قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش ف15 عالم آخر

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش كاملة

رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوى جاويش الفصل الخامس عشر

بعنوان ( عالم آخر )

دخلت زينب غرفة الصالون حاملة صينية عليها أكواب من الشاي و العصير .. وضعتها امام شريف و نديم وجلست جوار ناهد وامتدت يدها لكوب العصير تعطيها اياه فى محاولة لتهدئتها بعد نوبة البكاء التي انخرطت فيها ما ان ادركت حقيقة ما يجري ..
رفع نديم رأسه من بين كفيه التى كانت تستكين عليهما من ضجيج الافكار الذي يشملها وتطلع لزينب وشريف هاتفا:- انا رايح معاكم..
هتفت زينب في صدمة:- رايح معانا فين !؟..

هتف شريف بدوره:- بصراحة يا نديم بعد اللي عرفته ده معتقدش ان مرواحك النجع وخاصة ف الظروف دي هيكون قرار صحيح..
أنتفض نديم صارخا:- امال اسيب اختي بين أيدين البني ادم ده وأقف اتفرج !؟..
هتفت ناهد بحدة صارخة:- اخويا ميتجالش عليه كِده .. اخويا سيد الرچالة وعارف الأصول ومش ممكن يضر اختك مهما حصل ..

هتف نديم صارخا:- امال ايه اللى حصل لها !؟.. هو ده مش ضرر!؟ .. لما تقع من طولها و متبقاش بتتكلم م الصدمة .. كل ده مش ضرر .. عيزانى أسيبها هناك لحد ما يحصل لها ايه تانى !؟..

هتف شريف فى محاولة لتهدئة الوضع فقد شعر بالذنب لانه سبب إشعال الموقف بهذا الشكل من الاساس:- استهدى بالله كده يا نديم وفعلا والله اللي هقوله ده شهادة حق هتحاسب عليها قدام ربنا…عفيف بيه بيعامل الدكتورة دلال احسن معاملة وعمره ما ضرها .. وكل اللي ف البلد عارفين انها تحت حمايته وف ضيافته .. ده اولا .. ثانيا .. صدمة الدكتورة دلال كانت م الظروف اللي اتعرضت لها هناك لاختلاف الثقافة وانا شخصيا ف اول لقاء معاها حذرتها من الوضع..

بس هى مسمعتنيش للاسف .. دلوقتى ظهورك وهى ف الحالة دي ممكن يخلى حالتها اسوء خاصة انه اكيد هيحصل بينك وبين عفيف بيه ما لا يحمد عقباه .. عشان كده انا بطلب منك تحكم العقل شوية واستنى بس لما نسافر انا و الدكتورة زينب وتتحسن حالتها شوية واكيد لما الدكتورة زينب ترجع من عندها هتقولك على كل حاجة وخبر ظهورك اللي هتقولهولها الدكتورة زينب اكيد هيفرق ف تحسن حالها .. ساعتها يا سيدي ابقى اعمل اللى تشوف ان فيه الصالح للكل .. تمام ..

هتفت زينب مؤيدة:- تمام جدااا .. ده عين العقل يا حضرة الظابط ..
ابتسم شريف في سعادة منتشيا لاستحسانها رأيه وكاد ان يلق بأحد تعليقاته الا انه توقف في اللحظة الاخيرة مدركا حساسية الموقف ..
تنهد نديم ولم يعقب على رأي شريف وكذا ناهد التي ألتزمت الصمت وما جفت دموع عينيها ..

لتستطرد زينب موجهة حديثها لنديم في محاولة لأخذ وعد منه بعدم التهور في اتخاذ القرار:- نديم.. اللي عملته دلال كله كان عشان خاطر تحميك .. متجيش تضيع كل ده بقرار متهور .. ارجوك .. اصبر بس لحد ما ارجع من عندها واقولك الاخبار بنفسي وأوصلك رأيها هى كمان وبعدها قرر ..
تنهد نديم من جديد و همس في نبرة تحمل وجع وانكسارلايستهان بهما:- طيب ..
هتف شريف مبتهجا:- اهو ده الكلام ..

هتفت زينب فى ارتياح:- تمام .. بس انتوا قاعدين فين !؟.. أوعوا تفكروا تروحوا ناحية شقتكم يا نديم!؟..
هتف نديم محرجا:- والله فكرت يا زينب .. اصل مكنش في طريق تاني غير كده ..بس ربنا هدى تفكيري اني اجيلك ..
هتفت زينب معاتبة:- طبعا ده بيتك التاني … هو مش بيت اختك يبقى بيتك ولا ايه !؟..
هتف نديم ممتنا:- و الله ما عارف اقولك ايه يا زينب .. طبعا اختي و انت ودلال ف معزة واحدة وربنا يعلم ..

تنحنح شريف لا يعرف لما شعر بوخز من غيرة لهذه الحميمية و هتف متعجلا إياها:- طب مش ياللاه يا دكتورة .. خلينا نستعجل عشان منوصلش النجع بالليل متأخر..
هتفت زينب:- اكيد يا حضرة الظابط .. حالا .. و انت يا نديم .. باتوا مع ماما انت وناهد النهاردة .. اهوهبقى مطمنة عليها انها معاكم ومش هتبات لوحدها.. هى فى زيارة لواحدة قريبتنا ف اول الشارع وزمانها على وصول .. هبلغها الموضوع وانت عارف هى بتعزك انت ودلال قد ايه .. و باْذن الله من بكرة هخليها تجيب واحدة تنضف الشقة اللى جنبنا وتقعدوا فيها .. ده فعلا آمن مكان ليكم.. لان زي ما انت عارف البيت كله بتناعنا ولا حد هيطلع ولا ينزل الا بمعرفتنا ..

هتف نديم:- كتر خيرك يا زينب .. هنتعبكم معانا..
نهضت زينب متوجهة لخارج الصالون متعجلة و هتفت فى عتاب:- متقلش كده يا نديم .. و باذن الله خير ..
ساد الصمت عندما غادرت زينب الغرفة حتى هتف شريف موجها حديثه لنديم:- تخيل .. انا مفتكرتكش اول ما شفتك .. رغم اني شفتك مرتين كده ف النجع بس من بعيد .. كان وقت ما كنت بتنزل عشان مواعيد الري وكده ..

هز نديم رأسه مؤكدا:- و انا كمان مكنتش اعرف حضرتك قووي .. استنتج شريف هاتفا:- يمكن عشان كل واحد فينا لسه منقول للنجع جديد مبقلهوش كام شهر ومحصلش احتكاك اوتعامل..
اكد نديم:- اه فعلا .. عندك حق .. استطرد شريف مبتسما:- انا كنت بسمع عنك .. بس الشهادة لله سمعت كل خير .. انا مستعجب اني مخدتش بالي من تشابه الاسماء .. انا شكلي بقى وحش قوووي الصراحة .. زمانكم بتقولوا ده طلع ظابط ازاي ده !؟..

اكد نديم مبتسما:- لا العفو يا شريف بيه .. انت كان هايجي على بالك ازاي الحدوتة دي ..
اكد شريف:-الصراحة متجيش على بال حد .. وعفيف بيه بيعامل الدكتورة دلال معاملة محترمة جدااا ومديها صلاحيات كبيرة وعمر ما حد يشك ان فيه عداوة بينهم من اي نوع .. يعني .. بخصوص موضوعك انت والانسة .. اقصد مدام ناهد ..
اصطبغ وجه ناهد بلون احمر قان خجلا ولم يعقب نديم الا ان شريف استطرد مؤكدا:- بس الشهادة لله انت والدكتورة دلال ناس محترمة واخلاقكم عالية ..

هتف نديم:- ربنا يحفظك يا حضرة الظابط ..
هتفت زينب اخيرا قاطعة استرسال حديثهما:- ياللاه يا حضرة الظابط .. مش بتقول اتأخرنا ..!؟..
انتفض شريف مندفعا خارج الصالون لاحقا إياها ليكون اخر من يصدر صوتا هو باب الشقة بعد ان اُغلق خلفهما راحلين تاركي نديم و ناهد يغمرها صمت صاخب ..

جلس شريف بجوار زينب داخل عربة القطار التى تقلهما للنجع .. ساد الصمت بينهما لفترة لا بأس بها حتى قطعه شريف هامسا:- عجيب قوي اللي بيحصل ده !؟..
همست زينب بدورها دون ان تلتفت اليه متطلعة من النافذة على المشاهد التى تتوالى امام ناظريها والقطار يجري فى اتجاه وجهتهما المنشودة:- ايوه فعلا عجيب ..
همس مازحا:- اول مرة توافقيني على حاجة ..

تنبهت وتطلعت اليه ولم تعقب ليستطرد هو مؤكدا:- لا الصراحة دي تاني مرة .. المرة الاولى لما وافقتي على كلامي وانا بقنع نديم بوجهة نظري ..
همست بتهور:- واضح انك مركز يا حضرة الظابط..
اكد مازحا:- ده انا مركز ع الاخر .. مركز تركيز لو كنت ركزت نصه ف الثانوية العامة كنت طلعت م الأوائل…

كادت تنفجر ضاحكة الا انها كالعادة امسكت ضحكاتها وتوجهت بناظريها باتجاه النافذة من جديد ليهتف هو فى محاولة منه لتبادل أطراف الحديث معها:- بس بجد .. سبحان الله .. بقى نديم يجي م القاهرة يشتغل ف النجع عشان يشوف ناهد اخت عفيف ويحبها و يهرب معاها ويفضلوا كده هربانين من اخوها وخايفين منه وهو ياخد اخته رهن عنده عشان يخليه يظهر وينتقم منهم .. دى حكاية ولا ف الأفلام ..

هتفت زينب:- انا كنت زيك كده اول ما جت دلال وحكت لي .. و حاولت أمنعها انها تروح مع عفيف ده .. بس دلال تعمل اي حاجة ف الدنيا عشان خاطر نديم وكانت شايفة ان وجودها هناك هيخليها قريبة وعارفة ايه اللى بيحصل و اذا كانوا لقيوا اخوها ومراته ولا لأ وساعتها ف اعتقادها كان ممكن تتصرف عشان تخفف من عقاب عفيف ليهم ..
اكد شريف متنهدا:- فعلا الحب بيعمل المعجزات..

اكدت زينب هامسة:- ايوه .. حب دلال لاخوها نديم ممكن يخليها ترمى نفسها ف النار مش مع حد زي عفيف ده وبس ..
هتف شريف متعجبا:- دلال ونديم ايه ..!؟.. انا بتكلم على حب نديم لناهد .. معقول حبها للدرجة اللي خلته يغامر بالشكل ده !؟..
اكدت زينب في تعقل:- انا على الرغم من معزتي لنديم الا انى مش شايفة ان ده حب ده انتحار .. ده جنان رسمي ..
اكد شريف حالما:- وهو الحب ايه الا جنان .. رسمي بقى ولا نظمي ولا فهمي .. المهم انك تتجنن .. احلى حاجة ف الحب جنانه ..

سخرت لتداري وجيب قلبها الذى تضاعف مع كلماته التي تصف الحب بهذا الشكل هاتفة:- واضح انك خبير يا فندم ..
انتفض مستديرا تجاهها يقسم فى صدق:- و الله ما حصل .. اقصد انه حصل .. اقصد انه لسه حاصل..
ثم همس في غيظ:- يا دي النيلة .. اقولها ايه دي..

كانت هى تداري ضحكاتها دافنة وجهها في نافذة القطار تتظاهر باللامبالاة وهى تكاد تموت لكتمانها قهقهاتها على اضطرابه بهذا الشكل واخيرا هتفت فى سخرية متطلعة اليه:- صادق .. صادق ..
زم هو ما بين حاجبيه متصنعا الغضب لتبتسم هى رغما عنها و تعاود النظر من النافذة تحاول استيضاح بعض من معالم الطريق الذي بدأت العتمة في اخفائها شيئا فشيئا ..

بعد رحيل زينب و شريف ظلا على حالهما جالسين بغرفة الصالون لا ينظر احدهما للأخر .. كان كلاهما يتجنب النظر لصاحبه حرجا ووجعا حتى دخلت عليهما ماجدة ام زينب هاتفة:- ايه يا ولاد هو انتوا هتفضلوا قاعدين عندكم كده !؟.. و توجهت بحديثها لنديم معاتبة:- ايه يا نديم !؟.. طب ناهد ومتعرفناش ولسه متعودتش علينا .. انت بقى ايه حجتك ف القاعدة دي!؟..هو ده مش بيتك ولا ايه يا حبيبي !؟..

انتفض نديم مؤكدا:- اه طبعا يا طنط ..بيتي طبعا وربنا يعلم انا بعتبرك زي امي الله يرحمها ..
هتفت ماجدة فى اسف:- الله يرحمها كانت ونعم الصحبة ..
واستطردت بعد لحظات صمت:- ياللاه قوم انت ومراتك انا جهزت لكم الأوضة جوه .. ادخلوا ارتاحوا لحد ما اجهز لكم العشا ..
انتفضت ناهد عند ذكر الغرفة هاتفة في اضطراب:- انا چاية اساعدك يا طنط .. ممكن !؟..

اكدت ماجدة:- اه طبعا يا حبيبتي .. بس انا كنت عيزاكِ تستريحيلك شوية ..
اكدت ناهد فى محبة:- انا مش تعبانة والله .. اسمحيلى اساعدك..
هزت ماجدة رأسها ايجابا وسارت امامهما لتقف عند باب احدى الحجرات مشيرة:- اوضتكم اهى يا نديم .. خش يا حبيبي ارتاح .. و لما نخلص العشا هناديك ..
هتف نديم:- تسلمي يا طنط .. هنتعبك ..
هتفت ماجدة معاتبة:- تعب ايه !؟.. اوعى تقول كده لازعل بجد ..

ابتسم نديم ودلف للغرفة وهو لايزل يتحاشى النظرالى تلك التي تتجاهله بدورها والتي تبعت ماجدة للمطبخ دون ان تلق بنظرة واحدة تجاهه ..
دخل الى الغرفة يغلي غضبا من رد فعلها .. ماذا كانت تتوقع منه بعد ان علم ما فعله اخوها بأخته التي اضطرت ان تضع نفسها في مهب الريح لانقاذه وهى لا ناقة لها ولا جمل في الامر برمته ..

تمدد على الفراش متنهدا في وجع يشعر ان كل عضلة من عضلات جسده متشنجة تئن في ألم صامت يستشعره ينخر روحه ..
اما ناهد فقد وقفت بذهن غائب تساعد ماجدة التي اخذت فى تبادل الحديث معها على أمل اخراجها من عزلتها التى استشعرتها كأم فحاولت ولكنها لم تفلح فقد كانت اجابات ناهد كلها مقتضبة توحي بحزن دفين يشملها كليا .. تم إعداد العشاء ووضع أطباقه على المائدة فهتفت ماجدة:- روحي بقى يا ناهد نادي جوزك ..

كانت تحاول ان تتحاشى التعامل معه لكن الامور تضطرها دوما لفعل أشياء ليست من اختيارها ..
اومأت في هدوء وتوجهت نحو الغرفة .. فكرت في طرق الباب لكنها تراجعت فماذا ستظن ماجدة اذا ما فعلت .. دلفت للحجرة في سرعة تغض البصر قدر إمكانها و هتفت:- العشا چاهز ..

لم تتلق ردا فرفعت رأسها في حذّر متطلعة للغرفة بنظرة سريعة حتى وقع ناظرها على الفراش الذي يتمدد عليه بملابسه التي لم يخلعها حتى موليا ظهره لها .. توجهت قبالته لتكتشف انه قد استغرق في نوم عميق وقد ارتخت ملامحه المتشنجة منذ علم بموضوع اخته .. هى لا تلمه .. هى تلوم الظروف التي وضعتهما وجها لوجه مع تحدي من الواضح انه اكبر من إمكاناتهما .. تنهدت في يأس وهمست في هدوء:- نديم .. نديم ..

لم يحرك ساكنا فيبدو ان الإنهاك بلغ منه مبلغا كبيرا جعله يغرق في النوم بهذا العمق ..
تحركت خارج الغرفة ومنه لطاولة العشاء هاتفة لماجدة:- الظاهر نديم م التعب نام ..
هتفت ماجدة في إشفاق:- يا حبيبي .. نوم العافية.. خلاص لما يقوم يبقى ياكل على مهله .. تعالي انت بقى كليلك لقمة ونسيني ..

جلست ناهد تتناول عشاءها مع ماجدة .. كان بودها ان تعتذر فهى بدورها لم تكن تشعر برغبة في تناول اي طعام لكنها لم تستطع ان تترك ماجدة تتناول عشاءها وحيدة فجلست على مضض وما ان رأت انه من المناسب الاستئذان الان حتى فعلت وأسرعت الي غرفتهما.. دلفت للغرفة ليطالعها جسده الذي لا يزل على حاله مسجيا بطول الفراش بكامل ملابسه .. تطلعت حولها لا تعلم اين يمكنها النوم ولا يوجد حتى أريكة صغيرة يمكن ان تتمدد عليها حتى الصباح ..

شعرت بالرغبة في البكاء من جديد فاعصابها متوترة وتحس انها على حافة الانهيار فكل ما حدث في الفترة السابقة ظهر فجأة مطلا برأسه كأحد الوحوش المرعبة التي تثير مخاوفها وذعرها مما هو آت..
جلست على المقعد الوحيد الموجود بالغرفة و الذي كان مواجها لموضع نومه وتطلعت نحوه تتساءل كيف لها ان تحبه !؟.. كيف ومتى حدث هذا !؟.. انه زوجها وليس كذلك .. وهو حبيبها وليس من المفترض عليها ذلك .. هما هنا مجتمعان لكنهما ابعد ما يكونا عن بعضهما منذ ان رحلا سويا من نجع النعماني ..

سالت دمعاتها وهتفت لنفسها في ثورة:- فوجي يا ناهد .. فوجي .. محدش عارف اخرت اللى بيحصل ده .. وانتِ تجوليلى حب ومعرفش ايه .. باينك اتچنيتي يا بت النعماني..
هزت رأسها مؤيدة لحديث نفسها و أشاحت بناظريها بعيدا عن منبع وجعها ومصدر شقاء قلبها القابع هناك على الفراش وحيدا دونها ..

شعر بسعادة غامرة ربما تكون المرة الأولي بحياته التي يستشعر بها هذا الكم من السعادة كل هذه الفترة .. فترة بقاء رأسها الصغير المسند على كتفه بهذه الوداعة ..
غلبها النعاس فقد فاتهما القطار الذي كان من المفترض ان يستقلاه بسبب زيادة نديم وناهد المفاجئة لها.. فأخذا هذا القطار الذي لن يصل بهما الا فى الصباح الباكر .. كان يبدو انها مرهقة بشكل كبير..

فقد غفت رغما عنها وما ان اخذتها سِنة من نوم حتى مال رأسها الصغير الصلب تجاه كتفه في حميمية أسعدته ولم يتحرك قيد انملة خوفا من إيقاظها .. ورغم عضلات كتفيه التي تيبست الا انه كان منتشيا لا لشئ الا لاعتقاده ان شعورها بالامان هو الذي دفعها لتغرق في النوم وهي الى جواره .
حبس انفاسه الان وهو يسمع تنهداتها الرخيمة وبدأت فى تعديل موضع رأسها فى محاولة لإراحة رقبتها التي على ما يبدو بدأت تؤلمها فهو خبير بساعات السفر الطويلة في القطار ويعلم ما تفعل بفقرات الرقبة والظهر ..

تغيير موضع رأسها بهذا الشكل جعل ملامح وجهها الدقيق تحت مجهرعينيه الشغوفة بالمعرفة .. تطلع الى تفاصيل ذاك الوجه المليح الدقيق التفاصيل واستمتع في نشوة بالترحال عبر كل تفصيلة حتى توقفت نظراته على بوابات الثغر الخطرة فتنهد رغما عنه مضطربا مما دفعها لتنتفض مستيقظة يصحبها الذهول لا تدرك اين هى بالضبط .. تصنع النعاس في سرعة ومهارة حتى لا يشعرها بالحرج وخاصة عندما سمع شهقتها المكتومة حين ادركت ان رأسها قد وجد ملجأ له على كتفه .. و سمعها كذلك تهمس فى اطمئنان:- الحمد لله .. طلع نايم ..

كاد ان يبتسم رغما عنه وفكر ان يشاكسها بالرد عليها مؤكدا على استيقاظه التام وانه ظل حارس امين على اميرته الناعسة طوال فترة سباتها الا انه اثر الصمت و التظاهر بالنوم فعلا ..
كان يتطلع اليها الان مثل ذئاب الجبل بنصف عين ليراها تعدل من هندام حجابها امام مرآة صغيرة أخرجتها من حقيبتها .. ابتسم وما عاد قادرًا علي التظاهر بالنوم وهو فى حضرة هذا الجمال ..

تنحنح هامسا مدعيا استيقاظه لتوه:- صباح الخير يا دكتورة ..
همست وهي تحاول ان لا تدع عينيها تسقط على كتفه التى كانت ملاذها منذ دقائق:- صباح النور ..
قرر مشاكستها كالعادة فهمس بلهجة متسائلة تحمل بعض من خبث:- يا ترى نمتي كويس !؟.. ولا الخدمة معجبتش حضرتك ..
اكدت مضطربة:- اه .. اه الحمد لله .. تمام ..

مر العامل المخصص لجلب المشروبات والأطعمة لمسافري القطار ليسألها شريف في أريحية:- نفطر بقى .. لحسن الواحد ميت م الجوع ..
ابتسمت هامسة:- بالهنا والشفا .. انا مبفطرش ..
انتفض معاتبا:- مبتفطريش ايه !؟.. ده غلط على صحتك .. لااا .. لازم تفطري .. وتفطري كويس كمان .
وضعت كفها على فمها تمنع قهقة عالية كانت فى سبيلها للانطلاق بحرية واخيرا هتفت:- مالك قلبت على ماما كده ليه يا سيادة النقيب!؟.. هي عشان وصتك عليا يبقى تحل محلها ..!؟..

قهقه في أريحية مؤكدا:- طبعااااا .. انا بنفذ الأوامر كما انزلت .. انتِ عيزاها تغضب عليا وتزرفني دعوتين يجبوني الارض ... حرام عليكِ يا دكتورة .. ده احنا بنتشعلق ف رضا ربنا ..
كتمت قهقهاتها كالعادة وخاصة انها محاطة بالعديد من البشر منهم من لم يستيقظ بعد داخل القطار في هذه الساعة المبكرة صباحا ..
هتف شريف ينادي العامل طالبا افطار لشخصين وكوبين من الشاي لتعاجله زينب مؤكدة:- خليه نسكافيه عشان بجد عايزة افووق ..

اكد شريف للعامل:- خليهم اتنين نسكافيه ..
مد شريف كفه اليها بكوبها الذي تناولته وبدأت فى ارتشافه ليمتعض هو هامسا متقمصا دور امها:- الفطار الاول يا بنتي.. اقول للعريس اللى هايجي يتجوزك ايه!؟..بتشرب النسكافيه على معدة فاضية !.. يا دى الفضيحة ام جلاجل يا دى الجرسة ام حناجل ..
كادت ان تغص برشفة النسكافيه التي ابتلعتها في صعوبة ووضعت الكوب جانبا وبدأت في السعال و اخيرا همست و على شفتيها ابتسامة:- لاااا .. انت كفاياك كده دور ماما ده .. و الله لو امي اصلا شافتك و انت بتقلدها كده والله ما تدخلك بيتنا تاني ..

هتف مذعورا:- لا خلاص .. كله الا كده .. ده انا عايش على امل اني ادخل بيتكم .. تاني و تالت و رابع كمان ..
اضطربت وغابت ابتسامتها و أزاحت بناظريها الى النافذة من جديد في محاولة لتجنب نظراته التي تسرق راحة بالها وتدفع بها الي دنيا جديدة ما وطأت عتباتها كما كانت تعتقد يوما ..

طرق باب حجرته التي كانت لاتزل تبيت بها بصحبة الخالة وسيلة .. ما أراد لها العودة لحجرتها بالمندرة حتى لا تستشعر الوحشة هناك وتكون قريبة من حجرة ناهد التي يحتلها اذا ما جد جديد قد يطرأ على حالتها التي لاتزل على وضعها من الشرود والتيه ..
انفرج الباب عن محيا الخالة وسيلة التي كانت تتثاءب معلنة رغبتها في النوم هامسة بنعاس:- خير يا عفيف بيه !؟..

همس عفيف محرجا وهو يغض الطرف عن ذاك الجسد المسجي هناك بغرفته محتلا فراشه:- معلش يا خالة وسيلة جلجتك .. بس في اوراج مهمة ف خزنة الدولاب .. كنت فاكر اني حاططهم ف المكتب طلعوا هنا وانا محتاچهم ضروري عشان هطلع بيهم مشوار من بعد الفچر ..
مد كفه بمفاتيح الخزينة مخرجا إياها من قلب جيب جلبابه مستطردا:- خدي افتحيها وهاتي الظ..
قاطعته الخالة وسيلة هاتفة:- واني ايه دراني بالحاچات دي يا عفيف بيه !؟.. ادخل چيب حاچتك يا ولدي..

هتف متعجبا باضطراب:- ادخل!؟..ادخل فين !؟..
هتفت وسيلة ببساطة:- ادخل اوضتك چيب حاچتك .. و ان كان ع الداكتورة .. أهي نايمة مش دريانة بحاچة ياولداه بعد الأدوية اللي الدكاترة كتبينهالها ..و أديني واچفة اهااا لحد ما تخلص امورك..

تنحنح عفيف وكأن دلال مستيقظة و تسمعه يستأذن للدخول .. فعلها بعفوية وانطلق في اتجاه خزانة ملابسه فتح ضلفتيها وانحني يعبث بأزرار خزينة الاوراق بكف مرتعش حتى فتحها وجذب منها ملفه المطلوب وما ان هم بالاندفاع في طريقه تاركا الغرفة حتى سمع همهماتها فتوقف متسمرا موضعه.. كانت تهزي بأسم اخيها الغائب .. تردده ببطء أوجعه ..ورغم ذلك جاهد حتى لا يرفع ناظريه اليها ..

كان مطرقا لا يعرف ما دهاه ولما لا يتحرك راحلا .. تطلع لموضع الخالة وسيلة فوجدها قد غادرت الغرفة فتذكر انه سمع صوت مناع بالأسفل يناديها ويبدو انها ذهبت لتلبية مطلبه .. ما ان وع هذه الحقيقة حتى اضطربت دواخله وهم بالاندفاع خارج الغرفة ... تقدم خطوتين حتى اصبح على أعتابها للخارج لتتسمر قدماه من جديد ما ان تناهى لمسامعه همسها باسمه .. كان اسمه مجردا دون ألقاب كانت تحجب عنه روعته منغما بهذا الشكل من بين شفتيها..

اهتزت اركان روحه وتقوضت دعائم ثباته وما عاد قادرًا على البقاء لحظة وما كان لديه الهمة الكافية ليندفع مبتعدا الا ان وصول الخالة وسيلة جعله يحسم موقفه وهى تسأله:- خدت اوراجك يا ولدي !؟..
هز رأسه في إيجاب يسربله التيه و يشمله الاضطراب وهرب من امامها هابطا الدرج في عجالة وقد اصم أذناه ندائها الاخير باسمه عن ادراك العالم من حوله ..ونقله لعالم اخر..

وصلا اخيرا لقنا وخرجا من محطة القطار ليكون باستقبالهما احد العساكر بالعربة الميري ما ان لمح شريف قادما حتى انتفض فى اتجاهه مؤديا التحية العسكرية مشيرا لموضع العربة ..
امره شريف بالبقاء بالخلف فى صندوق السيارة مع حقائبهما بينما اتخذ هو موضعه امام عجلة القيادة وجلست هى جواره ..
همس مازحا محاولا تقليد اللهجة الصعيدية:- يا مرحب بكِ ف الصَعيد يا داكتورة.. الصَعيد نور ..
ابتسمت هاتفة:- منور بناسه ..

اتخذا وجهتهما على الطريق فى اتجاه نجع النعماني وقد شملهما الصمت لبعض الوقت الا انه على غير العادة كانت هي المبادرة بالسؤال هاتفة:- هو صحيح الكلام اللي انت قولته عن اللي اسمه عفيف ده يا سيادة النقيب !؟.. ولا كان مجرد كلام بتهدي به نديم !؟.
اكد شريف في ثقة:- صحيح يا دكتورة .. هو فعلا بيعامل الدكتورة دلال معاملة خاصة وبجد مهتم بيها قووى لدرجة اني شكيت انه ..
صمته عند هذه النقطة جعلها تنتبه موجهة نظراتها اليه متسائلة:- انه ايه !؟..

تنهد قليلا ثم هتف فى جدية غير معتادة منه على مسامعها:- بصي .. انا مش عايز أديكِ احكام مسبقة تبني عليها قرارات .. شوفي انتِ بنفسك واحكمي ..
نظرت اليه متطلعة فى اهتمام فهذه من المرات النادرة التي يتحدث فيها اليها بهذه الجدية .. ساد الصمت من جديد حتى وصلا لمشارف النجع فهتف مستعيدا روحه المرحة:- استعدي يا دكتورة .. احنا داخلين ع النجع اهو ..

تنبهت وشعرت بالاضطراب لكنها داخليا عزمت على ان لا تعود الا برفقة صديقتها مهما حدث .. فلابد لأحد ما من تخليصها من بين يدىّ ذاك العفيف وخاصة بعد معرفة مكان نديم ووجوده في امان ببيتها…
انتفضت على صوت زمور العربة الذي اطلقه شريف ما ان وصلا لبوابة السراىّ الحديدية ..تطلع مناع للعربة الميري في تعجب ولكنه لم يجرؤ على فتح ضلفتيّ البوابة الا عندما امره عفيف الذي ظهر على الدرج مندفعا خارج البيت الكبير..

انفرجت البوابة ليدخل شريف صافا العربة جانبا ليترجل منها ويتجه الي باب زينب ليفتحه لتترجل بدورها متطلعة في استطلاع للوضع حولها حتى وقع ناظرها على عفيف الذي كان يتطلع اليها في تعجب بدوره غير مدرك سبب قدم شريف وبصحبته هذه المرأة الا انه هتف بكل ذوق:- حمدالله بالسلامة يا شريف بيه .. و اهلًا بضيوفك .. شرفتونا..

هتف شريف كعادته مازحا:- دي مش ضيفتي يا عفيف بيه .. دي ضيفة سعادتك ..
تطلع اليه عفيف في تعجب لكنه رغم ذلك هتف في لهجة واثقة:- على عينا وراسنا اى غريب يدخل النعمانية .. بيت النعماني الكَبير يبجى بيته يا شريف بيه ..
ابتسم شريف هاتفا:- قد القول يا عفيف بيه .. و انا كنت وعدتك اجيب اللي يخرج الدكتورة دلال من تعبها .. و أديني وفيت بالوعد ..
تطلع اليه عفيف في اهتمام بالغ منتظرا ان يكمل شريف حديثه و الذي استطرد هاتفا:- الدكتورة زينب تبقى صاحبة الدكتورة دلال..

هتفت دلال في صرامة:- انا مش بس صاحبتها انا اختها يا عفيف بيه…
تنحنح عفيف هاتفا في هدوء:- الداكتورة دلال وكل اللي يخصها على روسنا من فوج .. شرفتينا يا داكتورة زينب ..
هتفت زينب بنفس اللهجة الحازمة:- متشكرة .. بس فين دلال .. انا عايزة أشوفها ..
هز عفيف رأسه هاتفا:- معلوم يا داكتورة .. اتفضلي..

واشار بكفه لأحد الاتجاهات صوب الحديقة الخلفية فاتجهت اليه زينب مندفعة باحثة عن صديقة عمرها بينما ظل عفيف يقف متطلعا الى شريف الذي امر العسكري بوضع حقائب الدكتورة زينب جانبا ..
هتف عفيف في غيرة يشوبها شئ من فضول:- انت تعرف صحاب الداكتورة دلال من فين يا حضرة الظابط !؟..
هتف شريف مبتسما:- ما ده الجميل اللي عملته فيا الدكتورة و بحاول أرده يا عفيف بيه ..
هتف عفيف متعجبا:- كيف يعني!؟..

هتف شريف:- الدكتورة زينب هي الدكتورة اللي عالجت امي ف مرضها الاخير والدكتورة دلال كانت هي السبب ف المعرفة لما رشحتها لي عشان تعالج الوالدة و من هنا جت الفكرة يا عفيف بيه..
هتف عفيف:- تمام .. تمام ..
وصلت زينب لموضع جلوس دلال لتجدها تجلس ساهمة متطلعة للأفق في تيه اقتربت منها في سعادة هاتفة باسمها:- دلال .. دلال ..

لم تنتبه دلال لها بل ظلت على شرودها مما صدم زينب التي كانت تتوقع انها ستقفز فرحا ما ان ترها.. دمعت عيناها وهي تتطلع الي صديقتها في غضب وقهر واندفعت باتجاه موضع شريف وعفيف وما ان وصلت اليهما حتى صرخت بوجع في اتجاه عفيف:- انت عملت فيها ايه !؟.. دلال اتبدلت .. مش هى دي دلال اللي سبتها تروح معاك من يجي شهر .. و يا ريتني ما سبتها .. انت عملت فيها ايه!؟..

تقبل عفيف انفعالها في صمت مطبق بينما هتف شريف مهدئا:- اهدي يا دكتورة .. اهدي .. احنا جبناكِ هنا عشان تتحسن حالتها ف وجودك .. مش حالتك انتِ اللي تتأخر بسبب وضعها ..
تطلعت زينب في غيظ لعفيف ولم تنبس بحرف واحد واندفعت عائدة لموضع دلال بينما هتف شريف معتذرا بالنيابة عن زينب:- معلش يا عفيف بيه .. هي زعلانة على صاحبتها .. انت اكيد مقدر الموقف..

هز عفيف رأسه في تفهم واخيرا هتف بصوت متحشرج وهو يندفع خارج البوابة مغادرا البيت الكبير:- البيت بيتك يا سيادة النقيب .. معلش عندي مشاغل ولازما امشي دلوجت ..
هز شريف رأسه متفهما بدوره و هو يتجه الى عربته الميري هاتفا:- طبعا يا عفيف بيه اتفضل شوف مشاغلك .. وانا كمان هروح اشوف مشاغلي .. سلام عليكم ..

رحل شريف بعربته الميري وتبعه عفيف خارجا لكنه قبل ان يتجاوز البوابة توقف للحظة متطلعا حيث تقبع مصدر سهاده ووجيعته .. ألقي الي البعد نظرات تشي بالكثير ثم رحل في عجالة ..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة