رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الرابع والثلاثون
أتيتِ عوضًا لقلبي وكنتِ دواءً لفؤادي، أنتِ أيتها الدخيلة جعلتيني أسيرًا لعيناكِ.
أرجع قاسم رأسه للخلف مُستندًا على مقعد الطائرة أثناء إغماضه لعينيه، تشكلت ابتسامة صغيرة على ثُغره عندما تذكر الحديث الذي دار بينه وبين أحد أحبائه منذ زمن، رجلٌ كان داعمًا له منذ الصغر، ظل كالسدِ المنيع وعاونه على تخطي الصعاب والأزمات، هو مَن تكلف بمصاريف حياته ودراسته عندما كان صغيرًا، وبفضله وصل إلى ما تمنى.
عاد بذاكرته عندما هاتفه ليلة أمس بعد إنقطاع طويل عن الحديث بسبب إلتهائه بأمور الحياة، ليُقرر مُهاتفته والإطمئنان عليه بعد غياب طويل: حبيبي والله واحشني يا حاج سلطان.
هتف بها قاسم بسعادة عندما أجابه الطرف الآخر، ليُجيبه الرجل بعتاب صارم: ولسه فاكرني يا واد وعندك رقمي؟
حكَّ قاسم عنقه بحرج وهو يُجيبه مُعتذرًا عن تقصيره: حقك عليا والله أنا عارف إني مقصر في حقك وقليل أوي لما بسأل عليك.
جاءه الرد من الجهة الأخرى والذي أجابه بغضب يظهر واضحًا في نبرته: طيب كويس إنك عارف، اخلص قول عايز إيه!
شعر قاسم بالضيق والحرج، فتحدث مُعتذرًا: خلاص بقى يا حَج قلبك أبيض، والله أنا انشغلت جامد وأنت أكتر واحد عارف.
تصنع سلطان الغضب ورد عليه بضيق زائف: هي دي حِجة الخايب ياخويا، المهم طمني عليك؟
اتسعت ابتسامة قاسم عقب علمه بمسامحته له فصاح سعيدًا قائلًا: طالما سألت عليا يبقى سامحتني يا حجوج يا عسل.
قهقه سلطان عاليًا مُجيبًا إياه بضحك: كَلت بعقلي حلاوة يا بكاش، طول عمرك بتسرح بيا بس على قلبي زي العسل.
ضحك قاسم عاليًا ثم أردف بحنين: ربنا يخليك ليا يا حَج، وحشتني والله ووحشتني القاعدة معاك.
رد عليه سلطان بشوق وحنين الذكريات ينتابه مُجددًا: تسلم يا حبيبي، ياما نفسي الأيام دي ترجع تاني وأشوفك عيل صغير بتلعب قدامي من جديد.
تنهد قاسم بقوة ثم اتجه نحو الفراش مُستندًا بظهره عليه، وبعدها تحدث قائلًا: يُعتبر أنت اللي مربيني يا حَج وفضلك عليا كبير، بس رغم كدا مش عايز الأيام دي ترجع وأحس فيها إن أنا وحيد من تاني.
ابتسم سلطان بخفة على حديثه الموجوع قائلًا: ودلوقتي!
دلوقتي إيه!
تسائل قاسم بعدم فهم، ليرد عليه سلطان قائلًا: دلوقتي لقيت اللي يملى فراغك ويخلي لحياتك معنى؟
إلتمعت عينيّ قاسم بشغف قبل أن يهز رأسه بالإيجاب وكأن الآخر يراه، ثم أردف بهيام: لقيت يا حَج سلطان وهجيلك قُريب علشان تشوفها.
ابتسم سلطان بسعادة وهو يُجيبه ضاحكًا: تصدق يا واد إنك متربتش فعلًا! بقى تخبي عليا حاجة زي دي يا قليل الرباية!
قهقه قاسم ضاحكًا أثناء قوله المازح: خلاص بقى يا حَج ما قولنا قلبك أبيض!
ماشي يا بكاش ماشي، المهم عايز أعزمك على فرح ابني الشهر الجاي، وهتيجي يعني هتيجي ومحدش غيرك هيغني في الفرح دا.
أجابه قاسم فرحًا وهو يقول بسعادة: إيه دا مجاهد هيتجوز أخيرًا؟
رد عليه سلطان ضاحكًا: آه شوفت يا سيدي! ولادي كلهم بيتجوزوا وأنا بعجز وما باليد حيلة.
مازحه الآخر بقوله العابث: عجوز مين يا راجل! دا إحنا ندورلك على عروسة بقى تملي فراغك بدل ما تبص برا وتفضحنا على كَبر.
وانتظر لثوانٍ حتى استمع صوت صراخ وسباب سلطان عليه بعدم تربيته وانحرافه ووقاحته التي ظهرت فجأة، ليضحك قاسم عاليًا أثناء استماعه لحديثه الصارم، سيطر على ذاته بصعوبة ثم أردف بضحك قائلًا: يوه يا حَج متبقاش قموصة كدا!
رد عليه سلطان بصرامة أثناء ضربه لعكازه في الأرض: بقولك إيه يا ولا اقفل بدل ما أفتحلك دماغك، وهستناك بعد شهر تيجي فرح الموكوس التاني ما انتوا مواكيس زي بعض، يلا غور وخلي بالك من نفسك.
سيطر قاسم على ضحكاته بصعوبة ثم ودعه قائلًا بحب: حاضر يا حَج، في رعاية الله.
أغلق معه ثم اعتدل في جلسته والسعادة تملأ وجهه، فالحاج سلطان فعل من أجله الكثير وقام بتربيته بعد وفاة والده وحجز والدته في المشفى، انتشله من ظُلمة من المؤكد بأنها كانت ستقضي عليه، لذلك هو مُمتن له طيلة حياته ولن يمل من شكره أبدًا.
خرج من شروده على ضربات خفيفة في ذراعه، فتح عيناه ليجد أَهِلَّة تنطق بضجر: قاسم أنا زهقت هنوصل إمتى؟
اعتدل قاسم في جلسته ثم أردف مُتعجبًا: لحقتي تزهقي؟ دا إحنا لسه مكملناش ساعة.
حكت أهلة وجهها بسخط قبل أن تقول بضيق وقد أهلكها الكتمان: طيب أنا مقروفة وعايزة أروح الحمام.
فهم قاسم إلى ما ترمي إليه عن رغبتها في التقيؤ، ليسألها بإهتمام أثناء إمساكه بكفها بلُطف: مقروفة من إيه! حد عملك حاجة ولا اتقرفتي لوحدك!
خجلت أهلة من إخباره عن السبب الحقيقي، لتُجيبه بثبات فشلت في تصنعه: لأ لوحدي.
لم يُصدقها قاسم وعلم أن هناك ما تخفيه، لكن لم يريد إجبارها على التحدث، نادى للمضيفة بكفه لتأتي بعدها على الفور، أشار قاسم ل أهلة ثم أردف بهدوء: زوجتي تُريد الذهاب إلى المرحاض أوصليها رجاءً.
أومأت له المُضيفة بإحترام ثم أشارت ل أهلة قائلة بإبتسامة عملية: تفضلي معي مدام سأوصلكِ.
ابتلعت أهلة ريقها بإشمئزاز شديد أثناء فكها لحزام الأمان من على خصرها ثم اتبعتها لتذهب إلى المرحاض، نظر قاسم لأثرها ثم تنهد بثقل قائلًا: هانت يا هولا.
أدار وجهه حوله ليرى أصدقائه بجانبه، لكن لفت انتباهه مشهدًا لرجل وفتاة في وضع غير لائق ومُقزز، والآن علم سبب اشمئزاز أهلة المُفاجيء وشعورها بالقرف والتقيؤ، عاد قاسم بظهره إلى الخلف ثم أردف ساخطًا: الله يحرقكم قرفتولي البت اللي حيلتي.
وعلى الجانب الآخر؛ جلست مهرائيل بجانب آلبرت بعد أن أصرَّت بقوة على الجلوس بجانبه، مُعللة بأنها يجب رد جميله بحمايتها من والدها وإخفاؤها عنه، نفخ آلبرت بحنق وفي سره يلعن تلك الساعة التي رأى بها تلك المُزعجة، فمنذ أن جلست وهي لم تَكف عن الحديث ولو لثانية واحدة! تلك الحمقاء لا تمل أو تتعب من الحديث حقًا!
أُصيب رأسه بالصداع الشديد أثناء استماعه لقصة حياتها الغير مُهمة بالمرة، لذلك أرجع رأسه للخلف ثم استند بها على المقعد ليُريح أعصابه قليلًا، بينما لم تهتم مهرائيل لحالته بل أكملت حديثها بقولها المُتحمس:.
و مجدي دا كان عايز يتجوزني وأنا رفضت علشان مش بستلطفه بصراحة، أصل هو ابن أمه وعامل زي العيال الصغيرة، تقوله يمين يجي يمين، تقوله شمال يجي شمال، وأنا بصراحة عايزة اللي يشكمني ويرزعني بالقلم وقت عصبيته، بس أهم حاجة يصالحني تاني، آه أنا مش جارية ولا عبدة، تاني عريس بقى كان الواد س، ممممم.
صمتت بفزع عندما هبَّ آلبرت مُعتدلًا في جلسته ليُكمم فاهها بكف يده ليُجبرها على الصمت، طالعته بهلع فوجدته يتحدث أمام وجهها بفحيح مُرعب: أُقسِم إن لم تصمتي سأقطع لسانك أو سأرميكِ من تلك الطائرة اللعينة.
لم تُجيبه بل فتحت عيناها على آخرهما بإنبهار تعجب له، تشنج وجهه لبلاهتها فابتعد عنها مُعتدلًا في جلسته، ليسمعها تردف بحماس وهي تصفق بيدها بعدم تصديق: واااو! أنت عينك لون عيني بالظبط! ياربي على الصدفة العسل! أصل أنا طول عمري بدور على حد تكون عينه لون عيني بالمللي وأنا مش بلاقي، بس أنت عينك نسخة من عيني واو بجد،
جز آلبرت على أسنانه هامسًا بغيظ: أسأل الله أن تنامي طيلة الرحلة.
صمتت مهرائيل فأرجع آلبرت ظهره للخلف براحة، لكن بعد دقيقتين تقريبًا استمع إلى صوت همهمات ضعيفة تأتي من جانبه، قطب جبينه بتعجب أثناء إعداله لرأسه حتى يراها، فوجدها تبكي ودموعها تهبط بصمت مُحاولة بقدر الإمكان كتم شهقاتها حتى لا يستمع إليها!
نظر لها آلبرت ببلاهة ثم سألها مُتشنجًا: لِمَ تبكين الآن؟
ورغم بكاؤها وهشاشتها؛ أجابته بعنف: لو سمحت يا أخ آلبرت أنا مبحبش حد يتدخل في خصوصياتي؟
خصوصياتك التي تفضحينها أنتِ بنفسك؟
تسائل ببرود، لتُجيبه وهي تُجفف وجهها من الدموع: خصوصياتي أفضحها بمزاجي آه، لكن حد يتدخل فيها لأ.
هز رأسه بإقتناع تام ثم سألها مُتجاهلًا حديثها: إذًا لِمَ كنتِ تبكين؟
أجابته مهرائيل بقوة أثناء مُحاولاتها الحثيثة لمنع نفسها من البُكاء: ملكش دعوة.
ابتسم آلبرت بجانبية وعلم طريقة الوصول إليها، لذلك أمسك بكف يدها بحنان يُحيطه بيده ثم تشدق بحنان: هل أنتِ حزينة؟
ارتعشت شفتيّ مهرائيل ببكاء، ورغم ذلك كانت إجابتها مُنافية لحالتها عِند هزها لرأسها بالنفي، مرر آلبرت إصبعه على كفها بحنان متسائلًا: إذًا لِمَ تبكين؟
أصرَّت مهرائيل على عدم فضح ضعفها أمامه، فأجابته ودموعها تهبط بصمت: مبعيطش.
علم آلبرت بأنها لن تقص له شيئًا الآن، لذلك تركها على راحتها وقرر عدم الضغط على جرحها والذي لم يُشفى حتى الآن، مَدَّ أصابعه نحو وجهها مُجففًا دموعها بهدوءٍ وتروٍ، ثم تحدث قائلًا بصوتٍ حنون: حسنًا أنتِ لا تبكين، هيا أريحي رأسك للخلف ونامي.
ابتلعت مهرائيل تلك الغصة المُؤلمة المُتشكلة في حلقها، لتُجيبه بنفي: مش عايزة أنام.
إذًا ماذا تريدين؟
لم يمل منها أو يغضب، بل سألها بهدوء يُزيد من حِدة بكاؤها، أغمضت مهرائيل عيناها بقوة لتمنع من هطول عبراتها، لكن من كثافتها هبطت من بين جفنيها المُنغلقان بقوة، لم يجد آلبرت حلًا سوى جذبها لصدره ومُعانقتها، وهي دفنت وجهها في صدره وانفجرت في البكاء العنيف رغمًا عنها، لم تُسعفها ذاتها في إخفاء مشاعرها أكثر من هذا، فؤادها مُتألم ولا تستطيع كتم هذا الألم أكثر من ذلك.
رفعت كفها تكتم به شهقاتها داخل أحضانه حتى لا تسمعها شقيقتها التي تجلس بالمقعد الخلفي مع زوجها، ورغم ذلك لم يتركها عقلها لتتحرر، بل صوَّر لها مشاهدها مع أبيها وقسوته وعنفه معها، الشخص الذي من المُفترض أن تُهرول له للإختباء، اختبأت منه اليوم خوفًا منه! لم تكن للتخيل أن الأمور ستصل إلى هُنا، ظنت بأنه سيتغير يومًا ما لكن لا شيء يتغير سوى أن قسوته تزداد سوءً.
مرت الدقائق وهي تبكي و آلبرت يُهدها كطفلٍ صغير يبكي من جُرح يده المؤلم، وبالفعل كانت مَجروحة، وبالأخص فؤادها التي اُنتهك من الأقرب إليها، ظلت على حالتها تلك حتى استمعت إلى صوت آلبرت المُمازح قائلًا: هل أنتِ مُزعجة دائمًا هكذا؟
احتل الإستنكار وجه مهرائيل التي فاقت إلى وضعهما، ثم ابتعدت عنه دافعة إياها قائلة بغضب وصوتٍ متحشرج: أهو أنت اللي مُزعج، ووسع كدا بقى أنت ما صدقت لقيت لحمة تحضن فيها؟ هتروحوا من ربنا فين بس!
ضيق آلبرت عيناه بتعجب وهو يسألها: لحمة! ما الذي أتى بسيرتها الآن!
مسحت مهرائيل وجهها بكُم ملابسها ثم أجابته أثناء مُحاولتها للعودة إلى الثبات مُجددًا: دا موضوع كبير يطول شرحه مش فاضية أقولهولك دلوقتي.
هز رأسه بيأس منها ثم أردف ضاحكًا: حسنًا، فلتصمتي الآن ونامي بقية الرحلة، لا أود سماع صوتك المُزعج مُجددًا.
ذكريات كدابة، والأشواق كدابة.
غنت سهيلة تلك الكلمات ببكاء وهي تدور حول نفسها في غرفتها تنعي حظها وفراق محبوبها!
دلف في تلك الأثناء رائد الذي طالعها بغيظ، ثم ذهب إلى جهاز الأغاني يُغلقه حانقًا وهو يستدير لشقيقته صارخًا بها بإستنكار: ما خلاص يابت بقى! دا أنتِ أبوكِ وأمك لما سافروا معيطيش كدا! أنتِ كلتي دماغ أمي.
اقتربت منه سهيلة مُهرولة دافعة إياه بحقد ثم صرخت به مُغتاظة وقد توقف بكاؤها تمامًا وكأنها لم تكن تبكي منذ قليل: يا عَم وسَّع بقى مبعرفش أعيط غير لما الأغاني تكون شغالة.
تشنج وجه رائد مُجيبًا إياها: لأ وأنتِ يابت ما شاء الله عليكِ مُرهفة الحِس والمشاعر أوي!
جلست سهيلة على الفراش تنفخ بضجر أثناء قولها الغاضب: عاجبك كدا! أهو التسجيل مش راضي يشتغل، هعيط أنا إزاي دلوقتي؟
جذب رائد خصلاتها بعد أن تقدم منها قائلًا بغيظ: بقولك إيه يابت أنتِ، مش معنى إني عِرفت إنك بتحبي فور وقولتلك هساعدك تبقي بجحة كدا! وحياة أمك أنا لو شوفتك بتكلميه من غيري إذني أنا هطلع عينك أنتِ وهو، وبعدين عاملة المناحة دي علشانه؟
نفخت بغيظ دافعة يده عن خصلاتها، ثم أجابته غاضبة: آه كل دا علشانه، محدش بيفتكرني في الأكل وهو الوحيد اللي كان بيأكلني، حسبي الله ونعم الوكيل فيكم يا عالم يا ظالمة.
أشاح رائد بيده قائلًا بإستنكار: دا على أساس إنك مش واكلة 3 مرات من ساعة ما جيتي من المطار!
طالعته سهيلة بغضب فأمسكت بحقيبتها ثم اتجهت نحو الخارج أثناء صراخها المُغتاظ: تصدق بالله! أنا كنت ناوية مروحش الجامعة النهاردة، لكن والله هروح وهطفش من وشكم ومش هقعدلكم فيها النهاردة.
صاح رائد مُهللًا بسماجة: في ستين داهية يا حبيبة أخوكِ، الداهية اللي تودي.
وعلى الجهة الأخرى. كان يحيى جالسًا في الشرفة وأمامه يمنى، وعلى بُعد قريب منهم كانت نبيلة تجلس حتى لا تتركهم وحدهم، وطيلة الجلسة كان يحيى يتحدث وهو يحاول قدر الإمكان تلاشي النظر نحوها، لتتسائل يمنى بضيق:
يحيى هو أنت مش بتبصلي ليه؟
ضغط يحيى على المسبحة الإلكترونية عدة مرات يستغفر ربه، ثم أجابها بصوتٍ خاشع: إنها الفطرة يا أخت يمنى، لا يجب للرجل النظر إلى وجه المرأة حتى وإن كانت خطيبته، وأنتِ بصراحة عسلية وهتجريني للرزيلة.
تشكلت ابتسامة صغيرة على ثغر يمنى التي تسائلت بإستغراب: واشمعنى دلوقتي يعني؟
أجابها يحيى بنفس الوضع: لأن الشيخ هو مَن قال لي هذا، وأرجوكِ لا تسأليني عن شيءٍ آخر.
ضحكت يمنى بخفة وهي تنظر له بحب، ثم هبت من مكانها قائلة بحماس: هقوم أعملك عصير مانجا من إيدي.
سلمت يداكِ أخت يمنى.
هزت يمنى رأسها بقلة حيلة ثم ذهبت من أمامه مُتجهة نحو المطبخ لتحضير العصير لكليهما، لينظر يحيى جهة الشُرفة مُرددًا على مسامعه بحسم: اثبت يا يحيى واتقي الله عشان ربنا يبارك في حُبك.
هكذا تمتم وذاكرته تأخذه لذلك اليوم المقيت بالنسبة له، عندما طعنته يمنى عدة طعنات في معدته دون أن تعي لعواقب فعلتها، ظل مُنصدمًا بعدما أخذه رجال ليونيد ليضعوه في السيارة أمامها، كان جسده هامدًا بحق ليس تمثيلًا أو عرض هزلي، وكأن فعلتها أصابت جسده بالشلل!
تذكر حينها عندما بكى صدمةً وقهرة، فعلتها لم تكن بالهينة على قلبه وهو الذي كان يعتبرها كل حياته بعد موت عائلته، سار في الشوارع بتيهة وتعمد الدخول إلى أماكن لا يعرفها حتى لا يراه رجال مختار صُدفةً، لم يخجل بالتعبير عن حُزنه بالبكاء، لم يهتم لنظرات السائرون المُتعجبة له، مَن يراه يظن بأنه قد تعرض لفاجعة كبيرة وخسائر فادحة، وقد كان قلبه!
أوقفه أحد الأشخاص مُربتًا على كتفه، ثم تحدث بإبتسامة هادئة تحمل الراحة بين طياتها: هَمَّك كبير وربك واحد ياخويا، تعالى اشكيله.
نظر له يحيى بجهل فوجده شابًا يُماثل عُمره تقريبًا، نظر حوله ليجد مسجدًا يقع على مسافة ضئيلة منه، خجل يحيى من الرفض وخاصةً بأنه مُقصر في صلاته بطريقة كبيرة، ليصعد صوته مُترددًا: بس. بس أنا.
قاطعه الشاب بإصرار: مفيش نقاش. تعالى معايا أنا داخل أصلي وقول كل اللي واجعك لربنا، وربنا حنين هيطبطب على قلبك وهيخلصك من حزنك.
هبطت دموع يحيى بأسى فجذبه الشاب نحو المسجد ثم دخلوا بعد أن خلعوا نعالهم بالخارج، توجهوا إلى مرحاض المسجد ثم توضأوا بأريحية وبطئ، ومع كل قطرة ماء تهبط على وجه يحيى يشعر بعدها بالراحة، وكأن ماء الوضوء يُطهره من أحزانه!
انتهوا من الوضوء فأعطاه الآخر منشفة جافة قائلًا بإبتسامة واسعة: متخافش نضيفة ومستعملتهاش.
ابتسم له يحيى بخفة ثم أردف بخفوت: واحد ياخويا.
جفف يحيى وجهه وذراعيه ثم أعطاها له، ليتسائل بعدها قائلًا: أنت اسمك إيه؟
أجابه الآخر بإبتسامة هادئة: بادِر هارون.
أومأ له يحيى بهدوء ثم تحدث مُعرفًا عن نفسه: وأنا يحيى الديب.
رد عليه بادِر قائلًا وهو يُربت على كتفه بود: عاشت الأسامي.
حبيبي تسلم، يلا بقى نروح نصلي الضهر وبعد كدا نتكلم زي ما إحنا عايزين.
نطق بها بادر، ليوميء له يحيى بالإيجاب ويتبعه حيث موضع الصلاة، ولمفاجئته وجده هو الإمام الذي سيُصلي بهم جميعًا!
تعجب في باديء الأمر لكنه بدأ صلاته وفؤاده يخجل من مُلاقاة مولاه، لقد أتى له عندما شعر بأنه بحاجة ماسة إليه، هو منافق، كاذب، ومُخادع، هكذا وسوس له شيطانه أثناء صلاته مما أشعره بالضيق الشديد من ذاته، ورغم ضيقه شعر بالراحة الشديدة تتغلغل إلى أوردته رويدًا وتُهديء من لهيب ضيقه وحزنه، سجد للمولى عز وجل وهُنا سقطت دموعه بكثرة وهو يشكو له همه، فؤاده يضيق وباب الخالق كبير يتسع لجميع عباده، وهو كان من الضالين فاهتدى.
انتهى بادر من الصلاة وسلَّم في الجهتين وكَم كان صوته خاشعًا يبث الراحة في القلوب! هو مختلف عن معظم الشباب في مثل عمره قد ألهتهم دُنياهم ونسوا آخرتهم، لكنه وضع آخرته أمامه ويتمنى أن تكون الجنة هي المُلتقى.
ذهب بادِر نحو يحيى ليجلس أمامه مباشرةً فوجده شاردًا تائهًا في عالمه، حاول إخراجه من حُزنه فتحدث مازحًا: إيه ياعم الحُزن دا الدنيا مش مستاهلة والله، مش يمكن نموت بكرة؟
رفع يحيى أنظاره إليه ثم تحدث بثقل: تفتكر ربنا هيقبل مني؟
حاول بادر تبسيط الأمر له حتى لا يُظهره مُعقدًا: إن شاء الله هيقبل ياعم، وهو أنت ابن البطة السودة!
جعد يحيى جبينه بسخط وقد نجح بادر في إخراجه من حزنه بالفعل، ثم أردف حانقًا: الملافظ سعد يا شيخ بادر.
شيخ إيه بس أنا لسه صغير ومسمسم ولسه قدامي العمر طويل.
قالها بادر بغرورٍ زائف، ليضحك يحيى بخفة وهو يهز رأسه بيأس، ورغم ذلك ظهر الحزن واضحًا داخل مقلتاه، ليسأله بادر بود: لو متضايق وعايز تحكي حاجة فأنا سامعك.
لم ينتظر يحيى أن يُكرر عرضه فأردف مُسرعًا وكأنه يرمي حِملًا ثقيلًا عن كاهله: بحب واحدة.
تربع بادِر بإنتباه قبل أن يُكمل باقي حديثه، ثم تشدق قائلًا: آااه. يعني الموضوع فيه واحدة! إحكي يابني إحكي، دا إحنا غلابة والله.
ضحك يحيى بخفة ومن ثَم بدأ بقص كل شيءٍ له وعلاقته مع يمنى وحبهم الذي بدأ يزداد تدريجيًا مع الوقت حتى فاضت مشاعرهم، وبالطبع لم يتطرق إلى ذلك اليوم الذي طعنته به، بل استبدلها بقص شِجار عنيف دار بينهم سيؤدي إلى انفصالهم إن لم يتوصلوا إلى حل مناسب.
كان بادِر يستمع إلى حديثه بإهتمام شديد، وبعد أن أنهى يحيى قص حكايته وسبب ألمه؛ سأله بادِر دون مراوغة: انتوا علاقتكم كان فيها أي حاجة غير شرعية؟
قطب يحيى جبينه بعدم فهم وقد أخذه عقله إلى منحنى آخر: إزاي مش فاهم؟
فسَّر له الآخر حديثه بقوله الهاديء: يعني مسكت إيديها، بتبصلها كتير، بتبص للبسها أو ليها بطريقة مش حلوة، حصل بينكم أي تجاوزات؟
طالعه يحيى بتوتر قبل أن يُجيبه بصوتٍ متوتر: ب. بصراحة آه، يعني هي لما تكون زعلانة كنت بمسك إيديها أو بحضنها. مش بيهون عليا حُزنها فبحاول أخفف عنها بأي طريقة. بس والله مش بعمل أكتر من كدا.
لوى بادِر شفتيه ساخرًا: وأنت عايز تعمل إيه أكتر من كدا؟ ما أنت عملت كل حاجة يا عنيا.
مش فاهم. هو أنا كدا عملت حاجة غلط؟
تسائل يحيى بتعجب، ليُجيبه بادِر على الفور: طبعًا غلط، علاقتكم كلها غلط، في جُملة بتقول ما بُني على باطل فهو باطل، وانتوا علاقتكم باطلة ولمساتكم وكلامكم مع بعض بدون أي رابط شرعي باطل، والقصد بالرابط الشرعي مش الخطوبة أو قراءة الفاتحة، بل القصد بيه كتب الكتاب، لإن ناس كتير بياخدوا معنى الرابط الشرعي على أساس الخطوبة وبيستبيحوا لنفسهم ما حرمه الله، أنت محافظتش على قلبك وأهدرت مشاعرك مع واحدة مش مكتوبة على اسمك ولا مراتك، مستني ربنا يحافظ على علاقتكم إزاي وأنت بتحضن فيها وبتمسك إيديها من غير أي وجه حق؟ ما طبيعي تلاقي مشاكل وخلافات، ربنا عمره ما بيبارك في حاجة حرام، علشان أنت محافظتش على نفسك ولا حافظت عليها.
صمت بادر قليلًا ناظرًا له بتمعن، ثم رفع يده مُربتًا على قدمه أثناء قوله النصوح: حافظ عليها كأنها أختك وربنا هيحفظ قلبك يا يحيى، كلنا بشر ومش معصومين من الغلط، بس العبد الناصح هو اللي يعمل الذنب ويتوب منه، مش اللي يكمل في نفس طريق الغلط، وقتها محدش هيخسر غيره هو، والأهم من دا كله حافظ على صلاتك، إحنا بنتشعلق في حبل الرحمة ومن غير ربنا منساويش.
فكَّر يحيى في كل كلمة قالها واستمع بها بقلبه لا أُذنه، هو معه كل الحق ولن يُنكر، لقد تخطي كل الحدود مع يمنى بحِجة أنه يَحُبها دون النظر إلى الجهة الدينية، لذلك يجب عليه إصلاح علاقته مع خالقه أولًا قبل أن يُصلحها معها.
عاد من شروده وذكرياته على قدومها، وضعت يمنى أكواب العصير أمامه على الطاولة، ثم أردفت بإبتسامة واسعة: دوق وقولي رأيك.
أومأ لها يحيى ضاحكًا ثم انتشل كوب من العصير وارتشفه على مهل، كانت تُتابعه بإنتباه تنتظر منه إطراءً على عملها العظيم، وبالفعل تحدث قائلًا بإمتنان: طعمه حلو أوي تسلم إيدك.
شبكت كفيها معًا ثم أجابته بإبتسامة سعيدة: الله يكرمك ويسترك ما يفضحك قادر يا كريم.
قهقه يحيى عاليًا ثم تحدث بإبتسامة شغوفة: بقولك إيه يا يمنى! ما تحاولي تقنعي مامتك نكتب الكتاب بسرعة عشان بصراحة أنا مش متعود أكون هادي ومحترم معاكِ كدا!
قطبت يمنى جبينها بتعجب مُتسائلة بإستغراب: وأنت إيه اللي مانعك، ما أنت كنت بتتعامل معايا عادي بس الفترة الأخيرة دي أنت متغير، يحيى هو أنت لسه زعلان مني؟
هز رأسه بالنفي وهو يُجيبها بهدوء: لأ، أنا مش متغير ولا زعلان منك، كل اللي حصل إني فوقت قبل فوات الأوان، علاقتنا وتعاملنا ببساطة وأريحية مع بعض مكانش صح، لازم نحط بينا حدود وفواصل لحد ما نتجوز عشان لذة جوازنا واجتماعنا في بيت واحد متروحش.
فهمت يمنى جزء من حديثه لكنها لم تفهم الجزء الأخير، لذلك تسائلت بعدم فهم وانتباه: يعني إيه لذة جوازنا واجتماعنا في بيت واحد متروحش؟
شرح لها بهدوء بعد أن ارتشف قليلًا من العصير: يعني مينفعش أحضنك أو أمسك إيدك أو أبصلك بتمعن قبل ما نتجوز، لو عملت دا كله هبقى سيبت إيه لبعد الجواز؟ دا غير إن ربنا مش هيبارك في علاقتنا وممكن نتفرق قبل ما نتجوز، ولو اتجوزنا ممكن يكون فيه مشاكل كتير جدًا بينا، وأنا الحقيقي مش عايز دا، أنا عايز أعيش معاكِ بهدوء زي أي زوج وزوجة بيحبوا بعض وياخدوا إيد بعض للجنة، مش عايز أخسرك وعايزك تكوني زوجة صالحة ليا ولأولادي في المستقبل.
كانت يمنى تستمع له بأعين لامعة، كانت مُنزعجة من طريقته الرسمية وتعامله الجاد معها لكنها علمت سببه الآن، هي سعيدة وفؤادها يرقص طربًا مما يسمعه، هو يُريدها زوجة وحبيبة في كل الأوقات، وهو خير زوج في كل الأماكن، ابتسمت له يمنى بحب ثم أومأت له قائلة: فهمت كلامك يا يحيى ومبسوطة بيه، وفعلًا معاك حق إحنا تصرفاتنا مكنتش لايقة ومتنفعش، علشان كدا أنا هحاول أقنع ماما إننا نكتب الكتاب في أقرب وقت وهقولك.
نظر لها مُبتسمًا بسعادة أثناء قوله: ربنا يباركلي فيكِ.
استمعوا إلى صوت جرس الباب لكنهم لم ينشغلوا به، بل قامت ملك التي كانت تجلس جانب والدتها لترى الطارق، وما إن فتحته حتى وجدت رائد يُقابلها في وجهها وبعدها أردف بقوله الماكر: اللي واحشني!
استمعت نبيلة إلى حديثه فهبت من مكانها ذاهبة تجاهه بغضب، ثم أردفت بحدة: وحشك قطر يا بعيد! هو انتوا هتنطولي كل واحد شوية وأنا المفروض أستحمل! شوية أنت وشوية الأهبل اللي قاعد جوا دا! بقولك إيه يا ولا، خُد أغراضك وامشي من هنا!
إيه دا يعني آخد ملك معايا؟
نطق بها بإنبهار مُتجاهلًا بقية الحديث، لترد عليه نبيلة حانقة: ومين جاب سيرة ملك دلوقتي؟
فسَّر لها رائد الحديث ببساطة قائلًا: مش أنتِ قولتي خُد أغراضك وامشي من هنا!
وضعت نبيلة يدها موضع قلبها ثم أردفت بوهن: يارب يا تهديه يا تهده يا تاخده عشان أنا قلبي مش مستحمل.
تجاهلها رائد مُتحدثًا بإبتسامة مُتسعة: بقولك إيه يا طنط! أنا عايز أتجوز بنتك.
اعتدلت نبيلة في وقفتها رامية له نظرة نارية قبل أن تقول بنفي: طلبك مرفوض، شرفتنا.
قالتها ثم أغلقت الباب في وجهه تاركة إياه يقف مُفرغًا فمه ببلاهة، رمش عدة مرات بعدم تصديق قبل أن يطرق على الباب صائحًا بصوتٍ عالٍ: هتجوزها. وحياة ستي لهتجوزها وهنجيب عيال صغيرة يتنططوا حواليكِ ويقولولك يا تيتا يا شريرة.
وصلت الطائرة إلى روسيا فهبط الجميع منها للإستعداد إلى الذهاب إلى وجهتهم، مال قاسم على أهلة هامسًا بمشاكسة: مرحبًا بكِ في أراضي روسيا سينيوريتا أهلة.
رفعت أهلة أنظارها إليه ثم أردفت بإبتسامة واسعة: مرحبًا بكَ أخي قاسم.
لسانك دا لو اتكلم تاني هقطعولك.
نطق بها بسخط وهو يبتعد عنها، لتُقهقه عاليًا ثم ذهبت خلفه وهي تُمسك بكف حبيبة التائهة وكأنها صغيرتها، ثم أردفت بصوتٍ عالٍ حتى يسمعها: خُد بس بهزر معاك متبقاش قماص كدا.
وقف قاسم أمام آلبرت قائلًا بنبرة خرجت رغمًا عنه مُغتاظة: رجاءً أوصل الفتيات إلى المنزل آلبرت، وأنا سألحق بأخي إلى المشفى للإطمئنان على أمي.
أومأ له آلبرت بهدوء، ثم أردف وهو يربت على كتفه بود: لا تقلق أنا سأعتني بهم جميعًا.
نظر له قاسم بإمتنان ثم استدار إلى أهلة وحبيبة اللتان تُتابعان الحديث منذ بدايته، وقبل أن يفتح فاهه للتحدث؛ قاطعته أهلة برفض: مش ماشية أنا جاية معاك.
أيدتها حبيبة بقولها الخافت: وأنا كمان جاية معاك.
ابتسم لهم قاسم ابتسامة صفراء قبل أن يستدير ل آلبرت قائلًا بقلة حيلة: خُذ الباقين عزيزي آلبرت وأنا سآخذ هاتان لأقتلهم.
ضحك آلبرت عاليًا ثم أردف له أثناء ذهابه من أمامهم: تعازيّ لك من الآن عزيزي.
أوقف قاسم سيارة أجرة ثم استدار للفتاتين قائلًا بغيظ وهو يُشير نحو السيارة: اتفضلوا يا هوانم.
رفعت أهلة رأسها بتكبر زائف ثم صعدت إلى السيارة وخلفها حبيبة، هز قاسم رأسه بيأس ثم صعد بجانب السائق لينطلق بهم إلى وجهتهم، وصلوا بعد نصف ساعة تقريبًا إلى المشفى، ليهبط قاسم من السيارة دالفًا بسرعة للداخل بعد أن قام بمحاسبة السائق وإعطائه للأموال، وكذلك سارت الفتاتان من خلفه بسرعة كبيرة ليلحقوا به.
ظل يسير بين الأروقة عدة دقائق حتى لمح شقيقه صهيب واقفًا أمام إحدى الغُرف ويظهر على وجهه القلق الشديد، وصل إليه قاسم مُتسائلًا بنهيج أثر هرولته: ها يا صهيب عملت إيه؟
رفع صهيب أنظاره لشقيقه وأردف قائلًا برهبة: الدكتور قال العملية هتتعمل بكرة؟
أصاب التوتر جسد قاسم فحاول الثبات وبث الراحة لشقيقه عبر حديثه المُطمئن: متخافش أنا اللي هتابع معاها وهفضل معاها خطوة بخطوة.
تنهد صهيب بثقل ثم نظر لأخيه مُتحدثًا برجاء: اعمل اللي تقدر عليه يا قاسم بالله عليك.
اقترب منه قاسم مُحتضنًا إياها بحنان، ثم أردف قائلًا: صدقني لو طلبت روحي هديهالها من غير ما أفكر، أنا معنديش أغلى منك أنت وماما ومستعد أعمل أي حاجة علشانكم.
في تلك اللحظة أتت كُلًا من حبيبة وأهلة تنهجان بنفس مُنقطع، لتتحدث أهلة ساخطة: والله؟ هو أنت سايبنا وبتجري كدا عادي ولا كإننا شحاتين بنجري وراك؟
تركتها حبيبة ثم هرولت بسعادة تجاه صهيب تحتضنه بحب، ليستقبلها هو بإبتسامة حنونة يتبعها بقول الشغوف: وحشتيني الشوية دول يا بسكوتة.
أشار لهم قاسم بتشنج ثم أردق حانقًا: شايفة الناس اللي بتفهم؟ أنا دايمًا كدا حظي هباب.
تخصرت أهلة محلها مُتسائلة بحاجب مرفوع: قصدك إيه إن شاء الله! والله أنت ما هتلاقي زيي لا في أدب ولا أخلاق ولا إحترام ولا هدوء.
نظر لها قاسم لثواني بصمت، ثم أردف بإنبهار مصطنع: طبعًا طبعًا. دا أنت الشيخة أهلة، يعني من البيت للجامع ومن الجامع للبيت.
سخر صهيب ضاحكًا وهو يُحيط بكتفيّ حبيبة: أجيبلك طبلة ياخويا؟
طالعتهم أهلة بنظرات حادة نارية ثم صاحت بسخط: صدقوا إن أنا غلطانة إني جيت هنا! أنا ماشية.
قالتها ثم ذهبت من أمامهم بخطوات سريعة غاضبة، لينظر صهيب إلى أخيه مُردفًا بشفقة: الله يكون في عونك يا حبيب أخوك، النكد ليك هيبقى للركب النهاردة.
ضحك قاسم عاليًا قبل أن يغمز له قائلًا بعبث: عيب عليك ياض أخوك كفاءة ومسيطر.
قالها وذهب مُهرولًا خلف أهلة الغاضبة، تاركًا إياه يضحك هو وزوجته على تلك المُشاكسة اللطيفة، قبَّل صهيب وجه حبيبة بقوة ثم تحدث قائلًا: وحشتيني يا بسكوتة.
أخفضت حبيبة رأسها للأسفل بتوتر أثناء ردها الخَجِل عليه: وأنت كمان.
أحاط بكتفها ثم سار في ممر المشفى الطويل قائلًا بحماس: تعالي عازمك على الغدا بمناسبة الأجواء الشتوية الجميلة دي.
اتسعت ابتسامة حبيبة بقوة ثم أردفت بسعادة: يلا بينا.
وعلى الناحية الأخرى، لحق قاسم ب أهلة التي تقطب جبينها بضيق ثم أحاط بها من كتفها قائلًا بدهشة مُصطنعة: ياه يا هولا ياه؟ مكنتش أعرف إنك بتتقمصي للدرجادي.
حاولت أهلة إبعاد ذراعه عن كتفها بحنق، وبعد محاولات عديدة بائت بالفشل؛ صاحت به بسخط: ما هو أنت اللي واقف تتريق عليا وكأني مش عاجباك، وأنا بتضايق لما حد يتريق عليا.
خرجوا من المشفى نهائيًا، فرفع كفه الآخر يُبعثر خصلات شعرها الكثيف ثم أردف مُعتذرًا: يا باشا أنت تعجب التخين، وهو فيه حد يتريق على الحلاوة والجمال دا؟
حمحمت أهلة بتوتر أثناء مُحاولتها للثبات أمام كلماته المعسولة، لكنه لم يرأف بها ولا بتوترها، بل أكمل غزله بها قائلًا: في شاعر كان بيغازل حبيبته بجُملة تنطبق عليكِ طبق الأصل، وكان بيقول:
أنتِ كهلالٍ لامع في السماء سرق أنظار الجميع، لكنه سرق قلبي.
اهتز فؤادها فرحًا مما تسمعه، فأردفت بتساؤل وتعجب: مين الشاعر دا؟
غمزها بمشاكسة قبل أن يُجيبها: قاسم طاحون.
هي من القِلة القليلة التي لا يهمهم الشِعر أو الغزل العاطفي، لكن كانت لكلماته أثرًا على فؤادها المسكين المحروم من الحنان، ابتلعت ريقها بصعوبة ثم أردفت بصوتٍ خافت متوتر: ي. يلا نمشي ع. علشان ميقلقوش علينا.
كتم قاسم ضحكاته على توترها الواضح، فقرر الرأفة بها وأومأ لها مُوافقًا بقوله العابث: يلا يا روحي.
أغمضت عيناها لتُسيطر على ضربات قلبها الحمقاء التي تفضحها، وبأقدامٍ مُرتعشة سارت بجانبه حتى صعدت لسيارة الأجرة الذي أوقفها، لتصعد هي أولًا وبعدها يصعد هو ليتبعها.
منذ قليل...
دلفت لوسيندا إلى منزل چون والذي كان عبارة عن قصر كبير خاص بأبناء عائلة تشارلي، هرولت نحو الداخل بخطواتٍ مُسرعة غاضبة وخلفها جون الذي يُناديها بضجر:
انتظري لوسيندا، ما هذا الجنون بحق الله؟
استدارت له لوسيندا بأعين نارية غاضبة، ثم صرخت بوجهه دون وعي لفعلتها: أنا المجنونة؟ أنت مكنتش شايف الزفتة دي كانت بتبصلك إزاي! لأ وكمان أنت بتبسملها ومبسوط، ما أنا لو مش عاجبة سيادتك قولي.
تسلل الغضب لأوردته عقب صراخها بوجهه بتلك الطريقة المُهينة، وخاصةً أمام كل مَن بالمنزل والذي يتضمن إخواته والخدم أيضًا، لذلك صرخ بها بحدة ناهرًا إياها بعنف:
لوسيندا إلزمي حدودك! أنا لست خادمكِ لتصرخي في وجهي بتلك الطريقة، إن نسيتي فأنا زوجك وواجب عليكِ إحترامي يا سيدة.
تنفست لوسيندا بعنف، لكن تحول غضبها إلى ضيق عندما رأته يصعد الدرج بخطوات غاضبة دون أن يلتفت لها أو ينظر لها ولو نظرة واحدة، نفخت بسخط جاذبة لخصلات شعرها بضيق، لتستمع بعدها لقول آلبرت البارد: لو كنت منه لقتلتك على الفور.
أكد ستيفن على حديثه ساخرًا: فلتُصلي لله بأنه لم يصفعك.
ابتلعت لوسيندا تلك الغصة المُؤلمة التي تشكلت داخل حلقها، وببطئٍ تسللت الدموع داخل مقلتاها، طالعت مهرائيل الجميع بضجر أثناء اقترابها من شقيقتها، ثم احتضنتها مُربتة على ظهرها بحنان عقب قولها الساخط للشباب: انتوا معندكوش دم ولا إحساس؟ عايزين إيه من أختي الغلابة يا شوية أوباش.
طالعها ليونيد بسخرية قائلًا: أنتِ يا فتاة مُزعجة للغاية حقًا، لواحظ أجمل منكِ بكثير.
شهقت مهرائيل بعنف أثناء قولها السوقي: لواحظ مين دي اللي أجمل مني يا عديم النظر! وأنت هتشوف إزاي بالنضارة اللي أنت لابسها دي؟
اغتاظ ليونيد منها ثم خلع نظارته راميًا إياها على الطاولة أثناء قوله الحانق: هذه نظارة أستخدمها للزينة يا حمقاء.
جذبه آندريه ثم أجلسه بجانبه وهو يُربت على قدمه ببراءة، ليتحدث بعدها قائلًا عند نظره لشاشة حاسوبه الكبيرة: تجاهلها يا أخي وتعال انظر إلى هؤلاء الفتيات الجميلات.
نظر ليونيد لشاشة الهاتف بإنتباه، ليجد الكثير من الفتيات الجميلات ذات القوام الممشوق والجسد الرائع، لكنه ورغم ذلك جعد جبينه بإشمئزاز ثم تحدث قائلًا: ما هذا القُبح، لا أحب مثل تلك الفتيات، أحب العجائز أكثر.
حمل آندريه عيناه من على شاشة الحاسوب ثم نظر له بإشمئزاز، دفعه بعيدًا عنه عقب قوله الساخط: ابتعد من هنا يا أحمق، زوقك بشع للغاية يُشبهك تمامًا.
خرجت لوسيندا من أحضان مهرائيل تُجفف دموعها ببطئ ثم نظرت ل فور الصامت عكس عادته قائلة: لو سمحت يا فور ممكن توصلني لأوضة چون!
انتبه لها فور ثم أومأ لها بإبتسامة هادئة قائلًا: بالطبع يا زوجة أخي، تعالِ معي فغرفته بالأعلى.
ذهبت لوسيندا خلفه صاعدة الدرج ثم سارت في ممر طويل نسبيًا، وأخيرًا وصلت إلى غرفة چون الذي أشار لها فور متحدثًا بهدوء: هذه هي غرفة أخي، ولا تحزني منه. هو فقط غاضب لأنكِ صرختي في وجهه، بالنهاية هو يحبك وسيُسامحك بالتأكيد.
أومأت له لوسيندا بإمتنان ثم شكرته، وبعد ذهابه تنفست بعمق ثم طرقت الباب بهدوء، لم يأتيها رد چون فقررت فتح باب الغرفة، وعقب فتحه وجدت جون جالسًا على فراشه بوجهٍ مُمتعض وجسد مُتشنج من الغضب.
توترت معالمها بحرج ثم اقتربت منه ببطئ حتى وقفت بجانبه مُباشرة، شبكت كفيها معًا ولا تعلم بما تبدأ أو ماذا ستقول، هي امرأة والغيرة من طبعها، لكن تلك المرة كانت غيرتها عمياء وأقحمتها بالمشكلات، عضت لوسيندا على شفتيها بتوتر ثم جلست بجانبه دون أن تفتح فاهها بكلمة واحدة، وبهدوء شديد أبعدت ذراعيه عن صدره وأحاطت بخصره بقوة شديدة، وبعدها تشدقت بإعتذارٍ باكي:.
أنا أسفة والله مش قصدي أزعقلك او أعلي صوتي عليك، أنا غيرتي عمتني ومبقتش عارفة أتحكم في نفسي ولا في أعصابي، أنا بحبك يا چون ومعنديش استعداد أشوف حد بيبصلك بنظرة إعجاب واحدة وأنا أقف ساكتة، حقك عليا والله متزعلش مني علشان خاطري.
ومع جُملتها الأخيرة هبطت دموعها بصمت وظهر بكاؤها على صوتها الذي ارتعش في نهاية الحديث، نفخ چون بضيق وحاول بقدر الإمكان عدم الإنسياق خلف مشاعره واحتضانها، لكن ليس له سُلطة على فؤاده الذي يغرق بعشقها، لذلك رفع ذراعيه وبادلها العناق بقوة أشد وأردف:
لا تبكي يا قلب چون، أنا فقط مُنزعج لأنكِ صرختي في وجهي وهذا أكثر ما أكرهه في حياتي.
أنا أسفة. مش هعمل كدا تاني.
همست بها بوهن، ليُقبل خصلاتها بحنان ثم أردف بحب: لا عليكِ صغيرتي، المُهم في الأمر بأنكِ اعترفتي بخطأك، وسواء اعترفتي به أو لا فقلبي الأحمق يُحبك في نهاية المطاف.
دفنت لوسيندا رأسها أكثر داخل صدره ثم همست بعشق: أنا أُحِبُك چون.
رد عليها جون هامسًا: وأنا مُتيم بكِ عشقًا يا قلب جون.
دلف كُلً من قاسم وأهلة إلى القصر الكبير بعد أن أصر آلبرت على العيش معهم طيلة فترة مكوثهم هُنا، وجدوا الأغلبية مُتجمعون في الأسفل، فتحدث قاسم مُمازحًا: متجمعين عن النبي إن شاء الله يا رجالة.
طالعه الجميع ببلاهة، لتدخل مهرائيل التي كانت تجلس بملل على الأريگة: إحنا مسيحين يا قاسم ياخويا.
رمش قاسم بتذكر ثم تحدث ضاحكًا: معلش الذاكرة بعافية حبتين.
تقدم منه آلبرت واضعًا كفه الأيمن داخل جيب بنطاله الأسود، ثم تحدث بابتسامة هادئة: غُرفتك أنت وزوجتك جاهزة، سأُنادي واحدًا من الخدم ليُساعدوا في نقل الحقائب.
ربت قاسم على ذراعه بإمتنان قائلًا بشكر: شكرًا لكَ آلبرت على استضافتك لنا هُنا.
قطب آلبرت جبينه متشدقًا بضيق: ما هذا يا رجل لِمَ تشكرني؟ على العموم اصعد أنت لثاني غرفة على ذراعك الأيمن، هي مُخصصة لك ولزوجتك.
أومأ له قاسم بشكر، ثم أمسك بكف أهلة وصعدا للغرفة التي أشار إليها آلبرت، كانت الغُرفة واسعة بدرجة كبيرة وبها كل ما سيحتاجونه طوال فترة إقامتهم، فِراش كبير يتوسط الغرفة، وعلى الجانب الأيمن خزانة للملابس تأخذ شكل الحائط من اللون البُني الغامق، وعلى الجانب الأيسر يوجد مرآة كبيرة بعض الشيء وعليها كل مُستلزماتها، كذلك يوجد في الأمام مدفئة كبيرة مُشتعلة لحمايتهم من برد الشتاء القارص، وأمام تلك المدفئة يوجد أريكة عريضة من اللون الأسود وعليها وسادتين من اللون الأبيض المُزخرش، كذلك يوجد على الجانبين ثلاث مقاعد أخرى وثيرة ومُريحة، وإضاءة الغُرفة مُريحة للعين مع ذلك النجف الذي يُعطي مظهرًا جذابًا مع لون حوائط الغرفة الكريمية.
نظر قاسم للغرفة بإعجاب ثم تحدث مُبديًا إياه: الأوضة شكلها تحفة.
أكدت أهلة على حديثه قائلة بإبتسامة هادئة: فعلًا شكلها جميل جدًا.
استدار لها قاسم مُقترحًا: إيه رأيك نعمل بيت كبير زي دا؟
ظن أن اقتراحه سينال اعجابها، لكن تفاجأ بها تهز رأسها بالنفي وهي تقول: لأ البيت اللي إحنا عايشين فيه أحسن، مش بحب القصور الكبيرة بحس إني عايشة في صحرا وتايهة جواه، البساطة أجمل، والبيت اللي مليان حب وحنان يكسب.
إلتمعت عيناه بشغف من حديثها العقلاني، فإقترب منها قارصًا وجنتيها بخفة أثناء قوله المُشاكس: ياختي سُكر يا ولاد! أحبك يا جميل وأنت عاقل ورزين كدا.
ضحكت أهلة بخفة وحاولت تخفيف توترها منه، لتقول بهدوء وهي تبتعد عنه: هدخل آخد شاور علشان أريح أعصابي من تعب المشوار.
أومأ لها قائلًا: ماشي، لا إله إلا الله.
قهقهت بخفة ثم أخذت ثيابها ودخلت للمرحاض بعد أن أجابته بضحك: مُحمد رسول الله.
جلست حبيبة أمام صهيب على الطاولة في أحد المطاعم، ثم أمسكت بقائمة المأكولات مُتسائلة بحيرة: بتحب البيتزا ولا الشاورما؟
وضع صهيب كفه وهو يُجيبها بهيام: أنا بحبك أنتِ.
نظرت له حبيبة بمُفاجأة على اجابته التي لم تكن متوقعة بالمرة، وبعد تحدثت بتوتر وخجل: ش. شكرًا.
ابتسم صهيب بإتساع مُستمتعًا بخجلها، ثم تحدث قائلًا بحب: هاكل بيتزا، وأنتِ هتاكلي إيه؟
هاكل زيك.
أجابته على استحياء وهي تُحاول تلاشي النظر إلى عيناه الهائمة به، ورغم خجلها وتوترها إلا إنها تُحِب اهتمامه بها واعترافه بحبه ليل نهار، وهي تحتاج لمن يغدقها بالحنان والحب دائمًا، ولحُسن حظها هو موجود دائمًا.
أسدل الليل ستاره، وجاء في تلك الأثناء قاسم حاملًا لكوبين من مشروب الشيكولاتة الساخنة، أعطى واحدًا ل أهلة التي شكرته بإمتنان والآخر أحاط به بكفيه حتى يحصل على التدفئة.
في تلك الأثناء كان كليهما واقفان أمام شرفة الغرفة يُتابعان هطول الثلوج في مشهد يبث الراحة في الأنفس خاصةً لمُحبي الشتاء، نظر إليها قاسم لثوانٍ ثم انتقل بأبصاره نحو الثلوج الراقصة والتي تسقط بتدلل، وهُنا استمع إلى صوت أهلة المُتسائل قائلة:
إيه أكتر حاجة بتبسطك؟
فكَّر قاسم قليلًا لبضعة ثواني، ثم أجابها بإبتسامة لطيفة يَشوبها العبث: شيكولاتة سُخنة، مطر، تلج، جو هادي، وأنتِ، هتبسط أكتر من كدا!
وتلقائيًا وعقب حديثه وجد الابتسامة تُزين ثُغرها دون التحكم في ذاتها، لتتشدق بيأس قائلة: على فكرة أنت بكاش.
ضحك عاليًا، فأمسك بكوبه في يد، وبالذراع الأخرى قام بلفها حول كتفها آخذًا إياها نحو الأريكة المُقابلة للمدفئة، ثم جلسا عليها وهي مازالت تقبع داخل أحضانه، وهُنا استمعت لحديثه المُهلك لأعصابها:
أنا كنت دايمًا مش بآمن بجمال العيون، بس لما شوفت عينيكِ غيرت رأيي.
رفعت أنظارها إليه تُطالعها بعينيها التي يعشقها، ثم تحدث أثناء استناده بجبينه على خاصتها:
عينيكِ زي الرعد اللي ضرب قلبي؛ فمبقتش قادر أسيطر على دقاته!
لم تستطيع أهلة أن تُسيطر على نبضاتها المُتسارعة وكأنها في سباقٍ ما، لذلك ابتعد عنه أثناء وضعها لكفها على قلبها قائلة برجاء: كفاية يا قاسم عشان خاطري.
هز قاسم رأسه موافقًا، لكنه فتح ذراعه لها قائلًا: هسكت بس تعالي في حضني.
هزت أهلة رأسها بيأس وهي تضحك، ثم اقتربت منه واضعة رأسها موضع قلبه لتستمع إلى دقاته العنيفة، وبعدها أحاط هو بخصرها ليُقربها منه أكثر، وأمامهما المدفئة تبث أجسادهم الحرارة وشاشة التلفاز التي تعرض أحد أفلام الكرتون الشهيرة.
الساعة تعدت الثانية صباحًا والجميع نيام، إلا هذا الذي ينتظر الوقت المناسب لتنفيذ خطته على أحر من الجمر، وقف قاسم بحذر من مضجعه وسار ببطئ نحو الخزانة حتى لا يوقظ أهلة النائمة، الآن حان دور القناص ليتقمص شخصيته الودودة.
ارتدى قاسم ثيابه والتي كانت عبارة عن بنطال أسود وقميصًا يُماثله في اللون، وبالطبع تأكد من وضع سلاحيّه في جيب بنطاله الخلفي، عيناه حادتان قاسيتان والسبب هُم، سيُدمرهم رويدًا رويدًا حتى يتلذذ بتعذيبهم، والخطوة الأولى التي سيفعلها هي تدمير كل أملاك عائلة الأرماني في روسيا أيضًا.
استدار ببطئ ليفزع من وجود أهلة أمامه بإبتسامة واسعة وثياب سوداء أيضًا! قطب جبينه بدهشة ثم تسائل بتعجب: أنتِ قايمة ليه دلوقتي؟
أجابته أهلة بحماس: جاية معاك.
تشنج وجه قاسم وهو يسألها بعدم فهم: جاية معايا فين؟
ردت عليه أهلة بضجر: أنا سمعتك وأنت بتتكلم في التليفون وبتقول إن هتفجر شركة الأغذية لعيلة الأرماني النهاردة، وبصراحة أنا مش هفوت لحظة زي دي.
ابتسم قاسم ابتسامة صفراء قائلًا وهو يُربت على كتفها كطفلة صغيرة: روحي نامي يا حبيبتي الله يهديكِ وهجيبلك حاجة حلوة وأنا جاي.
ربعت أهلة زراعيها بضيق ثم أجابته بحنق: لأ مليش دعوة أنا هاجي معاك.
زفر قاسم بحنق خاصةً أنها عنيدة ومن الممكن أن تأتي خلفه إن رفض أخذها معه، وفي تلك الحالة سيكون مُعدل أذيتها أكبر بكثير، لذلك أومأ لها بيأس قائلًا وهو يسير أمامها: أمري لله وحسبي الله ونعم الوكيل، تعالي يا أخرة صبري.
سارت خلفه بإبتسامة سعيدة وهبطت خلفه بمهل حتى لا يشعر بهم أحد، وبتروٍ شديد صعدوا إلى سيارة آلبرت الذي أعطاها له ليستعيرها ثم انطلقوا مُسرعين إلى وجهتهم، وطوال الطريق كان قاسم يُلقي على مسامعها وصاياه العشرة وكأنها طفلة صغيرة يخاف من أذيتها ولو بخدشٍ بسيط:.
الكلمة اللي أقولها تتنفذ، هتفضلي قاعدة في العربية لحد ما أخلص، عندك شيكولاتة في صندوق العربية اشتريتهالك مخصوص وأنا جاي كُلي منها بس متخلصيهاش كلها، اتفرجي من بعيد وملكيش دعوة بأي حاجة تسمعيها، متفتحيش العربية لأي حد، تحافظي على هدوءك ثم هدوءك ثم هدوءك، لو كلامي متنفذش يا أهلة هساوي وشك بالأسفلت ومحدش هيحوشك من تحت إيدي.
أومأت أهلة له ببراءة زادت من ريبته، وبعد دقائق قليلة وصلوا إلى منطقة مُظلمة بعيدة، وما كاد قاسم أن يفتح الباب؛ حتى وجد الكثير والكثير من الأسلحة التي تُوجه نحو رؤوسهم من رجال مُلثمين!
حوَّل قاسم نظره ل أهلة التي تُراقب الوضع ببرود، ثم أردف بعبث: عارفة كل الكلام اللي أنا قولتهولك من شوية دا؟
أومأت له أهلة، ليُكمل قاسم حديثه قائلًا: انسيه.
لم تفهم إلى ما يرمي إليه حتى أخرج من جيب بنطاله سلاحين، أخذ واحدٌ ورمى لها الآخر، ثم ألقى لها قُبلة عابثة في الهواء أثناء حديثه الماكر: اللي يقابلك شوطيه.