رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السادس عشر
هرول چون خارج المنزل مُسرعًا قاصدًا منزل لوسيندا الذي لا يبعد كثيرًا عن الحارة التي يقطنون بها، لذلك أخذ تلك المسافة وهو يجري سريعًا، وصل إلى منزلها الذي يحفظه عن ظهر قلب صاعدًا للعمارة التي تقطن بها مُهرولًا على الدرج، طرق على الباب بشدة وانتظر قليلًا حتى فُتِح الباب بواسطة فتاة لم يُقابلها من قبل، لكن بسبب ذلك التشابه بينها وبين لوسيندا علم على الفور بأنها شقيقتها.
مسحت مهرائيل وجهها من الدموع ثم تسائلت بصوت خافت: أنت چون؟
أجابها وصدره يصعد ويهبط بنهيج قوي: نعم هذا أنا، أين لوسيندا؟
وللحظة تناست الوضع الذي جمع كلاهما والسبب الذي أتى به إلى هُنا وتسائلت ببلاهة: أنت مُدبلچ!
قطب جبينه يُحاول عقله ترجمة ما تقوله تلك المُغفلة الآن، لذلك تسائل بضيق: عفوًا؟ أين لوسيندا؟
وضعت يدها على رأسها، وعادت الدموع تتجمع بمقلتيها وهي تُشير للغرفة المُجاورة لباب الشقة: بابا حابسها في الأوضة اللي جوا ومش مخرجها بقاله أسبوع.
دلف چون للداخل سريعًا بعد أن أفسحت له الطريق، اقترب من باب الغرفة ثم طرق عليه بقلب يتآكل من الألم: لوسيندا هل تسمعيني!
وبالداخل. كانت لوسيندا شاردة تنظر للحائط الذي يُقابلها بألم، لم تتوقع الخذلان من والدها، دموعها تبكي ألمًا وقهرًا وقلبها يصرخ يُريد النجاة، تلك الشهقات التي تخرج من فاهها كان مصدرها نصل من الكلمات الحادة التي غُرزت في فؤادها، وهي ضعيفة لم تتحمل فاستسلمت للصوت الذي يحُثها على الصراخ، ووسط تلك الأمواج الهائجة استمعت لصوته الذي يُناديها بقلق، مُناداته باسمها كان يُشبه طوق النجاة الذي اِلتف حول خصرها وانتشلها من الغرق.
انتفضت هي من على الفراش وجرت أقدامها بصعوبة نحو باب غُرفتها المُنغلق، وضعت رأسها بضعف على الباب ثم نادته بتحشرج: چون.
استمع إلى همسها الخافت باسمه، فقرَّب وجهه من الباب ثم تشدق بحنان: كُفي عن البُكاء يا قلب چون، لا تخافي عزيزتي لن تكوني لأحدٍ سواي.
لم يسمع منها إجابة سوى شهقات بكاؤها التي مزقت نياط قلبه، عض على شفتيه بحقد من والدها، ورغم الغضب الذي كان يُسيطر عليه؛ تحدث بصوت حنون لا يظهر سوى لها: لوسيندا استمعي إليَّ جيدًا حبيبتي، ابتعدي عن الباب وأنا سأقوم بكسره.
انتظر أن يسمع إجابتها، لكنه استمع إلى صوت شقيقتها التي كانت تبكي حزنًا على شقيقتها، والتي أردفت بإعتراض بعد أن توقفت عن البكاء: لأ الباب لسه جديد متكسرهوش.
طالعها بنظرات نارية وودَّ حقًا لو يذهب ويفتك برأس تلك اللعينة، بينما هي ابتلعت ريقها بقلق قائلة بتلعثم: خلاص أنا كنت بهزر، كسَّر اللي تكسَّره وأبويا هيجي يكسَّر دماغ اللي خلفونا.
أغمض عينه بألم مُفكرًا في حلٍ للدخول إليها بأي طريقة دون أن يؤذيها، فاحتمالية أذيتها وهي خلف الباب كبيرة للغاية، وهو لا يريد ان يمسها بأي ضرر حتى لو كان صغيرًا لا يُذكر، طرقت فكرة في رأسه لذلك استدار ل مهرائيل التي تُتابعه بصمت مُقتربًا منها وهو يسألها بلهفة: هل يوجد أي نافذة بجوار نافذة غرفتها!
أومأت له بالإيجاب وأشارن للغرفة، لكن قبل أن يذهب أوقفته مُنادية عليه قائلة: استنى رايح فين! المسافة كبيرة واحنا في الدور التالت ولو وِقعت هتوديني في مصيبة.
شدَّ خصلاته بغيظ وظل يدور حول نفسه باحثًا عن شيء مجهول، فتوقف حينما وجده أخيرًا، فتحت مهرائيل عيناها بفزع عندما أمسك بالمزهرية الثقيلة ثم دفعها ناحيتها بلا تردد، صرخت هي بهلع مُهرولة بعيدًا، فاصطدمت المزهرية بالحائط مما أدى إلى تهشمها، فرغت فاهها بصدمة جلية ناظرة لأثره برعب، وعادت ناظرة للمزهرية المُحطمة مرة أخرى أثناء همسها: يابن المجنونة! دا مش بيهزر!
لحقت به عندما استعادت بعض من ثباتها، فوجدته قد فتح النافذة ووقف على الطرف المُدبب من الحائط، سار عليه بحذر وانتباه حتى وصل إلى شرفة غرفة لوسيندا، لم يكن الأمر صعبًا عليه بسبب تدريبه المستمر على فعل تلك الحركات التي باتت روتينية بالنسبة له، جلس على حافة النافذة الحديدية فوجدها جالسة أرضًا أمام الباب تبكي فقط!
ناداها بخفوت شاعرًا بقلبه يتمزق لأجلها، بينما هي رفعت رأسها على بغتةً فرأته مُمسكًا بحديد الشرفة من الخارج، وقفت مكانها أثناء محاولتها لمقاومة صداع رأسها الذي يفتك بها ثم ذهبت إليه بترنح، وببطئ شديد قامت بفتح قفل الشباك من الداخل، كان هو ينتظر على أحر من الجمر، وما إن نجحت في ذلك حتى دفع الشرفة وقفز هو للداخل، لم تكد أن تتحدث هي أثناء بكاؤها حتى قام بجذبها لأحضانه يُشدد من عناقها.
لم تتحمل قدامها أن تحملاها أكثر فلقد ضعفت بنيتها في الفترة الأخيرة لقلة طعامها، هبط چون معها بركبتيه على الأرض الصلبة ولم يتركها، بل وقعت هي في أحضانها تتشبث به كالطفلة الصغيرة ترجوه بعدم تركها.
دفن رأسها بصدره ويداه تتحرك هبوطًا وصعودًا على ظهرها لتهدأتها، خرج صوته متألمًا وهو يقول: كفى بُكاءً صغيرتي أنا هُنا معكِ الآن.
هزت رأسها نفيًا أثناء تشبثها في ثيابه أكثر، ثم خرج صوتها باكيًا مُصاحبًا لشهقاتها العالية: متسبنيش يا چون أنا خايفة، أنا مش عايزة غيرك.
مسد بيده على خصلاتها البُنية التي يختلط بها خصلات شقراء، ثم أردف قائلًا: فليأخذوا روحي قبل أن يأخذوكِ من بين يديّ.
حديثه بث الطمأنينة بفؤادها وتوغل الدفيء لجسدها، هدأت قليلًا ومن ثَم توقفت عن البُكاء، خرجت من أحضانه ووجها مليء بالدموع، وكأنها تركت العنان لذاتها عندما اِلتقطها بين ذراعيه، رفع أنامله ثم سار بها على وجهها يمسح عبراتها المُنهمرة مُعاتبًا إياها بلُطف: لقد خسرتِ الكثير من اللأليء.
نظرت له بعدم فهم، ليُوضح لها مقصده وهو يُحيط بوجهها بكِلتا يديه: دمعة واحدة منكِ تُساوي لؤلؤة ثمينة بالنسبةِ لي، وها أنتِ قد خسرتِ الكثير منها يا قاسية القلب!
ضحكت بخفة على حديثه وللحظات استطاع أن يُنسيها همومها، استند بجبينه على خاصتها ثم أردف لها بعشق توغل إلى قلبه قبل أن يتوغل دفئه إلى جسده: أُقسِم بأن ضحكاتك تُنسيني همومي، أنتِ مصدر سعادتي لوسيندا.
أغمضت عيناها سامحة لأنفاسه الدافئة أن تضرب بشرة وجهها الباردة، تُريد دفئه وحنانه، هي بأمَسّ الحاجة إليه الآن دونًا عن السابق، طالعته بنظرات شغوفة ثم خرجت الكلمات من فؤادها أولًا قبل أن تصعد على لسانها لينطقها: أنا أُحِبَك جون.
وأنا أهيمُ بكِ عشقًا.
أجابها بعشق لتتسع اِبتسامتها حتى كادت أن تصل إلى كِلتا أُذناها، أوشكت على التحدث؛ فقاطعهم صوت الباب الذي طرق بقوة تبعه صوت مهرائيل التي تشدقت بقلق: لوسيندا بابا جِه.
انتفضت لوسيندا من مكانها بهلع، ثم اِلتفتت إلى چون قائلة له برجاء: امشي يا جون عشان خاطري دلوقتي.
تشنج وجهه باستنكار قبل أن يقول: أنا لست قادم لأذهب، لقد أتيت لهُنا من أجلك ولن أرحل حتى تُصبحين زوجتي.
إيه!
هتفت بها بصدمة، ليلتقط هو يدها بين كفه العريض ساحبًا إياها خلفه تجاه الباب، وقف أمامه قليلًا ثم طرق عليه بقوة بعدما استمع لصوت همهمات رجولية قادمة من الخارج، لم ينتظر كثيرًا حتى فُتِح الباب ليظهر من خلفه أباها الذي حدجهم بنظرات نارية كادت أن تفتك بكليهما، وزَّع نظراته بين ثم هتف بابنته بصوتٍ غاضب: مين دا يا بنت ال، هو دا اللي رافضة ابن أخويا عشانه وعاملة فيها شريفة!
مدَّ يده ليجذبها من خصلاتها، لكن منعه يد جون التي لحقت به قبل أن تصل إليها، انكمشت لوسيندا على ذاتها مُختبئة خلفه من بطش والدها، بينما ارتفع صوت جون والذي تحدث معه بلغة عاميَّة مُتكسرة حاول تعلمها: ابعد إيدك عنها أنت اتجننت!
دفعه سمير بكتفه ثم صاح به: هو مين دا اللي اتجنن يلا يابن ال...
لم يكد أن يُكمل حديثه، حتى وجد يد چون تدفع يده بغل، تلاه صياحه الهامس بشر: أُقسِم إن لم تبتعد عن طريقي الآن سأقتلك دون ذَرّة شفقة واحدة.
اِلتوى ثُغر سمير بسخرية ظنًا منه إنه يمزح ثم نادى على أحدهم بصوت عالٍ تردد صداه في الأرجاء، بعد ثوانٍ معدودة دخل عليهم ثلاثة رجال اتضح جاءوا معه، منهم اثنان عجائز وشاب كبير نسبيًا يرتدي بذلة سوداء أنيقة، حينها فقط علم بأنه ذلك العريس المزعوم الذي ستتزوجه، حدجهم چون ببرود، وبهدوءٍ قاتل تشدق: سأتزوج لوسيندا اليوم، شِئت أم أبيت فرأيك ضعه في القمامة حيث يوجد أمثالك.
اِحتدت عيني سمير بغضب من إهانته المُباشرة له، وبدون تردد عاد للخلف مُلتقطًا عصى خشبية ضخمة بين يديه، وأعطى مثلها للواقفين معه ثم صرخ بوجهه بتحذير: هتمشي من هنا ولا هتقول على نفسك يا رحمان يا رحيم!
كم تريد!
إيه!
تسائل سمير بصدمة، ليُعيد جون حديثه ببرود قائلًا: كم تريد من المال!
مسح سمير على صدره ثم تشدق بتكبر زائف: فلوس! لأ أنا مش عايز فلوس.
حسنًا، أنت اخترت ذلك.
قالها ببرود ثم دفعه ساحبًا لوسيندا المُنهمرة في البكاء خلفه، كاد أن يخرج من المنزل ويتركهم في صدمتهم؛ لكن جاء هذا المُغفل وأمسك بها من يدها الأخرى مُعترضًا خروجه: أنت رايح بيها فين! أنا هتجوزها النهاردة يعني هتجوزها النهاردة، أنا دافع فيها فلوس دي.
وصل الغضب ذروته إلى رأس جون، خاصةً عندما رأى ذلك الحقير يُمسك بيدها ويجذبها نحوه! ترك هو يدها فظن الآخر بأنه قد استسلم له، لكن باغته بإقترابه منه وتسديد ضربة من جبهته إلى رأس الآخر أدت إلى وقوعه على الأرض من قوتها.
وضعت مهرائيل يدها على فمها بصدمة، فالوضع مُتأزم للغاية الآن، هي ليست نادمة على مُهاتفتها له وإخباره، لكن هي خائفة من ردة فعل والدها عندما يعلم بأنها الفاعلة! بالطبع سيجبرها من الزواج مثلما أجبر شقيقتها، ابتعدت عن مرمى والدها نهائيًا وبتلقائية شديدة وقفت جوار شقيقتها تُمسِك بذراعها وكأنها تطلب منها الحماية، في العادة هُنَ ليست ضعيفتان ويُواجهون أصعب المواقف بشراسة طيلة حياتهم، لكن جبروت والدهم يُجبرهم على الخضوع دائمًا.
أمسك الرجال ب جون مُكتفين إياه من الناحيتين، وكما يُقال دائما: الكثرة تغلب الشجاعة، وهذا ما حدث عندما قام الأربعة رجال بتقييد حركته وبالمقابل كان يقف سمير وبيده العصى الخشبية الكبيرة!
ارتدى قاسم ثيابه سريعًا ثم اتجه إلى منزل أخيه الخاص به هو وزوجته، صعد بالمصعد حتى وصل إلى الدور الثالث الذي يقطن به طارقًا على الباب بخفوت رغم ذلك العِراك العنيف الذي يدور برأسه، انتظر قليلًا حتى فُتِحَ له الباب بواسطة صُهيب الذي يبدو التعب ظاهرًا على عيناه، أفسح له صهيب الطريق دالفًا للداخل دون أن ينبث بكلمة واحدة مما زاد القلق داخل قلبه، خاصةً عندما ذهب عقله لفكرة أنه مَن قام بقتلها!
ارتمى صهيب بجسده على الأريكة الوثيرة مُرجعًا رأسه للخلف بتعب، أغلق قاسم الباب خلفه ثم جلس بجانب شقيقه يسأله بتعجب من حالته: إيه اللي حصل يا صهيب؟ و صوفيا ماتت إزاي؟
حكَّ صهيب جبينه مُجيبًا إياه بإنهاك: مختار بيقول عملت حادثة وعربيتها ولعت وهي فيها.
أومأ له قاسم بشرود، ثم وضع يده على كتف أخيه يسأله بحنان: طب صوفيا وماتت وأنت أكيد مش زعلان عليها، مالك أنت بقى!
طالعه صهيب بحزن شديد حاول جاهدًا ألا يُظهِره، لكن مع أول سؤال من شقيقه ظهر الضعف واضحًا على عيناه، لم يتحمل قاسم رؤية أخيه بكل هذا الضعف والألم وهو الذي اِعتاد عليه قويًا شُجاعًا، لذلك جذبه لعناقًا قويًا وهو يتسائل بحنان: مالك يا صهيب؟
وبالفعل كان صهيب بحاجة إلى مثل هذا العناق، لذلك كان يُشدد من عناقه وهو يُجيبه بقهر: حبيبة جالها اِنهيار عصبي لما عرفت اللي حصل لأمها، حالتها بقت أسوأ من الأول ودخلت في إكتئاب حاد.
والآن علم قاسم سبب حُزن شقيقه، أحيانًا يكون الحُب سببًا في السعادة، لكن أحيانًا أخرى يُسبب التعاسة، ربت عليه ظهره بهدوء ثم أردف بصوت حاني: هتبقى كويسة صدقني، وجودك جنبها دلوقتي هيقويها وهيخليها تنسى كُل مُر مرت بيه، أنت قوِتها فمتجيش في أكتر وقت هي محتاجاك فيه وتضعف، وأنت مش ضعيف يا صهيب.
خرج صهيب من أحضانه مُجيبًا إياه بيأس: هي الحاجة الوحيدة اللي بضعف قدامها، أنا بحبها وحُبها معذبني، مش قادر أشوفها حزينة ومنهارة كدا! قلبي بيوجعني عليها أوي.
هتقدر، هتقدر صدقني وأنا واثق فيك، هي دلوقتي مبقاش ليها إلا أنت، أنت سندها فتميلش دلوقتي!
فكَّر صهيب مليَّا في حديثه فوجد أن معه كل الحق، لا يجب أن يضعف في وقت هي بحاجة للقوة، والقوة التي يمتلكها هي قوة الحب، أومأ له بإبتسامة صغيرة قائلًا: حاضر هعمل كدا.
مازحه قاسم ضاممًا قبضته ثم مدَّ يده للأمام: الشِق.
رد عليه صهيب بضحكة مُتقطعة بعد أن ضم قبضته هو الأخر ضاربًا إياها بقبضة شقيقه: الحُب.
رُوح ناديلها بقى عايز أتكلم معاها شوية.
هتف بها قاسم له، ليقطب صهيب جبينه وهو يسأله بتعجب: عايزها ليه؟
رفع قاسم إحدى حاجبيه له باستنكار، فأردف بصوت ظهر عليه الحِزم الزائف: أنت هتدخل في شغلي كمان؟ يلا ياض انجز روح نادي لمراتك بدون كلام كتير.
هزَّ صهيب رأسه بيأس من عِناد شقيقه، ثم هبَّ من مكانه مُتجهًا نحو غُرفتها ليُنادي زوجته، وبالفعل أخبرها بأن قاسم ما هو إلا صديق بمثابة أخ حتى لا تتعجب من حديثه، رفضت بالبداية طلبه بمقابلة أحدهم، لكن مع إصراره خضعت بالنهاية، قبَّل صهيب جبينها بحنان ثم تشدق بحب: أوعدك لو مرتحتيش بالكلام معاه هدخلك جوا تاني، ثِقي فيا.
أومأت له بهدوء ثم سارت معه ببطئ وهي تحني رأسها للأسفل لكي تُخفي أثار الدموع المُتعلقة بأهدابها، أجلسها صهيب على الأريكة المُقابلة لأخيه وجلس هو بجانبها حتى لا يتركها كما وعدها، حمحم قاسم بغلظة ثم أردف مُوجهًا حديثه ل صهيب الذي يُتابعه بانتباه: ما تقوم يا صهيب يا حبيبي تعملنا حاجة نشربها يا دا بعد إذنك يعني.
طالعه صهيب بغيظ من تغييره لحديثه في المكوث معهما، ثم أردف بسماجة: معندناش شاي.
رد عليه قاسم ببرود: مش عايز شاي، اعملنا عصير.
معندناش عصير.
اعملنا سم هاري نطفحه لو سمحت.
هتف بها بحدة رغمًا عنه، لذلك هبَّ صهيب من مكانه مُغتاظًا بعد أن همس ل حبيبة الخائفة بعدة كلمات أهدئتها قليلًا ثم تركهم وحدهم وذهب هو لإعداد مشروب ساخن للجميع، واثق كل الثقة بأخيه بأنه سيُصلح كل شيء كما اعتاد منه طيلة حياته.
وبالخارج؛ حمحم قاسم بهدوء حتى يجذب انتباه حبيبة، وبالفعل نجح في ذلك عندما حدجته بنظرات حزينة، بدأ حديثه مُعرفًا عن ذاته بإبتسامة هادئة: إزيك يا مدام حبيبة؟ أنا قاسم طاحون صاحب صهيب وشغال في مستشفى الأرماني تبع عيلتكم.
وجد منها الاهتمام على حديثه عندما أردفت بصوت مُتحشرج: أهلًا بحضرتك.
تشجع في الحديث أكثر، لذلك أردف بصوت هاديء نسبيًا مُحاولًا جعل كلماته بسيطة وليست حادة كما يُريد لها أن تصل: أولًا البقاء لله على وفاة والدتك، بس صدقيني وفاتها خير ليها ولينا كلنا.
تجمعت العبرات بعيناها مُُجددًا من حِدة حديثه، وتحول وجهها لكتلة من الغضب المُشتعل، لم يُعيرها أي انتباه بل أكمل حديثه قائلًا بلُطف: أنا كنت شوفتك قبل كدا مع مامتك في المستشفى لما جيتي معاها قبل كدا، مُعاملتها ليكِ قدام الناس مكنتش كويسة والكل خَد باله من دا، ومعاملتها مع المرضى والدكاترة كمان كانت سيئة جدًا ومفيهاش أي نوع من أنواع الرُقي.
صمت يُراقب ردة فعلها والتي هدأت قليلًا عندما وجدت ان حديثه صحيحًا بأكمله، معاملة والدتها للجميع لم يكن بها ذَرَّة واحدة من الإحترام، حتى إنها تتعامل بعجرفة وتعالي مع الجميع دون استثناء، لذلك أكمل قاسم حديثه متشدقًا بابتسامة صغيرة: صدقيني وفاتها دي رحمة ليها عند ربنا، على الأقل عداد ذنوبها وِقف، وكل اللي يعرف إنها ماتت يدعيلها بالرحمة، حتى أنتِ؛ رغم كل اللي عملته فيكِ لسه بتحبيها ومستعدة تعملي أي حاجة عشانها، فليه العياط والحزن دا كله وأنتِ بإيدك تقدميلها حاجة أحسن تشفعلها عند ربنا!
رفعت أنظارها المُمتلئة بالدموع مُنتظرة حديثه القادم بلهفة، ليُكمل هو حديثه بحنان أُخوي استشعره تجاهها: اتبرعي على روحها بفلوس للناس الغلابة، واختمي ليها القرآن اللي هيشفعلها يوم القيامة، صلي وادعيلها بالرحمة وإن ربنا يغفرلها ذنوبها، وادعي لنفسك كمان معاها.
مسحت دموعها بأطراف دموعها المُرتعشة ثم سألته بصوت مبحوح: إزاي؟
وضَّح له حديثه قائلًا: يعني أنتِ في الفترة دي بعيدة عن ربنا، مش يمكن موتها على فجأة دا يبقى موعظة ليكِ وترجعي لربنا من تاني! توبي تاني، وعيشي لنفسك تاني، واتعالجي من الإكتئاب، وإدي لنفسك ول صهيب فرصة، تفتكري صهيب ميستاهلش الفرصة دي؟
حوَّلت حبيبة أنظارها تجاه المطبخ حيث يقف صهيب مُنهمكًا في فعل كوبين من العصير الطازج وشردت به للحظات، هو يفعل كل شيء لأجلها حتى تكون سعيدة، وهي بالمقابل لا تُقدم له سوى البكاء والحزن! حزنت كثيرًا عليه وعلى ذاتها، هي بالفعل تحتاج للعلاج من أجل كليهما، تحتاج أن تعيش حياة طبيعية مثل البقية دون وجود أي عوائق تمنعها من استكمال حياتها، تُريد أن تُصبِح سويَّة نفسيًا!
غيرت موضع أنظارها عندما أعاد قاسم سؤاله لها، لتُجيبه بخجل سيطر على ملامحها: صهيب يستاهل كل حاجة حلوة، بس أنا خايفة أكون بظلمه معايا.
تظلميه معاكِ دي لما يكون هو مغصوب عليكِ، لكن هو متجوزك بإرادته، فكري في اللي أنا قولتهولك تاني وبلاش حياتك تقف، واعتبريني أخوكِ وقت ما تحتاجي حاجة أنا في الخدمة.
ابتسمت له بإمتنان قائلة: شكرًا ليك بجد.
جاء بتلك اللحظة صهيب حاملًا الأكواب بين يديه ثم وضعها على الطاولة التي أمامهم قائلًا بمزاح ل قاسم: يكش يطمر فيك بس.
قالها وهو يتناول الكوب ثم أعطاه له، والكوب الآخر حمله مُعطيًا إياه ل حبيبة وهو يغمزها بمشاكسة: والكوباية التانية لبسكوتة قلبي.
أخفت حبيبة وجهها بكف يدها الصغير بحرج عندما قهقه قاسم عاليًا من تواقح أخيه أمامه، تجرع آخر رشفة ثم وضع الكوب على الصينية مُجددًا، وهبَّ من مكانه قائلًا بضحك: طيب يا عم النحنوح أنا همشي دلوقتي وهقابلك بليل.
قال جملته لأخيه، ثم وجَّه حديثه الآخر لزوجته قائلًا بمزاح: وزي ما قولتلك لو الواد دا عملك حاجة قوليلي وأنا هظبطهولك، احنا صحاب آه بس أنا الكبير برضه.
مطَّ صهيب شفتيه للأمام بضيق، قائلًا وهو ينظر لكليهما بغيظ: آه انتوا اتفقتوا عليا وأنا مش موجود بقى صح!
غمزه قاسم بمشاكسة: دا سِر، يلا مع السلامة.
أوصله صهيب لباب المنزل، ولكن قبل أن يذهب الآخر احتضنه صهيب بإمتنان قائلًا: ربنا يخليك ليا.
ياض احنا أخوات، يعني دا واجبي.
ودَّعه صهيب بحب، ثم أغلق الباب ودلف للداخل مرة أخرى جالسًا بجانب حبيبة التي عادت لشرودها، عادت لوعيها عندما شعرت به يجلس جانبها، فنظرت إليه قائلة بصوت مُرتعش: أنا عايزة أتعالج، وعايزة أزور ماما، وعايزة أتبرع ليها، و...
جذبها لأحضانه مُقاطعًا إياها، ثم همس لها بعشق: هعمل ليكِ كل حاجة أنتِ عايزاها من عيوني، بس قومي نامي وارتاحي شوية عشان أنتِ تعبانة، يلا يا حبيبي.
أومأت له بخجل، فدخلت للغرفة وهو معها ثم تسطحت على الفراش مُغمضة عيناها بتعب، ظنت بأنه سيذهب، لكنها دُهِشت عندما وجدته يتسطح جانبها جاذبًا إياها ليجعلها تنام بين أحضانه، وهُنا صعد صوته الخافت يتلو فوق مسامعها آيات قصيرة من القرآن حتى غفت أخيرًا.
صِراعاتك الداخلية لا يعلم أحد عنها شيء، أنت مجرد لوحة مُزينة بالإبتسامات ومليئة بالآلام، حياتك عبارة عن دُعابة ثقيلة ألقاها شخصٍ في وجه بائس؛ فانتحرَ، هكذا هو حال قلبك، مُحاط بأضلُع من المفترض أن تحميه، لكن مازالت سهام الكلمات السامة تُصيبه لتقضي عليه ببراعة.
أفرغت ما في جوفها عندما فشلت لثالث مرة على التوالي في السيطرة على وسواسها القهري، استندت على حوض المرحاض بضعف لتُحاول محاربة دوار رأسها الذي بدأ بالزيادة، صعد صدرها صعودًا وهبوطًا بنهيج قوي بعد أن أغلقت أهدابها الكثيفة لتُهديء من روعها، وعندما استعادت ثباتها قليلًا؛ غسلت وجهها بالماء جيدًا، ثم بدأت بفرك كِلتا يديها معًا بقوة حتى نجحت في جرحهما بأظافرها الطويلة.
ضربت بيدها على الحائط بقهر ولا تعلم ما عليها فعله، هي حتى لا تستطيع البكاء! كِتمانها المُزمن الذي يُلازمها منذ وأن كانت طفلة في الخامسة عشر يمنعها من التعبير عن بؤس حالتها، كل الظروف تقف ضدها وهي هشة، وجهها وأفعالها مليئة بالقوة لكن الضعف الداخلي أكثر ما يؤلمها، قامت بغسل يدها ووجهها مرة اخرى قبل أن تخرج من المرحاض وتتجه إلى غرفتها سريعًا حتى لا تشك بها والدتها، أمسكت المنشفة الخاصة بها ثم جففت بها يدها ووجهها وبعدها ارتمت على الفراش بإنهاك مُصاحبه الضعف.
اعتدلت مرة واحدة على الفِراش، وذهبت إلى الدرج الخاص بها مُخرجة لدفتر كتابتها، لا تجد ما تُعبر عنه سوى بالكتابة، الشيء الوحيد الذي تُخرِج به كل ما في جبعتها، لذلك صنعت دفترًا خاصًا لها تحفظه في صندوقٍ من المعدن لا يستطيع أحد فتحه سوى ببصمة يدها.
أمسكت قلمها الذي أعطته لها جدتها قديمًا ثم بدأت بكتابة جُملة واحدة كانت كفاية عما تشعر به:.
وها أنا فتاة عبارة عن قصاصات من الورق المحترق تُجبِر الجميع على الإبتعاد وكأنني مرض! .
نظرت لدفترها المليء بمعاناتها بضحكة ساخرة مليئة بالألم، ولو كان الجماد يبكي؛ لبكى صارخًا من أجلها.
وضعت أشياؤها مكانها مرة أخرى وارتمت نائمة على ظهرها من جديد، لا تنفك تلك الذكريات من تركها الفترات الاخيرة، خاصةً وأنها أصبحت ترى بها عائلة الأرماني كثيرًا تلك الفترة، شددت من إمساكها بملائتها وهي تهز رأسها بالنفي، وكأنها تُخبر تلك الذكريات بأن تتركها وشأنها، لكن لا فائدة.
تعالي يا حبيبتي أقولك حاجة قبل ما حد يجي.
هزت أهلة رأسها بالنفي والتي كانت تبلغ حينها ثلاثة عشرة عام، وهي تُشدد من احتضانها لدُميتها قائلة بهلع: لأ. أنت بتعمل حاجات وحشة أنا مش بحبها.
اقترب منها ثم جلس على رُكبتيه مُقبلًا جانب وجهها بحرارة: لأ دي مش حاجات وحشة، دا أنا بعمل كدا عشان بحبك.
ابتعدت أهلة عن مرمى يداه وهي تصرخ به: أنا هقول لماما لو عملت كدا تاني، أنت وِحِش.
اقترب منها مجددًا حاملًا إياها بطريقة مُريبة بالنسبة لطفلة في مثل سنها، ثم أردف بشر أمام وجهها مُباشرةً مُهددًا إياها: أنا هقطع لسانك لو قولتي حاجة لماما أنتِ فاهمة! أنا مش بعمل حاجة غلط، أنا بس بحبك وأي حد بيحب حد بيعمل معاه كدا.
هزت أهلة رأسها ببكاء تبعه شهقات حادة وهي تُخبره ببرائة كان هو يقتلها بدمٍ بارد: لأ عيب، ماما هي اللي قالتلي مخليش حد يبوسني، أنا بكرهك.
انتفضت أهلة من مكانها بتعرق غزير وصدرها يهبط ويصعد بنهيج قوي، وضعت يدها على فمها تمنع تقيؤها وللأسف الشديد لم تستطيع، هرولت تجاه المرحاض للمرة الرابعة ثم أفرغت ما في معدتها رغم أنها كانت فارغة، لكن اشمئزازها من كل ما حولها يجعلها لا تستطيع المقاومة أكثر، بعدما أنتهت وغسلت وجهها ويديها للمرة التي لا تعلم عددها تقريبًا، ثم همست بفحيح: قسمًا بالله هخلص منكم كلكم، هعيشكم كل لحظة سودة عيشتوها ليا ومش هرحمكم.
مسحت فمها ثم خرجت من المرحاض، فرأت والدتها جالسة بثبات على الأريكة لا تتحرك، ذهبت إليها أهلة ثم جلست جانبها تسألها بتعجب: مالِك يا ماما قاعدة ساكتة ليه كدا؟
طالعتها والدتها بثبات ثم أردفت بجمود ونظرات غير مُطمئِنة: مالي يعني! ما أنا كويسة أهو، أقوم أرقص يعني؟
تعجبت أهلة من طريقة والدتها الجديدة من الحديث معها، ثم نفت مستعجبة: لا يا حبيبتي مش قصدي، أنا بس قصدي إنك مبقتيش تقعدي معانا زي الأول.
نظرت إليها والدتها بصمت جامد وكأنها تقوم بقرائتها، ثم أجابتها بهدوء قبل أن تتركها وتدلف لغرفتها: مش لما تبقوا انتوا الأول فاضيين ليا؟
نظرت أهلة لأثرها بقلق، هل من الممكن أنا والدتها قد شكت في تصرفاتهم! وإن كان لا؛ لِمَ إذًا حديثها هذا! هزت أهلة كتفها بعدم فهم، ثم وقفت من مجلسها ودلفت لغرفتها مرة أخرى لإستكمال عملها.
كُن حذرًا في اختيارك لأصدقائك، فإن أسأت الاختيار؛ فلن تجد طريقًا للعودة.
أنهت سهيلة محاضراتها الساعة الخامسة تقريبًا، ثم نفخت بضيق وهي تنظر لأصدقائها: دماغي صدعت من الدكتورة دي بجد، بقولكم إيه تعالوا نروح أي مكان ناكل فيه!
ادعت منه البراءة وهي تُجيبها بضيق زائف: سوري يا سو بس انا و ساندي خارجين النهاردة.
قطبت سهيلة جبينها بضيق وهي تسألهم: خارجين من غيري؟
تلك المرة أدرفت ساندي بخبث: ما أنتِ مش هترضي تخرجي معانا، أصلنا مش هنخرج لوحدنا، وائل وأمجد وأسامة خارجين معانا.
ما تيجي معانا يا سو وفكك من الجو اللي أنتِ عايشة فيه دا!
هتفت بها منه برقة، لتُحدجها سهيلة بتفكير وها قد بدأ الشيطان ينسج لها تخيلات من عقلها الباطن مرة أخرى! رأت كِلتا صديقاتها تأثير حديثهما عليها؛ لذلك سارعوا ببث سمومهم داخلها، ومع إلحاحهم وافقت أخيرًا بالخروج معهم، وسط شلة من الفاسدين الذين سيقضون عليها بالتأكيد.
تجمع الشباب أخيرًا، ونظر أمجد ل سهيلة بدهشة قائلًا بعدم تصديق: أوه نو! سو هتيجي معانا!
رسمت سهيلة ابتسامة رقيقة على شفتيها مُجيبة إياه برقة وطريقة تعجبوا منها جميعًا: ودي حاجة وحشة ولا حلوة يا ميجو؟
حدجها بنظرات شاملة مُجيبًا إياها بإعجاب: حاجة قمر يا سو، يلا نركب العربيات، و سهيلة هتركب معايا.
وأنا هركب مع وائل.
أردفت بها منه الهائمة عشقًا به، بينما أردفت ساندي بسعادة: وأنا هركب مع أسامة، يلا نتقابل هناك.
أومأوا لها جميعًا، وبالفعل صعدت كل فتاة لسيارة شاب مختلف، كذلك صعدت سهيلة بجانب أمجد الذي كان يُطالعها بنظرات شغوفة، لطالما تمنى أن يطالها، لكن دائمًا ما كانت تصده عنها، لا يعلم ما الذي تغير بها لكن الأمر يُعجبه وبشدة.
وصل الجميع إلى المكان المقصود، وطيلة الطريق كان أمجد يُحاول إمساك يد سهيلة، في البداية صدته مرتين، لكن الثالثة سمحت له وكأن الأمر أصبح عاديًا بالنسبة لها!
هبطوا من السيارات فاتضح المكان الذي سيقضون به سهرتهم، وهو ملهى ليلي؟ رددتها سهيلة بعدم تصديق، لتردف صديقتها ساندي التي أخرجت حُمرة شفاهها قائلة: دا Night Club يا بيبي متبقيش قِفل كدا، وخدي الروچ دا حُطي منه هتبقي قمر.
نظرت سهيلة للمكان بعدم ارتياح، لتذهب إليها منه مُقتربة منها حتى وقفت أمامها بعدما انتشلت حمرة الشفاة من يد ساندي، قائلة وهي تبدأ بتحديد شفتي سهيلة به: بصي حواليكِ يا سو هتلاقي الكل بيعمل كدا، وبعدين دا يوم مش بيتكرر غير مرة واحدة كل فترة، يلا بقى.
خضعت لهم سهيلة بالنهاية ودلفت معهم، فوجدت الكثير من الشباب والفتيات يرتدين ثيابًا تكادُ تُغطي أجسادهن يتمايلون كالأفاعي على لحن موسيقى صاخبة سامحين للجنس الآخر باستباحة أجسادهن الرخيصة، شعرت بكف يد يُحيط بخصرها فانتفضت مُبتعدة تلقائيًا، نظرت لصاحب تلك اليد فوجدته أمجد الذي اقترب مرة أخرى قائلًا بخبث: يلا نرقص يا سو وخلينا نستمتع باليوم العظيم دا.
في البداية كانت مُتحفزة لأي رد فعل قد يحدث، لكن مع مرور الوقت تناسجت معهم ناسية دينها وأخلاقها التي تعلمتهم في يومٍ من الأيام، لقد جعلت ذاتها سِلعة رخيصة سامحة للجميع برؤية زينتها وتفاصيل جسدها التي أظهرته ببراعة أثناء رقصها، والأمر في البداية بدأ من أصدقائها!
ظلت المقاومة هي عنوانه، لأجلها أن يتحول لوحش مُدمر كي يقضي على مَن أحزنها، وهي فقط كانت تقف على أعتاب الباب تبكي، فكرت في الصراخ لكن والدها منعها بتهديده بقتله، نظر لها جون بطمأنينة لكن عندما هبط سمير بالعصى الخشبية على قدمه صرخ فاقدًا مُقاومته، وهو فقط مُكتف الأيدي من أتباع سمير، رفع سمير العصى عاليًا وكاد أن يهبط بها فوق رأسه؛ لكن وقوع الباب الخشبي فجأةً أمام الجميع جعلهم يتصنمون مكانهم.
ابتلع جون ريقه بهلع عندما رأى هوية الدخيل، ثم حوَّل أنظاره تجاه سمير مُردفًا برجاء: فلتقتلني أتوسل إليك.
طالعه سمير بتعجب، ثم أردف بغضب لذلك الذي يقف أمامه بجمود واضعًا كِلتا يداه في جيبي بنطاله وخلفه اثنان من رجاله: أنت مين يا جدع أنتَ، وإزاي تدخل بالطريقة دي! دا أنا هخلي يوم أبوكوا أسود النهاردة.
اقترب منه الآخر ببطئ أهلك أعصابه حتى توقف أمامه، ثم همس له بفحيح: مَعكَ آلبرت تشارلي، مصيرك.
لم يعي سمير ما قاله؛ حتى سدد له آلبرت ضربة في منتصف جبهته وقع على أثرها للخلف، ترك الثلاثة رجال چون ثم اتجهوا ناحيته، ليُخرج هو سلاحه بلامبالاة مُوجهًا إياه أمام وجوههم جاعلًا إياهم يتصنمون أماكنهم كالخِراف.
هرولت كُلًا من لوسيندا ومهرائيل إلى والدهم يسندوه للجلوس على الأريكة بعدما شعر بالدوار الشديد بعد ضربة ذلك الغامض له، بينما وقف چون من مكانه ذاهبًا لشقيقه يسأله بقلق: متى أتيت أخي!
أمسكه آلبرت من تلابيب ثيابه يهزه بعنف، ثم أردف بشر: حسابك معي أنت وأخيك الأحمق، أُقسِم بأني لن أرحمكما معًا.
قطب جون جبينه بضيق ثم تشدق ساخطًا: بربك آلبرت لا تكن هكذا، أنا و فور لم نعد صغيران، لقد أتينا إلى مصر لكي نُنهي مُهمتنا ونعود لروسيا مُجددًا.
كز آلبرت على أسنانه مُجيبًا إياه بغضب ناتج عن خوفه: الأمر ليس خاص بالمهمة فقط چون وأنت تعلم هذا جيدًا، الأمر بالنسبة لنا كإنتقام وهذا هو هدفنا منذ أن تعاهدنا، لِمَ قطعت ذلك الوعد الآن؟
لم أقطعه آلبرت أُقسِم لك، أنا أعلم بأنك ستأتي إلى هنا، لكن لم أكن أتخيل أن الأمر سيكون بكل تلك السرعة.
دفعه آلبرت بعيدًا هاتفًا بإشمئزاز: أنت حقير ومغفل، من الآن فصاعدًا ليس لي حديثًا معك چون، أفهمت!
نفخ چون بيأس ثم أردف بلين: أخي أرجوك أن تسمعني أنا...
قاطعه آلبرت بصوتٍ حاسم: لا أريد سماع شيء منك، هيا لنذهب.
سأتذوج لوسيندا أولًا.
وصل الغضب به إلى ذروته، لذلك صاح به بصراخ: اللعنة عليك أنت وتلك الفتاة، لِمَ تُحب أن تُثير أعصابي دائمًا.
أنا لم آتي إلى هنا لأذهب دونها أخي، لقد أتيت لها ومن أجلها، هي لي لا لأحدٍ غيري.
مسح آلبرت على وجهه بغضب عارم، فحوَّل وجهه إلى لوسيندا التي تقف جوار شقيقتها مهرائيل الهائمة به، اغتاظ آلبرت من تحديق الأخرى به بتلك الطريقة الغبية كما وصفها، لذلك صاح بها بغضب: لِمَ تنظرين لي كالجرو هكذا؟
تحولت معالم مهرائيل للغضب فباتت كقطة شرسة مُستعدة للإنقضاض عليه بأي لحظة، لذلك صاحت به بطريقة سوقية: هي مين دي اللي جرو يابن الجرو أنت! لأ بقولك إيه اتكلم معايا بطريقة أحسن من كدا بدل ما وديني أعلمك الأدب.
ارتسمت ابتسامة عابثة على ثُغر آلبرت الذي تقدم منها بخُطى رتيبة، ثم طالها بأنظاره من رأسها لإخمص قدمها بوقاحة، قبل أن يتسائل بأعين ضائقة: هل هذا الكلام لي أنا؟
وبغباء أكبر هزت رأسها بالنفي متشدقة بهلع: لأ دا أنا كنت بعمل برو ا عشان أقول كدا للواد اللي بيعاكسني على أول الشارع.
مُغفلة.
كلمة همس بها أثناء ابتعاده عنها فجأة، ثم اتجه نحو الباب قبل أن يستدير لشقيقه ويقول بتنهيدة غاضبة: اجلب مَن تريد الزواج بها وهيا لنذهب.
اتسعت ابتسامة جون بسعادة كبيرة ثم قفز من مكانه صائحًا بتهليل: يعيش آلبرت يعيش، أنا أحبك أخي.
وأنا أكرهك يا أحمق.
أردف بها آلبرت بسخرية ثم هبط للأسفل لينتظره، بينما نظرت ميهرائيل لأثره قائلة بفظاظة: خسارة فيك حلاوة هيريثك روشان دي والله، دا أنت دبش، قالب طوب وماشي على الأرض، بس قمر.
هتفت الأخيرة ببلاهة، لتُطالعها لوسيندا بغيظ قبل أن تردف بسعادة: طيب يلا سيبك من الأوهام دي ويلا عشان تيجي معايا الكنيسة.
قفزت مهرائيل بحماس وسعادة من أجل شقيقتها، ثم هرولت تجاه غرفتها لتبديل ثيابها قبل أن تقول: خمس ثواني هغير هدومي وهاجي معاك يا عسل أنت يا مسكر.
ضحكت لوسيندا بخفة، ثم نظرت إلى جون الذي اقترب منها متحدثًا بهيام: وأخيرًا ستكونين لي!
مش مصدقة بجد يا جون إن بعد دا كله هنكون لبعض، بس مازالت خايفة من فكرة اختلاف ثقافتنا دا، أنت مش هتفرط فيا صح!
قالت ما تخافه وما يجيش به صدرها، ليُجيبها هو بوعد: أُقسِم بأنني سأحتفظ بكِ بين أضلعي مدى الحياة.
طالعته بنظرات شغوفة مليئة بالحب، وما كادت أن تتحدث؛ فوجدت أبيها بصوت خافت أصابها بالهلع، ليأمرها جون سريعًا: اذهبي لتبديل ملابسك بسرعة حتى نذهب من هنا.
أومأت له سريعًا ثم دلفت إلى غرفتها لتبديل ثيابها، لا تُصدق بأنها ستُصبح ملكه وله للأبد! حلمها سيصبح حقيقة أخيرًا!
انقضت ثلاثة ساعات على الجميع حتى هلَّ الليل على الجميع.
وهُنا. حيث ذلك المكانٌ المُظلم حالك السواد لا يُسمع به سوى صوت الرياح العاتية الشديدة، دلف هو ذلك المخزن بهدوء حاد يُحسد عليه، طرق نعل حذائه بالأرض الأسفلتيه أسفله مما جعله يُصدر صدًا خفيفًا في الارجاء، سار عدة ممرات صغيرة ثم فتح له الحارس ذلك الباب الحديدي الذي يقوم بحراسته.
دلف للداخل بخطوات واثقة حتى وقف أمام ذلك الجالس على المقعد يلتف جسده بأحبال غليظة، رسم على ثغره ابتسامة جانبية ساخرة، ثم تشدق بفحيح بعد أن سحب ذلك القناع الذي يُغطي به وجه الجالس: مرحبًا بكِ في الجحيم صوفيا؟
أغمضت صوفيا عينيها عدة مرات ثم فتحتهم مرة أخرى بانزعاج، بدت لها الرؤية مشوشة في البداية، لكن بعدها اعتادت على الضوء الخفيف القادم من المصباح الذي فوقها، رفعت أنظارها للذي يقف أمامها ثم سألته بتعجب: أنت مين!
استند بقدمه على طرف مقعدها الخشبي المُتسخ، ثم أجابها بشر قادم من أعماقه: آلبرت تشارلي، مصيرك.
ظلت صوفيا على حالتها لعدة لحظات تُحاول استيعاب ذلك الاسم، تشعر بأنها استمعت لذلك الاسم من قبل، وبعد بُرهة من الصمت فتخت عيناها بصدمة عندما تذكرته، ما تلك اللعنة التي حلت على رأسها الآن!
خرج صوت صوفيا غاضبًا وهي تُحاول الفكاك من تلك القيود التي تمنع تحركها: ماذا تريد مني أنت! أتظن بأنهم سيتروكنني هنا دون أن يبحثوا عني آلبرت؟ أنت مُخطيء يا صاح.
أطلق آلبرت ضحكة عالية رنانة ترددت صداها في الأرجاء، توقف ناظرًا إليها ثم تشدق بصدمة مصطنعة: ألم أقل لكِ ما حدث!
انتظرت حديثه بترقب وها قد بدأ القلق يتسرب إلى قلبها رويدًا، ليستكمل حديثه قائلًا بحزن زائف: الجميع يظن ميتة الآن يا مسكينة.
فتحت صوفيا عيناها بصدمة وتوقف تنفسها لثوانٍ، صاحت به بعاصفة هوجاء شاتمة إياه بأفظع الألفاظ: أنت حقير، أقسم بأنني سأقتلك آلبرت، سأتخلص منك ومن عائلتك الحقيرة أيها الخائن...
قاطعها بصفعة قوية هبطت منه على وجنتها، فتسبب في نزيفها بغزارة، اقترب منها أكثر مُمسكًا لخصلات شعرها المُشعث بين يديه، ثم تسائل بفحيح غاضب: أين أمي صوفيا؟
توقفت صوفيا عن الصراخ راسمة ابتسامة مُختلة على ثُغرها، قبل أن تُجيبه بخلل: هي الآن تُنفذ اتفاقنا آلبرت.
تمام هما هيخرجوا وأنا هنفذ كل اللي اتفقنا عليه، سلام.
بينما ارتدت أهلة ملابسها ثم خرجت من الغرفة لتجد ملك جالسة على الأريكة بجانب والدتها في انتظارها، نظرت أهلة حولها بتعجب ثم تسائلت: هي يمنى لسه ملبستش؟
أجابتها والدتها قائلة: بتقول تعبانة ودماغها مصدعة مش قادرة تخرج.
هزت أهلة رأسها بالإيجاب، ثم تشدقت وهي تسحب يد شقيقتها قائلة: خلاص ماشي، أنا هجيبلها حاجة للصداع وأنا جاية من الچيم، يلا مع السلامة يا ماما.
سلام يا حبيبتي.
ودعتها والدتها، لتخرج كلًا من أهلة وملك من الغرفة تاركين والدتهم مع يمنى هم فقط مَن بالمنزل.
عندما تأكدت من خروجهم، هبت من مضجعها سائرة على طرف أصابعها دالفة لغرفة أهلة، أخرجت هاتفها من جيب بنطالها ثم تشدقت بهمس خافت: هنفذ كل اللي اتفقنا عليا دلوقتي محدش في البيت.
انتظرت سماع الطرف الآخر، ثم أجابته بإيجاز قبل أن تُغلق الهاتف وتبدأ برحلة البحث وسط الأوراق الهامة، ظلت قرابة الخمس دقائق تقريبًا تبحث حتى توقفت أمام دُرج مُنغلق بأحد الأقفال، وعلى غفلة فُتِح الباب مرةً واحدة لتظهر من خلفه يمنى والتي تسائلت بتعجب: بتعملي إيه هنا يا ماما؟
انتفضت والدتها من مكانها عندما رأتها تقف أمامها، ثم أردفت بتلعثم حاولت السيطرة عليه: لقيتهم كلهم خرجوا قولت إما أنضف الزبالة اللي على الأرض دي، أنتِ عايزة حاجة.
ابتسمت لها يمنى بخفوت وهي توضح لها: لأ يا حبيبتي أنا بس قلقت عليكِ لما ملقتكيش قاعدة برا، على العموم أنا كنت قايمة آخد أي حاجة للصداع وهدخل أنام.
أومأت لها والدتها بإبتسامة متوترة لم تلحظها يمنى بسبب ذلك الصداع الذي يفتك بها، ثم خرجت من الغرفة بعد أن أغلقت الباب مرةً أخرى.
تنفست الصعداء بارتياح وشعرت بوجهها كالحمم البركانية من شدة تعرقه، لذلك وبدون تردد قامت بخلع ماسك وجهها الذي تضعه على وجهها لتتقمص شخصية جيهان والدة الفتيات!
فُتِح الباب مرةً أخرى فتشدقت يمنى بأسى: ماما صح نسيت أسألك فين ال، أنتِ مين!
شهقت يمنى بصدمة عندما وجدت أن التي أمامها لم تكن والدتها بالمرة! بل امرأة أخرى ترتدي ثيابها! اقتربت منها تلك الدخيلة مُسرعة فهرولت يمنى للخارج منتوية الصراخ، لكن الأخرى منعتها من ذلك عندما منعت حركتها وكممت فاهها بيدٍ، وأخرجت باليد الأخرى سكين صغيرة كانت تحتفظ بها في ثيابها إحتياطيًا إن تم كشفها، ثم طعنتها بها عدة طعنات حتى وقعت يمنى صريعة أمام قدمها غارقة في دمائها.