رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل السابع عشر
ذهبت كُلًا من أَهِلَّة وملك إلى صالة الألعاب الرياضية حيث اعتادوا أن يذهبوا دائمًا ومعهم شقيقتهم الثالثة يمنى، لكنهم أهملوها في الفترة الأخيرة بسبب كثرة الأحداث المتوالية التي هبطت فوق رؤسهم.
وصلوا أخيرًا إلى وجهتهم والتي كانت عبارة عن مبنى كبير يحتوي على الكثير من الألات التدريبية التي تخص الفتيات والشباب معًا من الجنسين، دلفوا إلى غرفة التبديل الملابس وسارعوا إلى ارتداء ثياب التدريب، بنطال مُلتصق بأقدامهم، وقميص ذو حمالات عريضة بالكاد يصل لخصرهم يُحدد نصفهم العلوي، ثم ربطوا خصلاتهم على هيئة ذيل حصان وخرجوا من الغرفة.
أولًا قامت أهِلَّة بغسل كِلتا يديها جيدًا وبعناية شديدة؛ حتى لا تضطر إلى التقيؤ في منتصف تدريبها مع مُدربها الشخصي الذي اعتاد تعليمها على مهارات القتال الدفاع عن النفس، حتى باتت مُهيئة لدخول أي عِراك وهي مُتأكدة من فوزها به.
اتجهت بعدها نحو الكيس الكبير بعد أن ارتدت قفازاتها ثم بدأت بضربه بقوة كبيرة، تُحاول إخراج طاقتها السلبية بما أمامها حتى لا تقضي على ذاتها، بالأصل يكفيها كتمانها المُزمن والذي يمنعها من البكاء، فيضطر قلبها إلى الصراخ مُتألمًا يُطالبها بالتنفيس عن آلامها حتى يستطيع النبض بصورة طبيعية، هبطت حبات العرق على جبينها رغم برودة الجو، تلك النيران التي داخلها لا تنفك أن تهدأ أبدًا، بل تزداد واحدة تلو الأخرى؛ خاصةً عندما علمت بوصول نادر الأرماني إلى مصر ومعه ابنه بعد غياب طويل، بل وغدًا رحلة هبوط أخيهم الرابع والذي يُدعى صفوت الأرماني ومعه زوجته وكِلتا بناته، وتلك هي فرصتها للقضاء عليهم مرةً واحدة، ولن تتركها لتضيع من بين يديها، فإن فعلت ستظل تلعن غباؤها طوال حياتها.
ومع تذكرها لانتقامها تعود تلك الهواجس والذكريات تدور بخُلدها مرة أخرى، هزت رأسها بنفي جاززة على أسنانها بحقد قبل أن تبدأ بلكم كيس الملاكمة مرة أخرى، غير واعية بأنها على مقربة من جانب الشباب الذين رأوها أثناء تدريبها القاسي هذا، توقفت بعد خمسة عشر دقيقة تقريبًا حتى تأخذ أنفاسها الهادرة، وأمسكت بمنشفتها القطنية لتُجفف بها عرقها الغزير الذي هبط دون إرادة منها، لمحت عيناها ملك التي ترتاح قليلًا بعدما قضت تمرينها في الجري على الآلة الكهربائية، والآن تتحدث بالهاتف، لا بُد بأنها تُهاتف أحد الشباب كعادتها!
ثبتت ملك أنظارها على مكانٍ ما، ثم هبت من مكانها مُسرعة تُهرول نحو جهة مُعينة، قبل أن تردف بحماس: إيه دا إزيك يا أبيه!
اقترب منهم قاسم قاطبًا لجبينه، والذي رآهم على بُعد ليس بالقريب أثناء إكماله لتدريبه الذي اعتاد عليه، لكن. ما الذي جلبهم إلى هنا! سؤال ظل يدور بعقله أثناء تقدمه منهم، ولم يبخل على ذاته بالسؤال عندما توقف أمامهم مباشرةً: جايين هنا تعملوا إيه؟
ورغم تعجب أَهِلَّة من وجوده هنا؛ إلا أنها أجابته بهدوء شديد أثناء تجفيفها لوجهها: احنا متعودين نيجي هنا دايمًا بس بقالنا شهرين مش بنيجي، أنت بتيجي هنا على طول؟
نظر لكلتاهما بجمود ثم أومأ لهم دون التحدث، وعينيه تدور على ثيابهم، وثيابها هي تحديدًا! قطب جبينه بضيق عندما رأى مظهر الثياب البشع والذي يُظهر تفاصيل جسدها كاملًا، لذلك قطب جبينه بغضب وهو يسألها بضيق: إيه اللي أنتوا لابسينه دا؟
نعم؟
سؤال صعد منها على هيئة استنكار، ليُحدجها بغضب وهو يكز على أسنانه من الغيظ: بقولك إيه الزفت اللي انتوا لابسينه دا؟ اللبس دا يتلبس لما تكونوا في چيم بنات آه، لكن دا مشترك ومينفعش أي حد يشوفكوا بيه.
تخصرت أَهِلَّة مكانها تزامنًا مع إرتفاعه لحاجبيه يُطالعها باستنكار، بينما هي أردفت ببرود: والله أظن دا شيء يخصنا لوحدنا، أنت مش هتتحكم في لبسنا كمان.
لِفي كدا!
تسائل بجمود، فاعتدلت هي في مكانها تُطالعه بصدمة قبل أن تصرخ به غير مبالية للنظرات التي تُطالعهم باهتمام: أنت بتقول إيه أنت اتجننت؟
اقترب منها أكثر حتى بات على مقربة كبيرة منها، فهمس أمام وجهها بسخرية: وأنتِ مفكرة اللي هيبصوا عليكِ هيبصوا على إيه؟ تمرينك الجامد ولا ضربك لكيس الملاكمة القاسي!
لم تكد أن تعي لما يتحدث؛ حتى وجدته يقذف المعطف الخاص به على وجهها والذي كان يوم مله على ذراعه لحين إنتهاء تدريبه، آمرًا إياها بقسوة: خدي استري نفسك وغيري هدومك، أنتِ مش مخطوبة لواحدة صاحبتك.
رمت ثيابه التي رماها لها دون أي احترام وفتحت فمها لتوبيخه بحدة؛ حتى قاطعها هو بتحذير قوي استشعرت به الخطر: قسمًا بالله يا أَهِلَّة لو مسمعتيش الكلام لهلبسك الچاكيت بنفسي وأنتِ عارفة إني أعملها.
طالعته بحقد وشيء ما بداخلها أخبرها بأن ترتديه بدلًا من أن يُنفذ تهديده كالأحمق، كادت أن تنحني لتلتقط المعطف من على الأرض؛ فمنعها من ذلك دافعًا إياها للخلف قبل أن يهبط ويلتقطه هو قبل أن يُعطيه إياها مرة أخرى:
أنا مش بقولك إلبسي الچاكيت عشان توطي وتجبيه من على الأرض يا عسل، خُدي يلا وغيري هدومك وأنا مستنيكِ في العربية.
ترك نظراتها التي كانت تُصوبها نحوه بغضب، وحوَّلها نحو ملك التي كانت صامتة من بداية الحديث خوفًا من بطش غضبه الذي تراه ولأول مرة، رأت نظراته المُصوبة نحوها فابتسمت ببلاهة مُبررة: أنا. أنا مكنتش عايزة ألبس اللبس دا بس هي اللي أجبرتني يا أبيه.
رفع سبابته أمام وجهها مُحذرًا إياها بخفوت خطير: وأنتِ كمان لو شوفتك لابسة كدا تاني سواء هنا أو في أي مكان هعمل تصرف مش هيعجبك، طالما أنتِ بتناديني أبيه بقى استحملي وشوفي الغتاتة اللي على حق، مستنيكم برا.
قال جُملته الأخيرة ناظرًا لأهلة بطرف عينه والتي كانت قد ارتدت المعطف والذي غطّى نصفها العلوي حتى بعد خصرها بقليل، ذهبت أَهِلَّة من أمامه تُدبدب في الأرض بغضب وخلفها شقيقتها ملك التي حدجتهم بتوتر.
دخلت أَهِلَّة إلى غرفة تبديل الملابس ثم صاحت بغضب جَم: هو مفكر نفسه مين عشان يتحكم فيا؟ أنا مش سكتاله بعد كدا عشان هو بيسوق فيها، فيها إيه يعني ما أنا طول عمري بلبس كدا في التدريب! ولا هو شاف نفسه عليا خلاص!
لم تُبالي ملك بغضب شقيقتها، بل ظلت تُدندن بخبث بصوت وصل جيدًا إلى أَهِلَّة: غلطان في غيرتي عارف، علشان عليكِ خايف، وهواكِ أقوى مني، وعليكِ أنتِ خايف.
رمت لها أَهِلَّة نظرات حارقة، ثم خلعت المعطف من على جسدها رامية إياه على وجه شقيقتها التي ضحكت بمليء فاهها: أنتِ عيْلة حيوانة أقسم بالله، دا أنتِ فعلًا غتتة.
أبعدت ملك المعطف من على وجهها وهي تُقهقه عاليًا، وبعدها أردفت بإعجاب قبل أن تُقرب المعطف من أنفها مرة أخرى: واو، ريحة البرفيوم بتاعته تُحفة بجد.
رفعت أَهِلَّة ذراعها تشمه، فوجدت بالفعل عطره قد اِلتصق بها، تجعد جبينها بإشمئزاز تلقائيًا ورغبة مُلِحة في التقيؤ تُسيطر عليها، فتاة غيرها كانت ستعتبره موقفًا رومانسيًا، لكن للأسف مرضها منعها من ذلك.
سيطرت على ذاتها بصعوبة وذلك بأخذ نفسًا عميقًا زافرة إياه على مهل وبطئ شديد، لاحظت ملك فعلتها فاقتربت منها تسألها بقلق: مالك يا أَهِلَّة أنتِ كويسة صح؟
أومأت لها أَهِلَّة بالإيجاب بعدما استعادت بعض من ثباتها، ثم بدأت بارتداء ثيابها الأخرى التي أتت بها إلى هُنا، أخفت وجهها الشاحب عن أنظار شقيقتها التي انتهت من تبديل ثيابها حتى لا تُقلقها، فبرغم ما تفعله ملك من حماقات إلا أنها تظل أرقهم وأحنهم قلبًا، تخاف عليهم بشدة من أي أذى صغير وكأنها يتخسرهم للأبد.
ورغم محاولات أَهِلَّة لإخفاء حالتها عن شقيقتها؛ إلا أنها وجدت ملك قادمة إليها بأعين مُمتلئة من الدموع كطفلة صغيرة تسألها ببكاء: أنتِ مش كويسة صح؟
زفرت أَهِلَّة بيأس بعد أن أغلقت الحقيبة على الثياب ثم وضعتها أرضًا مُجددًا، لتجذب شقيقتها لأحضانها قاسمة لها: يا حبيبة قلبي أنا كويسة والله متقلقيش، ليه العياط دا بس؟
أجابتها ملك بشهقات: عشان أنتِ تعبانة وبتخبي عليا، وأنا بخاف وبكون عايزة أطمن عليكِ.
أبعدتها أَهِلَّة قليلًا تمسح لها دموعها بحنان، لتردف بابتسامة صغيرة وحب لصغيرتها: طيب ما أنا كويسة قدامك أهو، يلا يا حبيبتي كفاية عياط ويلا نمشي عشان قاسم مستنينا برا.
أومأت لها ملك بهدوء وهي تمسح أهدابها، لتُمازحها أَهِلَّة قارصة إياها من وجنتها المُنتفخة: ياختي بطة أنت بتحسي وبتعيطي زي البني آدمين كدا!
ضحكت ملك بخفة ضاربة إياها على كتفها، وبعدها اتجهوا للخارج و ملك حاملة لمعطف قاسم بين يديها، وجدوه واقفًا مُستندًا على السيارة ونظره مُثبتًا على نقطة ما، شاردًا في ملوكته لا يشعر بمن حوله، رفع أنظاره إليهم ببطئ عندما استمع لصوت خطواتهم وتركزت أبصاره على ثياب أَهِلَّة، بلوزة تصل إلى ما قبل ركبتها بقليل وبنطال من الجينز ضيق نسبيًا، ليس جيدًا بما فيه الكفاية لكن أفضل مما كانت ترتديه منذ قليل.
وصلا حتى وقفا أمامه، فمدت ملك يدها له بالمعطف مُبتسمة باتساع: اتفضل يا أبيه.
انتشله منها بابتسامة صغيرة مبتسمًا بيأس، ثم حوَّل أنظاره إلى أَهِلَّة التي تنظر لمكان آخر وهي مُقطبة الجبين، تركتهم ملك مُبتعدة عنهم قليلًا لتُجيب على هاتفها الذي صدح رنينه يعلو في الأرجاء، فانتهز قاسم الفرصة ليقترب من أُذن أَهِلَّة هامسًا لها: متزعليش مني بس ابقي تعالي بهدوم أوسع مني دي شوية.
تفاجئت من اقترابه المُباغت وابتعدت عنه قليلًا بتوتر، فأكمل هو حديثه مُوضحًا: نظرات الشباب ليكوا فوق مكنتش كويسة، لا ليكِ ولا لأختك ولا للبنات اللي كانت موجودة كلها، فحاولي تبعدي عن جزء الشباب شوية وهدومك تبقى واسعة، اتفقنا؟
عضت على أسنانها بتفكير وتوتر، ثم أومأت له بهدوء هامسة بخفوت: اتفقنا.
اتسعت ابتسامته، لتجده يغمز لها هاتفًا بمشاكسة: كفاءة.
ضحكت بخفة على كلمته المُعتادة والتي أحبتها بالفعل، فقاطعهم وصول ملك إليهم بعد أن أنهت مُكالمتها، ليصدح تلك المرة صوت هاتفه هو، أجاب عليه بهدوء: آلو. السلام عليكم؟
وعليكم السلام، دكتور قاسم محتاحينك في عملية جراحة ضرورية لأن دكتور خالد واخد إجازة النهاردة من المستشفى، ودكتور جميل في عملية تانية.
قطب قاسم جبينه بضيق وهو يحسب المسافة بينه وبين المشفى، ليجد أنها ليست بالبعيدة من هنا، لكن في نفس الوقت لا يستطيع ترك أَهِلَّة وملك وحدهم هنا، لذلك تحدث بإيجاز للطرف الآخر: تمام أنا عشر دقايق وهكون عندك.
أغلق الهاتف، لتقطب أَهِلَّة جبينها بتعجب وهي تسأله: فيه حاجة ولا إيه؟
زفر بهدوء ثم أجابها بإختصار: عملية حرجة محتاجين وجودي فيها.
خلاص روح أنت المستشفى واحنا هناخد تاكسي.
نظر حوله لعدة ثوانٍ حتى لمح سيارة أُجرة تأتي باتجاههم، أشار لها بيده حتى توقفت أمامهم مُباشرةً، ليستدير لهم قائلًا بهدوء: لما توصلوا ابقوا رنوا عليا.
أومأت له أَهِلَّة بإمتنان، ثم صعدت بالخلف ومعها شقيقتها دون الحديث، أملى قاسم على السائق العنوان ثم دفع له الأُجرة وبعدها انطلق هو بسيارته سريعًا تجاه المشفى ليقوم بإنقاذ المريض.
ليتَ الشباب يعود يومًا.
هتف بها فور بتعب وهو يرتمي على الأريكة ليأخذ أنفاسه من السير الذي ساره لمدة نصف ساعة واحدة، نظر له رائد بضحك وهو يُجيبه: يابني أنت عندك 29 سنة.
اعتدل فور من مجلسه مُتسائلًا بصدمة: حقًا! إذًا لِمَ أشعر بأنني عجوز تعدى الثمانون عامًا! كل جزء في جسدي يؤلمني يا صاح.
معلش شِدة وهتزول.
قالها رائد وهو يمد يده لصحن الطعام الموضوع أمام فور ويأكل منه بتلذذ، انتشل فور الطبق من أمامه ثم صرخ به ناهرًا إياه: ماذا تريد أن تفعل يا وقح! أتريد أكل صغاري؟
طالعه رائد بشر أثناء نظره لطبق الدجاج الذي يأكله وحده، وقف من مضجعه لينظر له فور بحذر: ماذا ستفعل!
ضيَّق رائد عينه بتربص، مُجيبًا إياه قبل أن ينقض عليه وعلى طبق الطعام: هاكل يعني هاكل.
انقض عليه رائد يُريد أخذ قطعة من اللحم، ليصرخ به فور الذي يُحاول تخبئة الطعام أو صغاره كما يقول: ابتعد أيها المتوحش السارق، ابتعد عن دجاجاتي واللعنة، فليلحقني أحد يريد قتلي.
صرخ فور بالأخيرة مُولولًا كالنساء، لينتفض رائد من عليه كاتمًا لفمه متشدقًا بهمس: اخرس يخربيت معرفتك اخرس.
ظنَّ فور بأنه يُريد خنقه ليأكل الدجاجات وحده، ليزيد صراخه أثناء محاولاته لإبعاد ذلك السارق القاتل عنه: ياللهول، النجدة يا بشر، أيها المعتدي الحقير ابتعد عني.
انتفض رائد مُبتعدًا عنه لاطمًا على وجهه وهو يردف بفزع أثناء استماعه لصوت باب المنزل يطرق بعنف: الله يخربيتك الجيران شكلهم طلبوا البوليس، منك لله يا بعيد، كشفت شعري ودعيت عليك يابن العبيطة.
طالعه فور بشماتة أثناء إلتهامه لقطعة من الدجاجة حتى بات فمه مُمتليء، ثم هبَّ من مكانه وبيده صحن الدجاج حتى لا يسرقه المُغفل رائد، وبعدها فتح الباب لينظر من الطارق، وما هي إلا ثوانٍ وصرخ يطلب النجدة بصراخ عندما وجد أشقائه الأربعة عدا آلبرت يقفون أمامه ببذلتهم السوداء القاتمة يُحدجون إياه بغضب جحيمي:
النجدة فلينقذني أحد.
وصل إليه رائد متعجبًا من صراخه، فرأى حفنة من الرجال غريبي المظهر يقفون بملامح مُتهجمة ترتسم على وجوههم، فتسائل باستغراب: انتوا مين يا رجالة؟
صعد صوت ستي ن الجامد وهو يُشير له بالصمت، ثم وجَّه حديثه لشقيقه هامسًا له بشر: ستُقتل اليوم يا وغد.
تدخل رائد في الحوار صارخًا بوجهه: أنا بس اللي أقوله وغد يا حيوان أنت، وبعدين اتكلم معايا أنا. أنت مين؟
لم يُجيبه ستي ن بلسانه، بل أجابه بيده التي قُبِضت لتسقط على وجهه بقوة أدت إلى إختلال توازنه ليقع على الأرضية الصلبة من أسفله، تأوه رائد بقوة وهو يضع يده موضع ضربة الآخر قائلًا أثناء صراخه به: دا أنت ليلة أبوك طين النهاردة.
لم يكد يستوعب ستي ن ما يقول، حتى باغته رائد بلكمة قوية تُماثل خاصته مما أدى إلى اصطدام ستيفن بالحائط من خلفه، وفي تلك اللحظة لطم فور على وجهه باستسلام قائلًا قبل أن يفقد وعيه من الصدمة: قُضيَ علينا.
قبل ما حدث...
يمنى أنا بحبك.
قالها يحيى مرةً واحدة أثناء صعوده لشقه يمنى وشقيقاتها حتى توقف أمام باب المنزل، هز رأسه بالنفي مُعنفًا ذاته: لأ مينفعش أجيبها ليها صد رد كدا، لازم مقدمات عشان متموتش مني.
سحب نفسًا عميقًا ناظرًا للباب يتخيله بأنها هي، ثم تشدق بحب وحنان: يمنى أنتِ غلاوتك من غلاوة أمي، وشعرك أكرت زي المرحومة ستي، ضحكتك بتفكرني بجاموستنا، وعنيكِ لون برسيم غِيطنا، فعشان كدا أنا بحبك.
اتسعت ابتسامته بسعادة عندما اقتنع بجملته، بل ورأى بأنها في غاية الرومانسية! رفع كفه ليطرق على الباب والآن اتضح له بأنه مُواربًا بفتحة صغيرة لاحظها للتو، ظن بأن أهل المنزل نسوه مفتوحًا لذلك طرق عليه بخفة بيد، وباليد الاخرى رفع يده على الجرس، ورغم ذلك لم يجد إجابة.
بدأ القلق يتسلل لفؤاده عندما لم يجد إجابة، وبتردد واضح رفع يده يدفع الباب ليفتحه، وهُنا كانت الصدمة! يمنى واقعة أمامه على الأرض غارقة في دمائها، بلا روح وبلا نفس واحد!
تثبتت قدماه مكانه لبرهة من الوقت، يتمنى لو يُغلق عيناه ويفتحهما ليجد ذاته في غرفته ساكنًا على فراشه لم يستيقظ بعد، وبالفعل أغلق عيناه ثم فتحها، لكنه وجد نفس المشهد ولم يتغير، يمنى ساقطة أمامه ولا تتنفس يُحيطها بقعة كبيرة من الدماء، وهُنا تجمعت الدموع بمقلتاه وهو يهز رأسه بنفي لا يُصدق ما يراه، اقترب ببطئ من جسدها ثم هبط مُستندًا بركبتيه بجانب جسدها الهامد.
ابتلع ريقه بصعوبة والذي كان بطعم العلقم من مرارته، ثم مد يده لوجهها يُناديها بصوت مبحوح مُنصدم ودموع تنهمر على وجهه دون وعي منه: ي. يمنى؟
وكأنه كان ينتظر منها رد ولم تُجيبه، أمسك بنصفها العلوي ثم احتضنها مُحركًا رأسه بنفي وهو يردد اسمها بهستيريا وعدم تصديق، لم يُبالي بثيابه التي تلوثت من دمائها، لم يبالي بحالته المُشعثة، كل همه الآن هي، وأخيرًا انتبه للوضع الذي به وبكى! بكى كطفلٍ صغير فقد والدته للتو، علت شهقاته بصراخ وهو يدفن وجهه بعنقها يرجوها أن تستقيظ، لكنها لا تستيقظ! ضرب على وجهها بضربات خفيفة مُرددًا اسمها وهو يبكي: يمنى؟ يمنى عشان خاطري رُدي عليا، يمنى بالله عليكِ متسبنيش لوحدي، ردي عليا يا يمنى. لأ. لأ أكيد مش هتسيبيني. أكيد. لأ. مينفعش. يمنى!
بضعة كلمات خرجت منه بعشوائية وهو لا يعي للحالة التي بها، كل الذي يراه هو هيئتها الخامدة، وكأن غمامة كبيرة من العمى قد أصابته مانعة إياه من التصرف بطريقة صحيحة، وهو أخذها للمشفى.
قالوا بأن للحب جانب آخر، جانب مليء بالخيبات والألمِ، حزنٌ يتضاعف مع زيادته بانيًا سد منيع من الدموع، فكيف نجدُ المُلتقى والموت للعشق يمنعُ! ذاق الحبيب طعم الفراق ففاق الألمِ فوق الأضلعِ، هَب لي من لدُنك طاقةٍ لأُكمل هذا الطريق الواعرُ.
لا يعلم ما الذي حدث سوى بأنه حملها ووضعها في سيارته مُنطلقًا بها نحو المشفى، صراخه العالي بالأطباء جعلهم يُهرولون تجاهه ويحملوها بدلًا عنه، وكأن حِملٌ كبير وُضِع فوق أكتافه عند ابتعادها، يُحدج أثرها بتيهة لا يُصدق ذلك الموقف الجديد كُليًا عليه، لم يشعر سوى بدموعه الساخنة تهبط فوق وجنتاه بحرارة، قلبه يتآمر ضده بأن يدلف معها لغرفة العناية حتى لا يتركها، وهو يقف كالعاجز لا يعلم ما عليه فعله.
شعر بيدٍ توضع على كتفه لا يعلم صاحبها، نظر لذلك العجوز الذي ينظر له ببشاشة بينما هو وجهه جامد لا يظهر عليه شيء، صعد صوت العجوز يطلب منه بود: روح صَلي يابني وادعي ربنا يرجعها ليك تاني.
ماتت.
كلمة واحدة رددها بصدمة وهو يُشير للغرفة، لينفي العجوز بوجهه قائلًا: مماتتش، قدامك فرصة تطلب من ربنا ينجيهالك، متبخلش عليها وعلى قلبك بالدعاء واجري واترمي بين إيد ربنا واشكيله.
هبطت دموع يحيى برعب من فكرة فقدانها، لا يتخيل حياته دونها وهو الذي خسر كل شيء، أبيه، والدته، وحريته، لا يبقى سواها هي، لذلك وبدون تردد أومأ للعجوز ثم ذهب للمسجد الموجود بجانب المشفى، نظر خلفه لينظر للعجوز ويشكره لكنه اختفى، اختفى فجأة كما ظهر فجأة! وكأنه أتى له على هيئة رسالة من ربه يُبشره بها ويدعوه بالدعاء.
وها هو يقف على أعتاب المسجد يخلع نعله ومن ثَم دلف للداخل، توضأ ثم خرج وصلى ركعتين بكل خشوع وهو يبكي كصغير يخشى فُقدان أمه، لكن هو سيفقد نبضه إن فقدها هي، رفع يديه للأعلى يهمس داعيًا ببكاء يعلو شهقاته:.
يارب هي اللي باقية ليا متحرمنيش منها، هي الحاجة الوحيدة اللي عايش ليها وعشانها نجيها يارب، مش هقدر أعيش من غير روحي والله، مش هقدر مشوفهاش قدامي كل يوم، اللهم بحقك وبعظيم سلطانك احفظها لي وقُر عيني بها.
كان الجميع يُطالعونه بشفقة، كان صوت بكائه عاليًا وشهقاته تزداد، أخفض رأسه للأسفل ضاممًا كِلتا يديه لصدره، ثم همس بكلمة أخيرة برجاء: يارب.
وعلى الجانب الآخر، وصل قاسم للمشفى ثم صعد سريعًا لغرفة التعقيمات مرتديًا زي العمليات الخاص به واتجه مُسرعًا تجاه العناية المُشددة، أحكم من تعديل قفازاته ثم وقف أمام المريضة، وهُنا كانت الصاعقة التي هبطت فوق رأسه، إنها يمنى؟ شقيقة أَهِلَّة؟ نظر للموجودين بتعجب علَّ أحد يُفسر حالتها، وبالفعل أتاه صوت المُمرض قائلًا: اتطعنت أربع طعنات في منطقة واحدة ونزفت دم كتير جدًا، حالتها صعبة يا دكتور ومحتاجة سرعة يا إما هتروح مننا.
سحب قاسم نفسًا عميقًا ثم زفره على مهل، وبعدها بدأ في العملية الجراحية بكل براعة دون أن يشغل باله بهوية المريضة، كل ما يُركز عليه هو الجسد، والمشرط، وجهاز النبضات فقط.
جلس كُلًا من ستي ن ورائد على الأريكة بأوجه مُتورمة، نظر كليهما لبعضهما البعض بحنق وبعدها حوَّلا أنظارهما تجاه المرأة التي تُناظرهم، تذكرا ما حدث منذ عدة دقائق قضوها هُم في تبادل الضربات بينهما، وكُلًا من آندريه، ليونيد، وإيغور يُتابعون العِراك باستمتاع، خاصةً وأن قوتهم الجُسمانية تكاد تكون قريبة من بعضهم.
وضع رائد يده على عينه الزرقاء المُتورمة بحسرة، وبعدها قام بضرب ستيفن على ذراعه مُعنفًا إياه: لقد شوهت وجهي الوسيم يا أحمق، اللعنة عليك.
رد له ستيفن الضربة على صدره بقوة أثناء لمسه لأسفل فمه النازف بالدماء، ثم أجابه مُتعصبًا: أنت هو الأحمق يا عديم الأدب.
أجابه رائد باستفزاز: لقد نست عائلتي أن تقوم بتربيتي للأسف.
إذًا أنا من سُأربيك الآن.
هتف بها ستيفن بتوعد وهو يهجم على رائد مرة أخرى يُسدد له الضربات، بينما إيغور مال على أُذن شقيقه ليونيد يهمس له باستمتاع: أحتاج إلى الفشار يا أخي، أشعر بالإستمتاع.
رد عليه ليونيد بحسرة: آه لو كان آلبرت هنا! لكانت ستشتعل الأجواء حماسة، لكن للأس.
لم يكد ينهي جُملته؛ حتى وجد آلبرت يدلف من باب المنزل بوجه جامد ومعه شقيقه چون وفتاتين أخرتين، توقف كُلًا من ستيفن ورائد عن الشِجار، فوقف رائد أمامهم يهتف بحنق بالغ: لأ ما هو مش بيت أبوكوا بقى.
وصل آلبرت لذروته من الغضب من هؤلاء الحمقى، لذلك وبدون تفكير أخرح سلاحه يُوجهه بوجه رائد متسائلًا ببرود: ماذا قُلت للتو؟
ابتلع رائد بقلق قبل أن يُجيبه سريعًا: بقول أنا رايح أعمل كوبايتين شاي في الخمسينة أعملك معايا؟
رد عليه آلبرت بإشمئزاز: لا أريد من وجهك القبيح شيء، أُغرب عن وجهي.
حدج رائد الجميع باستنكار، قبل أن يتجه للمطبخ ليعد له كوب من الشاي بالنعناع كما يحب ليُحسِّن مزاجه المُتعكر.
وبالداخل. استيقظ فور بعد إغمائته ناظرًا للغرفة التي بها، ثوانٍ وانتفض من مكانه عندما استمع لصوت الرجال في الخارج ليتذكر عودة أشقائه، حمد ربه بأن شقيقه الأكبر آلبرت لم يأتي معهم، مما جعله يزفر براحة قليلة، وقف من على الفراش ثم خرج من الغرفة مُحييًا أخوته بشوق وهو يفتح ذراعيه لهم: لقد اشتقت لكم أيتها الثيران.
جاءه الرد من خلفه، والذي لم يكن سوى آلبرت الذي يُشمر عن ساعديه بشر كبير: ونحن أيضًا اشتقنا إليك عزيزي فور.
استدار فور بفزع، والذي ما إن رأى أخاه الأكبر؛ حتى وضع يده على صدره مُرددًا اسمه بصدمة قبل أن يقع فاقدًا للوعي مرة أخرى من دهشته!
المواجهة صعبة، والعِراك ثابت، وحرب العيون لا تنفك أن تتوقف، دلف صهيب إلى يلا الأرماني بعد أن استدعاه مختار للقدوم، قابل في وجهه أنس يجلس واضعًا قدمًا فوق الأخرى فلم يُعيره انتباه، ذهب إلى عمه نادر الذي تقدم من احتضانه قائلًا بترحيب: أهلًا بابن أخويا الغالي.
اغتصب صهيب ابتسامة خرجت صفراء رغمًا عنه وهو يُجيبه: أهلًا يا عمي، حضرتك عامل إيه؟
أجابه نادر مُبتسمًا: الحمد لله يا حبيبي كويس، بس أنا زعلان منك يا صهيب، يعني تعرف إن أنا جاي ومتجيش عشان تاخد من المطار!
وأنت اتشليت!
نعم!
رددها نادر بصدمة، ليُصحح صهيب جملته سريعًا: بقولك كنت اتشليت، قصدي عليا أنا يعني، أصل يا عمي عقبال أنس ابنك يارب بقضي شهر العسل مع حبيبة مراتي ومكانش ينفع أسيبها في ظروف زي دي.
هُنا وهبَّ أنس من مضجعه يتسائل بسخط: نعم! أنت اتجوزت حبيبة؟
مال صهيب برأسه قليلًا مُحدجًا إياه بطرف عيناه وكأنه نكرة، ثم سأله بيرود يشوبه السخرية: عندك اعتراض ولا إيه يا بشمهندش أنس؟
جذبه مختار من يده وهو يسأله بعصبية: ملكش دعوة ب أنس وكلمني أنا هنا، أنت فعلًا اتجوزت حبيبة؟
أكد عليه صهيب ببرود يُراقب حالتهم العصبية بانتشاء: آه اتجوزتها، وأهو أنا أولى بلحم عمي، ولا إيه؟
رمش مختار عدة مرات بأهدابه لا يُصدق حديثه، بينما صاح أنس عاليًا بغضب: مينفعش، أنا كنت جاي عشان اتجوزها أنا مش عشان أنت تتجوزها.
اشتعلت النيران بصدر صهيب من كلماته، بضع كلمات فقط استطاعت بنشب حريق هائل من السخرية والغضب، لذلك استدار له ثم اقترب منه حتى وقف على مقربة منه، وبعدها أجابه ببرود وكيد تعلمه من أخيه، خِلافًا عن غضبه الجم القابع بصدره: معلش، حظ أوفر المرة القادمة بقى يابن عمي.
ضم أنس قبضته مُكورًا إياها بغضب، بينما صهيب أكمل حديثه بسخرية: عندك عمك صفوت جاي بكره اِختار واحدة من بناته.
قالها وهو يُربت على كتفه الملفوف بجبيرة كبيرة وكان سبب جُرحه هو أخيه قاسم أثناء معركتهم الدامية ليلة أمس.
صهيب!
صرخ بها مختار بغضب شديد، ليستدير له مُحدجًا إياه ببرود، ولم يكد مختار أن يُكمل وصلة توبيخه؛ حتى استمع إلى صوت صهيب المُعتذر ببرائة زائفة: عن إذنكم يا جماعة بقى أصلي اتأخرت على مراتي حبيبتي، وانتوا بقى عارفين إننا لسه عرسان جُداد، يلا تشاو.
ودعهم مُبتسمًا بخفة، لكن قبل أن يذهب سدد نظرة نارية تجاه صهيب والآخر استقبلها بتوعد كبير.
خرج صهيب من ال يلا وداخله حقد كبير تجاه تلك العائلة المقيتة ولكل فرد بها، عدا محبوبته بالطبع، اتجه بسيارته نحو منزله، لكن ذهب إلى أحد المتاجر أولًا ليشتري لها بعض الأشياء التي تُحبها، يعتبرها كإبنته وهذا أكثر شيء لطيف قد فعله يومًا، هو يسعى لإسعادها بشتى الطرق ويتمنى أن يمحو لمحة الحزن التي يراها في عيناها دائمًا.
وصل لشقته أخيرًا فاتحًا بابها ثم دلف للداخل ناظرًا حوله في الأرجاء علَّه يلمح طيفها، لكنه لم يجدها، وضع الحقائب أرضًا ثم اتجه نحو المطبخ ولكن لم يجدها أيضًا، لذلك اتجه نحو غرفتهم الخاصة فوجدها متكورة على ذاتها بالفراش وتبكي بصمت.
جزع لهيئتها ولبكاءها لذلك هرول إليها جالسًا جانبها وهو يسألها بلهفة: مالك يا حبيبة بتعيطي ليه؟
اعتدلت وهي تمسح دموعها ببطئ، ثم هزت رأسها نافية وهي تهمس بتحشرج: مفيش أنا كويسة.
طالعها صهيب بيأس، فابتعد هو منها على بغتة ثم خرج من الغرفة دون التحدث بكلمة واحدة، نظرت لأثره وعقلها يُخبرها بأنه قد مَلَّ منها، وبذلك التفكير انفجرت في البكاء المَرير تنعي حظها وضعفها، هي تكره ذاتها، تكره تلك الجدران الصماء التي تشكي لها همها ولا تُجيبها، تكره الجميع، جميعهم شاركوا بأذيتها دون الرأفة بها، وهي مُنكسرة!
شعرت بذراعين كبيرين يُحيطان بجسدها الذي كان يتشنج ببكاء، رفعت رأسها لترى أمامها صهيب الذي بدَّل ثيابه لأخرى مريحة، هل ذهب حقًا لتبديل ثيابه ولم يتركها! وجدته يمسح عبراتها بأصابع برقة، ثم اقترب منها مُقبلًا جبينها بعشق بات يُؤلم قلبه: مالِك يا بيبة؟ احكيلي عشان خاطري.
ارتعشت شفتيها ببكاء أمام نبرته الحنونة، وصوت يصرخ داخلها ويُحذرها بألا تنساق خلف تلك المشاعر، ستُخذل منه كما خذلها الجميع من قبل، وهي لن تستطيع تحمل الشعور بالوحدة مُجددًا، سؤال خرج منها ببكاء وهي تسأله: أنت زهقت مني صح؟
وجدته قد ابتسم لها ابتسامة خفيفة قبل أن يُجيبها: والله أنا هاين عليا أعملك قفص جوا قلبي عشان أحبسك فيه ومتبعديش عني.
طرق فؤادها بعنف من هول ما وقع فوق مسامعها من كلام معسول، لتجده يستطرد حديثه قائلًا: حبيبة أنا عايز أعرفك حاجة، أنا لما اخترت إنك تكوني مراتي دا مش شفقة مني عليكِ بالعكس، أنا كنت عايز واحدة تحسسني بالحب والأمان، والحاجتين دول أنا محستهمش غير معاكِ أنتِ، مش عايزك تحسي إنك قُليلة أو يتيمة، لأن أنا اللي يتيم من غيرك وفي بُعدك عني بحس إني ضعيف.
كان قلبها يطرق فوق أضلعها بشدة من قوة كلماته، هو حنون وهذا أكثر ما يُهلكها، أغمضت عيناها تحاول السيطرة على اضطراباتها النفسية والتي تظهر واضحة على لغة جسدها، أحاط جانب وجهها الأيسر ثم أمرها بهمس قائلًا بلطف: حبيبة افتحي عنيكِ.
وبالفعل خضعت له وقامت بفتح عيناها، لتجده يسألها بحنان: احكيلي كل اللي مزعلك ومخليكِ حزينة كدا.
أجابته حبيبة وهي تمسح دمعاتها بأسى: مش عايزة أحكي دلوقتي، ممكن؟
ممكن جدًا، أنتِ تؤمري بس يا بسكوتاية.
ضحكت بخفة وكم هي مُمتنة للقدر الذي جمعها به، لتصرخ هي بفزع عندما حملها فجأة وهو يقول: تعالي بقى أوريكِ الحاجات اللي جبتهالك، وأنتِ زي الشطورة كدا تعمليلنا كوبايتين سحلب من إيديكِ الحلوين دول ونقعد نسمع فيلم رعب للصبح.
بعد مرور ساعتين ونصف تقريبًا. انتهى قاسم من العملية الجراحية والتي انتهت بالنجاح بعد أن سيطر على الأمر ببراعته، نظر للممرض آمرًا إياه بحزم: كل حاجة تتنفذ زي ما قولتلك، عقم الجرح كويس وانقلها لغرفة مُعقمة غير دي.
أومأ له الممرض باحترام، فخرج قاسم من غرفة العناية بانهاك شديد ليجد كُلًا من يحيى وملك يندفعون تجاهه، تعجب قاسم من معرفتهم بالأمر وهو الذي لم يرى فيهم أحد عند مجيئه للمشفى، ليستمع إلى صوت يحيى المُتسائل برعب: يمنى عاملة إيه يا دكتور؟
خلع قاسم ماسك الوجه عنه، ليُصدم كليهما من وجوده وكأنهما نسيا بأنه طبيب من الأساس! بكت ملك وهي تسأله بنشيج: يمنى عاملة إيه يا أبيه؟
طمأنها أثناء وضعه ليده على كتف يحيى الذي كاد أن يموت رُعبًا وقلقًا عليها، ثم وجَّه حديثه لكليهما قائلًا بهدوء: متقلقوش عليها الحمد لله العملية نجحت، من حُسن حظها إن الطعنة كانت في تجويف البطن، ودا سبب نزيف كتير بس الحمد لله لحقناه، ودلوقتي هتتحط تحت الملاحظة 24 ساعة.
زفر كليهما بارتياح، فاستأذن منهما قاسم ليرتاح قليلًا من صداع رأسه، وبالفعل خطَّى عدة خطوات فاستوقفته ملك تُناديه باختناق: ثانية واحدة يا أبيه.
وقف قاسم فذهبت إليه حتى توقفت أمامه طالبة منه برجاء: متسبش أهلة لوحدها هي تعبانة.
تسلل القلق له فتسائل مُتعجبًا: وهي فين أهلة أصلًا مش شايفها، ومالها إيه اللي حصلها؟
أشارت بيدها لأحد الأركان ثم تشدقت بنحيب: هي عندها كتمان مزمن ومش بتعرف تعيط، وبسبب كدا مش بتعرف تتنفس وبتتخنق.
أومأ لها قاسم دون أن يتحدث، ثم هرول مُسرعًا تجاه المكان الذي توجد به، وبالفعل وجدها تقف أمام النافذة الكبيرة المُطلة على الحديقة تُمسك بموضع قلبها وصدرها يعلو ويهبط بسرعة مخيفة.
هرول إليها مُسرعًا حتى توقف أمامها مُمسكًا إياها بكلتا يديه من كتفها يهزها بخفة: أهلة مالك؟ حاسة بإيه؟
رفعت رأسها له، فوجد عيناها حمراء كالدماء وهي تهمس له بألم: يمنى.
جاورها ثم ربت على ظهرها بربتات خفيفة ثم أردف بكلمات يُحاول أن يُهدئها: يمنى كويسة صدقيني، أنا اللي عملت ليها العملية وهتتنقل أوضة عادية بكرا الصبح.
مسح قاسم حبات العرق المُتجمدة فوق جبينها ثم همست له بنهيج ضعيف: قلبي بيوجعني أوي.
نظر لها لثوانٍ، ثم جذبها لأحضانه مُحيطًا بها وهو يُربت على خصلاتها الملساء بحنان هامسًا لها: سلامة قلبك من الوجع، حقك عليا أنا والله.
شعر بتنفسها مازال مرتفعًا لذلك أمرها بهدوء أثناء همسه الحنون لها: اتنفسي براحتك. مفيش حد هيجي جنبك. أنا معاكِ. المهم اتنفسي.
اتبعت ارشاداته وبالفعل هدأت قليلًا، لذلك أبعدها مسافة صغيرة عنها وهو يتسائل: أحسن؟
هزت رأسها بنعم، تركها لثوانٍ وبعدها عاد حاملًا بين يديه زجاجة مياه قام بفتحها وساعدها على ارتشافها على مهل، شربت القليل حتى عاد تنفسها طبيعيًا كمان كان، وهو مازال يُربت على خصلاتها بحنان حتى تهدأ، لا يعلم لِمَ شعر فذ ذلك الوقت بأنها طفلة شريدة وتحتاج لمن يعتني بها؟ وبرغبة مُلحة تزداد داخله؛ اقترب منها مُقبلًا جبينها ثم ابتعد عنها متشدقًا بحنان وهو يبتسم لها: سلامتك.
أصوات التكسير والتحطيم والصرخات الغاضبة جعلها تُغمض عينيها برعب، لا تعلم ما الذي أتى بها إلى هُنا، آخر ما تتذكره هو إعدادها للطعام حتى يأتي موعد قدوم بناتها وبعدها استمعت لصوت جرس الباب فذهبت لفتحه، ومن بعدها لم تشعر بشيء.
انتفضت نبيلة المُكتفة الجسد والتي تجلس على مقعد خشبي متهالك عندما رأت تلك السيدة المجنونة تتجه نحوها بغضب مُمسكة إياها من خصلاتها تهزها بعنف وهي تصرخ عليها: كل حاجة كانت ماشية صح لولا بنت الحقيرة هي اللي بوظت كل حاجة.
اتسعت عيني نبيلة بصدمة عندما ذكرت فتاة من فتياتها، وها قد بدأ الخوف يتآكل داخلها عندما أكملت الأخرى بابتسامة مُخلة عندما رأت بسمتها: هو أنا مقولتلكيش إن أنا قتلت بنتك يمنى؟ وكمان هحرق قلبك على بنتك الصغيرة ملك كمان شوية؟