قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس والعشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس والعشرون

رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الخامس والعشرون

أنا معكِ حينما تضيق الطُرق وتقسو الشوارع، أحضاني تتسع لضمكِ عزيزتي.
إن كنت تظن أنكَ نجوت؛ فأنت مُخطيء، عقلك لن يتركك تستريح، سيبدأ بشن هجومه الشنيع على أنسجتك الهادئة، ليُصبح جسدك بأكمله يقف ضد فؤادك الضعيف، فتضطر إلى الرضوخ والقسوة لتُصبِح مثلهم في النهاية، بلا رحمة!

أغلقت أهلة الهاتف مع ملك بعدما استمعت إلى تصريحها بشأن قتل أروى مساعدة ضياء والذراع الأيمن له، وضعت الهاتف ببرود على الطاولة مُجددًا ثم عادت إلى مقعدها تجلس عليه بجسد يابس هاديء وكأن شيئًا لم يكن! أرجعت رأسها للخلف وابتسامة طفيفة قد تشكلت على ثُغرها، يبدو بأنها ابتسامة شماتة! يبدو أن ضياء تأكد من صحة حديثها حول خيانة أروى له، نعم. هي المُتسببة بمقتل أروى لكن بطريقة غير مُباشرة!
ولسه.

همسة خفيفة خرجت من بين شفتيها قد تبدو هادئة لكل من يستمع إليها، لكن في الحقيقة هي تحمل بين طياتها خبث ومكر يُشبه الأفعى.

كل ذلك وكانت غافلة عن ذلك الذي يُتابعها أثناء وقوفه مُستندًا على الباب بذراعه، ضيَّق قاسم عيناه مُتعجبًا من حالتها وفرحتها بعد معرفتها بمقتل الفتاة، لقد استمع للحديث بأكمله عندما كاد أن يدلف لها ليتحدث معها قليلًا، لكن استوقفه رنين الهاتف وإجابتها عليه ثم صراخ ملك المُنصدمة من الخبر، و أهلة قابلته بكل برود وبلامبالاة!

اقترب قاسم منها وعيناه لا تتطلع سوى على وجها، جلس على المقعد الذي أمامها ثم تحدث مُخرجًا إياها من هُدنتها: شايفك مبسوطة!
اعتدلت أهلة في جلستها ثم ربعت عن ذراعيها مُجيبة إياه بصوتٍ جامد يخلو من المشاعر: أروى سكرتيرة ضياء ماتت.
ودا شيء يخليكِ مبسوطة أوي كدا؟
سألها بتعجب، لتُجيبه وهي تهز كتفها بلامبالاة: مش مبسوطة على قد ما أنا مصدومة إن الموضوع حصل بسرعة.
ضيَّق عيناه بريبة وهو يتسائل بحذر: يعني!

ابتسامة جانبية تشكلت على ثغرها أثناء قولها الحاقد: يعني أنا اللي قايلة ل ضياء عن خيانة أروى ليه، وهو اتصرف بغباء وقتلها، يعني مش ذنبي.
وفي تلك الأثناء تأكد قاسم بأن أهلة تُعاني من إضطرابات داخلية بسبب أفعالها المُريبة بعض الشيء، مما يعني وجود مرض نفسي ثالث لديها!

أغمض قاسم عيناه بقوة يُحاول تنظيم أفعاله كما طلب منه الطبيب مايكل حتى تثق به، لذلك وقف من مكانه ثم اقترب منها جاذبًا إياها من ذراعها مُقربًا إياها منه، وباليد الأخرى أبعد خصلاتها عن وجهها وهو يسألها بهمس: حاسة بإيه دلوقتي يا أهلة؟

اضطرب جسدها من إقترابه المُفاجيء، كذلك انقطعت أنفاسها بغتةً من سرعته، حاولت الإبتعاد إلا أنه أصرَّ على موقفه وشدد من الإمساك بها، ليستمع إلى صوتها المُختنق وهي تطلب منه: سيبني يا قاسم لو سمحت.
كانت عيناها تنظر لكل رُكن بالغرفة إلا وجهه، لذلك رفع يده وأمسكَ بها من وجهها ليُثبته، وبحنانٍ بالغ أعاد سؤالها مرة أخرى: جاوبيتي يا أهلة. حاسة بإيه دلوقتي؟

لن تكذب إن قالت بأنه الوحيد الذي يرى ضعفها وتستريح في وجوده، حنانه يُسحرها، وإهتمامه يُؤسرها، وهي تخاف أن تخضع فتُخذَل فتنتكس مُجددًا!
ابتلعت ريقها بصعوبة ثم خرج صوتها مُتحشرجًا وهي تُجيبه: أنا مش عارفة أنا حاسة بإيه، كل اللي حاسة بيه هو الدمار الموجود جوايا وأنا عاجزة عن فعل أي حاجة تسعدني.

أخفضت رأسها تزامنًا مع قولها الأخير، لتشعر به يرفع رأسها مُجددًا بسبابته ثم تشدق قائلًا: هصلح الخراب الموجود جواكِ، هرمم قلبك من أول وجديد.
هزت رأسها بنفي وهي تبتسم بألم: صعب.
أصرَّ بقوله عليها: بس مش مستحيل، أهلة أنا عارف إن جوازنا فترة مؤقتة، وزي ما أنتِ بتساعدني في مشواري أنا كمان هساعدك ومش هسيبك غير وأنتِ أهلة الإنسانة اللي بتحس وبتعيط وبتضحك وبتنبسط، صدقيني أنا مش هسيبك غير وأنتِ كاملة.

زفرت أهلة بقلة حيلة وهي تقول بأسى: مش هتسيبني إزاي وأنا اللي نفسي سابتني من زمان؟ أنا كل ما بقول هرجع بلاقي مية حاجة بترجعني لنقطة الصفر تاني.
اقترب منها مُغمضًا عيناه أثناء إستناده بجبينه على جبينها، ثم أردف لها بحنان: اعتبريني أنا نقطة الصفر وهوصلك لخط النهاية.

ارتجف قلب أهلة من قُربه، بل ومن حديثه، وهمسه، ومشاعره، وصوته، كل شيء به يُزيد الرجفة بجسدها، كأنه ساحر وهي الضحية! أغمضت عيناها بدورها هي الأخرى لتستلذ بوجوده، وعند تلك النُقطة ضرب بعقلها إنذارٍ بأن تبتعد على الفور، وبالفعل فعلت وعادت بقدماها إلى الخلف، ما تفعله خطأ وهي تعلم، لكنه يفرض عليها حصونه وبقوة.

نظر لها قاسم بهدوء عقب إبتعادها ولم يُعقب، هو بالأساس يعلم ما يدور بعقلها، وكيف لا وهو يشعر بما تشعر به تمامًا، وبعفوية تسائل حتى لا يُزيد من حرجها: مش جعانة؟
رفعت أنظارها إليه لتُطالعه، لتجد إبتسامة هادئة تُزين ثغره، عضت على شفتيها تُفكر في حديثه، وبمرحٍ اكتسبته منه أومأت له بالإيجاب قائلة: جعانة جدًا.
غمزها أثناء قوله المرح: يبقى يلا بينا على المطبخ.

قالها بضحك لتُشاركه هي الأخرى في ذلك وسارت بجانبه نحو المطبخ ليبدأوا بإعداد الطعام معًا كما اعتادوا في الآونة الأخيرة، هو يُجهز الطعام وهي تقف بجانبه لتتعلم منه، حتى وإن بائت جميع محاولاتها بالفشل تجد منه تشجيعًا غريبًا يُشعِرها بالإنتشاء.

اختر صُحبتك فالأصدقاءِ طريق.
كانت سهيلة تُطالع عائشة بحذر وكأنها طفلة مُذنبة تستعد للتوبيخ من والدتها، رفعت أظافرها تعض عليهم بتوتر تنتظر حديثها عقب تفجيرها لقنبلتها التي جعلت الأخرى تتصنم محلها لعدة دقائق، وبحذرٍ بالغ نادت سهيلة عليها بخفوت: سكتي ليه يا عائشة؟
رفعت عائشة أنظارها إليها وهي تبتسم إبتسامة صفراء أثناء قولها الصريح: لأ ولا حاجة يا حبيبتي، بفكر في حل للمصيبة دي.

جعدت سهيلة وجهها بسخط وهي تقول: مصيبة ليه إن شاء الله؟ وبعدين يعني ما هو أكيد فيه حل.
طالعتها عائشة بطرف عينيها قائلة بسخرية: هي حلها واحد يا حبيبتي، إن هو يأسلم وتتجوزوا، غير كدا يبقى فِركش.
لأ دوريلي على حل تاني دا صعب.

كزت عائشة على أسنانها بغيظ وهي تُوبخها: يا بنتي ركزي معايا الله يهديكِ، دي ملهاش حلول تانية، يا إما هو يأسلم وبعد يجي يتقدملك بطريقة شرعية، يا إما كل واحد يروح لحاله وملكيش دعوة بيه نهائي.

عضت سهيلة على شفتيها بتفكير قائلة بصوتٍ باكٍ: طيب وأنا هعمل إيه دلوقتي؟ صدقيني يا عائشة أنا حاولت بأكتر من طريقة إني أبعد عنه ومعلقش نفسي بيه، بس لقيتني بكون مبسوطة وفرحانة لما يكون موجود، وهو لطيف وطيب أوي بس مس.

شهقت برعب عندما وجدت يد عائشة تجذبها من ثيابها وهي تسألها بفحيح: أنتِ قولتي إيه؟ طيب ولطيف؟ يعني أنتِ بتتكلمي معاه عادي كدا؟ يعني سامحة لنفسك تعملي حاجة حرام وتكلميه ومش عايزة حياتك تكون بايظة؟
ابتلعت سهيلة ريقها بتوتر وهي تُجيبها: يا بنتي هو أنتِ بتتحولي ليه طيب؟ ما إحنا كنا ماشيين كويس من شوية والدنيا كانت فُل.
لم تهتم عائشة لحديثها، بل أردفت بقولها: ملكيش دعوة بيا وجاوبي على سؤالي.

بصراحة هو صاحب أخويا وبشوفه كتير، أوقات بنتكلم سوا، بس والله كل كلامنا يا إما بيقولي عايز آكل، يا إما بيعزمني على أكل، يا إما مبيكونش فاضي عشان بياكل.
أردفت بجُملتها الأولى بهدوء، وبعدها تشدقت بباقي حديثها بسرعة عندما وجدت عينيّ عائشة تحتد بغضب، تركتها عائشة وعادت للخلف مُجددًا وهي تقول بتفكير:.

بصي إحنا نركن الموضوع دا على جنب دلوقتي لحد ما أفكر في حل يرضي الطرفين، بس اللي عايزاكِ تعمليه إنك تبعدي عن طريق الولد دا خالص ولا حتى تكلميه عشان حرام، خليكِ غالية وإعملي لنفسك قيمة وابعدي عن سِكته نهائي، هتتضايقي شوية وشيطانك هيبدأ يوسوسلك بحاجات ملهاش لازمة بس هتكسبي آخرتك.

أومأت لها سهيلة بتفكير أثناء زفرتها الحزينة لوقوعها في مثل تلك المُشكلات، لتُخرجها عائشة من ضيقها بقولها المُمازح تخفيفًا لحزنها: ما شاء الله عليكِ يا سهيلة، كل شوية في مصيبة ولا أجمل.
لوت سهيلة شفتيها بسخط قائلة بنبرة مُضحكة: تحسيني مغناطيس للمصايب.

قهقهت عائشة عاليًا، لكنها سيطرت على ذاتها بسرعة حتى لا تُزعج أحد من الجالسين وخاصةً بأنهم في المسجد، وضعت يدها على فمها قائلة بصوتٍ مُختنق ضاحك: طيب يلا قومي عشان الأبلة مريم جَت وهنبدأ الدرس.
هزت سهيلة رأسها بضحك ثم وقفت معها لتتجه حيث تجلس مُعلمتهم الجليلة مريم، وكم كانوا مُتحمسون لمعرفة موضوع الدرس الذي ستبدأ بالحديث عنه.

المكانُ مليءٌ بالأسلحة، والأعيُن تنطق بالتحدي، والجسد يتأهب للقتالِ، ومن بين كل هذا كان يحيى يختبيء خلف أحد الأعمدة وبجانبه يمنى التي تُراقبه بتشنج.
دفعته يمنى بعيدًا وهي تُوبخه بصوتٍ خافت حتى لا يستمع إليهم أحد: ما تروح تتخانق معاهم يا يحيى!

حوَّل يحيى نظراته من على الرجال ليُثبتها عليها، ليرى نظراتها المُمتعضة له، دفعها من وجهها بعيدًا عنه وهو يردف بتشنج: ابعدي عن وشي يا بومة يا وِش المصايب أنتِ، يعني مش كفاية إن أنتِ السبب في اللي إحنا فيه دا؟ لأ كمان بتتعصبي عليا ولا كأني شغال عندك، بجاحة.
قطبت حاجبيها بمقط، ثم اقتربت لتختبيء بجانبه حتى لا تطولها إحدى الرصاصات الطائشة، وبخبثٍ شديد أردفت: كنت مفكراك راجل شجاع وبتاع، طلعت...

تركت جُملتها الأخيرة مُعلقة بحبال من الكلمات الواهية، لتجده قد هبَّ من مكانه قائلًا بنبرة سوقية مُتشنجة: لأ حوشي يا بت الشجاعة اللي بتنقط منك، وبعدين يا غبية أنا قاعد جنبك علشان أحميكِ منهم مش عشان خايف.
رفعت جانب شفتيها بإستنكار وهي تقول بمسكنة مُصطنعة: شوف إزاي؟ وأنا اللي كنت ظالماك!

نفضَّ يحيى الغبار المُلتصق بثيابه بتكبر أثناء إمساكه للمعطف الخاص ب آلبرت، ثم وبشجاعة عالية أردف بقوة: شوفيني بقى وأنا بقتلهم وهما بيترجوني عشان أسيبهم.

قال جُملته ثم خرج من خلف العمود المُختبيء به ليتجه إليهم ويُقاتل، لكن ما إن خرج من مخبأه؛ حتى استمع إلى صوت الرصاصات التي بدأت تنهال على رؤوس الجميع، ليصرخ بفزع ويُولول كالنساء قبل أن يعود لمكانه مُجددًا بجانب يمنى التي لم تمنع نفسها من الضحك الهستيري على مظهره المُثير للشفقة، خاصةً عند تعرقله بأحد الأحجار أثناء عودته لها ليقع على وجهه في حينها، ومن فزعه وقف مرة أخرى على ركبتيه واختصر الطريق سيرًا عليهما بدلًا من الوقوف على أقدامه.

أسندته يمنى عندما وصل إليها بضحكات عالية اختفى أثرها بسبب صوت الطلقات العالية، بينما هو كان العرق يتصبب من جبينه بفزع عندما أوشكت إحدى الرصاصات أن تستقر في رأسه، وضع يده على قلبه ليشعر بمضخات تطرق أسفلها، فتح فمه ليتحدث؛ لكنه توقف عن الحديث عندما وجدها مُندمجة في الضحك، حتى أن عيناها قد أدمعت ومشهد سقوطه أمام عيناها لا يذهب عن بالها.

تشنج وجهه بسخط وبغضب دفعها للخلف لتجلس مكانها، نظر يحيى حوله يُحاول الوصول إلى مخرج قبل أن ينالوا مصرعهم وهم جالسون هُنا، لكن كل هذا تبدد عندما تذكر المعطف الخاص ب آلبرت والذي أسقطه حين هرولته!
ابتلع ريقه برعب وهو يهمس لذاته ببكاء: يا مصيبتي عليك يا يحيى؟ يعني كدا ميت وكدا ميت، حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ يا يمنى وعلى معرفتك الهباب.

أنهى تمتمته ثم تسلل بتحفذ وبعدها انتشل المعطف الذي تلوث بالتراب بأكمله من على الأرضية المليئة بالغبار وعاد لمكانه بسرعة مرة أخرى، رفع المعطف أمام عيناه ليجد به بقعة كبيرة مُلطخة بالشحم الموجود بالمخزن، لذلك لطم على وجهه بفزع قائلًا: وقعت في إيد اللي مبيرحمش يا يحيى.

كتمت يمنى ضحكاتها التي كادت أن تعلو مُجددًا، ثم اقتربت منه واضعة يدها فوق كتفه تقول بمواساة مُصطنعة: خلاص متزعلش نفسك يا يحيى، أهي علقة تفوت ولا حد يموت، صح ولا إيه؟
استدار لها بحدة ثم رفع سبابته أمام وجهها وهو يقول لها بتحذير: بقولك إيه يا بت أنتِ، أنا آه بحبك وبموت فيكِ وعندي إستعداد أحارب العالم كله عشانك، لكن وشي العسل الوسيم لو جراله حاجة أنا هروح فيكِ في داهية.

تجاهلت بقية حديثه وركزت مع جُملته الأولى، وبأعين مُلتمعة أردفت بحب وهي تتسائل بتمني: بجد يا يحيى عندك إستعداد تحارب علشاني؟
وإن كان يشعر بالغضب منذ قليل، فحديثها اللين ونبرتها المُتأثرة بددت كل هذا في ثانية وأقل، هو يعشق مُشاكستها ويعشقها هي شخصيًا، أمسك بكف يدها يضغط عليه بقوة وكأنه يستمد قوته منها: وأحارب نفسي كمان يا يمنى بس أنتِ تكوني مبسوطة.

اتسعت ابتسامتها على آخرها من جمال حديثه ولطافته، وإن كان يوجد ما يستحق المُحاربة والإكمال؛ فهو الوحيد الذي يستحق، مع شقيقاتها بالطبع.

ومن بين تلك المشاعر الدافئة المُتبادلة بينهما، نسوا الشيء الأهم، نسوا العادات والتقاليد، نسوا الدين والآخرة، وجعلوا الشيطان يتحكم في مصيرهم، هم لم يفعلوا كبيرةً، تلك المُلامسات الكثيرة التي تحدث بينهم دون وجود أي رابط شرعي يجمعهم ذنبها كبير وآثامها عظيمة، وإن نسوا واجبهم نحو خالقهم، فالمولى لن ينسى!

وعلى الجانب الآخر، توقفت الطلقات وعمَّ الصمت المكان، قطب كلاهما جبينهما بتعجب، وبحذر شديد مدَّ يحيى رأسه ليرى الوضع الصامت، ليجد رجال صادق متمددين على الأرض وتُحيطهم الدماء من كل جانب، وكأنهم وقعوا في بركة مليئة بالأسماء المُفترسة التي نهشت لحومهم أحياءً، وأمامهم يقف آلبرت وأشقائه خلفه في مظهر مُهيب قابض للأنفسِ، و صادق يجلس على رُكبتيه يُطالعهم برعبٍ تملك من أوردته.

خرج كُلًا من يحيى ويمنى من مخبأهم وذهبا إليهم، اقترب يحيى من آلبرت يحتضنه بسعادة بالغة وهو يُردد: تسلم إيدك وعهد الله، على فكرة أنا كنت هخرج أحارب معاكم بس هي اللي منعتني، بس تتعوض بقى.
أبعده آلبرت عن جسده بحنق ثم مدَّ يده إليه قائلًا بسخط وهو يُنفض الغبار عن ثيابه: أعطني معطفي.

تيبس جسد يحيى عندما استمع لطلبه الطبيعي للغاية، مُبتعدًا عنه أثناء إبتلاعه لريقه بتوتر، وبحذر بالغ مدَّ يده بالمعطف على الجهة النظيفة حتى لا يراه، لكن آلبرت استشف خوفه من ردات فعله الحمقاء، لذلك نفض عن ثيابه ناظرًا للمعطف بترقب، ولسوءِ حظ الآخر التقطت عيناه تلك البُقعة المُلوثة على معطفه الجديد.

احتدت عينيّ آلبرت بغضب وما هي إلا وثوانٍ وكان يرمي المعطف على الأرض بحدة، تلاه إمساكه ب بحيى من تلابيبه بعنف، ثم سدد له لكمة قوية استقرت على وجهه تبعه صراخه الغاضب به قائلًا: أيها الأرعن قُلت لكَ حافظ عليه وإلا قتلتك.
وضع يحيى يده على وجهه، وبغضبٍ مُماثل له دفعه بعيدًا ثم سدد له لكمة عنيفة تُماثل خاصته!

وعقب تهوره وإنفعاله، استمع إلى شهقات مُنصدمة كان مصدرها أخوات آلبرت الذين يُطالعونه بعدم تصديق، ليصعد صوت ليونيد القائل بشفقة: ذلك الشاب كان مسكينًا، سأشتاق له حقًا.
أكد آندريه على حديثه والذي أردف بتعاطف وهو يُشير ل يمنى الهائمة: وتلك الفتاة ستخسر حبيبها قبل أن تتزوجه، يالا سوء حظها.
بينما ارتسمت ابتسامة واسعة على ثُغر ستي ن الذي تدخل في الحديث قائلًا بعبث: سأتولى أنا أمر الفتاة لا تخافا.

بينما آلبرت كانت عيناه تسوَّد بغضب جامح عقب لكمة يحيى الغير مُتوقعة له، وعلى حينِ غُرة ارتمست ابتسامة عابثة على شفتيه قبل أن يهمس بوعيد: نهايتك على يدي يا حقير.
نطق بها ثم وبنفس السلاح الذي يُمسكه قام بإدارته حول إصبعه ووجهه عدة مراتٍ ببراعة، ثم وجهه إليه قائلًا بشر: تمنى أمنية أخيرة قبل رحيلك.

ارتسمت ابتسامة متوترة على ثُغر يحيى والذي أدرك المأزق الذي رمى نفسه فيه، لذلك ابتسم ببلاهة قائلًا: ه. في إيه يا أبو نسب دا أنا كنت بهزر معاك!

ابتسامة مخيفة تشكلت على ثُغر آلبرت قبل أن يسحب بجمود زناد سلاحه، لكن ما حدث بعد ذلك كان غير متوقعًا بالمرة، حيث تحركت يمنى من مكانها واتجهت نحو ليونيد الذي يقف على مسافة قريبة منها نسبيًا، لتنتشل سلاحه بسرعة ثم ابتعدت عنه مُجددًا ووجهته نحو رأس صادق الذي يرتعش من الخوف، مُطالعة إياه بأعيُن حاقدة ونفسٍ تُصر على الإنتقام!

اعترض ليونيد بصراخ ينهرها: هييييي يا فتاة أعطيني سلاحي أيتها السارقة، لقد كان هدية من حبيبتي السابقة.
سخر آندريه قائلًا: أتقصد حبيبتك التي ماتت في ليلة زفافكما؟ تلك العجوز التي تبلغ من العُمر التسعون عامًا تُسميها حبيبتك؟
ضربه ليونيد في جانبه بقسوة صائحًا به بغضب: لا تتحدث عنها بتلك الطريقة البشعة أيها القاسي.

شددت يمنى بإمساكها على السلاح وبداخل صدرها النيران تشتعل أكثر، وكأن الزمان يدور لتُصبح هي الجانية وهو المجني عليه! استمعت بعدها إلى صوت يحيى المُنصدم وهو يتسائل بعدم تصديق: بتعملي إيه يا يمنى؟ إيه الجنان دا هاتي الزفت دا من إيدك متوديش نفسك في داهية.

امتلأت عينيّ يمنى بالدموع الكثيفة وهي تُطالعه بسخرية، ثم تشدقت بقسوة عندما لاحظت تقدمه منها: خليك عندك يا يحيى أحسنلك، أنا مش همشي من هنا النهاردة غير لما أجيب حق أبويا اللي في نايم في تُربته.

تيبست قدم يحيى مكانها عندما رأى إصرارها على قتل صادق الذي يرتعش أسفل أقدامهم، وذلك بعد أن أصابته طلقة طائشة في قدمه من سلاح آلبرت عند محاولته للهرب، رفع يحيى يديه دلالة على الإستسلام، وبعدها تشدق بخوف قائلًا: طيب إهدي واسمعيني، أنتِ كدا هتدمري حياتك بإيدك بسبب واحد ميستاهلش.
هزت رأسها بعنف وأنظارها مُثبتة بحقد فوق صادق، فصاحت صارخة وهي تُشير بالسلاح تجاهه:.

علي أساس إن حياتي متدمرتش قبل كدا وأنا بشوف أبويا بيتقتل قدام عنيا؟ اتيتمت واتعذبت وأنا لسه طفلة مكملتش ال14 سنة بسبب واحد حقير زي دا؟ ذنبه إيه أبويا يتقتل علشان رفض يشارك في وساختهم؟ كان عايزة يربينا وهما قتلوه بدم بارد وصوته وهو بيترجاهم يسيبوه مبيروحش عن بالي، أنا اتدمرت نفسيًا وجسديًا ولسه متعافتش من العذاب، طول عمري مستنية اللحظة اللي آخد حق أبويا بإيدي، مش بعد ما جاتلي الفرصة هسيبها تروح مني كدا.

كانت تصرخ به ودموعها تهبط بعنف على وجهها، هي تُشبه الطائر الجريح، وهُم مَن جرحوها واستنزفوا قواها وطاقتها، كان فؤاد يحيى يتألم قبلها، يُطالع حُزنها وكأنه يقبع بقلبه هو ليس بها، خرج صوته وهو يسألها بتألم قائلًا: وأنتِ لما تقتليه هتفرقي عنه في إيه؟

رفعت أنظارها إليه عقب سؤاله، لتُجيبه بصوتٍ مُتحشرج تقول: هكون أنا صاحبة الحق، الحق اللي القانون رفض ياخده عشان البيه عنده ضهر يتحامى بيه، وإحنا الغلابة بيتداس علينا بالجذم وحقنا ممنوع إننا نطلبه.
صمت يحيى ولم يتحدث بكلمة واحدة، يبدو أن حديثها أصاب نقطة سوداء في أعماقه كان يُحاول دفنها سابقًا! لكن مع تصريحها قامت بري زَرعة ذلك الجانب المُظلم مُتسببة في نموه مُجددًا!

مسحت يمنى أهدابها بعدما سحبت نفسًا عميقًا من داخلها، وتلك المرة لم يتحدث يحيى، بل آلبرت هو مَن قام بدوره عندما لاحظ صمته الغريب عليه قائلًا بهدوء ظاهري: حسنًا فلتقتليه الآن لِمَ تنتظري؟
هقتله.
قالتها يمنى بإصرار وبعدها أطلقت عليه بالفعل!

ولحُسن حظها قام ستي ن بالتسلل من خلفها ورفع يدها المُمسكة بالسلاح، لكن أصابت كتف صادق، صرخت يمنى بهستيريا تُحاول الفكاك من بين يديه، فتقدم ليونيد من أخيه ليُساعده في إنتشال مسدسه من يدِ يمنى حتى لا يُصاب أحد نتيجة لجنونها.

هرول إليها يحيى بعدما استفاق من غيبوبته المؤقتة، ثم حاول الإمساك بها وهي التي تصرخ بين أيديهم تُحاول الفكاك منهم لقتل صادق، هذا الحقير الذي تسبب في كل ما وصلت إليه وما أصاب عائلتها، كتفها من الخلف وظل يُردد بأُذنها كلمات مُهدئة لها، احتضنها من الخلف فجلست وهي تصرخ بإنهيار بأن يتركوها، لكن بالطبع لن يتركها لتودي بحياتها.

قام آندريه بجذب صادق الذي يصرخ بين يديه من الألم، بينما كُلًا من ستيفن وليونيد قاموا بجذب الجُثث بعيدًا ليُخرجوها عن مرمى بصر يمنى، و آلبرت استدار ل يحيى وأردف بهدوء: سأنتظرك بالخارج لحين تنتهي.

أومأ له يحيى بإمتنان، وظل هو يُهدهد يمنى كالطفلة الصغيرة، بكلماته اللطيفة وحديثه المُبهم، وكأنه يُربت على وجعها وآلامها، وبعد ما يقرب النصف ساعة؛ هدأت يمنى كليًا لكنها شعرت بالدوار الشديد يجتاح رأسها، لذلك وقف يحيى ثم أوقفها معه بصعوبة بالغة، لذلك قام بحملها واتجه بها نحو الخارج، وصل إلى سيارة آلبرت التي تنتظره على بُعد مناسب من الشركة، ثم وضعها بداخلها دون أن يتحدث.

أغلق باب السيارة عليها، ثم استدار للجهة الأخرى حتى يصعد بجانبها، لكن قبل أن يستقل للسيارة وضع يده على جيب بنطاله من الخارج، وبعدها ضرب على رأسه بتذكر قائلًا بإمتعاض: ياربي التليفون وقع مني جوا.
قالها بهمس، فاستدار ل آلبرت يقول له على عجالة: معلش يا آلبرت خمس دقايق هدخل أجيب التليفون من جوا وهاجي على طول.

أومأ له آلبرت بالإيجاب، فأسرع يحيى بخطواته نحو الداخل، وبمكرٍ أخرج هاتفه من جيب بنطاله ثم طلب أحد الأرقام وانتظر قليلًا حتى أتاه الرد من على الجانب الآخر، وبهدوء شديد أردف: أيوا يا مختار بيه؟ نفذت كل اللي حضرتك طلبته مني بالحرف الواحد.

يا بنتي لِفي المحشي زي الناس إيه العَك دا؟
صاح قاسم بسخط وهو يرى أهلة تقوم بلف (المحشي) بطريقة مُعاقة كما يقول، زفرت أهلة بنفاذ صبر، ثم نظرت إليه برجاء قائلة: طيب بُص. إعمل قُدامي كمان واحدة وأنا أوعدك إني هعملها حلو المرادي.
إما نشوف.
قالها ثم بدأ بوضع ورقة من الملفوف على يده، وباليد الأخرى أمسك بالقليل من الأرز، ثم وبكلتا يديه قام بلف ورق العنب بمهارة أتقنها منذ عدة سنوات.

بينما كانت أهلة تُتابعه بفمٍ مفتوح لتُركز أكثر على حركات يديه، وكأنها بتلك الطريقة تُولي إهتمامًا زائدًا له! أنهى قاسم لف ورقة الملفوف صم وضعها بالطنجرة ليرصها بجانب الأخريات، وبعدها نظر ل أهلة يسألها بترقب: ها اتعلمتي؟
خرجت أهلة من انتباهها الزائد وهي تُحمحم بقلق أثناء إجابته: طبعًا اتعلمت وهعرف أعملها حالًا.
قالتها ببعضِ التوتر، فمد قاسم يده بورقة من الملفوف قائلًا بسماجة: طب وريني يا سُكر.

رفعت أهلة حاجبها عندما استشعرت السخرية في نبرته، فصاحت به مُستنكرة: لأ بقولك إيه أنا مبحبش حد يتريق على شُغلي.
أشار قاسم لنفسه بصدمة مُصطنعة قائلًا: أنا يا بنتي بتريق عليكِ؟ واللهِ عيب قِلة الثقة اللي ما بينا دي.

انتشلت أهلة ورقة الملفوف من بين يديه، ثم بدأت بتقليده كما فعل مُسبقًا، لكن النتيجة النهائية كانت محسومة بالفشل! نكزها قاسم في ذراعها وهو يكز على شفتيه بغيظ: يا حبيبتي ركزي الله يسترك، أنتِ ليه مخلية ورقة العنب مُعاقة كدا؟
رمت أهلة ورقة الملفوف على الطاولة بحنق، ثم دفعته من كتفه كما فعل معها أثناء قولها الحانق: طيب متزوقش.
دفعها هو الآخر بضجر: متمديش إيدك أنتِ كمان.

ضربت أهلة كف يده وهي تصرخ به: متزوقش بقولك بدل ما أتغابى عليك!
أمسك قاسم بيدها التي ضربته بها ثم دفعها بعيدًا حتى كادت أهلة أن تقع من على مقعد الطاولة قائلًا: تتغابي على مين يا بت أنتِ! أنتِ نسيتي نفسك ولا إيه!

اغتاظت أهلة من تطاوله عليها فوقفت من مكانها وعلى حين غُرة كانت تُمسك برأسه لتُجذب خصلاته، لكنه أدرك الوضع وأمسك بيدها قبل أن تطاله، ولسوء حظهم إختال توازنهم ووقع كلاهما على الأرض وبجانبهم وقع الأرز بعدما اصطدمت به يد أهلة.
شهق قاسم بفزع عندما رأى حُبيبات الأرز مُتناثرة أمام عيناه، فصرخ قائلًا بحسرة: عجبك كدا يا اللي منك لله!

هبت أهلة من مكانها وهي تجذبه من ثيابه تلك المرة: لأ بقولك إيه أنا سكتلك كتير النهاردة، تعالالي بقى.
أنهت حديثها ثم انقضت عليه تُحاول إلحاق الأذى بوجهه، بينما هو تمكن منها وذلك بسبب بنيته القوية وثبتها فوقه مُردفًا بنهيج: أنتِ بني آدمة خمامة على فكرة وهتتعبيني معاكِ.

كان صدرها يعلو ويهبط من هول المجهود الذي فعلته أثناء هجومها عليه، حاولت القيام من فوقه لكنه كان يُثبت جسدها حتى لا تتحرك، لذلك ردت عليه بغيظ: أنت اللي رخم ومش بتعرف تعلمني حاجة.
سألها ساخرًا أثناء إمساكه بيدها: عشان مش عشان أنتِ غبية؟
نفت قائلة: لأ عشان أنت اللي مش عارف تعلمني.

قلب الوضع الذي كانا به، فأصبح هو فوقها وهي أسفله وسألها بخبث: طيب هناكل إيه دلوقتي! الرُز ووقع على الأرض، وورق العنب وحضرتك بوظتيه، يبقى هناكل إيه؟
هزت كتفها بلامبالاة وهي تتلوى بين يديه: وأنا مالي ما تسأل نفسك، مش أنت السبب!
فرغ فاهه بصدمة وهو يتسائل بعدم تصديق: مين السبب معلش!
ظلت على رأيها وهي تُجيبه: أنت السبب يا عنيا أنا مليش دعوة، ولو سمحت سيبني بقى خليني أقوم.

قرَّب وجهه منها وبمكر تسائل: طيب بذمتك ينفع أسيبك تقومي عادي كدا؟
قطبت جبينها بتعجب وهي تقول: مش فاهمة!
اقترب أكثر حتى بات وجهه مُلتصقًا بخدها، وبخفة قام بتقبيل وجنتها المُنتفخة بقُبلة رقيقة صنمتها مكانها، تبعه قوله الهامس: يعني مثلًا بوسة من هنا، وبوسة من الناحية التانية.

والجُملة الأخرى أنهاها وهو يطبع قُبلة ثانية على الخَد الآخر، لم يُعير لحالتها المُنصهرة أي إهتمام، بل أكمل حديثه بإبتسامة ساحرة: ومع كل أكلة هتبوظيها هيبقى عليها بوستين.
دفعته أهلة بعيدًا عنها، ثم توقفت من مكانها وعادت بقدماها حتى التصقت بحائط المطبخ، واضعة كلتا يديها على خديها وهي تقول بصدمة: آه يا سافل يا قليل الأدب يا مُستغل!

أدار قاسم وجهه للناحية الأخرى وكأنه يحك عنقه حتى لا ترى ابتسامته الواسعة التي كادت أن تتحول لضحكات عالية بسبب ردة فعلها البلهاء بالنسبة له، وبعدما تحكم بذاته أدار وجهه مرة أخرى لها ليتحدث بجدية واهية:
كُل دا عشان بوستك بوستين! دا أنتِ قلبك قاسي أوي يا هولا.
انتفض فزعًا عندما صرخت به فجأة قائلة: قاسم أنت قليل الأدب.

قالتها ثم هرعت من أمامه مُهرولة من الخجل، بينما هو وضع يده موضع قلبه بفزع قائلًا بصدمة غريبة: إخص! بقى أنا قليل الأدب!

هل لي من مناجي يُناديني يوم الحَشرِ للجنةِ؟ هل لي من شافعٍ يُدرك طريقي ومقصدي؟ أتيتُكَ يا خالقي باكيًا لأشكو، من ضيقِ الدنيا وأطلب حُسن الخاتمةِ.
تجمعت الفتيات حول مريم كعادتهم، وكالعادة وجهَّت مريم للجميع ابتسامة خفيفة، وببشاشة بدأت حديثها قائلة بصوتٍ مُتأثر:
النهاردة موضوع الدرس هيبقى جميل أوي، هنتكلم النهاردة عن التوبة.

ابتسم الجميع بإتساع خاصةً سهيلة التي كانت شغوفة للإستماع، وبتلك المرة كانت تُنصت لها بقلبها لا بأُذنها، بدأت مريم حديثها بقولها لكتابِ الله العزيز:
ربنا بيقول في كتابه العزيز، بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .

لما تعمل الذنب وتستغفر وتتوب، تأكد مليون في المية إن ربنا سبحانه وتعالى تقبل توبتك، لأن ربنا هو اللي ألهمك للتوبة، أوقات كتير بنحس إن لأ ربنا مغفرش ليا ذنبي، لأ أنا ذنبي عظيم ومش سهل ربنا يتقبل دُعائي، لأ أنا كدا مُنافق مينفعش أصلي وربنا غضبان عليا، بس دي مش بتكون سوى وساوس من الشيطان، الشيطان بيتشكل ليك على هيئة أفكار وصراعات بتحصل جوا عقلك، الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، واللهُ يعدكم مغفرةً منه وفضلًا، يعني ربنا بيقول استغفرني أغفر لك، ملكش دعوة بأي حاجة تيجي في دماغك بعد كدا، ما عليك سوى التوبة لله عز وجل.

صمتت مريم قليلًا تلتقط أنفاسها، فقاطعتها سهيلة وهي تسألها بتوتر: حتى لو كان الذنب اللي عملته من الكبائر! ربنا فعلًا هيتقبل مني توبتي ولا هيرزقني بمصايب وابتلاءات عشان أكفَّر عن ذنبي؟

نال سؤالها استحسان مريم، لذلك أجابتها مُبتسمة: خلينا متفقين إن الإبتلاءات دي بتكون رِزق من عند ربنا، الإنسان بيُكافأ على حسب صبره على الشدائد والإبتلاءات، المولى عز وجل بيختبر عباده الصالحين وبيشوف مدى تحملهم وصبرهم على المصائب، فيه ناس ربنا بيبتليها عشان ترجعله من تاني، عشان لما تفكر ترجع للذنب من تاني تفكر في عواقبه والنتائج المُترتبة عليه، فيه جُملة جميلة جدًا بتقول لو رأيتم الغيب لأخترتم الواقع، والجُملة دي أنا مُقتنعة بيها جدًا، لإن ربنا مش بيختار لعباده غير الصواب، خلي الدنيا دايمًا آخر همك، انشغلي بمصحفك، بصلاتك، بأذكارك، بعبادتك، حَسَّني علاقتك بربنا، خليكِ مُستعدة لأي وقت روحك هتقبض فيه، توبي وإرجعي، إحنا جايين هنا ضيوف وهنمشي تاني، هنمشي للأبد لمكان أحسن بكتير، والمكان دا أنتِ اللي هتحدديه بإيدك، إختاري صح وسيبي الباقي على ربنا.

كانت سهيلة تستمع إليها بإنصات شديد، حتى أن عيناها أدمعت من فرط الجمال الذي تسمعه، هناك الكثير من الأشياء يجب عليها تغييرها بشخصيتها، ومن هُنا قررت البدء بأول خطوة ستُغير حياتها للأفضل، وهي إرتدائها للحجاب.
انتهى الدرس بعد أن قضوا به نصف ساعة تقريبًا، لتخرج سهيلة ومعها عائشة التي احتضنتها بود قبل أن تقول بأسفٍ: هتوحشيني يا سهيلة أوي، هضطر أمشي بقى عشان محاضراتي هتبدأ بعد خمس دقايق.

بادلتها سهيلة العناق ثم أردفت بحب: ولا يهمك يا حبيبتي، تتعوض إن شاء الله ونتقابل يوم السبت تاني.
إن شاء الله.
قالتها عائشة بإبتسامة لطيفة، قبل أن تتركها وتذهب مُسرعة نحو مُحاضرتها حتى لا تتأخر، في تلك الأثناء كانت الساعة الحادية عشر تقريبًا؛ وهو موعد المحاضرة الثالثة لديها، لذلك قررت الذهاب إليها لتحضرها.

كانت تُمسك بحقيبتها ترتديها على كتفها، استمعت لصوت رنين هاتفها فأخرجته لتجد اسم المتصل يُزين شاشة هاتفها، والذي لم يكن سوى فور؟ شردت سهيلة قليلًا تُفكر في الإجابة عليه أم تجاهله! وبعد وقت من التفكير قررت إغلاق هاتفها حتى لا تقع بالذنب مرة أخرى.

شهقت بفزع عندما شعرت بأجسادٍ ضخمة تقطع طريقها، رفعت عيناها لتجد أن الذي أمامها لم يكن سوى ماجد وأصدقائه، وبالطبع يُرافقونهم كُلًا من ساندي ومنه، تلك الأفعتان اللتان سبحوها لمستنقع مليء بالأوساخ، تنغض جبينها بضيق عندما رأتهم يقفون أمامها، وبقوة غير معهودة تسائلت بحدة: أفندم؟ عايزين إيه؟
حاولت منه أن تتصنع خوفها عليها وهي تقترب منها لإحتضانها أثناء قولها: فينك يا سو مختفية فين! وحشتينا أوي.

دفعتها سهيلة بعيدًا عنها بإشمئزاز وهي تنهرها بحدة: وحشك قطر يا حبيبتي، اعتبروا علاقتي بيكم لحد هنا وخلاص خِلصت، بَح.
صعد صوت أمجد يسألها بعدم فهم: يعني إيه خلاص!
تخصرت سهيلة في مكانها وبحقد واضح على نبرتها أردفت بسخط: يعني اللي فهمته يا عين أمك، ووشوشكم العِكرة دي مش عايزة أشوفها في أي مكان أنا فيه تاني، علشان بعيد عنكم بقيت بقرف من الزفارة.

رمت كلماتها المُهينة لهم، ثم استدارت وخطت عِدة خطوات مُبتعدة عنهم، لكنها شهقت بفزع عندما شعرت بيد صلبة تُمسك بها من كفها تمنعها من إستكمال طريقها، تلاه صوت أمجد الخبيث قائلًا: على فين يا حلوة! وأنتِ مفكرة دخول الحمام زي خروجه ولا إيه!
انقبض قلب سهيلة من نبرته الخبيثة، فحاولت سحب يدها من بين كفه لكنها لم تستطيع، لذلك صرخت به وهي تدفعه من كتفه بقوة: أنت اتجننت! سيب إيدي يا حيوان.

وما إن أنهت سبَّتها؛ وجدت كفه يلتطم بوجهها بقوة أدت إلى تخديله، استغل ضعفها وسحبها خلفه، لكنها قاومت بكل قوتها وحاولت سحب كفها منه مما أشعل فتيل الغضب بفؤاده، رفع كفه مرة أخرى في نية لضربها، لكنه وجد يد غليظة تمنعه من ذلك، تبعه همسه بفحيح:
فلتُقيم الأفراح، يدك ستُقطع اليوم.

وما إن انتهى فور من جُملته؛ حتى قام بثني ذراع أمجد ثم ضربها بركبتيه ليستمع الجميع بعدها لصوت تكسير عظام ذراع أمجد الذي يُولول كالنساء!

هولا. هلاهيلو. لولي. بت يا أهلة افتحي الباب دا.
هكذا أردف قاسم الذي يطرق على باب الغرفة التي أغلقتها أهلة خلفها بعدما هرولت من أمامه غاضبة، استمع بعدها لصوت أهلة الحانق بغضب وهي تصرخ به: لأ مش فاتحة يعني مش فاتحة، وحدودك أنا هعرفهالك كويس يا قليل الأدب.
مطَّ قاسم شفتيه بسخط وهو يرد عليها حانقًا: وهو أنا يعني عملت حاجة غلط ولا حرام؟ يا بت دا أنتِ مراتي، مش بدل ما أخرج أنحرف برا؟

أتاه صوت أهلة تهدر بغضب: ما تبُص ياخويا وهو حد قالك لأ؟
ردد قاسم جُملتها بتعجب، وبعدها أردف يهمس ببلاهة: أبُص؟ دا أنتِ لُقطة.
حمحم بجدية قائلًا وهو يطرق على الباب بإلحاح قائلًا: طيب افتحي والله عايز أقولك حاجة مهمة.
ظلت أهلة على رأيها مُجيبة إياه بعناد: مش فاتحة برضه ها.
تأفف قاسم بنفاذ صبر: يا بنتي والله عايز منك حاجة مهمة وبعد كدا اقفلي على نفسك للصبح.

استشعرت أهلة الجدية في صوته، لذلك وقفت من على الفراش مُتجهة ناحية الباب، ثم أخذت نفسًا عميقًا لضبط توترها والتخفيف من خجلها، وبعدها فتحت الباب بتروٍ لتجده يستند على إطاره من الخارج مُردفًا وهو يغمز لها بمزاح: إيه يا عم التقيل هنفضل مستنينك كتير؟
قطبت أهلة جبينها وهي تُشير إليه بحنق: شوفت!

اعتدل قاسم في وقفته ثم حمحم بجدية مُزيحًا إياها من طريقه بوقاحة، ليُردد بعدها قائلًا بعدما جلس على الفراش الذي كانت تجلس عليه منذ قليل: إزيك يا أستاذة أهلة إيه الأخبار؟
ربعت أهلة عن ذراعيها وهي تنظر له بحاجبين معقودين وكأنها تقول له حقًا؟، ليضحك قاسم ضحكة عالية وهو يُشير لها بالتقدم قائلًا: خلاص خلاص تعالي متبقيش قموصة كدا.

اقتربت منه أهلة حتى جلست بعيدًا عنه على حافة الفراش، ليبدأ هو بالتحدث بصوتٍ جادٍ للغاية: طبعًا إحنا كلها يومين وهنسافر روسيا، بس قبل ما نسافر عايز أدي الضربة القاضية لعيلة الأرماني، وبما إنك لسه مقدمتيش استقالتك في الجريدة عايز منك تظبطيلي الخبر على المقاس المظبوط بالمللي، مش عايز حد يشك في حاجة وإن اللي هيحصل بفعل فاعل.
تسائلت أهلة بحذر وأعيُن ضيقة: وإيه اللي هيحصل.
تفجير شركات الأرماني للسياحة.

قالها بتلذذ وبطئ شديد، لتتعجب أهلة من خطته تلك والتي لا قيمة لها من الأساس، بالنسبة إليها، قرأ قاسم علامات التعجب الواضحة على وجهها ليقول بإبتسامة جانبية: إلا هو أنا مقولتلكيش!
سخرت أهلة قائلة: لأ للأسف محصليش الشرف لسه.

ليأتيها جواب قاسم الصادم بقوله: مش عيلة الأرماني طِلعت بتتاجر في الأثار كمان! لأ وعندها شركة وهمية بإسم مُستعار علشان ميتكشفوش، لأ وخدي الكبيرة بقى، يحيى خاين وبيشتغل لصالح مختار الأرماني ومغفلنا كلنا.
فتحت أهلة فاهها بصدمة قائلة بعدم تصديق: إيه! يحيى خاين؟ مستحيل الكلام دا.
زفر قاسم بضيق ثم أردف قائلًا: بصي هو موضوع كبير عرفته وهبقى أفهمهولك بعدين، بس المهم عايزك تكتبيلي خبر كويس.

أومأت له بشرود ثم صمتت، ظلوا صامتين لدقيقة تقريبًا؛ لتستمع أهلة إلى صوت قاسم الحانق: بقولك عايزك تكتبيلي خبر كويس دلوقتي.
نفخت أهلة بسخط وهي تقول: طيب ما تتفضل تطلع برا علشان مش بعرف أكتب وحد موجود معايا في الأوضة.
وقف قاسم من مكانه ثم اتجه نحو الخارج قبل أن يردف ساخرًا: وإيه لازمتها حضرتك بقى، على العموم أنا خارج.

نظرت أهلة لأثره بإبتسامة طفيفة، ثم اتجهت إلى أحد الأدراج الخاصة بها وأخرجت دفتر مُذكراتها الخاص بها، والذي يُفتح ببصمة إصبعها هي فقط!
أمسكت بقلمها المُميز، ثم ظلت تُدون بعض الكلمات لمدة كان مداها نصف ساعة تقريبًا، وذلك بعد التفكير والتحضير وكتابة جُمل متناسقة تتماشى مع الخبر الذي سيكون بمثابة قُنبلة ستُفجر الجميع.

أنهت أخيرًا كتابة الخبر، ثم أمسكت بدفترها واتجهت نحو الخارج فلم تجده، استمعت لصوت جَلبة يأتي من المطبخ فعلمت بأنه بالداخل، لذلك قررت الدلوف إليه، وما كادت أن تفعل؛ حتى وجدته يخرج منه ويحمل بين يديه كوبين من العصير المُفضل لقلبها، لذلك ارتسمت ابتسامة واسعة على شفتيها تلقائيًا، واتسعت أكثر عندما وجدته يردف لها بمشاكسة: كوبايتين فراولة باللبن، واحدة ليا وواحدة ليك يا عسل.

ذهبت خلفه كالطفلة الصغيرة، ثم جلست بجانبه على الأريكة مع الحفاظ على مسافة مميزة، فأعطاها هي كوب من العصير لترتشفه، وهو أخذ منها دفتر مُذكراتها يقرأ ما دونت به بصوتٍ خافت نسبيًا:.

والآن وبعد التقارير التي وصلت إلينا وتم كشفها، توصلنا بأن عائلة الأرماني ما هي إلا محطة تخريب تصل للجميع، عائلة تتحد مع كبار رجال الأعمال والمُستثمرين الذين يرتدون ثوب البراءة والطهارة، وفي الحقيقة هُم عبارة عن عباءة مُتسخة مليئة بالأوساخ، وذلك بعد الكشف عن تجارتهم الغير مشروعة في الأثار وتهريبها، كما كُشِف من قبل عن أعمالهم الغير شرعية في تجارة الأعضاء وتهريب الأدوية الفاسدة والأغذية مُنتهية الصلاحية، وهُنا يظل السؤال الذي يدور في عقول المواطنين؛ لِمَ لم يتم القبض على عائلة الأرماني حتى الآن؟ أيعقل أن تكون للحكومة يد في تلك التُهمة البشعة؟ أم أن هناك لغزٌ يُخفى عن الجميع حتى الآن؟ .

أنهى قاسم قراءة المقال ببسمة واسعة، فرفع عيناه لها ليجدها تنظر إليها تنتظر آرائه، ليغمز لها بمشاكسة هاتفًا بتمجيد:
كفاءة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة