قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش ف2 الكابوس

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش كاملة

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني

بعنوان ( الكابوس )

جلست باعتدال في المقعد الخلفي واختارت ان تجلس خلف مناع مباشرة اعتقادا منها انها بهذا الوضع ستكون ابعد له من كونها تجلس خلفه مباشرة لكنها لامت نفسها لانها ادركت انها أصبحت الأقرب اليه فى تلك اللحظة ..

هتف بهدوء و بنبرة واثقة من مقعده جوار مناع وهو يتحاشى النظر اليها و لم يستدر حتى برأسه الذي تعلوه عمامته الناصعة البياض و ذؤابتها التي تتدلى على كتفه تمنحه مظهرا أشبه بفرسان العرب قديما مؤكدا ومخرجا إياها من ذاك الخاطر العجيب الذى شوش مخيلتها للحظات لتنتبه لصوته الأجش:- يا داكتورة .. دلوجت محدش يعرف اى حاچة عن الموضوع بتاع اخوكِ دِه غير اتنين .. مناع و الحاچة وسيلة .. و دى هتجبليها لما نوصلوا بالسلامة .. و
هتفت بتعجل:- يا عفيف بيه .. مفكرتش للحظة انا هيبقى صفتى ايه هناك ..!؟.. انا هكون موجودة ف البلد قدام الناس على اي أساس!؟..

تجاهل عفيف الاستدارة لمواجهتها مجددا هاتفا فى هدوء:- لو صبر الجاتل ع المجتول يا داكتورة ..
هتفت بضيق:- قصدك ايه ..!؟..
هتف عفيف من جديد بهدوءه الذى يوترها و تجاهله لمواجهتها:- انا كنت لسه هسألك .. تخصص حضرتك ايه ..!؟..
هتفت و كأنه سأل بالفعل:- أمراض نسا و توليد ..
هتف في ثقة و كأنه يحدث زجاج السيارة الامامى المقابل له:- عز الطلب .. تاهت و لجيناها .. النچع محتاج داكتورة للحريم عشان انتِ اكيد عارفة الرچالة هناك مش بيرضوا يودوا حريمهم لداكتور راچل .. و انتِ چتيهم نچدة من السما ..
هتف مناع مؤكدا و هو ينظر لعفيف نظرة ذات مغزى:- كنها چت بوجتها يا بيه ..

استدارت دلال لحقيبتها الطبية التي تشاطرها المقعد الخلفى من السيارة و تنهدت براحة انها استمعت لندائها الداخلي و هي تهم بمغادرة الشقة لتتناولها معها وهي مغادرة للمجهول الذى لا تعرف ما يمكن ان يطالها من مواجهته و هتفت مستفسرة:- انتوا تقصدوا ايه !؟...

هتف عفيف و هو لايزل يتجاهل الاستدارة لموضعها:- اصلك انا كنت ناوي اني اچيب داكتورة للحريم ف النچع و اهااا كنها اتحلت على يدك يا داكتورة و دِه اللي هنجوله لأهل البلد .. انك الداكتورة اللي اتفجت معاها تاجي عشان الحريم و طبعا مفيش مكان ينفع للضيافة ف النچع كله اكتر من بيت النعماني الكَبير .. و دِه هايبجي سبب كافي عشان تشرفينا من غير ما اهل النچع يشوفوا وچودك ف البيت الكبير غريب .. حضرتك عارفة طبعا نظرة الناس ف البلاد دي بتبجى كيف !؟..

اومأت برأسها دون ان تجيب و اخيرا هتفت عندما ادركت انه لا ينظر اليها:- اه طبعا يا عفيف بيه .
ابتسم مناع ابتسامة واسعة و هو يهتف موجها حديثه لها:- انى مرتي حبلى .. و البركة فيكِ بجى يا داكتورة تتابعيها ..دى هاتبجى اول اللي هياجوكي ..
ثم استطرد متوسلا عندما لم يعقب عفيف بأى تعليق بل ألتزم الصمت المريب الذى يجيده و لا يتحدث الا للضرورة:- اه والله يا داكتورة .. دِه حضرتك ربنا بعتك ليها دي كانت هتموت النوبة اللى فاتت لولا ربنا نچاها ..

واستطرد في أمل:- و اهااا يمكن ربنا يكتب على يدك مچية الواد ..
هتفت مستفسرة بتعجب:- واد ..!؟.
فسر مناع:- اه .. نفسى ربنا يرزجني بواد .. اصلك أني عِندي بتين ..

صمتت و لم تعقب .. و تعجبت انه لازال ذاك الفكر العقيم يسيطر على الرؤوس هناك في تلك البلاد البعيدة التي حكى لها اخيها بعض من عاداتهم و تقاليدهم و نحن على مشارف الألفية الثانية .. و تعجبت اكثر ان اخيها لم يذكر و لو لمرة واحدة اسم عفيف بيه او اخته .. هى على يقين انه لم يفعل و لم يذكرهما في حديثه و لو مرة .. و الأعجب من ذلك انه قد تورط معهم بهذا الشكل .. لازالت لا تصدق انه فعلها ..

لكن هناك هاتف داخلها يخبرها ان ما قرأته بخطاب ناهد أخت عفيف حقيقي و لا يمت للعبث بصلة .. و ان اخيها متورط معهم حتى النخاع و هذا ما دفعها للانصياع لمطالب عفيف بلا قيد او شرط تاركة حياتها و كل ما يخصها خلف ظهرها مخافة ظهور اخيها في اى لحظة و حدوث ما لا يحمد عقباه .. عادت بنظرها لعفيف .. ألقت عليه نظرة خاطفة و اعادت نظرها مرة أخرى للنافذة جوارها و هي تشعر ان هؤلاء لا يمكن العبث معهم فيما يخص الكرامة و الشرف ..

عندها ازدردت ريقها في صعوبة و سرحت بناظريها بعيدا حيث ذاك الجبل الغربي على مرمى البصر يحتل امتداد الطريق يقترب تارة و يبتعد أخرى .. و لأول مرة شعرت بالخوف يزلزل أركان نفسها و هي تتجه لعالم اخر ابعد من مخيلتها .. لكن كل شيء يهون لأجل خاطر اخيها وسلامته ..

توقفت العربة بعد بضع ساعات امام احدى الاستراحات المنتشرة على الطريق .. هتف عفيف و هو يغض الطرف عنها متنحنحا فى ادب:- انزلي با داكتورة حركي رچلك شوية ..و تعالي نشربوا حاچة .. لساتها السكة طويلة ..
اكدت فى هدوء:- انا مش تعبانة يا عفيف بيه .. ولو كمت وقفت عشان خاطري انا كويسة .. يا ريت نمشي عشان زي ما بتقول حضرتك السكة لسه طويلة و ده معناه ان الليل هيدخل علينا و احنا ع الطريق ..

تنهد عفيف و ترجل من السيارة هاتفا:- براحتك يا داكتورة .. اني عن نفسي نازل …
ابتعد خطوات فى اتجاه الاستراحة و جلس على احدى الموائد الخشبية تحت مظلة ما عاد فى حاجة اليها و الوقت قارب على الغروب ..
شعرت انه كان على حق بعدما احست بتيبس في عضلات كتفيها و ظهرها .. كان عليها ان تستمع لنصيحته و تنزل عن السيارة قليلا.. مرت دقائق اخذت تنازع فيها تلك الرغبة .. و اخيرا دفعت باب السيارة و ترجلت منها في اتجاه طاولته ..

ابتسم في هدوء عندما رأها قادمة تجاهه وتعمد ان لا يشعرها بالحرج .. جلست على مائدته ولم يعقب هو بحرف .. لحظات و جاء النادل بكوب من الشاي .. ليهمس عفيف مخاطبا إياها:- تطلبى ايه يا داكتورة !؟..
تطلعت للنادل هاتفة متجاهلة اياه:- عايزة شاي بالنعناع لو سمحت ..

زفر عفيف فى ضيق و تطلع في الاتجاه المعاكس في حنق .. و ما ان ابتعد النادل حتى هتف معاتبا فى لهجة حاول ان يسيطر فيها على انفعاله:- يا داكتورة .. لما يبجى معاكِ راچل جاعد .. جوليله اللي انتِ عوزاه و هو يطلبهولك .. مش تكلمي انت الچرسون و لا كني ليا لازمة ف الچاعدة دي ..
هتفت بحنق:- يا عفيف بيه الكلام ده تقوله لواحدة تخصك .. لكن انا واحدة غريبة عنك لا اعرف عاداتكم و لا تقاليدكم و لا ايه المفروض او مش المفروض بالنسبة لك .. و لا يهمنى اعرفه بالمناسبة لأني هنا ف مهمة محددة و باذن الله تخلص على خير.. مش موجودة عشان تعلمني ايه اللى يصح او ميصحش من وجهة نظر سيادتك .. عن اذنك ..

و اندفعت فى اتجاه العربة و فتحت بابها و دلفت اليها و اغلقته خلفها فى عنف ..
لحظات و تبعها عفيف و تبعه مناع.. كانت هى تتطلع من النافذة لا تريد ان تلق بالا لمن دخل او خرج من السيارة كأن الامر لا يعنيها..
لحظات و خرجت العربة للطريق مرة اخرى .. تنحنح عفيف و هو يمد كفه ببعض الاكياس و كوبا كرتونيا من الشاي ..
هتف فى هدوء:- شايك اللى طلبتيه يا داكتورة .. و معاه شوية سندوتشات .. احنا مكلناش لجمة م الصبح .. اتفضلي ..

مدت كفها تتناول كوب الشاي و الاكياس هامسة فى تحذير للسانها ان يلزم الصمت و لا يسبق عقلها في العمل كعادته .. لأنها بالفعل تتضور جوعا وذاك الطعام جاء بالوقت المناسب و كوب الشاي ذاك هو الأثمن على الإطلاق لعله يهدئ و لو قليلا من ذاك الصداع الذى اكتنف رأسها ولا سبيل لعلاجه ..
تنبهت انه يتناول طعامه بالمثل و كذا مناع .. همست بنفسها .. جيد انه لم ينس سائقه .. هناك بعض من رحمة في قلب ذاك الرجل ..

مر بعض الوقت .. و الصمت هو اللغة السائدة داخل السيارة .. شعرت بالضجر يكاد يقتلها و الطريق حولها قد تحول للون قاتم جراء زحف الليل لتصبح العربة و كأنها تسير فى طريق من رماد لا نهاية له ..
تنبهت ان عفيف كان يسند رأسه للخلف مستندا على ظهر مقعده .. يبدو ان رأسه يمور بالأفكار كرأسها .. و ذاك الصمت يعد تربة خصبة للكثير من الخواطر و الشجون .. لكن اعتقادها كان خاطئا فما ان ترجرجت السيارة قليلا بفعل احد مطبات الطريق .. حتى انحرف وجهه باتجاهها لتدرك انه يغط فى نوم عميق ..

لا تعلم ما دهاها حتى تتفرس فى ملامح الرجل بهذا الشكل !؟.. جبهة عريضة تغطي الجزء الأكبر منها تلك العمامة لتنحدرعيناها الى حاجبين كقوسين فحميين يظللان عيون صارمة خبرت نظراتهما عدة مرات اليوم و كانت كافية و زيادة لتدرك ان تلك العيون هى عيون نظراتها امرة لا تقبل الا الطاعة .. انف شامخ .. ينحدر قليلا عند ارنبته ليظهر منخاران متوسطى الاتساع تشعر بأنفاسه من خلالهما عميقة قوية .. و دافئة..

يظهر اسفل منها شارب كث متناسق و مهذب يحتل منطقة ما فوق الشفاه العليا و يغطيها تماما .. و اخيرا فم واسع بعض الشئ .. و شفاه مكتنزة .. كان باختصار مثال حي لرجولة خشنة و ملامح لا تعرف اللين ..
ظلت على تأملها له للحظات اخرى وفجأة انتفضت موضعها عندما فتح عينيه بغتة متطلعا حوله فى تيه ..
أبعدت ناظريها عن محياه و حمدت ربها فى نفسها انه لم يدرك انها كانت تتأمله ..

سأل عفيف مناع بصوت متحشرج لايزل يغلب عليه النعاس مما جعلها تشعر فجأة بعدم الارتياح لذاك الشعور الذى استبد بها ما ان وصل لاسماعها:- لسه كَتير يا مناع..!؟
اكد مناع:- لاااه .. خلاص يا عفيف بيه .. جربنا ..
ادار وجهه مواجها لها هاتفا:- تلاجيكِ تعبتي يا داكتورة !؟.. معلش .. بلادنا بَعيدة ..

همست و هى تحاول ان لا تتقابل نظراتهما فهى لم تجمع أشتات نفسها بعد الذعر الذى سببه لها استيقاظه المفاجئ ذاك:- لا ابدا .. انا كويسة الحمد لله .. و بعدين دلوقتى نوصل و نستريح..
قالت كلماتها الاخيرة و هى لا تع هل حقا ستستريح ما ان تطأ اقدامها تلك الارض ام انها ستكون بداية المعاناة الحقيقة !؟.. ظل السؤال حائرا بلا اجابة و مناع يؤكد على وصولهم لحدود نجع النعماني .. ليبدأ قلبها فى الوجيب توترا و قلقا..

اطلق مناع نفير العربة عدة مرات و هو يمر من خلال بوابة قصيرة نسبيا من الحديد المفرغ كانت مفتوحة على مصرعيها .. سارت العربة صاعدة منحدر طويل ينتهى قرب باب خشبى ضخم اشبه بأبواب القلاع القديمة .. راحت تتطلع لما حولها فى تيه و هى غير قادرة على تبين ملامح المكان حولها في ذاك الظلام الذى يسربلهم وتنبهت من شرودها و عفيف يستدير ليفتح لها باب السيارة هاتفا في هدوء اعتادته:- اتفضلي يا داكتورة ..

خطت خارج العربة في وجل تشعر انها تخط أولى خطواتها تجاه مجهول لا تدرك كيف يمكنه التأثير على مجريات حياتها التي اعتقدت انها ستسير دوما في وتيرة واحدة ما بين عملها و بيتها و اخيها و لكن هاهى تكتشف الان ان الأمور لم تسر على ذاك النحو السلسل الذي كانت تتوقعه فما بين طرفة عين و انتباهتها وجدت نفسها في بلاد غريبة مع شخصيات اغرب لهم عادات و تقاليد لا تستوعبها و حياة اخيها الوحيد في خطر من جراء معاداتهم ..

انتقضت عندما وصل لمسامعها هتاف عفيف ربما للمرة الثالثة داعيا إياها لمغادرة السيارة ..
بالفعل ترجلت منها في بطء عجيب و كأنها تنوى التراجع و العودة من حيث أتت و لكن هل هذا ممكن ..!؟ ترى أين هو نديم اخوها في تلك اللحظة ..!؟.. و هل ناهد اخت عفيف بالفعل معه ..!؟..

وقفت في تردد تتطلع حولها بقلق و وقعت عيناها على ذاك البيت الذي يقف شامخا قبالتها .. لم يكن من الصعب حتى في ذاك الظلام تبينه كان بيت من البيوت القديمة يعلو لثلاث طوابق يغلب عليه الطابع الحجرى فله بعض الأيقونات و النقوش على بعض افاريز النوافذ و الشرفات جعله أشبه بقلعة قديمة من قلاع القرون الوسطى .. أين هي!؟.. تسألت في دهشة و هي تجول بناظريها حولها من جديد ..

كان عفيف مدركا تماما لحيرتها و توجسها لذا تركها و تمهلها قليلا حتى استعادت ناظريها ووجهتهما اليه من جديد ليهتف في هدوء مريب:- مرحب بيكِ يا داكتورة ف النعمانية .. اتفضلي ..
تقدمها خطوات لتتبعه و يتبعهما مناع حاملا حقيبتها الوحيدة التي استطاعت المجئ بها ..
دخلت خلفه لبهو الدار لتجده واسع رحب يحمل الكثير من المقاعد و الأرائك المريحة موزعة بشكل منسق على جميع الجوانب و في احد الجوانب يطل درج لابد و انه يقود للطابق الثانى ..

هل يعتقد انها ستبقى معه بنفس المنزل ..!؟
هل هذا من الجائز ..!؟.. انها لن تسمح بذلك... و ليكن ما يكون ..هو نفسه اشار لما يمكن ان يكون رد فعل اهل النجع من وجودهما معا تحت سقف بيت واحد ..
قطع استرسال افكارها دخول احدى النساء التي كانت تتلفح بالسواد من احد الأبواب الجانبية هاتفة في سعادة:- حمدالله بالسلامة يا ولدي .
اتجه اليها عفيف في تقدير يقبل هامتها القصيرة مقارنة ببنيته السامقة هاتفا:- كيفك يا خالة وسيلة!؟..

تسألت في نفسها:- خالة ..!؟.. كانت تعتقدها امه من حفاوة الترحيب ..و للمرة الأولى ترى ذاك النزق ينحني لأى من كان و هو يقبل رأس تلك العجوز في محبة و تقدير زاد من تعجبها ..
هتف بها عفيف بصوته الاجش الذى يثير رعبها لا تعرف لما و خاصة انها تحاول ابعاد ناظريها عن تفاحة أدم التي تعلو و تهبط عند تحدثه في منتصف رقبته:- دى بچى يا داكتورة الخالة وسيلة .. دى في مجام امى الله يرحمها .. هي اللى ربتنى انا و ناهد .. و غلاوتها من غلاوة امى بالمظبوط ..

ربتت الخالة وسيلة على كتفه بكفها المتغضن هاتفة في فخر:- ان شاء الله تعيش و تسلم يا ولدي .. زينة الشباب و نوارتهم .. و حمدالله بسلامتك يا داكتورة .. نورتينا ..
هتفت دلال بعفوية للمرأة العجوز الطيبة:- ده نورك يا خالة وسيلة ..
هتف عفيف من جديد و العجيب انه ابتسم هذه المرة و هو يسأل الخالة وسيلة:- ها محضرالنا ايه ع العشا يا خالة ..!؟.. مش عايزين الداكتورة تجول علينا بُخلة ..
شهقت المرأة العجوز هاتفة:- بيت الحچ النعمانى بُخلة !... دِه بيت الكرم و الچود كله .. هي ترتاح بس و هتشوف احلى اكل داجته ف حياتها من يدي ..

ابتسمت دلال في سعادة و قد ارتاحت لإستقبال المرأة العجوز و كرمها:- تسلمي و تعيشي يا خالة .. هنتعبك ..
هتفت الحاجة وسيلة و هي تستدير عائدة من نفس الباب الجانبى:- تعبك راحة يا بتي ..اروح اشوف اللي ع النار ..
عادت دلال لنفس الأفكار عن محل أقامتها و ما ان همت بمناقشة ذلك معه حتى رأته يعود ادراجه للخارج هاتفا و هو يتوجه يساراً و كأنه قرأ خواطرها مشيرا لها لتتبعه ..
سارا خطوات خارج باب الدار ليستديرا بعد خطوتين بالضبط و يتوقف فجأة امام باب اصغر حجما من باب الدار الواسعة المنقوشة بنقوش خشبية بارزة .. فتحه وأخذ جانبا ليدعوها للدخول في تأدب ..

ترددت قليلا و أخيرا دلفت للداخل تقف على بعد خطوتين من المدخل لتدع له الفرصة ليمر و يدوس احد الأزرار الموجودة على احد جانبي الباب ليسطع الضوء في المكان منيراً عتمته ..لتدرك ان حقيبتها وضعت هاهنا .. لابد و ان مناع يعرف أين سيكون موضعها بالضبط ليدرك أين يضع حقيبتها دون ان يدله احد ..
اندفع يضئ كل انوار الردهة في سرعة و يده تحفظ أماكن مكابس الإضاءة في مهارة لتتحول القاعة الداخلية التي تراها الان بعين خيالها قاعة بهو معد لحفل راقص من شدة الإضاءة مما دفعها لتجول بناظريها في ارجاء المكان بعين حالمة تشع رقة ..

هم بالحديث اليها لينتبه لشرودها و لتلك النظرة التي كللت عينيها ليلتقط أنفاسه في عمق متعجبا من تبدل نظراتها للنقيض بهذا الشكل .. منذ لحظات كانت نظرات تحفز و استعداد لقتال و الان نظرات حالمة تفيض رقة لمجرد رؤيتها لبهو ساطع بالإنوار ..
نفض تلك الأفكار المتمركزة حولها ليندفع هاتفا و هو يشير لبعض الأبواب المغلقة و الرواق الجانبي الطويل:- هنا هتلاجى المطبخ و الحمام بتاع الضيوف .. اصلك دي استراحة الضيوف اللي بناها الحاچ النعمانى الكبير عشان يبجوا براحتهم بعيد عن الدار و اللى فيه .. انت يمكن متعرفيش لسه عوايدنا .. على كد ما بنكرموا الضيف .. على كد ما الضيف له مكانه بعيد عن الدار و حريمه اللي مبينكشفوش على غريب ..

وتنحنح وهي تومئ برأسها متفهمة ليشير لباب اخر هاتفا:- دِه باب المجعد .. أوضة كبيرة فيها كراسي ممكن نفضوها و نجلبها أوضة للكشف .. و خصوصي ان ليها باب بيتفتح من بره و دِه هيسهل انها تبجى لحالها بعيد عن المضيفة و محدش يدخلها غيرك يا داكتورة ..
وأخيرا قال في تردد بعد ان عم الصمت للحظات:- اني عارف يا داكتورة ان اللي بيحصل دِه مش على هواكِ .. و صدجينى مهواش على هوايا .. لكن ما باليد حيلة ..
غير الموضوع فجأة ليهتف:- اي حاچة انتِ محتچاها عشان الكشوفات جولي عليها و انا اجيبهالك على طوول ..

تحرك في هدوء ووقف على عتبة الباب من جديد مستعدا للرحيل وهمس بصوت أجش:- اتفضلي يا داكتورة …
نظرت الى كفه الممدودة لها بمفتاح المضيفة متعجبة وهتفت بسخرية:- هتديني المفتاح .!؟.. مش خايف اهرب ..!؟..
نظر لها بثقة اغاظتها:- احنا مش خاطفينك يا داكتورة عشان تُهربي .. انتِ جيتى معايا بخُطرك .. و اكيد مش هتهربي لأنكِ هنا ف الأساس عشان خايفة على اخوكِ منينا .. يعنى انا لو جلت لك دلوجت امشي .. انتِ اللي هتجولي لاااه .. اما اطمن على اخويا هتعملوا معاه ايه ..

لم تعلق بحرف و ماذا يمكنها ان تقول و قد قال الحقيقة و أصاب كبدها بمجمل كلماته التي وصفت الحال التي هي عليها بالفعل ..
غير راغبة في البقاء ولا قدرة لديها على الرحيل..
مدت يدها لتتناول المفتاح من كفه الممدودة و تلك النظرة الواثقة مازالت تكلل عينيه و التي جعلتها تود لو تحيد عنها ناظريها و لكنها ابت حتى لا يستشعر ضعفها ..
تمنت لو انه يكف عنها و خاصة لانها توترها و تدفعها لتشعر بمزيد من الغيظ و القهر ..

خرج في هدوء و أغلق الباب خلفه لتندفع هي في سرعة لتغلق الباب بالمفتاح عدة مرات سمعها و هو يغادر لتضيق عيناه على تلك النظرة التي تمقتها ويبتسم وهو يلقي بنظرة أخيرة الى باب المضيفة و يغادر..

اما هي فقد أسندت ظهرها على الباب الذى أغلقته للتو وهي تلتقط أنفاسها في تسارع من شدة توترها .. فهى ستكون وحيدة في هذا المكان مع أناس لا تعرفهم و لا تدرك كيفية التعامل معهم .. تطلعت من جديد حولها لذاك البهو الواسع الأنيق رغم قدم الأثاث المستخدم الا انه لا يخل من ذوق و فخامة و طالعها ذاك الدرج في اخر الرواق لتدرك ان غرف النوم بالأعلى .. فلابد ان تلك المضيفة مقامة على نفس طراز الدار الأساسية الملحقة به ..

حملت حقيبتها التي لم تكن بالثقيلة على الإطلاق .. و صعدت الدرج في تمهل تنظر بترقب للأعلى و هي تصعد الدرجات في حرص حتى وصلت لرواق طويل يبدو انه يحوى عدة غرف لم تتبين في الظلام عدد الأبواب التي تراها على جانبيه ..

لم تكن تملك الترف في تلك اللحظة و قد وصل بها الإنهاك و التعب لمبلغ شَديد ان تبحث في الغرف عن أجملها او أفضلها لذا فتحت اول الأبواب التي طالعتها و دخلت تتحسس الجدار حتى تجد زر الإضاءة الذى لمسته أخيرا لتسطع الغرفة لتدخل و تفتح النوافذ و تلك الشرفة الوحيدة بها ليطالعها منظرا جانبيا للحديقة الخلفية المحيطة بالدار وعلى مدد البصر لم تتبين الا بعض أعمدة الإنارة المتفرقة هنا و هناك ..

لا تعرف كم ظلت تقف تتطلع الى الظلام و تخيلت مصابيح الإنارة البعيدة ترقص جعلها ذاك الخاطر ترتجف و هي تتخيلها رؤوس اشباح تطل على القرية الناعسة التي تعمها العتمة في تلك اللحظة مما جعلها تنتفض و تدخل إلي الغرفة مغلقة الشرفة بإحكام ..
هي تدرك ان لياليها في تلك المضيفة لن تمر بسلام .. بل ستكون أطول مما تتخيل ..

لقد كانت تموت رعبا و هي وحيدة في شقتها عندما غادر اخوها لعمله هنا .. و كم ظلت مستيقظة الليل بطوله حتى اعتادت أخيرا على عدم وجوده و استطاعت التكيف مع شقتها ووحدتها فيها ..
الان كيف يمكنها التكيف على العيش و المبيت في مثل تلك المضيفة الواسعة وحيدة ..!؟..
ان الأيام و الليالي القادمة لن تكون من السهولة ابدا بأى حال من الأحوال ..
و همست و هي تحتضن جسدها بكفيها في محاولة لبث الطمأنينة داخلها لعلها تهدأ:- يا ترى انت فين يا نديم ..!؟.. سؤال ما كان له اجابة تريح اوجاع روحها ..

دس صديق نديم مفتاح شقته بكفه و هما واقفين بالقرب من ناهد التي كانت تنتظره تحت ظل احدى الأشجار على مقربة منهما ..
تطلع صديق نديم لها ببعض النظرات المتفحصة التي دفعت نديم للغضب هاتفا فيه بحزم:- سمير .. ركز معايا هنا ..
هتف سمير باستحسان:- مكنتش اعرف ان ذوقك عالي كده .. طلعت..

قاطعه نديم هاتفا بغضب حقيقي و هو يدفع بسمير مبتعدا عن مجال ناهد حتى لا يصلها صوتهما .. و هتف و هو يجز على اسنانه في غيظ:- انت فاكر ايه ..!؟.. دى مراتى يا بنى آدم ..
هتف سمير مندهشا:- مراتك ..!؟.. انا أسف يا نديم ..مقلتش ليه كده من الأول !..
ثم استطرد متصنعا الحزن:- و بعدين تعال هنا.. اتجوزت امتى و ازاى و انا معرفش و لا تعزمنى كأنى مش صاحبك ..!..

تنهد نديم في ضيق:- و الله الموضوع جه بسرعة يا سمير و فيه شوية أمور كده ملخبطة .. المهم .. انت هتحتاج الشقة امتى !.
صمت سمير للحظة مفكرا ثم هتف:- يعنى مش قبل أسبوعين .. انت عارف احنا شتا دلوقتى و الشقة ف إسكندرية ملهاش مطلب الا ف الصيف .. بس ربنا يهدي ابويا عشان ده من عشاق إسكندرية ف الشتا .. ربنا يجعل كلامنا خفيف عليه ..

ابتسم نديم و هو يدس المفتاح في جيب بنطاله هاتفا و هو يمد يده مودعا سمير:- متشكر يا سمير .. ربنا يقدرنى على رد جمايلك ..
هتف سمير موبخا:- جمايل ايه يا راجل ..!؟.. هو في بين الأخوات جمايل .. ياللاه روح لعروستك شكلها زهقت من الوقفة و الدنيا برد الصراحة ..
ألقى نديم نظرة عابرة على ناهد فتيقن من صدق سمير ليودعه و يلتفت متوجها اليها حاملا حقيبتهما..
همس بصوت رتيب:- أسف اتاخرت عليكِ .. اتفضلي .. الشقة مفتاحها معايا .. ياللاه بينا ..

اومأت ناهد برأسها إيجابا و سارت خلفه دون ان تعقب بكلمة و كل ما برأسها هو اخوها عفيف .. كيف استقبل خبر هروبها بهذا الشكل..!؟.. و كيف تصرف حيال ذلك ..!؟.. أغمضت عينيها رعبا و هي تتخيل مجرد تخيل ما سيكون عليه حاله ما ان يعلم بالأمر .. فكيف سيكون حالها و هي تقف أمامه مذنبة و متسربلة في خطيئتها ما ان يجدهما .. فهل تراه يفعل و يعثر عليهما ..!؟.. انتفضت عندما وصل بها الامر لهذا المنحى .. و استفاقت على صوت نديم هاتفا:- اتفضلي .. وصلنا ..

خطت اعتاب البناية الشاهقة المقابلة للبحر و الهادئة في تلك الفترة من العام حتى تظن انه لا يسكنها مخلوق .. و ارتعشت عندما أدار نديم المفتاح في موضعه ليهمس لها مشيرا لداخل شقة سمير:- اتفضلي..
دخلت بأرجل مرتجفة و هي لا تعلم الى اى شاطئ مجهول سيرسو بها قارب أيامها...

كان التعب قد بلغ منها مبلغا عظيما و هي تضع جسدها على طرف الفراش راغبة ف البقاء ممددة قليلا لعلها تُهدئ من ألام ظهرها التي انتابتها جراء ذاك السفر الطويل بالسيارة على الطريق الذي كان في في بعض الأوقات غير ممهد ..
لكنها لم تشعر الا و هي تنتفض غارقة في هزيانها .. تلفتت حولها لتتأكد ان ما رأته ما هو الا حلم او بالأحرى كابوس وولى هاربا ما ان فتحت عيونها بانتفاضة .. و ها هي تنتفض من جديد عندما طالعها ذاك الشبح الأسود قادما اليها من الباب و الذى اخيراً تبينته لتستكين روحها متنهدة .. لكن ضربات قلبها التي كانت تصم آذانها في تلك اللحظة لازالت على علوها فزعا ..

دخلت الخالة وسيلة بردائها الأسود الذى ارعبها بعد ذاك الكابوس العجيب لتهتف وهي تتطلع حولها في اضطراب:- يا بتي ..!؟.. ايه اللي دخلك الأوضة دي !؟... ما الأوض عِندك كَتير ..
تطلعت اليها دلال في تعجب متسائلة:- ليه يا خالة ..!؟.. هي الاوضة دي فيها ايه ..!؟..

تنبهت الخالة وسيلة أنها افضت بأزيد من المفترض فهتفت متعجلة بصدمة:- مفيهاش يا بتي ..هيكون فيها ايه يعني ..!؟.. هي بس ريحها تجيل .. و مش هاترتاحي فيها ..
و مدت كفها لملاءات السرير النظيفة التي كانت قد احضرتها معها و وضعتها جانبا ما ان دخلت الغرفة لتهتف بدلال متعجلة:- جومي يا داكتورة اختارلكِ أوضة تريحك .. تعالي معاي ..

مدت دلال كفها لحقيبتها تحملها في استكانة طائعة لاوامر المرأة العجوز لتخرج من الغرفة لتضغط المرأة ذر إطفاء النور على عجل و تغلق الباب خلفها وهي تتمتم ببعض الكلمات التي لم تتناهى كاملة الي مسامع دلال و لم تستوضح حروفها للأسف ..
توقفت المرأة العجوز عند اخر حجرة في الرواق لتفتحها متنهدة في راحة هاتفة:- الأوضة دى هتعچبك و هتستريحي فيها و كمان طالة على الدار كله .. و الباب اللي جارها دِه باب مكتب عفيف بيه ..
هتفت دلال بتعجب:- مكتب .. !؟..

اكدت الخالة وسيلة في حماس:- اه ..معلوم مكتب .. بياجيه الناس اللي عيشتغل معاهم و يجابلهم فيه ..و بيدخلوا من هنا .. هو عمره مدخل حد غريب البيت الكَبير .. الأغراب دايما بيچبهم على هنا طوالي و أكلهم و نومتهم هنا و لما يحب يجابلهم و يتحدتوا ف اشغالهم بيجوه ع المكتب من الباب دِه ..
اصلك النعمانى الكبير كان عايش ف المندرة دي جبل ما يبني البيت الكَبير و لما بناه عِمل بابين مفتوحين على المُندرة باب المكتب دِه والباب التانى باب المطبخ تحت .. يعنى ف اى وجت عايزة تاجينى سهلة اهااا ..

ابتسمت دلال للمرأة الطيبة التي استشعرت معها حنان امومي افتقدته منذ رحلت أمها عند دنيانا .
تذكرت المرأة لما جاءت من الأساس لتهتف و هي تضرب كفا بكف:- واااه يا وسيلة كنك كبرتي و خرفتي يا حزينة .. متأخذنيش يا بتى .. اني چاية أجولك عفيف بيه مستنيكِ ع العشا وجالى اجولك اتفضلي ..

همست دلال و هي تتثاءب في كسل و إرهاق واضح:- اشكريه يا خالة .. بس بجد انا مش قادرة انا بس عايزة انام و مليش نفس اكل ..
هتفت وسيلة في تعجب:- كيف دِه.!؟.. تنامي كيف من غير عشا ف البرد !؟ .. الچوع يجرصك ف الليل ماتعرفيش تنامى و لا تدفي .. جومى يا بتى ياللاه ..هِمي ..
تنهدت دلال و هي على يقين انها لن تستطع إقناع الحاجة وسيلة بما ترغب و لن تثنها عن تنفيذ أوامر عفيف بيه في الإتيان بها و لو محمولة على الأعناق من اجل العشاء المقدس في حضرته ..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة