رواية حارة القناص الجزء الأول للكاتبة شروق حسن الفصل الحادي والخمسون
وعد اللهُ بها عباده الصالحين ويُبشرهم بما يسرهم في الدنيا والآخرة، الذين اصطبروا على الإبتلاء والخوف من الأعداء، والجوع بسبب قلة الطعام، والأموال بسبب صعوبة الحصول عليها، وبنقصٍ في الأنفس بسبب الآفات التي تُهلك الناس، والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله عائدون يوم القيامة، هؤلاء عليهم ثناء من ربهم، ورحمة من الله عليهم، وأل ئك هم المهتدون إلى الطريق الحق.
وكما يُقال طريق الشر قصير مهما بلغ طوله، لذلك تم القبض على مختار الأرماني بتهمة الإتجار بالأعضاء، وتم القبض على شُحنة مليئة بالمواد الغذائية المُسرطنة باسمه هو، كما قامت قوات الشرطة بتشميع جميع ممتلكاته بما فيهم المشفى الخاصة، كما أُلقيَ القبض على نادر الأرماني الذي شاركه في فعلته بسبب جشعهم.
وقف مختار وبجانبه نادر أمام مكتب الضابط بوجوهٍ واجمة، ليطرق الباب وتبعه دخول الشرطي الذي أدى تحيته العسكرية ثم أردف بنبرة عملية جادة: العميد مُغازي برا وعايز يقابل حضرتك يا فندم.
هبَّ الضابط من مضجعه ثم تشدق بسرعة: دخله يابني بسرعة.
تمام يا فندم.
قالها الشرطي بعد أن أدى التحية العسكرية مرة ثم خرج، مرت ثوانٍ قبل أن يدخل العميد مُغازي بكل ثقة، فاقترب منه الضابط يُصافحه بود: نورت المكتب كله يا سيادة النقيب.
بادله العميد مُغازي المُصافحة أثناء تحويله لأنظاره إلى مختار ونادر، طالعه مختار بغلٍ دفين وهو يكز على أسنانه بحقد، التوى ثُغر مُغازي بابتسامة مُلتوية قبل أن يقترب منه أثناء وضعه لكفيه داخل جيب بنطاله، وببرودٍ تحدث قائلًا: نورت القِسم كله يا مختار، بقالي سنين مستني اللحظة دي من زمان أوي.
ابتلع مختار ريقه الجاف ثم أجابه بوعيد: هطلع يا مُغازي غصب عنك، وبكرا هتشوف إن مش مختار الأرماني هو اللي يتحبس ويتهدد.
أخرج مُغازي كفه من جيب بنطاله ثم حك بإصبع إبهامه جانب فمه وهو يقول بابتسامة ساخرة: ومالو! ما هو دا اللي ناقص يا مختار، بس قبل ما تهرب عايز أوريك هدية صغيرة خالص أنت والبيه أخوك.
رفع نادر أنظاره التائهة له مُطالعًا إياه بحيرة، لقد انحنى ظهره وظهر الشحوب واضحًا على وجهه، بالإضافة إلى ذلك الإسمرار الذي يظهر أسفل عينيه الحمراوتين من كثرة التعب والإنهاك، وبصوتٍ مبحوح تسائل: هدية إيه؟
نظر مُغازي خلفه دون أن يستدير بجسده، ورفع يده يُشير إلى العساكر الذين ينتظرون إشارته، لينطلق إليه أربعة رجال شُرطيين وقاموا بالإمساك بهم من كل جانب، وقبل أن يرحلوا نظر مُغازي نحو الضابط وهو يقول بهدوء: عن إذنك يا سيادة النقيب، محتاجهم في حاجة كدا.
أومأ له الضابط باحترام وهو يُؤدي له التحية العسكرية: تمام يا فندم.
سار مُغازي في الأمام، وخلفه سار كُلًا من مختار ونادر مُحيطان بالعساكر وساروا بين أروقة القِسم لعدة دقائق، كان مختار يشعر بوجود خطبٍ ما، وهذا ما يُقلقه ويُثير ريبته، نفض كل تلك الأفكار عن رأسه وقرر الإنتظار حتى يرى تلك الهدية التي يتحدث عنها العميد مُغازي، وأخيرًا بعد مرور عدة دقائق ودخولهم إلى أماكن سرية وصلوا إلى وجهتهم، وهُنا كانت الصاعقة الكُبرى التي هبطت فوق رأس كليهما.
فبمجرد فتح العسكري للباب الحديدي المُغلق بالكثير من الأقفال الحديدية، ظهر من خلفه جميع الموتى الذي قام القناص بقتلهم! لكن هُم ليسوا أموات الآن؛ بل أحياء!
رمش كلاهما بصدمة وإرتعاشة تمر بأجسادهم، كيف أصبحوا أحياء الآن وهُم الذين قُتِلوا منذ عدة أشهر؟ ابتلع مختار ريقه برعبٍ وأنظاره تدور على جميع الأوجه من حوله، بدايةً من حاتم الأرماني، والطبيبان اللذان قُتلوا، وكذلك شقيقه مُنير الأرماني الذي قُتل داخل فيلته الخاصة، حتى صوفيا موجودة بقفصٍ مُنعزل عنهم؟ والسؤال الذي يتردد داخل عقول الجميع واحد، كيف؟
بينما نادر كان في وادٍ آخر، ثبت أنظاره على ابنه الذي من المُفترض أن يكون قد قُتل حاتم الأرماني، شُل جسده عن التحرك وتوقفت أنفاسه عن الخروج بصورة طبيعية، وكل الذي يراه الآن هو مظهر ابنه المقتول أمام عيناه بواسطة القناص! وذلك المرة بادر نادر بالتحدث وهو يقول بصدمة: إ. إزاي؟
ارتسمت ابتسامة خبيثة على ثُغر مُغازي والذي أردف بمكر: إزاي دي بقى مش أنا اللي هجاوبك عليها، دا القناص بنفسه هو اللي هيرد عليك.
قالها وهو ينظرخلفهم مما جعلم كُلًا من مختار ونادر يستديروا إلى الخلف، فوجدوا قاسم يقف بكل شموخٍ يليق بهيبته العظيمة كطبيبٍ وقاتل معًا! وبخطواتٍ متروية اقترب حتى تخطاهم، لكن أنظاره الحاقدة مازالت مُثبتة عليهم.
وقف بجانب العميد مُغازي واضعًا كفيه داخل جيب بنطاله، وبوقاحة تليق بهما تشدق: إزيكم يا أعفن خلق الله.
احتدت عيني مختار بغضب وبدأ الحقد يزداد بشكلٍ عنيف داخل فؤاده، يشعر بأنه يريد قتل الجميع والثأر لذاته ولأمواله المهدورة بسببهم، شعر قاسم بالإنتشاء عقب رؤيته لحالتهم المُزرية، فأفسح لهم الرؤية قليلًا وهو يُشير للرجال من خلفه: إيه رأيكم في المُفاجأة دي؟ تجنن مش كدا؟
أرجع قاسم خصلاته التي هبطت عن عينه ثم ذهب نحو حاتم الأرماني حتى وقف بجانبه، كان رأسه يميل على جسده للأسفل، فجذبه قاسم من خصلاته ليظهر وجهه المُمتليء بالكدمات الزرقاء، تأوه حاتم بقوة مما جعل نادر يصرخ لا إراديًا: ابني!
قالها أثناء مُحاولته للتملص من بين أيدي العساكر الذين يُمسكون به، لكنهم أوقفوا رغمًا عنه فوقف هو وأنظاره مُثبتة على ابنه الذي يُعاني بقهرٍ الآن، وبصراخٍ هز أرجاء المكان تحدث نادر بغضب: ابني ملهوش ذنب يا ابن طاحون، عداوتك معايا أنا.
دفع قاسم رأس حاتم بعنف ثم اقترب منه وهو يهمس بفحيح: ابنك وسخ زيك بالظبط يا نادر، كان بيتاجر في المخدرات وصاحب كِيف زيك بالظبط، وفوق دا كله كان بيعتدي على بنات قاصرات عشان هو عارف إن هما هيخافوا يحكوا لأهاليهم، بس من حظه إن في اليوم اللي قررت بنت من الضحايا تحكي لأهلها عن وساخته إحنا كنا بنخطط ونرتب عشان نكمل خطتنا، كان نفسي أشوفه مذلول للأسف بس مش مشكلة تتعوض.
لم يُبالي نادر بأي شيء مما قيل، بل هز رأسه بهستيريا وهو يبكي بعنف: سيب ابني يا قاسم، أنس مات وكنت مفكر إن حاتم كمان ميت، سيبه ليا أبوس إيدك.
رمش مختار عدة مرات بعدم فهم قبل أن يتسائل بصدمة: مش حاتم ابن رفعت؟
هز نادر رأسه بالنفي مُسرعًا وهو يقول بصراخ: لأ مش ابن رفعت، دا ابني أنا.
إيه؟
رددها مختار بعدم تصديق، فاستمع بعدها إلى صوت ضحكة مُستنكرة خرجت من فاه قاسم وبعدها تحدث بسخرية: طيب ما حبيبة مش بنت رفعت وبنتك يا مختار، وانتوا استغليتوا إن رفعت مش بيخلف وعقيم وكنت مقضيينها مع مراته اللي متقلش عنكم في الوساخة.
قال جُملته الأخيرة وهو يُشير تجاه صوفيا التي تُتابع كل ما يحدث بأعين جامدة، انتقلت أنظار الجميع إليها يُطالعونها باشمئزاز على دنائتها وقذارتها التي أوصلتها لخيانة زوجها العقيم مع شقيقيه دون ذرّة خجل أو ندم واحدة! حوَّل مختار أنظاره نحو قاسم وتحدث بنبرة غير مُصدقة: أنت عِرفت دا كله إزاي؟ واللعبة دي كلها عملتها ليه؟ هتستفاد إيه من دا كله؟
نطق الأخيرة بعصبية شديدة أشعلت الانتشاء بفؤادِ قاسم والذي رد عليه ببرود: هستفاد إني موسخش إيدي بالدم زيكم، هستفاد إني أحرق قلوبكم، هكون مبسوط وأنا شايف نظرات الرعب والخوف عينيكم وكل واحد فيكم مستني دوره علشان يموت، أملاككم كلها بح، خِلصت، شُحناتك اتمسكت، فلوسك وشركاتك اتدمروا، أخدت حقي أنا وأخويا وأمي وأبويا من غير نقطة دم واحدة، خرجت من المعركة كسبان وأنا نضيف.
ثقلت أنفاس نادر بقوة وأصابه الدوار الشديد، ورغم ذلك تسائل بأنفاسٍ لاهثة: إزاي؟ إزاي وإحنا شايفين جُثثهم وهما بيتدفنوا قصاد عنينا؟
رد عليه قاسم ببساطة وخبث: بما إني دكتور فأنا عارف نقطة ضعف الإنسان في جسمه، شوية بنج على منومات والدنيا مشيت تمام طول مدة الجنازة، ومع شوية جراحة عند الرقبة وماسكات اللي يشوفها يقول إنها جروح حقيقية كل حاجة مشيت تمام من غير ما يتشك فيها.
يعني. يعني دا كله كان لعبة؟ كل اللي إحنا فيه دا كان وهم؟
تسائل بها مختار بصدمة، لينفي قاسم حديثه بقوله الخبيث: تؤ. تؤ مش وهم، في الأول وفي الآخر كلهم هيموتوا بس بطريقة شرعية، هسيب القانون ياخد مجراه وهافرج عليكم وانتوا بتتعدموا واحد واحد.
كانت معالم الجميع شاحبة بطريقة لا تُوصف، فلقد استطاع قاسم بث الخوف داخل أفئدتهم بشكلٍ بارع يليق بالقناص، حتى وإن لم يقتل ضحيته كما كان مذكورًا من قبل، فعقليته البارعة في التفكير والتخطيط ما هو إلا عقلٍ شيطاني يليق بشخصيته، تصنع قاسم الأسى أثناء إكماله حديثه بكيد:
أخويا رجع لحضني، وأمي صحتها رجعتلها، حبيبة واتجوزها صهيب، وبنتك اللي هربت منك من عشر سنين يا مختار يا أرماني أنا اتجوزتها.
فتح مختار عيناه على آخرهما وقد كُتمت أنفاسه مما يسمع، بينما اقترب منه قاسم خطوتان أخريتان حتى وقف قبالته مُباشرةً، قرَّب شفتيه من أذنيه هامسًا له بحقد وهو يضغط على كتفه بقوة: بنتك اللي كنت بتحاول تعدي عليها فاكرها؟ بنتك اللي كنت بتسيبها ل رفعت يضربها فاكرها؟ بنتك اللي هربت منك بسبب جبروتك فاكرها؟ أنا أخدتها واتجوزتها وعالجتها.
طالعه مختار بعدم تصديق وهو يهز رأسه بالنفي، وبصوت مكتوم أردف بتلعثم: لأ. ب. بنتي ماتت. السواق قالي إنها ماتت.
ابتعد قاسم وعاد لمكانه وهو ينفي: تؤ بنتك مماتتش، السواق العربية انفجرت بيه بعد ما اتعمل خطة عشان يخلصوا على بنتك وهي معاه، بس من حظها إن قررت تهرب في الوقت دا بالذات.
كانت علامات الإستنكار مُرتسمة بوضوح على أوجه الجميع بما فيهم النقيب مُغازي الذي علم الأحداث الأخيرة الآن فقط، ليستطرد قاسم حديثه بأقسى طريقة مُمكنة: عارف الشركة المُنافسة واللي كانت بتخسرك كل الصفقات؟ أهلة بنتك عملاها مخصوص عشان تدمرك.
أنت. أنت كداب.
التوى ثُغر قاسم بابتسامة ماكرة قبل أن يقول بمكر: معاك حق.
قال جُملته ثم خرج كيفما جاء وخلفه سار العميد مُغازي، تاركًا عقول الجميع تكاد أن تنفجر من التفكير، كل الأشياء السيئة التي فعلوها رُدت إليهم دون هوادة، لعنة الله هبطت فوق رؤوسهم نتيجة لأفعالهم الشنيعة، سُحبت الطمأنينة من داخل صدورهم وحل محلها الخوف والفزع، ورغم ذلك لم يتوقفوا عن أفعالهم، بل زادت أضعافًا عن ذي قبل.
تملكين وجهًا يُشبه وجه القمر، وروحٌ تُذيبُ من داخلي الألم، وضحكاتٌ تُدخل السرور لقلبي، ولمعة تنصهر بها عيني، وبعد كل ذلك تسأليني لِمَ أحببتك؟ . من زوجك المُتيم بكِ
كانت تلك ورقة وجدتها أهلة بجانبها عندما استيقظت من نومتها ولم تجده، اتسعت ابتسامتها بقوة وكأن تلك الكلمات أدخلت السرور لقلبها، وكيف لا وهو الذي أنقذها من ظلامها الدامس وجعلها تعيش حياة وردية يأست أن تجدها.
هبت من مضجعها وتثائبت بتكاسل ووضعت الورقة أسفل وسادتها بعد أن قبلتها بحنين، دخلت إلى المرحاض وتوضأت ثم أدت فريضتها وبعدها توقفت أمام الخزانة لتبدأ حيرتها في انتقاء الملابس، وبعد تفكير عميق اختارت فُستان أسود اللون دون نقوش به حزام جلدي أبيض اللون في المنتصف، وانتقت مع حجابًا من اللون النبيذي الذي لاق مع لون بشرتها القمحية.
نظرت لذاتها برضا ثم هبطت نحو الأسفل، لمعت عيناها بسعادة كُبرى عندما وجدت شقيقتها حبيبة ترتدي نفس الفستان مُفآجأةً، ولأن بشرتها أفتح من خاصتها ارتدت عليه حجابًا من اللون الأبيض المُماثل للون الحزام، تركت حبيبة مجلسها بجانب صهيب واتجهت نحو أهلة مُطالعة إياها بسعادة وهي تتحدث بانبهار: شوفتي إحنا لابسين زي بعض إزاي؟
أومأت لها أهلة وهي تضحك بخفة ثم عانقتها بحنان وهي تقول: زي القمر يا بيبة.
بادلتها حبيبة العناق وهي تقول بحب: أنتِ اللي قمر وستين قمر.
وعلى الجانب الآخر. كانت مهرائيل تجلس بجانب آلبرت على الأريكة، والذي أردف بعد أن ارتشف قليلًا من المياه: لا تُخبري أحدًا الآن حتى ننت.
ولم يكد يُكمل جُملته حتى هبت مهرائيل من مضجعها مُصفقة بكلتا يديها لتجذب انتباههم، وبعدها أردفت بصوتٍ عالٍ وابتسامة سعيدة تُزين ثُغرها: يا جماعة آلبرت قالي إنه بيحبني واتقدملي وأنا وافقت.
بصق آلبرت المياه التي ارتشفها حينما تركته وذهبت، ثم همس بحنق وهو يجز على أسنانه بغيظ: اللعنة عليكِ جروٌ عديم الأدب.
صعدت شهقة لوسيندا بعدم تصديق، ثم هبت من مكانها مُتحدثة بسعادة والابتسامة ترتسم بوضوح على ثغرها: بجد ولا بتهزري؟
أكدت لها مهرائيل حديثها وهي تضحك بفرحة عارمة: لأ والله بتكلم بجد، الحجر اتكلم وقالي إنه هيتجوزني.
رفع آلبرت حاجبيه باستنكار، فاقترب منه چون ليجلس جانبه ثم قال بضحكة مكتومة: يبدو بأنها سبّتك كثيرًا أخي!
نظر إليه آلبرت بسخرية وهو يُوميء له مؤكدًا حديثه: بالتأكيد فعلت ذلك، تلك السليطة أقسم أن أُعلمها الأدب من جديد.
قهقه چون بخفة قبل أن يقترب من أخيه ليُعانقه بود، ثم همس له بصوتٍ سعيد: مُبارك عليك يا أخي، أتمنى أن تعيش سعيدًا معها دائمًا.
ربت آلبرت على ظهره بحنان وهو يُجيبه: وأنت كذلك عزيزي چون.
اقتربت كُلًا من أهلة وحبيبة ليُعانقاها بسعادة عارمة، لتتشدق أهلة بمرح: يارب تخفي صياح وعويل بقى عشان إحنا صدعنا.
ضربتها مهرائيل على كتفها بخفة وهي تضحك، ثم اقتربت منها هامسة بخفوت: طيب بذمتك مش قمر ويستاهل؟
لوت أهلة شفتاها وهي ترفض طلبها: لأ يا ستي مش بعاكس راجل غير جوزي.
سخرت منها لوسيندا والتي تشدقت بعبث: على أساس إن البعيدة بتعاكس جوزها أصلًا؟
نكزتها أهلة بغيظ قائلة بتبرير: على فكرة بعاكسه بس بيني وبين نفسي.
جذبت مهرائيل ثلاثتهم إلى الخارج وهي تقول بحماس: تعالوا نقعد برا في الجُنينة عشان أحكيلكم كل اللي حصل من طأطأ لسلامو عليكوا.
هز آلبرت رأسه بيأس أثناء قوله بخيبة أمل: أُقسم بأني أخبرتها بألا تقول لأحد وهي وعدتني!
ضحك صهيب بخفة وهو يُجيبه بلغته: جلسة الفتيات تكون هكذا دائمًا عزيزي آلبرت، هذا ليس جديدًا لا تقلق.
أومأ له چون ساخرًا وهو يؤكد على حديثه، ثم اعتدل في مضجعه مُتسائلًا بجدية: أين وصل قاسم الآن؟
تنهد صهيب مُطولًا قبل أن يُجيبه بهدوء: من المفترض أن يصل بعد ساعة من الآن، لقد أخبرني العميد بأنه رحل منذ عدة ساعات.
تسائل آلبرت بانتباه: هل انتهى كل شيء هكذا؟
أجابه صهيب وهو يهز كتفه بجهل: لا أعلم، من المفترض أن يكون نعم، لكن من الممكن أن يتغير كل شيء بين ليلة وضحاها.
ربت جون على قدمه مُردفًا باطمئنان: لا تقلق عزيزي، سيكون كل شيء على ما يُرام أنا أثق في ذلك.
سدد له صهيب ابتسامة مُمتنة في نفس الوقت الذي أتى به فور يلهث وهو يقول بنهيج: فلينقذني أحد، أنا أموت جوعًا.
علت ضحكات صهيب بصخبٍ على معالم وجهه المُثيرة للضحك، بينما فور ارتمى على الأريكة وهو يقول بتعب: كم تبقى من الوقت؟ أنا جائع للغاية، معدتي تصرخ من الألم أيها الحقير الأحمق.
زادت ضحكات صهيب أكثر، وشاركه تلك المرة آلبرت وجون، تحكم صهيب في ضحكاته قليلًا ثم أردف بصعوبة: تبقى ساعتان يا بطل، لقد أوشكنا على الإفطار.
دفعه فور بعيدًا بغيظ ثم همس أثناء رميه لرأسه على طرف الأريكة: أنت أكثر رجل حقير رأيته في حياتي أُقسم.
دخانٌ كثيف يصعد من بين شفتيه حالك كحالِ فؤاده، هو التائه بين الطرقات، العابس بين الوجوه، هو المكلوم الضاحك، هو رائف سعيد المحمدي، والذي كان وليد سعيد فريد سابقًا، ابن أحد أكبر العائلات في صعيد مصر وبالتحديد في سوهاج، لكن قدره قدره أوصله لهُنا دون اختيار منه.
انتشله من شروده صوت هاتفه الذي أعاد له وعيه، نفخ دخان سيجاره ببرودٍ قبل أن يستند بجسده على ذراعه، ومدَّ الذراع الآخر لانتشال هاتفه من على الكومود، تأفف عندما رأى اسم المُتصل وعلم ما يُريده، وبالرغم من انزعاجه قرر الإجابة بقوله الجامد: أيوا يا جدي؟
جائه الرد من الطرف الآخر والذي هتف بغضب: واللهِ؟ لسه فاكر إن ليك جد يا أستاذ رائف؟ ولا أنت قُعادك في مصر نستك أصلك وأهلك؟
تحرك رائف من مكانه وسار عدة خطوات حتى وقف أمام الشُرفة الكبيرة أثناء سحبه من عقب سيجاره، وبعدما استمع إلى حديثه الغاضب رد عليه ببرود: بالظبط كدا.
اشتغل الغضب داخل فؤاد جده والذي أمره بنبرة جدية لا تحمل النقاش: ارجع يا رائف بدل ما وديني أ...
وتلك المرة قاطعه رائف صارخًا بغضبٍ يفوقه أضعافًا: اسمع أنت يا جدي، أنا مبتهددش وحضرتك عارف كدا كويس، ورجوع أنا مش راجع، ومش هتجوز بنت عمي بالغصب أنا مش عيل صغير قدامك عشان تغصب عليا، أنا راجل وعارف أنا بعمل إيه كويس.
رد عليه جده بغضب يشوبه الصدمة: أنت. أنت بتزعقلي يا ولد؟
التوى ثُغر رائف بابتسامة ساخرة مُتهكمة قبل أن يُجيبه بوقاحة: مش أول مرة يا جدي، عن إذنك بقى عشان هنام.
قالها ثم أغلق الهاتف دون أن يستمع لإجابة الآخر، بالرغم من تأكده من سبه له مئة بالمئة، لكن هو لم ولن يُبالي أبدًا، رمى هاتفه على الفراش وقرر ارتداء ثيابه للذهاب إلى حارة هارون، وإن تسائلتم عن السبب فهو سيذهب لشراء السجائر لا أكثر!
جلست أهلة على المقاعد الموجودة في الحديقة مع الفتيات وذهبت بذاكرتها إلى ما حدث ليلة أمس، حينما ظلت تبكي ليلًا بحرقة وكأنها لم تبكي من قبل، حينما قرأت عدة آيات من القرآن وجاءت عند الآية: مِن أَجلِ ذلِكَ كَتَبنا عَلى بَني إِسرائيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفسًا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسادٍ فِي الأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَميعًا وَمَن أَحياها فَكَأَنَّما أَحيَا النّاسَ جَميعًا وَلَقَد جاءَتهُم رُسُلُنا بِالبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثيرًا مِنهُم بَعدَ ذلِكَ فِي الأَرضِ لَمُسرِفونَ [المائدة: 32].
هُنا انهارت حُصونها وشعرت بفداحة فعلتها، لقد قتلت! لكنها تُقسم بأنها لم تقصد فعلها، فرغم كُرهها لتلك العائلة إلا أنها لم تُفكر في القتل ولو لمرةٍ واحدة، في تلك الأثناء دلف قاسم للغرفة فوجدها على حالتها المُنهارة تلك، تزعزع ثباته وهرول إليها يجلس بجانبها وهو يتسائل بقلق: مالك يا أهلة؟ مالك يا حبيبتي بتعيطي ليه؟
لم تستطيع أهلة إجابته من الوهلة الأولى، لقد كان بُكاؤها يطغي عليها ولم تستطيع الحديث، ضمها إلى صدره وربت على ظهرها وفؤاده يطرق بقلق، قبَّل خصلاتها بحنانٍ وظل يُهدهدها لعدة دقائق عليها تهدأ، وبعد دقائق قليلة صمتت عقب كلماته المُهدئة، فأخرجها من بين أحضانه يُجفف دموعها بحنان ثم تسائل بحب: مالك يا هولا احكيلي.
حاولت الثبات لكنها لم تستطيع، بل عادت الدموع لتتجمع داخل مقلتاها مُجددًا وهي تُجيبه بصوتٍ مُرتعش: أنا. أنا قتلت. بس والله أنا مكنتش قصدي أقتله. هو. هو حاول يعتدي عليا تاني.
قطب جبينه بتعجب شديد ولم يفهم كلمة مما تقوله، لذلك تربع وجلس أمامها مُباشرةً أثناء إمساكه لكفيها معًا، ثم تسائل بعدم فهم: مش فاهم حاجة فهميني.
أنا. أنا لما قابلت رفعت الأرماني أول مرة كان بغرض تهديده وتخويفه بس مش قتله، هددته إن هفضح كل حاجة عملها هو وإخواته قدام الناس كلها وهقول للبوليس وهقدم كل الأدلة اللي تثبت كلامي، كنت عايزة أشوف نظرة الخوف في عينيه وآخد بحقي زمان، وفعلًا خاف، بس. بس لقيته مرة واحدة قرب عليا جامد وقالي أنتِ شكل أيام زمان وحشتك، موعتش بحاجة غير إنه بيتهجم عليا وعايز يكرر اللي عمله زمان، وأنا كنت عايزة أدافع عن نفسي طبيعي، ملقتش معايا غير السكينة، بس غزتها في بطنه، طعنته مرتين، واحدة في بطنه وواحدة في جانبه، بس والله يا قاسم أنا مكنتش أقصد، أنا كنت بدافع عن نفسي بس، مكنتش عايزة أعيش الماضي بكل وجعه من تاني لو مدافعتش عن نفسي، محستش بنفسي غير وأنا برمي الكارت اللي كنت بتسيبه في كل جريمة وبعدها جريت، بعدها. بعدها نزل خبر موته إنه اتقتل بنفس الطريقة اللي بيقتل بيها القناص وإنه اتدبح، بس والله ما أنا اللي عملت كدا. والله مش أنا صدقني. أنا كنت عايزاه يموت بس مش أنا اللي أقتله.
قالت حديثها الأخير بانهيار حتى شعرت بأحبالها الصوتية بأنها قد جُرحت، جذبها لأحضانه بقوة وظل يُهدهدها بحنان، لكن ما جعلها تصمت هو قوله الثابت وهو يُربت على خصلاتها: مش أنتِ اللي قتلتيه يا أهلة إهدي.
تصنمت أهلة داخل أحضانه بعد أن توقفت عن البكاء، وبعدها ابتعدت عنه ناظرة إليه بعدم تصديق وهي تقول: إيه؟ إزاي مش فاهمة؟
تنهد قاسم قبل أن يُجيبها بثباتٍ أثناء تجفيفه لدموعها: يعني رفعت الأرماني كان عايش وإصابته مكانتش خطيرة ولا حاجة وكان ممكن يعيش عادي جدًا، بس نقول إيه بقى سبحان الله! الدكاترة البايظة اللي في المستشفى بتاعة عيلته لما استقبلوه كسلوا يعملوا إختبارات حساسية قبل ما يحقنوه بالبنج، ومن حظه إنه كان عنده السكر ونوع البنج اللي أخده كان خطر عليه فمات.
رمشت أهلة بعيناها عدة مرات وهي تُطالعه بعدم تصديق، وبعد عدة ثوانٍ من الصمت تسائلت بأنفاسٍ مُتثاقلة: يعني. يعني هو مماتش بسببي.
هز قاسم رأسه بالنفي راسمًا على ثُغره ابتسامة طفيفة، ثم اقترب منها مُقبلًا جبينها بحب قبل أن يهمس لها: لأ مش بسببك، بسبب قذارته وقذارة عيلته ربنا كتب عليه يموت بين إيديهم.
هبطت دموع أهلة بكثافة وهي تتسائل برجاءٍ مُمتزج بالبكاء: بجد يا قاسم ولا بتضحك عليا؟ أنا من اليوم دا وأنا بيجيلي كوابيس وضميري مأنبني، أنا بكرههم كلهم آه بس مش عايزة أوسخ إيدي بدمهم.
برر لها قاسم أثناء وقوفه وجذبه لها: يا عيون قاسم والله أنا بتكلم بجد، حتى إن إحنا بعد ما دا حصل دورنا على اللي عمل كدا كتير بس موصلناش لحاجة عشان ماكنش فيه كاميرات في المكان، فطلع تصريح إن اللي قتله هو القناص بما إن الكارت كان موجود، مع إن السبب الأساسي هما الدكاترة بتوع المستشفى.
زاد بكاء أهلة فقالت وهي تشهق بعنف: أنا مش عايزة ربنا يزعل مني.
شدد من ضمها وأغمض عيناه بألم من وجعها الذي يتجدد كل فترة بسبب تلك العائلة الحقيرة، ذلك طبع قُبلة حنونة على خدها قبل أن يقول بهمس: ربنا مش زعلان منك، أنتِ لو مكنتيش ندمانة مش هتكوني بتعيطي دلوقتي، بالرغم من إن عملتك غلط إلا إنها كانت دفاع عن شرفك اللي كان بيحاول ينتهكه، وربنا قال بسم الله الرحمن الرحيم: وَما كانَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤمِنًا إِلّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤمِنًا خَطَأً فَتَحريرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهلِهِ إِلّا أَن يَصَّدَّقوا فَإِن كانَ مِن قَومٍ عَدُوٍّ لَكُم وَهُوَ مُؤمِنٌ فَتَحريرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ وَإِن كانَ مِن قَومٍ بَينَكُم وَبَينَهُم ميثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهلِهِ وَتَحريرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ فَمَن لَم يَجِد فَصِيامُ شَهرَينِ مُتَتابِعَينِ تَوبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَليمًا حَكيمًا.
وأنتِ ضربتيه بالخطأ عشان تدافعي عن نفسك، ومع ذلك فإن سبب موته هو إهمال الدكاترة الموجودين في المستشفى، مش أنتِ خالص.
في البداية كانت تستمع إليه بقلبٍ مكلومٍ باكٍ، لكن مع تفسيره وسرده للقرآن بطريقة سلسة وبسيطة وشرحه لفداحة فعلتها، بدأ الصخب يهدأ قليلًا وعادت الراحة لتستقر داخلها، صمتت عن البكاء نهائيًا لكنها شعرت برغبة كبيرة في النوم، لذلك أغمضت عيناها براحة قبل أن تهمس بوهن: شكرًا. أنا بحبك أوي.
قبَّل رأسها بعشقٍ يزاد رغمًا عنه داخل فؤاده وبادلها الهمس بقوله المُتيم: وأنا بموت فيكِ، ارتاحي أنتِ دلوقتي.
وبالرغم من إنها استمعت لحديثه، إلا أنها لم تمتلك القدرة للرد عليه، بل ذهبت في ثباتٍ عميق ولم تشعر به يحملها بين ذراعيه ووضعه لها على الفراش، وبعدها استدار هو ليتمدد جانبها ثم أخذها لتنام بين أحضانه وتتنعم بدفيء أحضانه.
استفاقت أهلة على صوت انفتاح البوابة الرئيسية للقصر ودخول سيارة سوداء منها ثم توقفت بعد أن وصلت إلى مُنتصف الممر، مرت ثواني قبل أن يهبط منها قاسم مُرتديًا قميصًا أسود وبنطال من نفس اللون، ويضع على عيناه نظاره شمسية سوداء أيضًا، كان مظهره مُهيبًا وخاطف لفؤادها هي خصيصًا.
اتسعت ابتسامتها تلقائيًا عند رؤيته ثم هبت من مكانها واتجهت نحوه، انتقلت ابتسامتها له فبادلها الابتسام هو الآخر، فتح ذراعيه لها مُستقبلًا جسدها بين ذراعيه ثم ضمها إليه بشوقٍ وهو يهمس بحب: وحشتيني الشوية دول يا هولا.
تشبثت في ثيابه أكثر وهي تُجيبه بحب: وأنت كمان وحشتني.
تركها بعد أن دفعته وابتعدت عنه مُمسكة بفستانها الأسود الواسع، ثم دارت حول نفسها مُتسائلة بضحكة سعيدة: إيه رأيك فيا؟
خلع نظارته السوداء من على عينيه ثم حوَّل نظراته إلى ثيابها، فطالعها من رأسها حتى إخمص قدمها بنظراتٍ مُلتمعة، وبعد ثوانٍ عديدة من الصمت غمز لها بمشاكسة: كفاءة.
ضحكت تلقائيًا على كلمته المُفضلة بالنسبة لها، وما كادت أن تفتح فاهها حتى تتحدث؛ استمعت إلى صوت أُنثوي حانق يأتي من داخل السيارة يهتف بغيظ: ما تخلص يا حبيبي خرجني من العربية بدل ما أنت واقف تحبلي وسايبني كدا؟
استدار قاسم إلى الجهة الأخرى من السيارة قبل أن يهتف بفزع ونسيان: يالهوي ماما!
فتح باب السيارة بسرعة فوجد قبضة والدته تلتصق بصدره بحنق أثناء قولها الساخط: آه يا اخويا ماما، هو مَن لقى أحبابه نسي صحابه ولا إيه؟
ضحكت أهلة بخفة والتي اتجهت نحو حياة تحتضنها بحب بعد أن أسندها قاسم لتقف وهي تقول: ألف حمدالله على السلامة يا ماما، نورتي مكانك بينا.
ربتت حياة على ظهرها بود قائلة: حبيبتي الله يسلمك يارب، عاملة إيه وحشتيني؟
ردت عليها أهلة بامتنان بعد أن ابتعدت عنها: أنا الحمد لله كويسة بخير، اعذريني قصرت في حقك الأيام اللي فاتت بس كنت بمر بظروف وحشة حقك عليا.
أمسكت حياة كفها بحنوٍ وهي تقول بود: متعتذريش يا حبيبتي، قاسم كان بيجيلي كل يوم ومعرفني كل حاجة.
انتقلت أهلة بأنظارها نحو قاسم تُطالعه بامتنان، فسدد لها ابتسامة صغيرة مُطمئنة وكأنه يقول لها لا داعي للقلق فأنا معكِ.
انحنى قاسم بجسده قليلًا ثم حمل والدته على بغتة فاجئتها وهو يقول بمشاكسة: أوبا يا يويو إيه الحلاوة دي؟ أنا بفكر نشوفلك عريس بقى عشان تبدأي حياتك وأنتِ في عز شبابك.
قهقهت حياة بيأس ثم ضربت ابنها على كتفه بمزاح وهي تقول بيأس: يابني عريس إيه دا اللي هتشوفهولي؟ دا أنا يادوب أربيك أنت وأخوك من أول وجديد.
سار بها قاسم للداخل بوجهٍ مُمتعض، ثم قال ساخطًا: أنتِ ليه محسساني إني مش متربي؟ دا أنا مفيش في أدبي ولا في أخلاقي والله.
ربتت حياة على جانب وجهه بحنان بعد أن تراجعت عن عنادها معه، ثم أردفت بحب: أكيد يا حبيبي.
قربها قاسم منه بحنان ثم قبَّل جبينها وهو يقول باشتياق: نورتينا بوجودك معانا من تاني يا ماما.
وصل قاسم إلى البهو حيث يجلس الرجال، وما إن رآهم صهيب حتى انتفض من مكانه مُتجهًا نحو شقيقه الذي أنزل والدته بهدوء وتروٍ شديد، ثم طالعه بصدمة وهو يُردد: أنت. أنت خرجتها ليه؟
رد عليه قاسم بابتسامة واسعة: الحمد لله شفائها اكتمل على خير، فاضل العلاج الطبيعي وهتقدر تمشي على رجليها من تاني.
نظر صهيب لوالدته بعدمِ تصديق ولم يشعر بتلك الدموع التي تشكلت داخل حدقتاه، لقد عادت والدته لهم من جديد، وبعنفٍ قام بإحتضانها ضاممًا جسدها إلى خاصته وأحاط خصرها بقوة حتى حملها من على الأرض بأكملها، هبطت دموعه بقوة دون حتى أن يُسيطر عليها، وبصوتٍ مبحوح تحدث بلهفة: وأخيرًا همبقى سوا ومع بعض من تاني؟
تكونت الدموع داخل مقلتي حياة سعادةً من ردة فعل أولادها، يُعاملونها كماسة يخشوا خدشها، ولم تعلم بأنها الحياة بأكملها لديهم، ربتت على ظهره بحنان قبل أن تردف بحب: الحمد لله يا حبيبي، قولتلك إن كرم ربنا كبير وعوضه أكبر.
الحمد لله.
تمتم الجميع بالحمد، فابتعد صهيب عم والدته ثم أسندها بذراعيه قبل أن ينظر لشقيقه مُتسائلًا بلهفة: طيب وهي هتكمل العلاج الطبيعي فين؟
أجابه قاسم بهدوء وعيناه تدوران على الوجوه من حوله: بعد يومين. في مصر.
بعد مرور شهران.
يا حماتي بقى الله يباركلك أنا عايز أكتب على ملك أنا كمان، إشمعنى يحيى يعني؟
طالعته نبيلة بضجر من سخطه الذي لم يقل منذ ساعتين كاملتين، ثم أعادت حديثها للمرة التي لا تعلم عددها وهي تصرخ به: يابني ألطم منك ولا أشد في شعوري؟ مما قولتلك إنه متنيل خاطبها بقاله 6 شهور، وأنت والهبلة التانية اللي عمالة تزن فوق دماغي مخطوبين من شهر بس!
اعترض رائد بقوة وهو ينفي بوجهه: مش مبرر. أنا مليش دعوة هكتب معاه النهاردة يعني هكتب معاه النهاردة.
هبت نبيلة من على الأريكة بغضب، ثم حذرته بعد أن يأست من إقناعه: اسمع يالا بقى أنا جبت أخري، أنا قولت مفيش كتب كتاب غير بعد ما النتيجة بتاعتها تظهر، لو نجحت أديها متلقحة عندك ابقى خُدها ومتصعدناش.
تأفف رائد بسخط ثم استدار نحو ملك التي تتزين بفستان من اللون الأزرق الحالك بمناسبة عقد قران شقيقتها، ورغم أن هيئتها كانت فاتنة إلا أنه تسائل بعصبية: أنتِ ضامنة إنك تنجحي يا بنتي ولا إيه نظامك؟
ارتسمت ابتسامة بلهاء على ثُغر ملك التي هزت رأسها بالنفي، وعندما رأت تشنج وجهه بررت بقولها: أنا ممكن أشيل مقال وصوتيات وقواعد، فبكدا هعيد السنة، بس ممكن أنجح بدرجات الرأفة متقلقش.
جذب رائد خصلاته بغضب ثم نظر للجميع طالبًا منهم برجاء: بعد إذنكم يا جماعة وانتوا بتصلوا متنسوش الأستاذة في دعائكم، ادعولها تنجح عشان أتجوزها.
جذبه قاسم بجانبه ثم هتف بحنق: يابني اترزع واسكت بقى صدعت دماغي، لسه قدامنا يونس وسهيلة يعني ارسى كدا.
تم عقد قران يحيى ويمنى وما إن أنهى المأذون جملته المعتادة بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير، حتى صدحت صوت الزغاريد من فاه يحيى والذي قام بإطلاقها وكأنه حصل على انتصارًا عظيمًا وقد ناله للتو!
صعدت ضحكات الجميع عاليًا ومن بينهم أهلة التي كانت ترتدي فستان أحمر اللون وحجاب من اللون الأبيض، سارت عدة خطوات باتجاه يمنى لتعانقها لكنها شهقت بفزع عندما وجدت جسد يحيى يقتحم الجميع واحتضنها بقوة دون أن يُراعي لوجودهم، دفن وجهه بتجويف عنقها أثناء إحاطته خصرها بشدة وكأنه يخشى تركها، وبعدها قام بحملها ودار بها عدة مرات حول نفسه، علت التصفيرات والتهليلات الشبابية، والزغاريد والتصفيقات من النساء، وبعدها أنزلها أرضًا ثم قبَّل جبينها بحب وهو يهمس لها بشغف:.
مبروك علينا يا نور عيني.
كانت أهلة تُراقبه بغيظ لمنعها من عناق شقيقتها، ليتقدم منها قاسم وهو يُقهقه بصخب، ثم هبط على خدها يُقبله بحب أثناء قوله العابث: شوفتي لما تخنتي بقيتي بطاية إزاي؟
شهقت أهلة من وقاحته ثم وبخته قائلة: عيب يا قاسم إحنا وسط الناس.
أحاط قاسم خصرها وهو يردف بوقاحة: ناس مين! كل واحد مشغول بمراته، وأنا مشغول بالقمر بتاعي.
عضت على شفتيها بخجل ثم رفعت أنظارها إليه وهي تقول بإبتسامة هادئة: على فكرة أنا كملت علاجي كله ومبقتش أتقرف، الدكتورة أكدتلي إمبارح وقالتلي إني نجحت أتخطى الوسواس وهعرف أمارس حياتي بطريقة طبيعية بعد كدا.
اتسعت ابتسامة قاسم وهو يسألها بلهفة: إيه دا بجد؟
أومأت له ضاحكة، فتحولت تعابيره إلى الخبث عند إكماله لحديثه بنبرة غامضة ووقحة: نبقى نشوف الحوار دا بعدين لما نروح بيتنا.
دفعته أهلة بعيدًا ثم سارت تجاه شقيقاتها وهي تهز رأسها بيأس قائلة: مفيش فايدة، هتفضل قليل الأدب كدا دايمًا.
جاء موعد قران يونس وسهيلة فجلس يونس/فور أمام المأذون، وحوله يلتف أخواته الستة وكأنهم حصن منيع يحموه، كان يشعر بنبضاته ترتفع تلقائيًا عند تريده للكلمات خلفه، سرت البرودة في جسده والإدرنالين يزداد تدريجيًا دون إرادة منه، لكنه شعر بتوقف أنفاسه وتوتره الذي زاد عن حده عند هتاف المأذون بصوته الوقور بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
وقف يونس في مكانه بتوتر ثم نظر ل صهيب يسأله بريبة: هل يمكنني احتضانها الآن؟
ضحك صهيب بخفة وهو يُوميء له بالإيجاب، فاستدار يونس نحو سهيلة التي كانت ترتدي فستانًا من اللون الأبيض السيتان والخالي من أي نقوش، ومن فوقه ترتدي خمارًا من نفس لونه الرقيق واكتفت بوضع مُلمع شفاه على ثغرها فقط، كانت رقيقة ومُهلكة وخجولة؟
ارتفعت الزغاريد من حولهم، لكنه لم يستمع لأي شيء مما حوله، فقط يستمع لصوت فؤاد كليهما والنابض بعنف، وقف أمامها مُباشرة ثم ناداها بصوتٍ هامس مُعبق بالمشاعر: هايلة؟
كانت سهيلة تكاد أن تنصهر من الخجل، لكن عند مناداته لها رفعت أنظارها تُطالعه بأعين عاشقة، وتلك المرة ستُطالعه كيفما تشاء بعد أن أصبحت زوجته شرعًا، لم تشعر بشيءٍ بعدها سوى أنه اقترب منها ثم أحاط بها من خصرها بقوة، يضمها لفؤاده قبل جسده، ذلك النبض العاشق بين ثنايا صدره يُهلل لقُربها منه، لقد انتظر كثيرًا وصبر، وها هو استمتع بلذة الوصول لها، حملها من على الأرض نهائيًا وهي أحاطت بعنقه بكل قوتها، ولم تشعر بدموع سعادتها التي هبطت على ثيابه.
اشتم عبقها وردد هامسًا: دعوتُ بكِ في كل صلاتي، وأبكي لربي في كل قيامِ، وها أنا حصلت على جائزتي بعد صبرٍ وعناءٍ.
وتلك المرة رددت هامسة دون خوف: بحبك. بحبك أوي وعمري ما هحب حد زيك.
كان الجميع يُتابعهم بتأثر حتى قطع كل ذلك صوت هاتف قاسم، والذي ابتعد عن الجميع ليُجيب عليه بعد أن رأى اسم العميد مُغازي يُزين شاشته، لكنه تصنم مكانه عندما أتاه صوت العميد غاضبًا: حُكم الإعدام كان المفروض يتنفذ النهاردة بس مختار هرب.