قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش ف17 قطر الندى

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش كاملة

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل السابع عشر

بعنوان ( قطر الندى )

اصبحت الشقة بالفعل على حال اخر مغاير لما كانت عليه منذ عدة ساعات خلت .. تنهد كل منهما و هو يلقي بجسده المنهك على احد المقاعد غير قادر على التفوه بكلمة .. تطلع نديم حوله للشقة التي اصبحت عروس مزينة بعد ان كانت موضع خرب لا يصلح للعيش .. الفضل في ذلك لها .. تطلع لناهد المنهكة على المقعد المقابل وشعر بشفقة تجاهها فقد كان الحمل الأكبر على عاتقها ..

هتف يستحثها:- قومي بقى خدي دش محترم عشان ترتاحي .. انتِ تعبتي قووي النهاردة ..
ابتسمت في وهن هامسة:- لاااه .. ادخل انت الاول عشان انا لسه هدعك الحمام عشان تبقى اخر حاچة ..
هتف معاتبا:- حمام ايه وبتاع ايه تاني !؟.. كفاياكِ النهاردة .. الدنيا مش هطير .. قومي ياللاه ..

وبلا وعي منه نهض وامسك بكفها جاذبا إياها لتنهض بدورها .. تطلعت لكفه التي تحتضن كفها في أريحية ومن ثم تطلعت اليه .. تنبه هو لفعلته فترك كفها في بطء ساحبا كفه مبتعدا .. وتساءل.. لما اصبح يتباسط معها بهذا الشكل !؟.. لما اضحى تعامله معها وكأنها بالفعل زوجته !؟..
ساد جو مشحون بالتوتر و الاضطراب شمل كلاهما الا انه كان المبادر لتحويل مسار خواطرهما هاتفا وهو يشير الى احدى الحجرات:- انا هاخد الاوضة دي ..
هتفت تشاكسه:- اشمعنى !؟.. لا انا اللي هاخدها..انا بحب اوضتي يبقى فيها بلكونة ..زي اوضتي ف النعمان..

لم تكمل جملتها لكنه وعاها ولم يعقب ... كانت تحن الى اي شئ من شأنه تذكيرها بما خلفته وراءها ورحلت .. انه الحنين الذي يجرفنا في نوبات مده وجزره لنصبح اشبه بقطعة خشب تطفو علي أمواجه تتلاعب بها كيفما ووقتما شاءت ..
تنحنح ونهض في عجالة هاتفا:- انا داخل اخد دش.. ومش هتأخر عليكِ..

اندفع لداخل الحمام بينما نهضت هى تتطلع حولها للشقة تحاول ان تستوعب ان هذه الحجرات ستكون ملاذها من الان فصاعدا .. و سيكون هذا هو بيتها حتى اشعار اخر .. احتضنت الحوائط بناظريها ودمعت عيناها رغما عنها وهى تتذكر النعمانية وكل من فيها .. و الان وفي تلك اللحظة تشتاق لروائح العصاري القادمة من الغيطان البعيدة ورائحة الجبل الشامخ قبالة بيت جدها النعماني..

تشتاق رائحة مخبوزات الخالة وسيلة التي كانت تصنعها خصيصا لأجلها وخاصة الخبر الشمسي التي كانت تعبء التلة المقام عليها البيت بأسرها فتنشر عبق خاص من دفء عجيب.. واكثر ما تشتاقه هو احضان الخالة وسيلة التي تشعرها ان امها الغالية ما رحلت .. لكم تهفو لبوح بين ذراعيها يزيح عنها ثقل ماعادت قادرة على حمله ..
تطلع نديم اليها فقد خرج لتوه من الحمام وتعجل على قدر استطاعته حتي لا يتركها تنتظر طويلا لتنل دورها .. شعر بما يعتريها فتمهل للحظة واخيرا هتف محاولا اخراجها من شرودها الشجي:- انا خلصت .. تقدري تتفضلي ..

انتفضت متطلعة اليه ساهمة لثوان وكأنما تستوعب لبرهة عما يتحدث واخيرا هزت رأسها ايجابا هاتفة:- اه .. هدخل حالا اهو ..
مرت جواره بسرعة واندفعت لداخل الحمام ليتبعها هو بنظراته التي اكتشفت انها كانت تبكي في صمت مما اثار داخله نوبة من وجع جعلته يتنهد بدوره في قلة حيلة ..
جلس على الأريكة في انتظارها لتناول الغذاء الذي أحضرته ام زينب لكن يبدو انه غفى رغما عنه من شدة الإرهاق وانتفض متطلعا حوله في ذعر عندما استيقظ على صرخة قوية وانين صادر من جهة الحمام .. استعاد كامل وعيه هاتفا باسمها وهو يندفع مهرولا في اضطراب ..

كاد ان يدفع الباب و يدخل الا انه توقف باللحظة الاخيرة يطرق الباب مناديا عليها ولكن صوت الأنين هو كل ما كان يصله للحظة وفجأة انقطع مما جعله يدفع الباب دون تفكير ليجدها ممددة فاقدة الوعي على الارض المبتلة التي خاضها بحذر حتي وصل موضعها لينحني حاملا إياها عائدا للخارج في حرص حتى وصل اقرب غرفة فدفع بابها بقدمه ومددها علي الفراش وما ان ابعد كفه حتى اكتشف ان بها اثر دماء ..

شعر بالذعر وهتف بأسمها من جديد .. لكنها لم تجب .. فكر في جلب طبيب على وجه السرعة .. لكن كيف يأتي به وهى على حالها ذاك .. ترتدي هذا القميص الحريري القصير و شعرها الليلي منثور بكل اتجاه .
اندفع لحقيبة ملابسه بالحجرة الاخرى وتناول منها قنينة العطر خاصته وعاد يضع منها بعضا على كفه مقربا إياها من انفها في محاولة لإفاقتها .. لحظات مرت حتى همهمت تستعيد وعيها متأوهة وهى ترفع كفها لرأسها حيث موضع الإصابة ..

هتف بدوره في محاولة لطمأنتها:- متقلقيش انت كويسة الحمد لله .. بسيطة .. بس متتحركيش لحد اما اجيلك ..
اندفع طارقا باب شقة ماجدة و ما ان طالعته هتف في لهفة:- معلش يا طنط عندك قطن ومطهر .. ناهد وقعت ف الحمام ومتعورة ..
شهقت ماجدة هاتفة:- يا خبر ..
واندفعت تحضر ما طلبه ليتناوله من كفها عائدا لشقته وماجدة بأعقابه..

دلف للغرفة متوجها بلهفة لموضعها وقد اعتقد انها فقدت وعيها من جديد جلس بقربها هامسا باسمها في ترقب لتفتح عينيها في وهن ليتنهد في راحة ..
رفع رأسها عن الوسادة التي كان عليها بقعة صغيرة من الدماء وترته فهو لا يحتمل رؤية الدماء لكنه تحامل على نفسه باحثا عن موضع الإصابة بكف مرتعش .. كانت رأسها بأحضانه عندما لمست أصابعه في حذّر جرحها فندت منها أهة جعلته ينتفض موضعه هامسا:- معلش ..خلاص اهو ..

ابعد خصلات شعرها عن الجرح مطهرا اياه في رقة وتأكد انه جرح يحتاج استدعاء طبيب لكنه سيقوم باللازم الان .. وضع ضمادة خفيفة على موضع الإصابة وما ان أعادها موضعها حتى اكتشف انها لاتزل بقميصها الحريري .. غض بصره وهو يزدرد ريقه في اضطراب .. كانت كتلة مجسدة من الفتنة بين ذراعيه..
جذب غطاء الفراش في سرعة ملقيا اياه على جسدها فى نفس اللحظة التي دلفت فيها ماجدة حاملة كوب من الحليب المحلى بالعسل هاتفة:- خد يا بني خليها تشرب ده يعوض لها الدم اللي نزفته ..

تناول من ماجدة الكوب وتقدم من جديد يضع ذراعه اسفل كتفيها محاولا رفع جزعها هامسا بصوت مضطرب:- خدي اشربي يا ناهد..
فتحت عينيها في إعياء هامسة:- انا بردانة يا نديم .. بردانة ..
همست ماجدة في إشفاق:- يا حبيبتي يا بنتي .. انا رايحة اجيب لكم بطاطين من شقتي .. ازاي نسيت اديهالكم !؟..
همست ناهد من جديد بأحرف مرتعشة:- بردااانة .. يااا .. نديم ..

وضع كوب الحليب المحلى جانبا وجذبها الي صدره بلا وعي ضاما إياها بين ذراعيه يحاول ان يبث الدفء بأوصالها هامسا في عشق:- انا هنا يا ناهد .. انا هنا جنبك ..
عادت ماجدة حاملة الاغطية الصوفية ورغم ذلك لم يفلتها من بين ذراعيه وضعتها على طرف الفراش هاتفة:- اهو الغطا يا نديم.. و انا رايحة اسخن لكم الأكل اللي محدش منكم لمسه ده .. لازم مراتك تاكل ..

ما ان خرجت ماجدة من الغرفة حتى جذب نديم احد الاغطية ناشرا إياها مدثرا ناهد بها هامسا بها من جديد وهو يتناول كوب الحليب المحلى:- اشربي يا ناهد عشان خاطري ..
ارتشفت عدة رشفات من يده واخيرا تمنعت .. وما ان تحرك حتى اصطدم بلا قصد بقدمها فتأوهت هاتفة:- اااه .. رچلي ..

كانت قدمها لا يصلها الغطاء و ظهرت متورمة فنهض متوجها للخارج هاتفا لماجدة التي كانت لاتزل بالمطبخ:-انا نازل اجيب دكتور يا طنط .. خليكي جنبها ..وحاولي تساعديها تلبس عباية..
تركت ماجدة ما كانت تصنعه لتعود للبقاء بجانب ناهد حتى عودة نديم بطبيبها ..

توجهتا الى السيارة التي كانت بانتظار زينب خارج بوابة البيت الكبير وكان عفيف ينتظر قربها يحادث مناع في امر ما حتى ظهرتا متجاوزتان البوابة ليهتف عفيف في مودة:- شرفتينا يا داكتورة .. و مچيتك چات بالخير والداكتورة دلال جامت لنا بالسلامة ..
ابتسمت زينب في دبلوماسية:- تسلم يا عفيف بيه .. دلال دي اختي.. و انا اعمل اي حاجة عشان راحتها ..
ابتسم عفيف هاتفا:- ربنا يديم المعروف ما بينكم يا داكتورة .. و دايما النعمانية مفتوحة لحضرتك تشرفينا ف اي وچت ..

هتفت دلال معاتبة:- كنتِ خليكي يومين تاني يا زينب !؟..
همت زينب بالإجابة الا ان توقف عربة الشرطة المفاجئ جوارهم جعل الجميع يتنبه لها موجها أنظاره تجاه شريف الذي ترجل منها على عجل هاتفا بلهجة مطمئنة مندفعا نحو زينب:- الحمد لله لحقتك .. كنت فاكرك سافرتي..
تنبه انه اندفع متوجها بحديثه لزينب متجاهلا كل من عفيف ودلال فهتف مستدركا:- السلام عليكم اولا ..

ثم توجه بحديثه لعفيف:- انا بستأذنك يا عفيف بيه هسافر بالدكتورة زينب اوصلها بنفسي .. معلش .. والدتها امنتني عليها .. زي ما جت معايا ترجع معايا ..
ابتسم عفيف مؤكدا:- وماله يا حضرة الظابط .. العربية ومناع تحت امرك .. تروح مع الداكتورة وتوصلوها بالسلامة وترجعوا سوا انت ومناع ..
ابتسم شريف منشرحا وهو يشير اليها لتصعد العربة .. استدارت تحتضن دلال في محبة هامسة بالقرب من اذنيها:- لو في اي حاجة ابعتيلي مع البوسطجي ..

امسكت دلال قهقهاتها التي ظهرت علي شكل ابتسامة واسعة وهمست بدورها:- حاااضر .. ابقي طمنينى ع الحبايب .. و سلميلي عليهم قووي ..
اومأت زينب في تفهم واندفعت باتجاه العربة لتجد مناع مندفعا باتجاه مؤخرة السيارة يضع عدد من الصناديق الكرتونية فتسألت زينب في تعجب:- ايه ده يا عفيف بيه!؟..

ابتسم عفيف في وداعة:- دي حاچة بسيطة يا داكتورة هدية للوالدة .. بالهنا والشفا..
ابتسمت زينب ممتنة:- هدية مقبولة يا عفيف بيه .. كلك ذوق ..
صعدت السيارة وصعد شريف على الجانب الاخر وبدأ مناع في التحرك لتلوح دلال بكفها مودعة هاتفة:- سلميلي على طنط يا زينب .. أوعي تنسي ..

اومأت زينب بالإيجاب وابتعدت السيارة .. ظلت دلال موضعها حتى غابت العربة خلف غبار الطريق ليهمس عفيف مشيرا للبيت الكبير:- اتفضلي يا داكتورة ..
هزت رأسها في سكينة ودلفت للداخل ولم تنبس بحرف واحد لكن صمتها ذاك كان ابلغ من اي احرف قد تُنطق .. كان يدرك تماما غربتها..كان يتمني لواضحى قادرًا على اذهاب وحشتها ولكن ما بيده حيلة .. تركها تعود للمندرة وتوقف يتطلع اليها حتى غابت .. وغابت سعادته بالتبعية ..

خرج الطبيب من غرفة ناهد بعد ان وقع الكشف عليها ليعاجله نديم فى لهفة متسائلا:- خير يا دكتور!؟ هى بخير !؟..
هتف الطبيب وهو يدون بعض من ملاحظاته ويخط اسماء اجنبية لادويته:- متقلقش .. الحمد لله هى بخير .. الجرح ف راسها عملت له اللازم بجانب ان رجلها فيها إلتواء لازم ترتاح ومتتحركش ولا تمشي علي رجلها على الاقل اسبوع..

مد نديم كفه للطبيب يتناول وصفته الطبية ويرافقه للباب وهبط الدرج معه حتى يبتاع الدواء وما ان عاد من جديد حتى هلت ام زينب من داخل غرفة ناهد هاتفة:- الحمد لله يا بني انها بخير .. انا هروح اسخن لكم الاكل عشان الدكتور قال لازم تتغذي ..
هتف نديم ممتنا:- هنتعبك يا طنط .
هتفت ام زينب معاتبة:- تعب ايه بس يا نديم !؟.. تعبكم راحة يا حبيبي ..

ثم استدركت في حنق:- يووه .. معلش يا نديم انا دماغي كانت فين!؟.. تصدق مسألتش الدكتور على حمل مراتك !؟.. يا رب الوقعة متكنش اثرت عليه ..
ابتسم نديم مؤكدا:- لا متقلقيش يا طنط هو مفيش حمل من اصله ..احنا لقيناكِ مصدقة قلنا نهزر معاكِ شوية ..
هتفت فى راحة:- طب الحمد لله .. ربنا يديكم يا حبيبي ..
هتف بدوره:- تسلمي يا طنط ..

ما ان غابت ام زينب حتى تنحنح في تأدب ودلف لحجرة ناهد في هدوء هاتفا:- اخبارك ايه دلوقتي!؟.. مش احسن ..!؟..
همست بصوت واهن:- الحمد لله ..
رفع ناظريه تجاهها وقد هزه نبرة الوهن بصوتها فوجد رأسها حوله عصابة محكمة وقدمها تظهر من اسفل غطاء الفراش حولها احد الأربطة الضاغطة .. اقترب حتى اصبح قبالة الفراش ووضع الدواء بالقرب منها هاتفا:- الف سلامة .. الدكتور قال لازم ترتاحي وتتغذي كويس ..

دخلت ام زينب حاملة صينية الطعام ليتقدم نحوها نديم مسرعا متناولا منها الصينية هاتفا:- عنك يا طنط .. تسلم ايدك ..
هتفت ام زينب:- تسلم وتعيش يا حبيبي .. ياللاه اقعد كل واكل مراتك عشان تاخد دواها .. و انا ف شقتي لو احتجتوا حاجة .. ياللاه تصبحوا علي خير والف سلامة يا ناهد يا بنتي ..

هتفت ناهد ممتنة:- تسلمي يا طنط .. ربنا يخليكي ..
عادت ام زينب لشقتها ليعاود نديم النظر اليها هاتفا:- ياللاه بقى عشان تاكلي ..
وحمل صينية الطعام متوجها بها ليضعها على طرف فراشها من الجهة الاخرى لجلوسها لتهمس هى بنبرة مرهقة:- بجد مليش نفس .. انا حاسة اني دايخة قوي وعايزة انام ..

اكد وهو يجلس جوار صينية الطعام:- يا ستي نامي براحتك بس لازم تاكلي الاول عشان تخدي الدوا .. ياللاه ..
هتف بكلمته الاخيرة وهو يمد لها كفا بقطعة صغيرة من صدر الدجاجة التي تتوسط الصينية:- خدي كلي بقى لأني هموت م الجوع بجد ولو مكلتيش و الله ما انا دايقه..
تنبهت انه اختار القطعة التي تفضلها من الدجاجة.. هل هى مصادفة !؟.. و جاءت الإجابة فى هتافه مؤكدا:- ياللاه كلي ده انا مديكي الحتة اللي بتحبيها اهو ..

تطلعت اليه في تيه .. هل اصبح يدرك ما تحب و ما تكره !؟.. لما!؟..سطع السؤال برأسها وكانت تتهرب من الإجابة .. فلا تحب ان تتعلق بأمل بعيد قد لا يتحقق .. تناولت من يده قطعة الدجاج و بدأت في تناولها في شرود وبدأ هو بدوره في تناول الطعام بشهية كبيرة تدل بالفعل علي تضوره جوعا..

جلس شريف بجوار مناع وكانت زينب تجلس بالمقعد الخلفي لشريف مباشرة .. مر الوقت لم يقطعه احدهم .. حتى مد شريف كفه محاولا ضبط مرآة العربة التي في اتجاهه حتى يتسنى له رؤيتها من موضعها خلفه الا ان مناع هتف مشيرا الى المرآة:- والنبي اعدل المراية اللي چارك دي يا شريف بيه ..
هتف شريف ممتعضا وقد بدأ لتوه في التمعن بصورتها قبل ان يعم الظلام قريبا ويحرم من مطالعتها:- ما هى معدولة اهى يا مناع .. حلوة حلوة والطريق هادي وزي الفل .. توكل على الله ..

جز مناع على اسنانه غيظا هامسا:- اجوله مشيفش يجولي الطريج زي الفل ..
هتف شريف متسائلا:- بتقول حاجة يا مناع !؟..
هتف مناع مؤكدا:- لاااه مبجوليش يا بيه ..
استطرد مناع وقد استشعر بما لديه من خبرة عاطفية جعلته غارقا في عشق سعدية ان هناك شرارات ما بين زينب وشريف فهتف:- بجولك يا بيه !؟.. افتح لكم مزيكا !؟..
هتف شريف مستحسنا:- الله عليك يا مناع ..سمعنا يا سيدي .. بس اوعى تسمعنا الرعد ف الاخر ..

امسكت زينب ضحكاتها بالخلف بينما انفجر مناع مقهقها بصوت جهوري ليهتف شريف مدعيا الفزع:- اديك سمعتنا اللي ألعن من الرعد .. العربية بتترج .. استر يا رب ..
قهقه مناع من جديد ومد كفه يفتح مشغل الأغاني لتصدح كوكب الشرق مترنمة:-
ياما الحب نده على قلبي ما ردش قلبي جواب..
ياما الشوق حاول يحايلني واقول له روح يا عذاب..

ليهتف شريف مؤكدا كلام الاغنية:- والنعمة صح .. الست دي بتقول احلى كلام ..
لتستطرد ام كلثوم صادحة:-
ياما عيون شاغلوني لكن ولا شغلوني..
إلا عُيونك إنت دول بس اللي خدوني وبحُبك أمروني..
أمروني أحب لقيتني بحب وأدوب فى الحب وصبح وليل على بابه..

تطلع شريف الى عينيها عن طريق مرآة السيارة وتنهد في شوق مسندا عضده على حافة نافذة السيارة وذقنه على باطن كفه ليتيقن مناع ان شريف غارقا في حب تلك الطبيبة التي تجلس بالخلف تحاول ان تتظاهر بالامبالاة فمد كفه ليرفع من صوت الغناء قليلا وكلمات الاغنية تسري عبر اجواء العربة توقظ مشاعر راكبيها مصحوبة بأجواء الغروب التي تصاحبهما على طول الطريق ..

كان عائدا من احد اجتماعات فض المنازعات التي يترأسها بمقعد الرجال بالقرب من إسطبلات النعماني .. كانت رأسه تعج بالكثير من التفاصيل والمشكلات التي شغلت معظم نهاره والان هو عائد للبيت الكبير لعله ينال بعض الراحة بعد ذاك اليوم المنهك ..

كان يسير الهوينى بعربته لا قبل له للإسراع بها على ذاك الطريق الضيق المترب وكان يريد ان يعب من هواء المغارب النقي لعله يريح بعض من ما يعتريه من ضيق .. لقد أضحت الفترة الاخيرة خانقة بحق بعد كل الاحداث التي شهدتها.. تنهد زافرا في حنق واذ به يجذب لجام الفرس في قوة لتتوقف العربة فجأة .. تطلع الي تلك السائرة هناك وحيدة تحمل حقيبتها وتمشي شاردة حتى انها لم تنتبه لصوت العربة المميز على الطريق و ما ألتفتت نحوه بل استمرت بطريقها ..

اندفع مترجلا من العربة خلفها وما ان اصبح بمحازاتها حتى تنحنح هاتفا:- السلام عليكم يا داكتورة ..
انتفضت من شرودها وردت التحية في اقتضاب:- وعليكم السلام ..
تساءل متعجبا:- ليه ماشية لحالك يا داكتورة مطلبتيش الكارتة ليه !؟
اكدت وهى لاتزل تسير بطريقها غيرعابئة بالتطلع اليه وهى تحدثه:- ملهاش لازمة يا عفيف بيه .. انا حبيت أتمشى شوية ..

كانت تسرع الخطى وكأنها تهرب من امر ما أو ربما شخص ما .. شخص له قدرة على قلب ثباتها رأسا على عقب ..فمنذ محادثتها مع زينب وإنكارها إمكانية الوقوع في حبه وهى لاتنفك تفكر فيه ولا يبرح مخيلتها للحظة مما اثرعلى علاقتها به وباتت تتحاشاه وإذا ما اجتمعا تتعامل معه بشكل عدائي لا تستطيع ضبطه اوالسيطرة عليه ..
هتف معاتبا:- هاتفضلى تجري كِده وانا اچري وراكِ يا داكتورة .. طب حتى اوجفي كلميني زي الناس..

توقفت فجأة تستدير متطلعة اليه هاتفة فى حنق:- خير يا عفيف بيه!؟..
توقف فجأة بدوره قبل ان يرتطم بها متقهقرا خطوتين للخلف و تنحنح هاتفا:- خير طبعا يا داكتورة .. انتِ فيه حاچة مزعلاكِ!؟..
هزت رأسها نفيا في عجالة ليهتف هو مستطردا:-طب انا بجول يعني تتفضلي ع الكارتة بدل مشيك .. المسافة للبيت الكبير لساتها بعيدة و انتِ يعني اكيد تعبانة وعايزة تستريحي .. اتفضلي..

اشار للعربة التي تركاها خلفهما على مسافة لا بأس بها .. كانت بالفعل مرهقة ولا قبل لها لتجادل فيومها كان عصيبا بحق .. تنهدت في استسلام ليبتسم في نشوة المنتصر وهو يعود خلفها مستقلا العربة بعد ان استقرت داخلها بالفعل..
ساد الصمت بينهما وكان الجو مشحونا فمنذ قدوم الدكتورة زينب وامتثالها للشفاء وهى تنأى بنفسها عنه .. كانت بارعة حقا في عقابه بمثل ذاك العقاب الذي لا تعلم كم هو ثقيل على نفسه .. لكن من اين لها ان تعلم !؟..

هز لجام فرسه لتتحرك العربة بهما عائدين وها قد شارف المغرب على الدخول وبدأت جحافل العتمة فى الانتشار .. كان التعب بلغ منها مبلغه بالفعل لم تشعر بذلك الا ما ان استراحت داخل العربة .. كانت تشعر ان كل عضلة من عضلات جسدها متشنجة نظرا للمجهود الذى قامت به النهار بطوله..

لكن كل هذا لا شئ ما ان اتم الله على يديها تلك الولادة التي استدعيت لها بعد رحيل زينب مباشرة مما ساعدها على الالتهاء بعيدا عن حزنها لفراق صديقتها وخاصة وان الام وجنينها بخير مما أشعرها بالسعادة فتنهدت فى ارتياح جذب انتباهه ليتطلع اليها بطرف لحظ يحاول ان يغضه عنها دوما..

لكن كيف له ان يفعل وكل ما فيه يناديها وخاصة بعد طول فترة بعادها بمرضها وكذا وهى بهذا القرب الدامى منه تشاركه أريكة الكارتة التى تهتز بهما فى طريقهما للبيت الكبير على ذاك الدرب الذى بدأت شمسه فى المغيب مخلفه ورائها شفق ذهبى مخلوط بالحمرة اورث الأجواء نوعا من السحر لا يمكن مقاومته ..
انتفض فجأة مطرودا من جحيم خواطره عندما هتفت هى فى تعجب متسائلة:- ايه الصوت ده يا عفيف بيه !؟

تطلع اليها متعجبا فيبدو انها نسيت خصومتها فجأة وتساءل بدوره في اهتمام:- صوت ايه !؟..
ارهفت السمع هامسة:- حاسة انى سامعة صوت غنا او حاجة شبه كده .. ده صحيح و لا بيتهئ لي!؟..
ابتسم فى رزانة مجيبا:- لا صحيح يا داكتورة ..
وادار العربة قليلا لتسلك طريقا فرعيا ضيقا كادت العربة ان تتجاوزه اشرف بهما على سهل منخفض رأت فيه من على البعد بعض من خيام وشادر منصوب .
نظرت دلال لعفيف فى تعجب هامسة:- ايه ده !؟..

رد هامسا بدوره:- دى خيام الحلب..
هتفت مستفسرة:- اه .. قصدك الغجر مش كده !؟
ابتسم مؤكدا:- ايوه يا داكتورة صح .. بجيتى خبيرة اهااا ..
ابتسمت في خجل:- يعنى افتكرت كلام خالة وسيلة عليهم ساعة موضوع خفاجي وبنته ..

بالحديث الا انها تنبهت للغناء الذى بدأ من جديد بالأسفل فنزلت من الكارتة مشدوهة ومأخوذة اليه .. وقفت تتطلع من موضعها فوق تلك التلة المنخفضة على ذاك الصخب الدائر بالأسفل وتناهى لمسامعها أهازيج الغجر ورقص فتياتهم و مشاعلهم المستعرة بأركان المكان بالأسفل تضفى عليه جوا أسطوريا خلب لبها ..

كان عفيف لايزل بالعربة متطلعا اليها فى تيه مأخوذا كليا بصورتها التى تتراقص اللحظة امام ناظريه على انعكاس اللهب القادم من البعد.. كانت قطعة فريدة وضعت فى لوحة فائقة الجمال فزادتها حسنا.. نزل بدوره من الكارتة سائرا في حذّر ليقف جوارها محاولا الا يقطع ذاك السحر الذي شملهما وان لا يخرجها من ذاك الجو الذى أضحت اسيرته تماما ..

تناهى لمسامعهما الغناء الذى علت وتيرته بالأسفل لتصلهما ..
يا حنة .. يا حنة .. يا حنة .. يا جطر الندى ..
يا شباك حبيبي يا عيني .. چلاب الهوى ..
همست دلال مسحورة:- الله .. بحب الاغنية دي قووي ..
نظر اليها مسحورا بها وتنحنح محاولا ان يجلو صوته هامسا بدوره:- أغاني عن حكاوي جديمة..

وحاول ان يجذب نفسه خارج ذاك السحر الذى يشملها يدعوه اليه كنداهة لا يستطيع منها فكاكا فاستطرد هاتفا:- والاغنية دي بالذات .. عن حكاية جديمة جوي وكلها وچع ..
تنبهت لحديثه فتطلعت اليه متسائلة في شغف للمعرفة:- قديمة قوي ازاى !؟.. من امتى يعني !؟.. وليه كلها وجع !؟..
ابتسم عندما علم انه اثار فضولها فهتف:- من ايّام الدولة الطولونية..

هتفت متعجبة:- ياااه .. دي قديمة قوي فعلا .. بس واضح انها حكاية مش عادية عشان تعيش كل ده!؟..
اكد هامسا وهو يومئ برأسه متطلعا لمضارب الغجر:- اكيد .. حكاية لسه عايشة وبتتغنى يبجى لازما تبجى مش عادية .. حكاية عن فرحة وحزن متعشجين ف بعض زي الارابيسك ..
هتفت فى حيرة:- ازاي !؟..

همس يحكى وأهازيج الغجر عن الحكاية تكمل تلك الخلفية الخلابة:- دي حكاية الاميرة جطرالندى بنت خمارويه وحفيدة احمد بن طولون.. كانت شابة ف غاية الچمال وكان ابوها بيحبها چدا .. بس للاسف حبه ده ممنعهوش انه يتاچربيها ..
هتفت دلال في فضول:- ازاي !؟..

اكد عفيف متنهدا:- للاسف كان فى مشاكل وصراعات كبيرة بين ابوها حاكم مصر وبين الخليفة العباسي المعتضد .. وشاف الاتنين ان انسب وسيلة عشان ينهوا الخلاف ده هى چواز جطر الندى من بن الخليفة ..
اكدت دلال:- طب تمام ما هو الخلاف هيخلص اهو .. ولا هى بتحب حد تاني ..!؟..
هتف عفيف:- لا ابدا .. هى كانت سعيدة بالچوازة دي لانها ف مصلحة ابوها .. و فعلا تم تچهيزها بچهاز في قافلة اولها ف العراج و اخرها ف مصر وكان فيها من عچايب الدنيا اللى عمر ما حد شافه..

همست دلال فى فضول:- و بعدين!؟..
ابتسم مستطردا:- بيجولوا ان ابوها بنى لها جصور على طول الطريج من مصر لبغداد كل ما تكون عايزة تستريح تنزل ف جصر منيهم لحد ما وصلت بغداد .. وزي ما بيجولوا برضك تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن ..
هتف تتعجله فى فضول:-ليه !؟. ايه اللى حصل يا ترى !؟..
قهقه لحماستها مستطردا:- شافها الخليفة المعتضد فبهرته بچمالها فجال انه هيتچوزها هو بدل ابنه ..
شهقت دلال فى صدمة هاتفة:- يا عينى .. ضاعت فرحتها ..

اكد عفيف في رزانة متطلعا لملامح وجهها المليحة والمتقلبة التعابير كما وجوه الاطفال عند قَص الحكايا:- بالظبط .. بس هى ملهاش انها ترفض للاسف لانه چواز سياسى م الاساس .. عشان كِده جلت لك .. رغم مظاهر البذخ والفشخرة اللى أتعمل بيها الزفاف والأربعين ليلة حنة اللى اتجام فيها الفرح واللي بيتغنوا بيها لحد دلوجت الا انها مكنتش سعيدة ابدا..

همست دلال فى شجن:- اكيد مكنتش سعيدة .. هتبقى سعيدة ازاي وعمرها بدل ما تعيشه مع حد يحبها راح ف صفقة سياسة !؟..
صمت عفيف ولم يعقب متطلعا اليها في وله .. تطلعت هي الي الغناء بالأسفل من جديد وفجأة وكأنها فقدت شغفها استدارت تصعد الكارتة .. تبعها صاعدا الكارتة جوارها وهز لجام الفرس بين كفيه لتتحرك عائدة متخذة الطريق الرئيسى مرة اخرى لتدير دلال رأسها متطلعة خلفها لمضارب الغجر وهم لازالوا على غناءهم يتناهى لمسامعها كلمات اوصلها الريح والعربة تندفع مبتعدة:-
استنى .. واستنى .. لما تفوت على بستانا ..

وتصبح وتمسى .. تطلب مفتاح الچنة ..
وأهديك شال الأفراح .. مليان ورد وتفاح .. والفرحة الكبيرة نقسمها سوا ..
وأتوه بين حبيبى يا عينى والليل و الهوى ..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة