباب لتجد عمّار يقف أمامها، حملقت به قليلا وقبل أن تتحدث تخطاها وهرع إلى الأعلى دون أن يلتفت..
رمشت بتعجب ظلت واقفه محلها تستوعب مجيئه ودخوله بتلك الطريقة كأنهُ منزلهُ..

أبعد الغطاء عن جسده بقلق ليجده فاقدًا للوعي ووجهه شاحب وشفتيه مشققة وجسده مُشتعل من الحرارة، حاول إيقاظه بقلق وهو يصفع وجنته لكن لا وجود لرد فعل..
قذف الغطاء بعيدًا بغضب ثم حمله فوق كتفه وأخذة وذهب، وهو يشتم الأغبياء الذين يمكثون معه في المنزل..
شهقت تالين بتفاجئ عِندما رأت عمّار يتقدم بهِ وهو شبه ميت فوق كتفه..
احتل الخوف كيانها و سألته بلهفة: هو في ايه ماله؟.

حدجها عمّار بوجه مكفهر من الغضب وتجاهلها وذهب صافعًا الباب خلفه بقوة..
ارتجفت شفتيها واغرورقت عيناها بالعبرات ثم تحركت وصعدت إلى الأعلى وهي تجر قدميها خلفها و بالكاد كانت ترى من غشاوة عينيها..
توقفت عن السير رغمّا عنها وظلت جامدة أمام غرفة شهيرة تستمع إلى صوت الموسيقى الكلاسيكية التي تصدح من الداخل مع دندنه صوتها المستمع بما تسمعه في الداخل..

هزت رأسها بخذلان وهي تحدق في الباب باحتقار، فكم هي قاسية متبلدة المشاعر لا تملك إحساسًا، لقد صعدت إليه وقالت أنهُ نائم! لا تُصدق أنها قد تصل إلى ذلك المستوى وتكذب ماهذا! إنهُ ابنها كيف تفعل به هذا حتى إن كانا على خلاف!

في الثانية والنصف صباحًا بعد منتصف الليل..
كان جالسًا في غرفة المكتب الخاصة به، يقرأ في أحد الكُتب الانجليزية الطِبية الخاصة به التي هجرها منذُ سنواتٍ بتركيز من خلف نظارته الطبية الخاصة بالقراءة..

تثاءب بقوة وهو يرفع رأسهُ ثم ارخاها على المقعد وهو يمسد رقبته بألم، خلع نظارته وقذفها فوق المكتب تبعها الكتاب ليحط بجانب الرواية الخاصة بـ ليلى التى نستها في منزلهُ، فرك عينيه بنعاس ثم مط ذراعه وتثاءب مجددًا لتسقط خضراوية على معطفه الطبي المُعلق، لقد مرّ وقتٍ طويل على آخر مرة ارتداه بها، مرت سنوات، حول نظره عنهُ وهو يبتلع ريقه بمرارة شاعرًا بالغم يطبق فوق صدره..

فتح الدرج الأمامي الخاص بالمكتب، مد يده وأخرج ذلك الدفتر القديم ذا اللون الأخضر الذي سرقه خلسة في صغره من غرفة ندى وفرّ هاربّا..

فتحة بطرف أنامله برفق خوفًا عليه كي لا يتلف و يتمزق ورقة بين يديه، ابتسم بحنان وعينيه تمر فوق كُل حرف كتبته بطفولية بألوانٍ مُختلفة متحدثة عن أحلامها وطموحاتها وخطتِها للمستقبل حتى مواصفات زوجها المستقبلي، إلى الآن مازال يتساءل هل كانت تدرس في هذا الوقت لدى جارتها أم كانت تدون أُمنياتها..

حرك شفتيه مع مقلتيه التي تلمع ببريق وهي تمر فوق الكلمات المنقوشة عِندما وصل إلى تلك الورقة التي حفظها عن ظهر قلب، الخاصة بالمواصفات التي يُجب أن تتوافر في زوجها المستقبليّ، ومن حسن حظه هو لا يتوافق مع تلك المواصفات وهذا ما كان يضحكة..

لن ينكر أن تفكيره كان محصورًا حول والده في كيفية نيل رضاه كي يكون خليفته، لكن بعد قراءة هذا الدفتر مِرارا وتكرارا وشعوره برغبتها الشديدة الملحة كي تصبح طبيبة دفعته لحب تلك المهنة دون سبب، لقد أصبح طبيبًا فقط من أجلها، وليس أي طبيب لقد تخصص في جراحة القلب لأنها تمنت هذا، لكن بفضل والده الجميل لم يستمر بكونه طبيبًا لوقتٍ طويل، ليتها فقط تمنحه فرصة كي يُحقق لها جميع أُمنياتها البسيطة ولن يخذلها أبدًا، لا وجود الكلمة في قاموسة، هي الوحيدة التي تجعله صامدًا في هذه الحياة السيئة..

أغلق الدفتر وهو يطلق زفرته الطويلة على دفعات، مسح وجهه بقوة وهو يقف بتكاسل حاملًا هموم العالم أجمع فوق رأسهُ، فهذه الغرفة هكذا كُلما دخلها خرج منها صاغرًا بحالةٍ مضنية مثيرة للشفقة، يكره الدخول إليها في الكثير من الأحيان لكن رغبته وشوقه إلى شخصه القديم تتغلب عليه دومًا..

أطفأ الضوء ثم أغلق الباب وصعد كي يطمئن على آدم، لقد جلس ساعتين يخفض حرارته عِندما أتي به حتى وجد استجابة من جسده وبدأت الحرارة تنخفض بالتدريج و قليلا فقط وبدأ يهذى فاستغل عمّار الوضع ووضع لهُ الدواء داخل المياه وساعدة بارتشافة، وتركه ينام..
فتح الباب بخفة كي لا يوقظة إن كان نائمًا، لكن ابتسم عِندما وجد آدم مستيقظًا يجلس فوق الفراش، شاردًا بنقطة مُعينة في السقف..

جلس بجانبه وهو يبتسم ثم سأله بقلق مراقبًا شحوب وجهه: بقيت أحسن؟
أخفض رأسهُ مبتلعًا غصته بمرارة وقال بحقد وهو على وشك أن يبكِ بسبب قسوة تلك الحياة: أنا بكرهها اوي يا عمّار بكرهها..
ربت على كتفه برفق مواسيًا عاجز عن قول أي شيء لأنهُ حقًا لا يعرف ما يقول، فاقد الشيء لا يعطية وهو لا يستطيع تبرير موقفها مهما فكر، لايعرف حقًا ما خطب والدتيهما..

ضغط على كتفه عِندما صدح صوت آذان الفجر قائلًا بابتسامة: قوم تعالي نصلي الفجر وادعي ان ربنا يهديها..
ردّ قائلًا بنبرة يائسة واهنة سائمًا منها: انا هدعي ربنا ياخدها مش يهديها..
قهقهة عمّار وهو يتحسس جبينه وقام بنصحه وهو يبتسم: هتتعب نفسك على الفاضي محدش بيموت ناقص عُمر وفر دعوتك وادعي بحاجة تنفعك أحسن
، صح تالين كانت قلقانه عليك على فكرة..

ابتسم بحسرة وهو يمسح وجهه قائلًا بحزن بحلق جاف: تالين، تالين عمرها ماهتحس بيا طول ما هي بتفكر في الفقر والفرق اللى بينا، وطول ما في مصطفي انا عايز أخلص منه يا عمّار..

صباحًا في أحد أكبر المطاعم الفاخرة، في الطابق الثاني تحديدًا الذي يحاوطه حائط زجاجي..

كانت جالسة على المقعد الفخم تسند ظهرها عليه بأريحه، تضع ساق فوق الأخرى وهي تراقص قدمها التي ترتدي بها حذاء مُرتفع، ترتدي بنطال خامة الجينز أزرق يعلوه كنزة صوفية منسدلة من فوق كتفها الأيسر الناعم، جمعت خصلاتها البُنية بين قبضتها ووضعتهم فوق كتفها وتركت رقبتها ظاهرة يتدلى بجانبها قرطِها الرقيق الذي كان يتراقص من حركة رأسها المتكررة بسبب الضحك برقة، بثغرها الفاتن الذي تزينه بأحمر الشفاه..

تابع الحديث بتسلية ولباقة عكس الهمجية وهو يتذكر ماحدث: كان بجد شكلها مسخرة وهي بتزحف وعماله تهز راسها بتحاول انها تتكلم و تقولي انها عشق مش جـنّـة بس فشلِت لما هجمت عليها و ضربتها..

ضحكت جـنّـة بخفوت وهي تخلل أناملها النحيفة داخل خصلات شعرها قائلةً بمرح: صدقني ده مش هيكون احلى من شكلها إمبارح وهو قُصيّ بيعترف بكل حاجة لجاسم، هي دي المتعة الحقيقية بجد، حقيقي يا بابا كانوا يومين حلوين أوي اللي قضتهم مع جاسم، صحيح مثِلت كتير وعيطت كتير وعيني وجعتني بسبب العدسة بس استمعت..

ثم رفعت يدها وطبطبت على وجنتيها بخفة وأضافت باستياء: هو انا هفضل بِوِش عشق ده اكتر من كده؟ انا نسيت شكلي يا بابا!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة