قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش ف20 جرح ومداوي

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش كاملة

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل العشرون

بعنوان ( جرح ومداوي )

نظرت دلال للخالة وسيلة التي اخذتها سنة من نوم وهى بمجلسها فاشفقت عليها وفكرت في إيقاظها ودفعها للنوم بفراشها حتى يجد جديد فها هى الساعة قد قاربت الخامسة فجرا ولازالت العتمة تخيم على الأجواء والمطرلايزل يهطل رغم انه قل غزارة ولا اية اخبار تذكر عما يحدث بالخارج ..
صعدت للطابق الثاني في وجل واتجهت حيث تلك الشرفة المطلة على بوابة البيت الكبير تستطلع ما يمكنها ادراكه من قلب تلك العتمة التي تشمل المكان كأنه مدينة للأشباح..

مدت ناظريها للبعد لحظات حتى تراقص امامهما ضوء مشعل قادم من اسفل التلة يجاهد للبقاء مشتعلا تحت رذاذ المطر الخفيف الذي هدأت حدته منذ فترة بسيطة .. شهقت في حماسة وقد استشعرت ان القادم هو عفيف .. لم يكذب حدسها فقد ظهر الان ممتطيا فرسه رافعا شعلة من نيران يحاول حماية جذوتها من الانطفاء ومن خلفه يسير اهل النعمانية رجال ونساء مهتدين بدربه وبنور شعلته التي يحملها ويحميها في ذاك الظلام الدامس..

اقترب الجمع من بوابة البيت الكبير ليظهر لها مناع خلف فرسة عفيف حاملا طفلتاه وبجواره زوجه سعدية تضم عفيف الصغير لأحضانها وبجانبها تسير ام مناع تستند على ذراعها في وهن .. كان المنظر مهيبا ..ظلت تتطلع اليه للحظات في وجل واخيرا اندفعت تهبط الدرج في عجالة فبالطبع يوجد من القادمين من يحتاج للمساعدة الطبية ..
هتفت رغما عنها بحماسة عندما وصلت للطابق السفلي في اتجاه باب الدار:- وصلوا يا خالة وسيلة .. وصلوا ..

انتفضت الخالة وسيلة تتلفت حولها في تيه و اخيرا ادركت ما يحدث فاندفعت خلف دلال التي كانت تقف الان على عتبات البيت الكبير في انتظار المنقذ وعشرته ..
وصل عفيف امام الباب ليترجل من فرسه وقد كان الماء يقطر من كل موضع به وجلبابه موحلا .. وضع الشعلة التي كادت تخبو نيرانها جانبا غارسا إياها بأحد التجاويف الموجودة بالحائط بعيد عن الأمطار ..

وهتف في البشر المتجمهرين بباحة البيت:- بيتكم ومطرحكم يا رچالة .. الحريم تتفضل على چوه المندرة هما والعيال الصغيرة..
واستدار حيث تقف دلال مبهورة تتعلق نظراتها به هاتفا موقظا إياها من احلام يقظتها بصوت مرهق من كثرة الصراخ:- يا داكتورة .. بستسمحك تفتحي المندرة للحريم عشان يجعدوا فيها ..
اكدت في عجالة:- طبعا يا عفيف بيه ..

واندفعت تلبي في سرعة تفتح باب المندرة الذي تملك مفتاحه لتمر الحريم للداخل كل واحدة منهن تجر قدمها جرا وتحمل أطفالها وهنا على وهن ..
ساعدت من استطاعت منهن واشارت للبقية لتصعدن الي الغرف بالأعلى حتى تحضر لهن ملابس جافة وبعض المشروبات الدافئة ..

توجهت للمطبخ لتجد الخالة وسيلة تعمل على قدم وساق في تحضير الطعام والشاي .. ساعدت قدراستطاعتها .. و خرجت تحمل صينية كبري عليها أطباق الطعام لتتبعها الخالة وسيلة بصينية الشاي ..
هتف عفيف يستدعيها:- يا داكتورة ..
وضعت حملها جانبا ملبية ندائه:- نعم يا عفيف بيه !؟..

هتف مشيرا للرجال:- لو سمحتي شوفي الرچالة .. في منهم اللي يده اتصاب واللي رچله انچرحت .. اعملي اللازم ..
هتفت مؤكدة:- طبعا يا عفيف .. حالا..
واندفع هو للأعلى غاب لبعض الوقت وظهر من جديد ما ان عادت حاملة حقيبتها الطبية وبدأت في مداواة المصابين، كان يحمل بين كفيه ملابس جافة، لا تعلم من اين حصل على كل هذا الكم من الملابس .. و خلفه مناع يحمل مثلها ..

دار يوزعها على الرجال وهى تجلس تتابعه قدر استطاعتها ما بين جريح وجريح ..
انتهى من توزيع حمله وكذا مناع الذي هتف في الرجال المتجمعين بصحن الدار:- ادعوا لراغب بيه بالرحمة .. ولعفيف بيه بطولة العمر ..
نهره عفيف بحزم:- خلاص يا مناع ..

تأكدت انه اخرج ملابس من اثر ابيه الراحل وكذا من ملابسه ليكسو أهله .. تطلعت من جديد تجاهه لتنتفض تاركة ما كانت بصدده عندما سمعت هتاف مناع لعفيف في قلق:- چرحك بينزف يا عفيف بيه.. باينه واعر ..
اندفعت دلال في اتجاهه هاتفة:- جرح ايه !؟
اكد عفيف في اضطراب:- متخديش عليه يا داكتورة دِه مخبل.. لا چرح ولا حاچة ..

اكد مناع في قلق:- لاااه انا واعي انه چرح وكَبير كمان .. ولولا ستر ربنا .. وفرسك اللي رمح بعيد وعمود الكهربا بيوجع مكنش حد عارف ايه اللي كان ممكن يچرا ..
اكدت دلال محاولة التظاهر بالهدوء بعد ما سمعته من تفاصيل:- طب ممكن اشوف الجرح ده وانا اللي اقرر ..
اكد عفيف وهو يحيد بناظريه عنها:- هبجى
ابعت للداكتور طارج يشوفه .. الواحد معرفش هو راح فين وسط اللي بيحصل دِه كله !؟..

اكدت دلال في ثقة:- الدكتور طارق ف اجازة ..
نظر اليها في حنق هاتفا:- و انتِ ايه اللي عرفك انه ف اچازة !؟..
زمت ما بين حاجبيها هاتفة:- عشان قابلته امبارح وانا راجعة من ولادة .. وقالي انه نازل اجازة وكان بيسلم عليك ..

تنهد في ضيق ولم يعقب لتهتف هى ما ان استدار محاولا الهرب من حصار نظراتها لتقع نظراتها على موضع جرحه النازف الذي يصنع بقعة كبيرة من الدماء باتساع كتفه والتي لم تلحظها سابقا بسبب اللون الغامق لعباءته والتي خلعها قبل صعوده لجلب الملابس:- يا عفيف بيه .. كتفك كله دم .. لازم اشوف فيه ايه ..
حاول التهرب أمرا:- شوفي انتِ بجية الناس والحريم اخبارهم ايه وانا هبجى تمام..

اكدت هاتفة في حزم:- عفيف بيه .. الناس دي هاتبقى تمام لما انت تبقى تمام مش العكس .. الناس دي معتمدة عليك .. وملهاش غيرك بعد ربنا .. لما تقع .. مين هيسندهم !؟.. لو سمحت.. لازم اشوف الجرح ده ..كل ما اتاخرنا هيبقى فيه خطر لو كان فعلا جرح عايز علاج سريع ..

مرت لحظات صمت تنهدت بعدها في راحة عندما هز رأسه موافقا اخيرا وقد شعر ان الالم الذي كان يحاول ان يتجاهله قد بدأت وتيرته في الازدياد وعليه ان يعترف انه بدأ يستشعر نيران بكتفه المصاب .. توجه للأعلى حيث غرفته لتستأذنه هى لثوان لتحضر أدوات طبية نظيفة من غرفة الكشف ..

احضرت ما استشعرت انها قد تحتاج اليه وعادت لغرفته تطرق بابها المغلق حاملة حقيبتها الطبية .. سمعت امره بالدخول.. فتحت الباب بكف مرتعش وما ان طالعها جالسا موليا ظهره النصف عار للباب حتى كادت ان تعود القهقري .. تسمرت موضعها تحاول غض الطرف عنه .. ليهتف وهولايزل موليا لها ظهره جالسا على احد المقاعد مرتديا بنطالا وقميصا يرتدي ذراعه السليمة ويكشف عن نصف ظهره بكتفه المصاب:- اتفضلي يا داكتورة ..

تحركت خطوات مهزوزة بأرجل من هلام حتى وقفت قباله موضع اصابته .. كان الجرح عميقا بحق وتعجبت من قدرته على احتمال ألمه الذي هى على يقين من شدته ..
تلهت بفتح حقيبتها والعبث بأدواتها وما ان استجمعت حروف أبجديتها حتى هتفت بصوت متحشرج تكاد تقسم انه ليس لها:- الجرح غائر فعلا يا عفيف بيه .. ازاي قدرت تستحمل الالم ده..!؟..

اكد في هدوء:- انا مكنتش حاسس اني اتصبت من اساسه .. لولا مناع .. كان كل همي ارچع بالناس كلها ومفيش حد أضر.. بدأت في تنظيف الجرح ورغم انه لم يصدر صوتا اوحتى همهمة تدلل على تألمه الا ان تصلب عضلات كتفيه كان كفيلا بجعلها تشعر بذاك الالم الذي يكابده دون ان يجهر .. رشت مخدر موضعي على الجرح هاتفة:- الجرح محتاج خياطة ..

همس بصوت متحشرج:- اعملي اللازم يا داكتورة..
بدأت في تقطيب الجرح في مهارة وسرعة .. لحظات من الصمت مرت بينهما لم يقطعها الا صوت أدواتها .. أنهت مهمتها واخيرا وضعت غطاء على الجرح مؤكدة:- كِده تمام يا عفيف بيه .. بالشفا ان شاء الله ..
هز رأسه بلا تعقيب ومد كفه يجذب طرف قميصه الاخر ليستر به جسده فمدت كفها بالمقابل لمساعدته فتنبهت لكفه المحترق فشهقت في صدمة:-ايه اللي حصل لأيدك !؟..

وبدون وعي استدارت وهى ممسكة بكفه بين كفيها فى ذعر هامسة:- ايه اللي حرق ايدك بالشكل ده !؟..
لم يعقب والعجيب ايضا انه لم يجذب كفه المحترق من بين يديها فقد شعر براحة غريبة وكفه قابع هناك وكأن بلسما ما قد وضع مهدئا من نيران حريقه ..
جلست اسفل قدميه ولازال كفه نائما بوداعة على باطن كفها .. مدت يدها تتناول أنبوب دهان ملطف كانت دوما ما تحتفظ به في حقيبتها للطوارئ وبدأت في فرده على باطن كفه الذي كان مفرودا قبالة ناظريها وكأنما هى عرافة تقرأ له طالعه الذي تمنى لو كانت هى جزء منه ..

انتهت من توزيع الدهان على باطن الكف وتغطيتها بغطاء طبي معقم ..
تنهدت في راحة وابتسامة حانية على شفتيها رافعة ناظريها اليه هامسة:- كله تمام ..
تقابلت النظرات .. وساد الصمت وكأنما العالم قد خلا من قاطنيه .. تيه اخرق ومشاعر بكر تعربد بجنبات الروح .. وحشة غابت وانس هل كهلال عيد ما أتى منذ عصور الوثنية .. عيون تتأرجح بمآقيها الدموع وأخرى يهزها الشوق ..أنات انين وحنين مكبوتة بالصدرومؤدة بالفؤاد يحرسها الوجع وتأسرها الوجيعة ..وحديث دار بين المقل لو خُط بكتب العشق لفاضت..

لا علم لأحدهما كم مر من عمر الزمان وهما بهذه الحالة من اللا .. اللاماذا !؟..
عند هذه اللحظة ..انتفض عفيف مذعورا جاذبا نفسه من أتون يستعر بجنباته هاتفا في صوت متحشرج النبرة:- متشكر يا داكتورة .. تعبتك..
طُردت بدورها من جحيمها وكادت ان تهم بالرد عندما عاد لها القدرة على النطق الا انها ظلت موضعها مبهوتة امامه تتطلع اليه.. كم وجه لذاك الرجل !؟.. تراه الان بطوله الفارغ وببنطاله الجينز وذاك القميص الرياضي الذي كان يجاهد لارتدائه منذ لحظات كأنما بدل جلده .. رأته في السابق بتلك الحلة الرسمية التي كانت تليق به وكانما خلقت له والان ذاك الرداء الغير رسمي بالمرة الذي يعكس روحه الشبابية التي لم تنطفئ جذوتها رغما ما يحمل من تبعات ثقال..

تنبهت لشرودها الغير واع فهتفت بدورها:- لا مفيش تعب ولا حاجة .. متحاولش بس تحرك دراعك دي كتير عشان الجرح ميتفتحش ويلم بسرعة ..
هز رأسه بالموافقة وهو ينأي بنظراته عنها لتجمع هى حاجياتها على عجالة لتنهض مندفعة خارج الغرفة .. اغلقت الباب خلفها وزفرت في راحة وهى تضع كفها موضع قلبها الذي كان يطرق باب صدرها في عنف ولم تكن تدري ان احدهم داخل الغرفة يزفر في راحة اكبر وهو يرفع كفه المحترقة امام ناظريه شاعرا ان قلبه كان اولى منها بعلاج الحروق فقد كان بقاءها بالقرب منه اكثر تاثيرا ووجعا من تقطيب جرح بلا مخدر..وقلبه كان اشد اهتراءً من كفه المحترق ذاك..

دلفت شريفة لغرفة ولدها لتجده قد غفا بملابسه مما دفعها لتوقظه هاتفة في تعجب:- معقولة يا شريف نمت بهدومك !؟.. للدرجة دي كنت تعبان يا حبيبي !؟..
همهم شريف وهو يفرك عينيه هامسا:- اه يا ماما الواحد فعلا كان تعبان ومكنش حاسس ..
هتفت امه بمحبة:- طب قوم يا حبيبي افطر ده انت نمت من غير عشا .. تلاقيك جعان ..

اكد رغم انه يشعر العكس:- اه فعلا يا ماما هموت م الجوع ..
هتفت امه باشفاق:- يا حبيبي .. طب ياللاه الفطار جاهز ع السفرة اهو ..
هتف مؤكدا:- طب اسبقيني يا ست الكل .. هدخل الحمام واحصلك ..

سبقته بالفعل تنتظر خروجه .. لحظات وتبعها بعد ان غير ملابسه بملابس مريحة تناسب المكوث ف المنزل .. مد كفه يفتح التلفاز بطريقه لطاولة الافطار .. جلس وبدأ في تناول طعاما كان كطعم الحنظل بفيه فقد كان يجلس للطعام حتى تتناول امه إفطارها وكى لا يشعرها بأي تغير من شأنه تعريضها للتوتر .. فالعجيب انه منذ دخول زينب حياتهما تحسنت حالة قلب امه بينما ساءت حالة قلبه هو والذي يئن وجعا بتلك اللحظة ..

كان غارقا بأفكاره الا انه انتفض متطلعا لشاشة التلفاز عندما هتفت امه في صدمة:- يا ساتر يا رب.. مش دي البلد اللي انت شغال فيها يا بني!؟..
تنبه شريف وما ان طالعه منظر النعمانية امامه على الشاشة حتى انتفض من موضعه هاتفا في ذعر:- يا ساتر .. ايه اللي حصل هناك ده !؟..
رفع صوت التلفاز حتى تأتيه الاخبار عن تلك الكارثة.. لحظات واندفع لحجرته لتكون امه بأسره هاتفة:- على فين يا شريف !؟..

هتف متعجلا وهو يرتدي بدلته الميري:- ع النعمانية يا ماما ..
شهقت في ذعر:- تروح لهناك برجلك !؟.. انت مش شايف الدنيا عاملة ازاي هناك !؟.. ده انا حمدت ربنا ان اللي شيفينه ده حصل وانت ف إجازتك ومش هناك..
اكد وهو يكمل ارتداء ملابسه:- مينفعش اقعد هنا والدنيا هناك بالشكل ده .. لازم اروح ..
انهى ارتداءه ملابسه وطبع قبلة سريعة على جبينها ورحل سريعا في اتجاه النعمانية لا يعلم هل توجه اليها واجبا ام هربا !؟..

هتف عفيف مناديا:- يا مناع ..
ظهر مناع كعادته بلمح البصر ملبيا:- أوامرك يا عفيف بيه !؟..
اكد عفيف:- بجولك يا مناع .. الرچالة مرتاحين تمام ف الشونة .. مش ناجصهم حاچة يعني !؟..
اكد مناع بدوره:- لاااه .. كله تمام يا عفيف بيه..
همس عفيف مازحا:- طب وانت منجصاكش حاچة !؟

همس مناع في حياء:- لااه يا عفيف بيه .. الحمد لله .. كفاية عليا سلامة چنابك ..
قهقه عفيف هاتفا:- سلامتي برضك !؟..
واستطرد مؤكدا والابتسامة لم تفارق محياه:- ع العموم .. انا استأذنت الخالة وسيلة ف اوضتها عشان تجعد فيها انت ومرتك ..هى الخالة وسيلة بتنام ف الاساس مع الداكتورة ..
لم يعقب مناع ولكن تلك الابتسامة الواسعة التي ارتسمت على محياه كانت كفيلة لتكون اشد إيضاحا من اي اجابة ..

استطرد عفيف باسما:- والأوضة التانية اللي چنبها دي هتكون لامك والبنات خرچوا اللي فيها ورتبوها يجعدوا فيها.. اهو يوسعوا المكان للحريم هناك ويكونوا چارك ..
هتف مناع مسربلا بامتنان عميق لذاك الذي جمعه بأسرته من جديد:- والله ما عارف اجولك ايه يا عفيف بيه !؟.. ربنا يچمعك بشج روحك وما يفرجكم ابدا يا رب ..
هز دعاء مناع عفيف داخليا وتضرعت روحه في ابتهال بدعاء هز أركانها .. ياااارب ...

همس عفيف بصوت متحشرج:- ياللاه ابعت لمرتك وعيالك من عند الحريم .. وباذن الله اول ما الدنيا تظبط هنرچع نبنوا بيتك والبيوت اللي خدها السيل احسن م الاول .. و ربنا ما يغرب حد عن داره ..
هتف مناع بتضرع:- امين يا عفيف بيه .. امين ويريح جلبك ويرزجك محبة خلجه كمان وكمان..
ربت عفيف على كتف مناع ممتنا واندفع خارج البيت الكبير يحاول جاهدا اصلاح ما يمكن اصلاحه بعد تدخل الحكومة ومحاولة اعادة النعمانية لما كانت عليه قبل السيل الذي طمس معالمها كليا ..

طرق نديم باب شقة زينب لتفتح امها هاتفة:- اتفضل يا نديم يا حبيبي ..
هتف نديم في حياء:- شكرًا يا طنط .. بس هي زينب هنا !؟.. كنت عايزها تغير لناهد ع الجرح ..
اكدت ماجدة بلهجة حاولت ان تغلفها بالثبات:- اه زينب هنا يا حبيبي .. بس رجعت تعبانة قوي من المستشفى ونامت حتى من غير ما تاكل يا حبة عين امها ..اصحيهالك!؟
كانت تهتف بكلماتها الاخيرة بلهجة واهنة فهى تعلم علم اليقين ان ابنتها لن تخرج من عزلتها التي فرضتها على نفسها منذ رحيل شريف ..

هتف نديم رافضا:- لااا.. خليها مستريحة يا طنط.. تسلمى ..
اكدت ماجدة:- طيب يا حبيبي .. لما تصحى هخليها تجيلكم ..
هتف نديم:- طيب تمام .. سلام عليكم ..
هتفت ماجدة:- وعليكم السلام ..

اغلقت بابها وهى تعلم ان ابنتها لن تستطيع الخروج من غرفتها تلك الليلة وربما لليال عدة قادمة.. فهى تعرفها عز المعرفة وتدرك ان ما حدث في وجود شريف لم يكن هينا عليها .. فتلك الحكاية القديمة تنكأ بداخلها جراحا تحاول مداواتها منذ زمن بجانب انها تستشعر كأم تعلق ابنتها بشريف.. والذي يعد الرجل الاول الذي حرك شيئا بداخلها بعد ذاك الحادث الذي اعتقدت ان ابنتها فقدت من بعده ومع رحيل ابيها رغبتها في الحياة ..
مسحت دمع انساب على خديها وهمست بتضرع:- يااارب ..

هم نديم بنزول الدرج هاربا من بقائه مع ناهد بعد اخر موقف بينهما الا انه عاد ليفتح باب شقته ويدلف للداخل من جديد وقد ادرك ان عليه تجاهها واجبا وعليه تحمله مهما كان ذاك الواجب ثقيلا على كاهله.. توجه لغرفة ناهد وطرق بابها في ثبات .. فتح الباب في لامبالاة حاول ادعاءها عندما استمع لصوتها يدعوه للدخول.. كانت عيناه تدور بمحجرها بكل الاتجاهات عدا الوقوع على محياها وهو يهتف مؤكدا بنبرة ثلجية حاول ان يعريها من كل المشاعر:- وقت التغيير على جرح راسك ودهان رجلك ..
همست وهى لا تقل عنه اضطرابا لكنها لم تكن بمهارته لتستطيع مداراته:- مش مهم .. انا بجيت كويسة .. و زينب تبقى تغيرهولي..

اكد هاتفا بنفس النبرة:- زينب نايمة وتعبانة .. جت متأخر من المستشفى .. ومعرفش اذا كان هتقدر تعدى علينا النهاردة و لا لأ ..
اكدت من جديد:- مش مهم .. انا اصلا بجيت احسن .. ومش محتاچاهم ..
تقدم يفتح كيس الأدوية على الطاولة الملاصقة للفراش مؤكدا بنفس النبرة الثلجية:- مش بمزاجك على فكرة .. علاجك هتخديه عشان تقومي وتقدري تعتمدي على نفسك .. محدش بقى فاضي يقعد يخدمك الأربعة وعشرين ساعة كأن موريهوش غيرك ..

تطلعت اليه وعيناها تتأرجح بهما الدموع ولم تعقب بكلمة.. كانت تعلم انه يتحاشاها منذ المرة الاخيرة التي ظهرت فيها مشاعرهما للعلن .. كان يستيقظ صباحا قبلها بساعات ويخرج لا تعرف الي اين .. لكنها كانت تجد إفطارها معدا على صينية مغطاه بالقرب من فراشها ويعود بأخر النهار منهكا يتناول ما تعده ام زينب من طعام بصحبتها لكنه ابدا لم يتطلع اليها ولو لمرة واحدة كأنما يعاقب نفسه ويعاقبها على لحظة ضعف أفشت دواخله واظهرت اكثر مما كان مفترض ..

تناول هو المطهر ودار حول الفراش صاعدا اياه ودنا منها حتى اصبح قبالتها تقريبا .. رفع رأسها المنكس لتواجهه فطالعته نظرات عينيها الدامعة.. انتفض داخليا لمرأها وظل متخشبا لا يقو على اتيان اي رد فعل امام تلك النظرات الموجعة اللائمة .. لكنه اخيرا ادار رأسها حيث اتجاه اصابتها وبدأ في إزالة الغيار القديم وتطهير الجرح ووضع غيار اخر رغم ان الامر يعد شاقا على نفسه لعدم قدرته على تحمل منظر الدم اوالجروح ..

انتهى واستدار حول الفراش من جديد ممسكا بأنبوب الدهان الخاص بقدمها الذي خف تورمه لحد كبير عن زي قبل الا انها همست ما ان رأته يهم بفتح الأنبوب:- متتعبش نفسك .. انا اجدر ادهن لنفسي .. تسلم ..
تناولت منه الدهان وهى لا تقو على رفع نظراتها الى محياه مرة اخرى مما دفعه للخروج من الغرفة على عجل كأنما يهرب من احد الوحوش الذي اصبح يتعقبه كظله بصحوه ومنامه ..

ما ان تهل المغارب حتى يسود الظلام الدامس جميع ارجاء النعمانية بعد سقوط برج الكهرباء الذي كان يساعد في تغذيتها بما يلزمها .. اجتمع الرجال بدورهم امام الشونة التي يبيتون فيها ليلهم حول ركوة من نار داخل قصعة حديدية وضعوها أمامهم كوسيلة للتدفئة ولصنع أكواب وأكواب من الشاي لطرد برد الليل الأحد من السيف ..
تجمعت النسوة بدورهم بشرفة البيت الكبير السفلية والمطلة على ارض شاسعة حول الدار يحكمها سُوَر متوسط الطول ينتهي بتلك البوابة الحديدية القصيرة نسبيا ..

جلسن جميعا وبحجرهن أطفالهن الرضع اما الأكبر سنا فلم يعبأوا ببرودة الجو واندفعوا هنا وهناك ينشرون ضوضاءهم وصخبهم الطفولي ..
هتف زيدان والذي كان احد العاملين بأرض النعماني متسائلا:- هنعملوا ايه ف المصيبة اللي حلت علينا دي !؟..
هتف اخر:- يعني هنعملوا ايه !؟.. العمل عمل ربنا ..
هتف زيدان موجوعا:- الدار والزرعة راحوا .. عليه العوض ومنه العوض ..

هتف احد الرجال:- احمد ربك انك وأهل بيتك بخير .. كله يتعوض بعون الله ..
هتف زيدان شاكرا:- الحمد لله .. كله خير..
ليستطرد الرجل الاخرمؤكدا:- وبعدين عفيف بيه جال انه هيعوض الكل من ماله وشونته .. وهايبني البيوت بالطوب للناس كلها بس ع اليمة التانية البعيدة عن الچبل .. ربنا يكرمه يا رب ..
هتف الرجال مؤمنين:- امين ..

ساد الصمت لبرهة ليهتف احد الرجال من جديد موجها حديثه لرجل كبيربالعمر:- ليه ناسينا يا عم متجال .. ما تسمعنا حاچة ربنا يرضى عنِك ..بدل جعدتنا دي..
هتف عبدالمحسن الشهير بمتقال وهو رجل ناهز الستين من عمره يحمل ربابته اينما ذهب:- عناي.. هو انا حيلتي الا الجول ..
هتف رجل اخر:- طب ياللاه .. و لا ربابتك راحت ف السيل يا عم متجال !؟..

هتف عبدالمحسن مؤكدا وهو يحتضن ربابته لصدره كمعشوقته:- لاااه .. أهي .. دِه اني اموت وهى تبجى .. مطلعتش م السيل الا بيها .. ومن جبل سابج .. هى اللي طلعت بيها م الدنيا بعد ما العيال راحت والعيال طفشوا على بره ورا اكل عيشهم .. اهااا ..بتصبرني على حالي ..
هتف احد الرجال مشجعا:- طب ما تصبرنا معاك على حالنا يا راچل يا طيب ..

دارت أكواب الشاي الساخن التي أعدت على نار الركوة مرة اخرى وعدل عبدالمحسن من وضع ربابته واحتضنها في هيام و بدأ عذفه وشدوه لينقل الجميع لعالم اخر وهو يترنم بأبيات السيرة الهلالية هاتفا:-
بعد المديح ف المكمل ..
احمد ابو درب سالك..
احكى ف سيرة واكمل ..
عرب يذكروا جبل ذلك ..
ويا آه .. يا عيني على آه ..
يابا آه .. يا عيني على آه ..
ويا آه .. يا عيني على آه ..
يابا آه .. يا عيني على آه ..

كان الرجال منتشين مرددين خلف عبدالمحسن وكانت دلال تجلس بالقرب من ذاك الحدث على احد المقاعد وسط مجلس النساء تتلحف بشال امها تضمه اليها ليبعث بها الدفء وهى تتطلع لذاك الجو الساحر حولها ..

اخذها الغناء كليا وبدأت تندمج مع الملحمة الملقاة بصوت عبدالمحسن القوي .. وفجأة سقطت عيناها على محياه .. كان يقف بالقرب مستندا على شجرة ضخمة بأحد الأركان يلتحف عباءته السوداء ويضم الى كفيه كوبا من الشاي.. وتساءلت منذ متى كان هنا !؟.. لقد شارك الرجال في مشروبهم منذ البداية وهى التي كانت غافلة عن وجوده..

عادت بمخيلتها للحكاية التي تسرد على مسامعها لكنها حولت ناظريها لموضعه عندما هتف عبدالمحسن في سلطنة:-
سيرة عرب أجدمين ...
كانوا ناس يخشوا الملامة…
رئيسهم بطل سبع ومتين ..
يسمى الهلالي سلامة ..

وجسدته بعين خيالها .. ابوزيد الهلالي ذاك البطل الأسمر الذي قاد قومه بني هلال في تغريبتهم حتى ارض تونس الخضراء بحثا عن ارض تقلهم ومأوى يضمهم وتذكرته وهو يحمل شعلته قائدا أهله يوم السيل الي حيث الأمان في كنف بيت النعماني .. ابتسمت في وله وهى تعقد هذه المقارنة وظلت عيناها معلقة به .. ببطلها .. الذي كانت تعتقد انها ستحمل ذكراه وصور تلك الليالي معها بذاكرتها ما ان ترحل تاركة النعمانية خلفها لكنها ادركت انها كانت مخطئة .. فهناك ذكريات كتلك لا محل لها الا سكن الروح .. وللأبد ..

حمد الله انه عاد مسرعا ما ان سمع ما حدث فما ان وصل النعمانية اوبالأدق حدودها حتى بدأت القيادات والصحافة في الوفود للوقوف على اخر اخبار تلك البلدة الصغيرة التي عزلها السيل عما حولها من البلاد ولا طريق لمعرفة ما يجري بالداخل نتيجة لانقطاع الكهرباء والاتصالات بوجه عام .. حتى انه لا اخبار مؤكدة عن وجود ضحايا اوحتى معرفة عددهم ..

كان كل شئ مبهم ولا تقدير حقيقي لحجم التلفيات والخسائر.. كلها تقديرات جذافية فما كان احد بقادرعلى الدخول للبلدة .. الا بعض المروحيات التي حلقت لبعض الوقت فوق النجع لحصر ما يمكن حصره ..

لم ينم لساعة كاملة لمدة يومين كاملين .. فالوضع كان جد خطير.. حتى مبني النقطة الذي كان من طابقين والذي كان مقام على اطراف النجع قد لحق به الاذي وما كان باستطاعته دخول طابقه الاول الذي كانت المياه تصل لما فوق ركبتيه اذا ما فكر ان يدخل من الاساس .. كان يبيت ليله بالصندوق الخلفي لعربة الشرطة حتى اشعار اخر ..

ورغم كل ما يحدث .. و رغم كل ما يعان .. الا انها لم تغب عن باله لحظة واحدة .. كانت تطالعه ابتسامتها النادرة التي ما كانت تظهرها الا في مناسبات خاصة فهو يعلم انها كانت تتصنع الجدية في حضرته .. هى ابدا لم تدفعه لحبها .. بل انه يشهد انها كانت في كثير من الأحيان تدفعه بعيدا عنها .. تقصيه عن دربها لكن هو من أبى الابتعاد .. هو من تبعها كعباد شمس يتبع ضوء نهار ..

انه يعترف الان ان لا قبل له على اخراجها من قلبه الذي تشبث بها منذ اللحظة الاولى التي نظر فيها لعينيها ..هو لا ينكر ان ما سمعه من امها من حقائق قد هزه قليلا .. لكنه كان اهتزاز للصدمة ليس اكثروان ما علمه لم يغير من مكانتها بقلبه ابدا .. كل ما كان بحاجة اليه هو خلوة كهذه التي يعيشها قسرا حتى يستطيع ترتيب افكاره واتخاذ قراره وها هو يتخذ قرارا لا رجعة فيه..

قرار صادر من اعماق روح تدرك تماما انها لن تهنأ الا بقربها .. قرار لن يتنازل عن تنفيذه في اقرب فرصة .. و سيفعل المستحيل لجعلها توافق ..
انتفض خارجا من شروده عندما هتف به احد عساكره مؤديا التحية العسكرية:- اشارة يافندم ..
انتشلها شريف من بين يديه هاتفا به:- هات يا اخرة صبري ..

توقف للحظة مدركا امر ما وتطلع للعسكري في صدمة واخيرا همس رافعا كفيه للسماء داعيا لله في تضرع:- بقى دي اخرتها يا رب !؟.. يبقى ده اخرة صبري !؟ و اشار للعسكري الذي كان يقف متعجبا لأفعال ضابطه الذي استطرد هامسا:- لا والنبي يا رب .. انا عايزها هى تبقى اخرة صبري .. وحشتيني يا زينبو .. أمتى الاجازة تيجى بقى..!؟..
اندفع مبتعدا ينفذ أوامر الإشارة والعسكري من خلفه يضرب كفا بكف متعجبا لافعال شريف باشا الذي ما عادت قواه العقلية تنبئ بالخير..

شعرت انها تكاد تختنق من البقاء فى الداخل اكثر من هذا .. اربع ليال كافية لتظل حبيسة مندرة البيت الكبير مع كل هذا العدد من النسوة .. انها تشعر برغبة قوية فى استنشاق الهواء الطلق وان تكون وحيدة لبعض الوقت تسترجع الاحداث و ترتبها فى مخيلتها ..
هبطت الدرج ذي الثلاث درجات واتجهت مبتعدة لا تلو على شئ.. تشعر بخواء عجيب داخلها وإحساس برهبة تتملكها لا تدرك لها سببا ..

لم تع لشرودها انها تخطت حدود البيت الكبير وبدأت فى الهبوط تدريجيا لتتوقف قبل ان تصل لتلك الطرق الضيقة الموحلة بعض الشئ عن تلك التى بأعلى التبة المقام عليها بيت النعماني ..

تطلعت للمشهد الخلاب قبالتها وهى تستند على شجرة سدر ضخمة .. كان الجبل مهيبا يعكس عظمة وشموخ لا يستهان به وبين ذراعيه تقبع النعمانية التى غطاها السيل بذاك الشكل حتى غمرها كليا فطمس معالمها الخضراء وحولها لقطعة منه تحمل نفس لون الثرى الغني والذى اصبح اكثر قتامة بسبب مياه السيول التي اختلطت به وازالت عن كاهليه أتربة عصور مضت ليشع بهاء من جديد ليصير بهذا الحسن الذى ما رأته عليه سابقا ..

تنهدت وما ان همت بالاستدارة لتعود من حيث أتت حتى تناهى لمسامعها صوت خيل قادمة من البعد .. تطلعت الى الطريق تستطلع القادم على الرغم من ان قلبها قد اخبرها كنهه قبل عينيها الا ان عيونها ظلت معلقة بالطريق المتعرج حتى ظهر بالفعل امام ناظريها وما هى الا لحظة حتى كان يشرف عليها من على صهوة فرسه متطلعا اليها فى تعجب ..

كانت تتوقع ان يعاتبها على خروجها من البيت الكبير بعد ان اكد عدة مرات ان السيل قد جرف معه هوام الارض وان الحيات و العقارب خرجت من جحورها وعلى الجميع الحذر فالنعمانية لاتزل على عزلتها وما من سبيل لإنقاذ احدهم اذا ما اصابته لدغة ما ..

لكن ما حدث كان اشد وعورة ولم يقتصر على العتاب .. فلقد اندفع مترجلا من على فرسه وبلا اى مقدمات وجدت نفسها مصطدمة بصدره .. مزروعة بأحضانه .. كف يحيطها ضاما إياها وكف اخر يخرج شئ ما تبينته في التو .. كان سلاحه .. صوبه على شئ ما كان بالقرب من موضع وقوفها السابق قبل ان يجذبها اليه بهذا الشكل الصادم..
انتفضت عندما اطلق النار عدة مرات و تشبثت به كطوق نجاة .. ساد الصمت ..

كاد ان يبعدها عن صدره المتعلقة به كانها غرست جذور كفيها بأرضه .. لكن كيف له ان يفعل وهى ترتجف بهذا الشكل بين احضانه فى ذعر تام ما ان ادركت انه لولا ظهوره وقتله تلك الحية التى كادت تودى بحياتها لكانت في عداد الأموات فى تلك اللحظة !؟.. كيف له ان يرسلها بعيدا وهو المتأمل فى قربها تلك المتشبثة بتلابيب روحه والمسربل فؤاده بهواها !؟ كيف له ان يفعل وهوالذى يود لو يضمها اكثر فاكثر حتى تضحى جزء اوبعضا من روحه لا يمكن لأى من كان ان ينزعها عنه مبعدا حتى الموت!؟..

جاهد جهاد الابطال حتى استطاع اتخاذ قراره الموجع وامسك بكتفيها مبعدها عن صدره الذى بدأ يئن من وجيعة بعادها القسري .. ولم يشعر الا وهو يهزها فى قوة هاتفا فى لهجة عاتبة:- انتِ ايه اللى خرچك م البيت الكبير ونزلك هنا !؟.. كنتِ هتروحى فيها وانى منبه عليكِ من الاساس..
توقف عن هزها بهذا الشكل عندما ادرك انه رغما عنه قد افرغ ذعره لمجرد تخيل فقدها عليها هى التي يوجب عليه ان يبثها الطمأنينة…

ابعد كفيه عنها فكادت ان تسقط.. اندفع يهم باللحاق بها لولا انها استجمعت قوتها واستدعت ثباتها ووقفت متسمرة للحظة لا تدرى ما عليها فعله ..واخيرا رفعت ناظريها اليه ليكاد يشهق فى صدمة عندما رأى دموعها منسابة على صفحة خديها ..
اندفعت باتجاه البيت الكبير ليتنهد هو فى ضيق يتابعها بناظريه تكاد تنهداته تخنقه لولا خروجها بهذا الشكل الذى ينم عن احتراق داخلى مريع حذا حذوها وامسك برسن فرسه واتجه خلفها للبيت الكبير يكاد يموت قهرا على دمعها الذى كان سببا فى هطول زخاته بدلا من ان يكون مانعها ..

دخل بتؤدة لداخل شقته حاملا بعض من الأغراض المنزلية التي تلزمهما وخاصة ما تحب تناوله حتى تستطيع تناول دواءها .. تقدم نحو المطبخ تاركا الأغراض جانبا وما ان مر بحجرتها حتى وجد بابها مواربا .. طرق الباب لعلها بالداخل الا ان الصمت كان المجيب الوحيد .. تطلع لتلك الرسالة بكفه يقلبها في قرف .. هل يقرأها ويلقي بها كما حدث مع مثيلاتها ام ماذا !؟..

ما عاد يعلم ما عليه فعله .. نظر لتلك الكلمات التي تحذره من الظهور بأي شكل اوالاقتراب من النعمانية مهما حدث .. ابتسم بوجع ساخرا من التحذير الذي لم يكن بحاجة اليه دفع بالرسالة سريعا بجيب سترته ثم دفع الباب في رفق وجال ببصره بالغرفة ولم يجدها .. اندفع خارجا مناديا عليها الا انها لم تجب .. تنبه انها بدأت تستعيد قدرتها على السير بشكل سليم فاستنتج انها شعرت بالضجر بمفردها فذهبت لتستأنس بالجلوس مع زينب وامها ..

خرج من شقته وطرق باب شقة زينب لتطالعه ما ان فتحت الباب جالسة في احد الأركان ابتسمت زينب مهللة:- اتفضل يا نديم .. اكيد بتدور على ناهد !؟.. أهى مشرفانا يا سيدي لحد ما ترجع ..
ابتسم نديم في دبلوماسية هاتفا:- هى ليها مين غيركم يا زينب معذورة بتقعد النهار بطوله لوحدها .. ما انا ببقى بره بقى ..
هتفت زينب متسائلة:- طبعا دي مشرفانا وبتونس ماما والله وانا غايبة ف المستشفي .. بس هو انت بتشتغل يا نديم !؟..
اكد نديم مضطربا:- اه يا زينب .. اهو حاجة اقدراسد بيها طلباتنا لحد ما اشوف هتصرف ف شغلي ازاي بعد الاجازة الطويلة اللي انا فيها دي ..
هتفت زينب تستفسرمن جديد:- بتشتغل ايه!؟..

تنحنح نديم محرجا:- يعني يا زينب .. مش فارقة .. اهو كله شغل ..
صمتت زينب وقد ايقنت ان نديم يعمل بعمل لا يليق به رغبة في عدم اشعار ناهد بانه غير قادر على تحمل مسؤليتها .. اشفقت عليه.. لكنها احترمته اعتقادا منها ان الحب لا الواجب هو الدافع .. وتذكرت ذاك الذي اختفى ما ان علم بماضيها الموجع .. فدمعت عيناها ونهضت تستأذن في عجالة لتحضير الطعام ..
انتبهت ناهد لحديث نديم مع زينب فنهضت في هوادة متجهة نحوه ليعودا سويا لشقتهما الا ان ماجدة هتفت تستوقفها:- ايه ده !؟.. انتوا رايحين فين !؟.. والله ما انتوا ماشيين الا لما تتغدوا معانا ..

هتف نديم:- و الله يا طنط جبت غدا معايا و انا جاي .. كفاية تعبناك معانا بجد ..
هتفت ماجدة معاتبة:- ده برضو كلام يا نديم .. ده انت ابني .. ان مكنتش اتعب لابنى هتعب لمين !؟..
هتف نديم في امتنان:- تسلمى يا طنط ..بس والله مافيش داعي .. اعفيني .. انا اصلا مش جعان .. انا تعبان فعلا وعايز انام ..
هتفت ماجدة في تفهم:- طب خلاص على راحتك يا حبيبي ..بس هنستاكم ع العشا ..
هتف نديم متوجها للباب تتبعه ناهد:- باْذن الله يا طنط .. سلام عليكم ..

ألقين التحية خلفه وهو يتجه نحو باب شقته
دخل وهى بعده وأغلقت باب شقتهما في هدوء وهى تراه يندفع في اتجاه الحمام هاتفا بنفس اللهجة الثلجية التي اعتمدها لتعامله معاها منذ ايّام:- هاخد دش ولوجعانة .. كلي متستنيش ..
اكدت ناهد في هدوء:- لااه مش چعانة ..

دخل الحمام ولم يعقب وغاب بالداخل يلق وجع يومه اسفل رذاذ الماء الدافئ يحاول ان يخفف من ألام كتفيه وظهره ..
انتهى اخيرا وما ان خرج من المغطس حتى اخذ يسب نفسه سرا .. ألن يكتفى من هذه العادة ابدا !؟.. فدوما ما ينسى احضار ملابسه النضيفة عند دخوله للحمام .. تطلع حوله ولم يجد الا ملابسه المتربة التي خلعها لتوه ومنشفة ..

اضطرآسفا لفتح باب الحمام وإخراج رأسه منه هاتفا باسمها:- يا ناهد ..
اندفعت ملبية ندائه تقف امام باب الحمام في اضطراب منكسة الرأس هامسة:- نعم !؟..
اكد مشيرا لحجرته:- معلش هتعبك هاتيلي هدوم من اوضتي ..
اومأت برأسها ايجابا وظل هو ينتظر خلف الباب حتى عادت هامسة من جديد وهى تناوله ملابس نضيفة:- اتفضل ..

مد ذراعه لتناولها ورفعت ناظريها لتتأكد انه قد امسك بها لتطالع تلك العلامة العجيبة على كتفه .. شهقت في صدمة:- ايه اللي ف كتفك ده !؟..
اضطرب وجذب ملابسه لداخل الحمام واغلق الباب .. دمعت عيناها وجعا على ما يفعل بنفسه رغبة في ارضائها وإشعارها ان الامور على ما يرام ..
انتظرت خروجه واعدت الطعام بالطاولة في الردهة الخارجية .. خرج مندفعا في اتجاه غرفته لتستوقفه هى هاتفة:- نديم .. مش هتاكل !؟..
اكد وقد توقف تلقائيا يرد عليها دون ان تتلاقى نظراتهما:- لا مش جعان ..

هم باستكمال طريقه لغرفته الا انها اعترضت طريقه هامسة:- انا مش هاكل الا لما تاكل..
اكد بلامبالاة:- براحتك ..
هم بالتحرك مرة اخرى لتعترض طريقه من جديد هامسة:- ليه يا نديم !؟.. العلامة اللي ف كتفك دي ليه !؟..

هتف نديم غاضبا وقد خرج عن طوره:- عشان نلاقي ناكل .. عشان نعرف نعيش .. كنت بشيل الطوب والمونة على كتافي عشان نلاقي حق علاجك وعشان اعرف ادخل على الناس اللي اوينا ف بيتهم بحاجة ف أيدي .. عشان محسش اني قليل ف نظر نفسي وانا متكل على فلوس اختي .. عشان ..
قاطعته وهى تربت على كتفه هامسة والدمع ينساب على خديها:- عشان انت راچل .. وسيد الرچالة كمان ..
تطلع اليها ليفقد دفاعاته مرة واحدة وما عاد قادرًا الا على التفكير فى جذبها لأحضانه..

فلو صنفت كلماتها على انها كلمات حب لكانت أعظمها بالنسبة اليه .. لكن بديلا عن ذلك اندفع باتجاه غرفته هربا من تأثيرها المُهلك على أعصابه ..
جلست لبرهة وحيدة بالردهة الا انها عزمت امرها ونهضت في ثبات تدخل خلفه الغرفة وتوقفت امامه هامسة:- لو ليا عندك خاطر..تعال كُل .. اكيد انت چعان بعد التعب طول النهار .. عشان خاطري جوم ياللاه ..
تطلع اليها وكل ما يجول بخاطره هو اخراجها من الغرفة بأي شكل لذا نهض في سرعة خارجا لتتبعه هى جالسة الى الطاولة وذاك التلفاز القديم يبث اخبار أسبوعية مجمعة ..

مد كفه يتناول اول لقيمات منذ طعام الافطار
وما ان هم بابتلاعها حتى نهض مذعورا وهو يصرخ:- مش دي النعمانية !؟..
انتفضت بدورها متطلعة لشاشة التلفاز هاتفة في ذعر مماثل:- ايوه هى .. ايه اللي حصل ده !؟.. و ميتا !؟.. اخوي ..
همس نديم في ذعر باسم اخته:- دلال ..

اندفع يطرق باب شقة زينب في عجالة لتطالعه زينب هاتفة في ذعر:- خير يا نديم..
اكد مضطربا:- النعمانية السيل غرقها وعزلها عن العالم .. مسمعتيش من شريف بيه اي اخبار !؟..
هتفت زينب مصعوقة للخبر:- سيل !؟.. ازاي !؟.. طب ودلال !؟.. وشريف !؟..

تأكد نديم انها لم تسمع اي اخبار قد تفيده فهتف يهم بالعودة لشقته:- انا مسافر للنعمانية حالا ..
هتفت ناهد صارخة بدورها:- خدني معاك ..
هتفت زينب متضرعة:- عشان خاطري استنوا بس لحد ما نشوف ايه اللي بيحصل ..

هتف نديم بعزم:- لا خلاص معدش فيها قعاد يا زينب.. انا سمعت كلامكم وكلام دلال كتير خاصة بعد ما طمنتني عليها ف جوابها الاخير ..لكن دلوقتي انا رايح اطمن على اختي واللي يحصل يحصل ..
واندفع من باب شقتها في اتجاه شقته تتبعه ناهد وهى اكثر تصميما منه على الذهاب للاطمئنان على اخيها .. وليكن ما يكون…

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة